مجلة حكمة
عن الفلاسفة العنصريين عمومًا: هايدغر على وجه التحديد / ترجمة: فاطمة الزهراء علي

عن الفلاسفة العنصريين عمومًا: هايدغر على وجه التحديد / ترجمة: فاطمة الزهراء علي


 مؤخرا، تنحى غونثر فيغال؛ أكاديمي ألماني؛ من منصبه كرئيس لجمعية مارتن هايدغر، كي لا يتمّ ربطه – على مايبدو – بمعاداة هايدغر للسامية. الجنوح لمعاداة السامية في أفكار هايدغر تمّ توثيقه في الآونة الأخيرة مع مستوى جديد من الدِّقة بنشر دفاتر ملاحظات كُتِبت بين عامي  1931و 1941، والتي يقدم فيها هايدغر آراءه بخصوص “يهودية العالم”، و”مكائد” اليهود، بالإضافة إلى “موهبتهم في الحساب” التي أتاحت لهم “التأثير في كل مكان”.

     يمكن للمرء أن يجد بالتأكيد معاداة أكثر صخبا وهيجانا للسامية بين كتابات الفلاسفة الآخرين، magritteالمشهورين والمؤثرين في القرن العشرين، ولا سيما جوتلوب فريجه “أبو الفلسفة التحليلية“، غير أن التركيز على هذه الفكرة، أو ربطها بأي أهمية حقيقية، سيكون من شأنه أن يضع للمرء معايير منخفضة للغاية. هايدغر كان معاديا للسامية وكان عنصريا. لا يوجد أي مبرر لمحاولة إعادة تأهيله وتقديمه بأنه “أقل عنصرية” من بعض أقرانه ومعاصريه. ولذلك يجب أن يُشجَب صراحة، دون تلطيف أو تردد.

     إلى هذا الحد؛ كان لدافع الدكتور فيغال أساس منطقي: مثل أي شخص يطمح للعمل كخصم للعنصريين والمعادين للسامية، كان يرغب في التأكيد على عدم رغبته في التسامح أو تلميع تورط هايدغر الفاضح والمشؤوم وتضامنه مع أكثر المشاريع السياسية والقوى الاجتماعية خِسّة في القرون الأخيرة. القيام بذلك بلا شك أمر صحيح.

مع ذلك؛ هناك شئ غير مُرْض في لفْتَتِه.

تذكروا أن مارتن هايدغر كان شديد المُجاهرة بكونه نازيا في وقت مبكر؛ منذ عام 1933، وبقي عضوا دافعا للاشتراكات حتى تمّ حلّ الحزب النازي بشكل إلزامي وسريع وفظّ في نهاية الحرب العالمية الثانية، وإن استمرت مرحلة كونه “ناشطا” عاما فقط. على ضوء هذه الحقيقة – المعروفة لدى أي شخص بما في ذلك الأشخاص شبه المُلِمِّين بتاريخ حياة هايدغر، والمعروفة بالتأكيد لدى شخص مثل غونثر فيغال – لماذا يا تُرى قد يتخيل أي شخص أن هايدغر ربما كان ضد معاداة السامية بأي شكل جوهري؟ هل تبدو فكرة الناشط النازي المعارض لمعاداة السامية منطقية؟ ألا يبدو الأمر شبيها بأن يكون المرء مناهضا للعنصرية وناشطا في كو كلوكس كلان؟ ألن يبدو ذلك، كما وصف هايدغر الفلسفة المسيحية، “مربعا مستديرا يصعب فهمه”؟

مناورة فيغال يبدو أنها قصدت إيصال رسالة قلّ من يجدها مقبولة ولو على مضض: “نعم، كنتُ أعلم أنه كان ناشطا في الحزب النازي،” ويبدو أنه يوحي بـ “لكنني مصدوم ومذعور من معرفة أنه تبنى آراء سلبية عن اليهود!”.

حقا؛ دكتور فيغال؟

رغم ذلك؛ يمكن للمرء أن يُحسن الظن بفيغال، ويفترض أنه ربما قصد فقط تسجيل رفضه – طويل الأمد – للانتساب لسياسات هايدغر، في الوقت الذي احتلّ  بُعد المعاداة للسامية في موقف هايدغر السياسي اليميني المتشدد اهتمام الجدل العام. ربما لم يحاول أن يبرز (بصورة غير مقنعة) كشخص لم يعرف شيئا عن هذه الأمور حتى الأشهر الأخيرة.

بغض النظر عن دوافع الدكتور فيغال فإن الضجة التي أحاطت بموقفه يقدم لنا فرصة سانحة للتأمل في سؤال مهم، يثيره هذا “الشأن” برُمَّته. كيف علينا أن نفكر في حقيقة أن كثيرا من الفلاسفة المهمين في العصر الحديث كانوا عنصريين و / أو أنصار الطابع البشع للتمييز الجنسي؟ أو بالأحرى؛ كيف علينا أن نفكر في الموقف من كتبهم، على ضوء حقيقة أن التحيزات السياسية لكثير من أولئك الكُتّاب كانت مع مشاريع سياسية مُروعة، مثل: تفوق العرق الأبيض، الكراهية المتطرفة للنساء، معاداة السامية، والاستعمار. ماذا لو ذكرنا قلة منهم على سبيل المثال؟

لو كانت فاشية هايدغر ومعاداته للسامية حالة معزولة لقمنا باستبعاد هذه “التفاحة الفاسدة” باعتبارها حدثا فرديا، لا شبيه له ولا علاقة حقيقية تربطه بالتقاليد الغربية الفلسفية الأوسع، ولا يهددها إلا بخطر واه وبنوع زائف من “الجُرم بالتبعية” في نهاية المطاف. هذا بالتأكيد من شأنه أن يوفر للجميع دافعا للنأي بأنفسهم عن هايدغر، بأسلوب فيغال، وربما قد يتطور الأمر إلى التوقف عن قراءة هايدغر أو أخذ إنجازاته الفكرية على محمل الجد (الأمر الذي لم يرغب به فيغال نفسه، وقال أنه لن يفعل ذلك). يا للحسرة! إن هايدغر على أي حال ليس “ناشزا” أو شاذا في نوعه. عوضا عن ذلك؛ إنه يمثل حالة مألوفة جدا، بل طبيعية في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة: عنصرية “الفيلسوف العظيم”.

تأمل نظراءه في هذا الصدد: 

أ) كمثال أولي؛ لنتذكر ريادة ديفيد هيوم (بمعناها المزدوج) إعلان تفوق العِرق الأبيض: “أنا أميل للاعتقاد بأن الزنوج، وبصورة عامة جميع الأعراق البشرية الأخرى، أقل شأنا بطبيعة الحال من العِرق الأبيض. لم توجد أبدا أي أمة متحضرة من غير ذوي البشرة البيضاء، ولا يوجد من بينهم حتى أفراد بارزون في العمل والتفكير”.

ب) “فيلسوف عظيم” آخر؛ إيمانويل كانط، أثبت تأثير وجهة نظر هيوم المