مجلة حكمة
رسائل حنة ومارتين

عن رسائل حنة ومارتين: الحب بوصفه مفتاح للفلسفة – أشعار الباشا


إلى ريم …

هكذا بدأت دفَّة الرسائل بين عظيمين راحلين و المهدى إليها يمامة جَنة عظيمة بيضاء، كريمة المؤسس الشريك لدار الترجمة و النشر الدكتور يوسف الصمعان, ريم الراحلة فيزيائياً والباقية كنجمة سلام سرمدي في دنيا والديْها، الآمنة عند من أوجدها براءةً و استرجعها محبة، هو أيضاً من أدفق الحب بين عظيمين من أعظم وجوه الفلسفة الذين كان بديهياً أنهما من المعارضيْن للفلسفة العاطفية لولا تفوق الغريزة و مفاجأة لغة القلب بينهما! إذ أنها لغة الكون الوحيدة التي لا تخضع لسيطرة العقل مهما كان تفكيكياً كعقل جاك دريدا أو وجودياً كعقل مارتن هيدغر (بالرغم من انحيازه للفلسفة التأملية التي رفضها وجوديين قبله مثل كيركجارد) أو حتى كثورية مجددة للفكر السياسي كالوجه النسائي الأبرز فلسفياً في الفكر المعاصر..حنة ارندت. إثبات أن الحب هو القوى العظمى التي لا تفوقها قوة في الكون هو ما كان العارف لكليهما ( هيدغر و آرندت) سيستحيله لولا نشر الرسائل التي حطت مثل شرخ للعديد من الفلسفات التي تنقض دور العاطفة و هموم و مشاعر الإنسان في عملية تعلُّم التفكير، كما قالت آرندت عن هايدجر عندما احتفلت ببلوغه سن الثمانين في 1969، حيث قدمته بأنه المعلم الذي تعلمت على يديه كيف تفكر. في الحب لن يكون بالإمكان تفسير سبب عملية الانسجام العاطفي بين عقلين متعارضين في التركيب و التفكير و الفلسفة و الانتماء و الميول و المعتقدات كلياً. لن يخلص المرء بعد إجهاد ذهنه في تحليل هذا الأمر كمن يحلل وقوع معجزة أو تناقض عصي على الفهم إلا إلى أن هذا التوافق لا تحدثه سوى قوة عظمى لا تقف بوجهها إرادة أو بشر يتحكم بزمام نفسه كما اعتقد كيركجارد.

ماذا يحدث عندما يقع الفلاسفة في الحب؟ لست أعتبر رسائل آرندت و هايدغر جواباً شافياً على ما يحدث. إلا إن كان العصف بين ذهنين متوازيين لم يسعفا خضوع القلب لخلق نقطة التحام تضع هذا الحب في مسكنه الصحيح هو جواباً، كأن نقول: لا يحدث شيء عندما يقع الفلاسفة في الحب. إذ أنهما لا يتوحدان ولا يتزوجان ولا يعيشان مع بعضهما ولا يلتصق رأسي العاشقين الفلسفيين على وسادة، إذ لم يجتمع قبل الوسادة على فكرة واحدة. هذه الرسائل تؤصل فقط حقيقة أن المفكر يعيش في عاصفة هوجاء تضيِّع هويته عند نفسه في الوقت الذي ترسخ هويته الفكرية لدى الجمهور. كقارئة ذات ولاء للتاريخ الفلسفي مروراً برموزه ( أشخاص و نظريات و مدارس) و أنحاز في الوقت نفسه إلى الأدب و نظريات الأدب المؤمنة بأن العاطفة هي مؤسسة العقل الأولى ( خلاصة من تعبيري الخاص) أحببت في الرسائل بين حنة آرندت و معلمها الجامعي و الفكري مارتن هيدجر صدقها فحسب. إذ أن الأدب الذي يحث على إطلاق المخيلة لإثراء النفس البشرية بقصص مؤثرة ترتقي بها هو أيضاً في أسمى و أزهى عصوره كان يؤكد أن الاستسخاف بوعي القارئ من خلال تمرير الأكاذيب و الخرافات الهدامة للنفس الحساسة الخاضع وجدانها للتأمل و التأثر، هو استسخاف يلغي جوهر الأدب و رسالته التي لا تقل عن أهداف رسالة الفكر سمواً في مبتغاها الذي تقصد منه الارتقاء بالإنسان و أن يفهم و يجيب على سؤال ( ما البشر؟)

لا أسعى في هذه الانطباعية إلى كتابة تعريف بهيدغر و آرندت، حريٌّ بمن يقرأ هذا المقال أن يكون على الأقل على معرفة بالأساس المنهج الفكري و الفلسفي و مساريهما لكل من الفيلسوفيْن.

كيف يمكن أن يُعجب نازي بصهيونية؟! هيدغر العضو المؤقت في الحزب النازي و آرندت التي لم تكن قد انفصلت عن المنظمات الصهيونية التي كانت منضمة إليها آنذاك انتماءً فكرياً و عقائدياً أكثر من أنشطة صريحة. (action)

فكرياً أيضاً لا أتفق مع ما يسمى صهيونية ملتزمة. إذ أن المبدأ هو الخلية التي يُحكم على النظرية السياسية من خلالها أي أنني أحكم على الجزء من الكل و على الفرع من الأصل لذا لا يمكن أن تكون الصهيونية ملتزمة أو عاهرة، إذ أنه من غير حقها إنشاء دولة في فلسطين باعتراف اليهود _الملتزمين_ أنفسهم مثل آرندت فيما بعد حتى وفاتها. أما عن تأييد هيدغر لرسالة النازية في التربية حسب المترجم و القول بأنه كان من شأنه أن يحقق إنساناً جديداً، فهو تأييد يشعل سؤالاً كالحريق مفاده هل تجاهل هيدغر عمداً أيديولوجية الحزب النازي بقيادة هتلر في العشينات و القائم على إبادة الفصائل الدنيا في سبيل المحافظة على نقاء الفصائل العليا؟ أم أنه كان منحازاً للنازية في إصدارها الأول المعروف باسم حزب العمال الألماني _1919_ الذي كان ينتهج القومية الإشتراكية و هي التي أنحاز إليها شخصياً كنشاط واجبة الفعالية في جميع المجتمعات التي لا تتصرف حيال مشكلة الطبقية و البطالة؟ يبدو لأول وهلة ضرباً من السخرية القول أن الحب هو الحبل الوحيد الذي يبرر ارتباطاً متناقضاً بالكلية لا الجزئية بين رجل و امرأة نموذجما هو هيدجر و آرندت، لكن في الحياة درس فاقع اللون هو أن كثيراً من الأمور تحدث بلا سبب مقنع ولا يستطيع أصحاب الشأن ولا المحيطين بهم تفسيره تفسيراً مقبول, و على هذا يجب أن يتأقلم المرء و إلا سيموت مجنوناً أو محطماً كفقير.

العلاقة بين رجل و امراة منذ خلق البشرية لم تغِب عنها مسلَّمة ينساها كل العشاق عند احتدام الحب بينهم، و هي مسلَّمة أنه إن كان أحد الطرفين متزوجاً، يجب أن يخشى من زوجه إذ له الحق في اتخاذ رد فعلٍ على هذه العلاقة أياً كان معناها، رفضاً، قبولاً، انسحاباً، أو انتقام. كما لم يغب فرع أصيل لهذه المسلَّمة في جميع العلاقات أياً كانت ديانة أو عِرق أطرافها أو ثقافتهم و نوعهم العقلي و اسم شهادتهم العلمية، هذا الفرع هو أن المرأة العاشقة إن كانت هي الطرف المتزوج تكون هي صاحبة الموقف الأصعب و الأكثر حرجاً و تعرضاً لانهيار حياتها مع الجنس الآخر ذو الارتباط بها زوجاً و عشيق. هي الحورية التي تخسر أكثر. هي التي تتعرض لجفاف الماء الذي تستمد منه حياتها المستقرة. لكنها هي أيضاً الشخص الذي يستطيع أن يجعل الرجل يخسر كل شيء إن كان هو الشخص المتزوج في العلاقة، و هي زوجته التي ترفض دخول عشيقة تختطف منها نصفها الذي لم تتحدث الفلسفة على مر التاريخ بعد عن كونه ليس نصفاً مكملاً للآخر عند حدوث علاقة تتسم كلياً بسمة الارتباط. لذلك كانت علاقة آرندت بهيدغر متشجنة بعدما اعترف لزوجته عنها ثم حدث أن قابل آرندت بوجود زوجته التي لم تكن مرحبة بطبيعة الحال بعشيقة زوجها لكنها أيضاً لم تكن عدائية مثل زوجة غيور.

تتحدث حنة آرندت عن هذا الطقس الذي لم يكن سهلاً ولا رومانسياً في رسالة كتبتها لزوجها هنريك بلوخر في 1950 فقالت:

” لقد كان هناك هذا الصباح نقاش مع زوجته من جديد_ وهي تعرف منذ 25 سنة بهذه القصة_ و تجعل من حياته جحيماً. و قد أنكر و هو أكبر الكذابين العنيدين طيلة الخمس و العشرين سنة هذه. على الأقل هذا ما يتضح من مناقشة شاقة بيننا نحن الثلاثة..بأن هذا كان أكبر شغف في حياته. أعتقد بأنني ما دمت على قيد الحياة، فإن زوجته مصممة على إغراق كل اليهود. لا يمكن للمرء فعل أي شيء، إنها سخيفة سوداء. لكنني سأحاول أن أرتب الأمور في حدود الممكن.”

كان يشفع لهيدغر خياناته المتعددة التي يعترف بها دوماً لزوجته، هو الخيانة المتبادلة بينهما! فقد أنجبت زوجته ابنها الثاني من صديق شبابها فريدل سيزار و قد اعترفت هي أيضاً لهيدغر بالأمر في رسالة قام بالرد عليها دون مواراة عتبه لها على هذه الخيانة و جسارتها في توزيع الحب على عدة رجال! قال في رده:

” لا أفهم بالفعل لماذا تقولين ممزقة؟ و أرفض أن أتوصل بأي شرح شبه نفسي. لا لأن الأمر لا يهمني، لكن لأنني أريد ما أمكن أن تكوني لي بطريقة مباشرة. كوْن فريدل يحبك هذا أمر أعرفه منذ زمان طويل. لي ثقة فيك و في حبك و بكل تأكيد في حبي لك. لكن لا أفهم مطلقاً، ولا أفهم من أي عين يرتوي حبك المتعدد.”

لا أعرف إن كان الأمر متعلقاً بكوني امرأة، لكنني تعاطفت مع إحدى رسائل زوجته الفريدا له إبان وعكة شديدة أصابته وهو في ضيافة إحدى عشيقاته. إذ كتبت بكبرياء ممزق:

“تقول دائماً أنك متعلق بي. أين هو التعلق؟ إنه ليس الحب، إنها ليست الثقة. تبحث في النساء الأخريات عن الوطن. آه يا مارتين. كيف هو حالي في هذه العزلة الجليدية؟ أفكّرت مرة ماهي الكلمات الفارغة؟ الكلمات الجوفاء؟….”

كان هيدغر يحب ألفريدا ويدين لها تحمَّلها الطويل له على كل نزواته و أمراضه النفسية المختصرة في إيروسيته الفاحشة. و قد أخبر آرندت أن عليها قبول احتفاظه بزوجته و تقدير رغبته في ترسيم علاقته بها – ارندت- أيضاً. عوداً على بدء، الحب هو فعل السحر الأكثر وضوحاً في الكون مثل ناموس لا يحتاج المرء إلى فرضية و نظرية و تجربة لإثبات حقيقته، و على ذلك قبلت آرندت بالعلاقة الثلاثية و أعلنت في رسالة إلى هيدغر “سأفقد حقي في الحياة إن فقدت حبي لك.” ثم عندما كادت أن تفتك بها الغيرة و الاشتياق و الحاجة الجنسية إليه قامت بالانسحاب و تزوجت من تلميذه غونتر انديرس. إذن لم يكن شاذاً على تحولها الفكري السياسي بعد ذلك الوقت بسنوات حتى وفاتها أن تتميز في أطروحتها للدكتوراه بدراسة عنوانها “مفهوم الحب عند القديس أوغسطين” والذي أشرف عليه كارل ياسبرز بطلَب من هيدغر الذي كان مشرف آرندت السري على الحب الذي دفعها إلى دراسة الحب!

كنت كلما قرأت عملاً لهيدغر، ثم عملاً لـ آرندت، و للمصداقية لم أقرأ جميع ما تمت ترجمته إلى العربية من أعمالها سوى “في العنف” و “في الثورة“, اتساءل لا كيف وقع كل منهما في حب الآخر، بل كيف استمرا يحبان بعضهما بعد كل انفصال و قطيعة و تغيرات ثورية و سياسية في بلديهما إضافة إلى تضادهما الفكري قبل أن تصبح آرندت مناهضة لإنشاء دولة يهودية في فلسطين و مناهضة لمحاكمة مجرم الحرب النازي أدولف ايكمان في اسرائيل مما تسبب في اتهامها بمعاداة السامية، و أشعر بالارتياح الذي أصاب هيدغر بعد تحولات عشيقته السياسية مما قد يكون سبباً في عودة المياه إلى مجاريها بعد كل لقاء عاصف بينهما. عند قراءة أفكار أرندت عن الحب و الأخلاق يتصدر كانط واجهة النص بلا غموض، لم تكن آرندت متأثرة بعمانويل كانط بل تلميذة ذاتية في مدرسته الأخلاقية الحاسمة، بل الحازمة في صياغة فلسفة الأخلاق تجاه الإنسان الذي تفهَّم كانط أنه ولا بد له أن يحمل من الأنانية – حب الذات الذي قد ينزع بالمرء إلى الشر- و بين الخير الذي هو خصلة في الإنسان ذي العقل و هذا العقل يدفع به إلى فهم و تلبية القانون الأخلاقي. أما عند قراءة فلسفة هيدغر الذي اعتبر العلاقة بين الأنا و الآخر علاقة تكامل قائمة على المشاركة بين الذات و الأخرى، يُلاحَظ أنه مثل عموم الفلاسفة إن استخلصنا استثناءاتهم القليلة.. قد أههملوا البحث في الحب و العاطفة الإنسانية كعنصر يصاب العقل بالجفاف فالمرض إن أصيب القلب بالتشرد عندما يضل دونه، أي دون الحُب، إذ أنه ليس غذاءً اختيارياً يختاره المرء و يطبق عليه إرادته كما يفعل مع غريزة انتقاء الطعام و أيضاً نشوة انتقاء العينات التي يطبق عليها الفيلسوف نظرياته لإثباتها.

إنَّ التأمل في هذا التكوين في فلسفة كل من هيدغر و آرندت يكشف عن أن أحد أهم أسباب التحامهما العاطفي هو أن كلاً منهما أكمل ما نقص في عقلية الآخر، آرندت كانت تحب هيدغر أولاً كرجل علمها كيف تفكر. فأصبحت منذ ستينات القرن إلى وفاتهما مشرفة على ترجمات أعماله إلى الإنجليزية و مستشارة له في كتاباته و ممثلة رسمية له في أمريكا، بينما ما نقص في فلسفته من دراسة الحب و العاطفة أشبعه بعد علاقتهما في تعريفات عديدة للحب كمفهوم دخيل جديد على الكينونة التي لم يقل في أوائل أبحاثه أنها تقوى بدخول الحب إليها كعنصر فاعل في تغذية الإرادة بما يلزم لإثبات الذات. كما أشبع احتياجه اللاإرادي للحب في اهتمامه العميق بعشيقته و كأنه استفاق من سبات طويل فكان جل ما ينتظره بعد كل اهتمام بكتاباتها هو رجوعها سالمة إليه. يمكن تلخيص تصور آرندت للحب وهو التصور الذي أجزم بتأثيره على فلسفة هيدغر المتقدمة بهذا القول لها:

“إن الحب من طبيعة غريبة عن العالم، و لهذا السبب، لا بسبب قلته، فإنه ليس غير مسيس فقط، بل ضد السياسة، وقد يكون أقوى من كل القوى الضد سياسية.”

كما تضيف وهو قول أهم من السابق على مستوى انطباع كل عاشق عن الآخر المتماهي في كينونته

“إن الحب لا يهتم بما قد يكونه الشخص المحبوب، بمزاياه ومساوئه كما بنجاحاته.”

رسالة مارتين هيدغر الأولى على الإطلاق إلى حنة آرندت في 1925 لا يمكن أن توقظ في القارئ إلا عفويته في الضحك أو على الأقل الابتسام بجذل. تطفو الكوميديا في لهجة هيدغر شديدة التهذب و التبجيل لتلميذته التي على الأرجح لم يكن يعلم ما إذا كانت ستوافق على ما كتبه في الرسالة أم ستقوم بالانسحاب من المادة التي تدرسها عنده! ضحكت عند قراءة رسالة بلهجة نبلاء انجلترا في العهد الجورجي! مما بث في قلبي يقيناً ببقعة النقاء المضيئة دوماً في كل نفس بشرية مهما كانت نازيّتها، فاشيّتها، عدميتها، أو على الجهة المقابلة، انحيازها الكامل لعدم التفكير و الانحياز إلى أي شيء سوى الحب!

” العزيزة الآنسة آرندت،

لا بد لي من مخاطبتكم اليوم و التحدث إلى قلبكم. لا بد أن يكون كل شيء بيننا و ببساطة واضحاً نقياً. لقد حصل لنا الشرف بالتعرف على بعضنا البعض. و أن تصبحي طالبةً لي، و أن أصبح أستاذا لكم ماهو إلا سبب لما حصل لنا. لن أستطيع امتلاككم أبداً. لكن ستنتمين من الآن فصاعداً إلى حياتي و سينمو هذا الأمر فيكم. لا نعرف أبداً كيف سنتغير في وجودنا، لكن التأمل يمكنه أن يشرح إذا ما كنا هدامين و معرقلين. إن الطريق الذي ستأخذه حياتكم الشابة خفي. نريد أن نستسلم لهذا الأمر. و إخلاصي لكن لا بد أن يساعدكم لتبقوا مخلصين لنفسكم …”

ثم توقفت برهة بتهييب و تأثر من بلاغة هيدغر الذي كشف منذ هذه الرسالة على كونِه شاعراً خفياً لا فيلسوفاً ولا عاشقاً فحسب، و هذه هي الجملة التي استوقفتني قلباً و عقلاً و حُبا: ” أود أن أشكركم و أقبل جبينكم الطاهر و صدق وجودكم و آخذه معي لإتمام عملي.”

أخذ هيدغر وجود آرندت الصادق معه لإتمام عمله. أيٌّ عذوبة نفسيَّة في هذه العبارة؟ لا يمكنني شرحها للقارئ بشيء فالحل الوحيد ليشعر بها هو أن أقول له.. تأمـل.

الفلاسفة كائنات يسمو بعضها عند الوقوع في الحب بالتحسس الذي يعتريه من كل سكَنة في علاقته بالمحبوب أكثر مما يسمو هذا التحسس بين العشاق العاديون، و لست أقول عاديون تقليلاً من شأن غير الفلاسفة. و إنما أقصد بهذا التوصيف العشاق المتنعمين بالعقل الذي يفكر و يشعر بشكل قد يطغى فيه العقل على العاطفة أو العكس تماماً لكنه لن يجنح بأحدهما إلى تعلٌّم الفلسفة أو الهوس بتحليل الوجود و ماهية الإنسان. من سمات التحسس فوق العادي عند الفلاسفة محبة الثرثرة عن تفاصيل اليوم الخاص بكل منها للآخر حتى إن لم يكن له شأن فيما حدث. هذه الرسالة من هيدغر لآرندت في 24-3-1925 تترجم انسيابية هذا الاحتياج و تنفيذه دون تفكير كما هي عادته كفيلسوف مفكر:

العزيزة حنة،

لقد حدث لابننا حادثة وهو يتزحلق على الثلج. و بهذا فقد تغير برنامج سفري. تقطّع وتر ابننا و عليه أن يلازم الفراش هنا. سأخبرك في الأيام القادمة إذا ما كنت سأذهب إلى لميسكرخ. قد نبقى مدة طويلة في فرايبورغ.

تحية قلبية،

مارتين.”

كما أتذكر هنا الآن سمة راسخة من سمات الحب النقي حين يكون مشعاً بالصدق وهي سمة الفرح عند مشاركة نجاحات الحبيب محبوبه و جعله جزءً منها إما بحضوره أو بمحض وجوده في حياة الحبيب كعنصر يحول كل نجاح عادي مهما كان حجم التعب الذي استنزف لتحقيقه إلى نجاح بنكهة الإعجاز، إنه بهاء الحب و إبداعه الخاص. هاهو برهان أجزم أنك بليد القلب إن لم يجعل عينيك تلمعان تأثراً بهذا الصدق و السعادة المشرقة في هذه الكلمات:

أيتها الأعز،

عندما سلمت لكِ المخطوط اليوم، غمرتني فرحة عارمة، إلى درجة أنني أصبحت دون حيلة ولا عون. لقد سلمت لكِ جزءاً من روحي، شيئاً قليلاً لحبك، وقد أتى شكرك اللطيف على الأخضر و اليابس داخلي.”

و في جزء آخر من نفس الرسالة المكتوبة في 24-4-1925:

“أتيتِ اليوم فرحة، مشرقة و حرة كما كنت أتمنى رجوعكِ من ماربورغ.. وقد كنت منصعقاً من حلاوة وجودك الإنساني هذا، بالقرب مما سمح لي أن أكون. وعندما سألت، وكان يبدو أنني كنت غائباً ذهنياً، إذا كان ما عليك الذهاب، فقد كنت مع نفسي-لوحدي- متحرراً من مشاغل العالم و التفكير، وفي فرحة واضحة بأنك أنت.

سأحاضر يوم 11، هل تعرفين ماذا يعني هذا؟

ليلة سعيدة يا أعز حنة،

مارتين

عندما وصلت في قراءة الرسائل إلى جزء القصائد التي كتبها هيدغر لحنة. كانت المرة الأولى التي أعرف أنه كتب الشعر حقاً. وقد كنت أوقن أنه شاعر بالموهبة مدفوعاً من بقعة النقاء التي أضاءت بعد الحب. في هذه القصائد الخمس ينصاع القارئ طواعية إلى فلسفة هيدغر في رسالته حول المذهب الإنساني و الأنطولوجيا انصياعاً يحرض على فهم أفكاره الصارمة و المعقدة كما ثبت في التدوينات التي أرَّخت سيرته الفكرية و تحولاتها بما في ذلك تناقضاتها و على الرغم من ذلك لم تعيقه لا إرادياً من أن يكون عاشقاً مثالياً مع معشوقته التي بادلته إخلاص المشاعر، لا الجسد. أورد هذا المقطع من قصيدة “اللغة” التي كتبها عند التقاءه بحنة آرندت مجدداً بعد انقطاع مزق كليهما. فيه اشتياق و حيرة مختلطة بيأس و ألم من عدم القدرة على الامتلاك و الاحتفاظ بالمحبوب كما يشتهي القلب و يستعِر الجسد. فيه تسيل الفلسفة من الرأس إلى مساندة كلمات الحب التي تخون عندما تترجم لكي يقرأها المحبوب فيأتي هذا العون احتراماً لا شفقة ولا تمريض.

” أنت يا “آخ”

يا أسطورة قديمة لم تحك،

لكن تحتفظ بالكلمة،

أول جواب،

و آخر سؤال”

في رسائل حنة لمارتين طفولة لم تسخّف من النضج شيئاً. صرامة لم تخفِ من الإشتياق جزءاً قليلاً. و فضول للتعلُّم من معلمها الذي لم تخفت هيبته في نفسها حتى وفاتها و تقريضاً لكل فكرة و بحث تشعر أنها لا تستفيد من أطروحاته و كتاباته كما يجب. ففي 1974 كتبت إليه:

” العزيز مارتين!

شكراً على نصي المحاضرتين. اللذين أرسلهما إليَّ السيد فون هيرمان. لقد خططت لقراءتهما و سأرسلهما لك في رسالة مستقلة.

ما كان حاسماً بالنسبة لي هو التأويل المستفيض لكانط في مخطوط الحرية. لا يقرأ أي أحد كما تقرأ أنت ولن يستطيع أي أحد القيام بمثل هذه القراءة مثلك. لقد تركت كانط في إشكالية الحرية جانباً مؤقتاً. فقد كان يظهر لي غير مثمر باستثناء التفكير و الحكم. لكن يجب أن أعيد التفكير في كل هذا من جديد … بغض النظر عن هذا، فإن ما يهمني بالخصوص ولم أسمع عنه أو اقرأ عنه منك هو “الخاصية الهجومية للفلسفة”، و التي “تذهب للجذور” هل فاتني شيء من هذا عندك؟”

بعد الخلاص من قراءة مجموعة رسائل حنة آرندت و مارتين هيدغر سيكون من الخاطئ أن تتصور أنك الآن فقط قد تعرفت على هذين العظيمين إنسانياً. ستكون مقصراً في احترام عقلك إن فعلت. الخروج من هذه الرسائل هو دعوة فلسفية تسنِد ظهرها الإنسانية لقراءة كل ما لم يُقرأ بعد لهذين الفيلسوفين و قراءة ما كتبه ذوو القرابة بهما من عائلة و أبناء و أصدقاء. ليست كل الفلسفة محرضة على الارتقاء بالنفس نبلاً و كرامةً و الارتقاء بالعقل تأملاً و دراسة. يحتاج المرء إلى التحريض على التفكير و التخليق، مراجعة سيَر و أعمال الإبداعيين في الفكر و الفلسفة و أخيراً..أو أولاً، الحب الذي رحبوا به و أولوه تقديراً و رعاية في حياتهم، هو سراج في معترك الحياة التي أعرِّفها مسرحٌ للشك و الابتكار. و هنا إما أن تستمر فتنجح، أو تستسلم و تموت في العزلة فتخسر كل شيء.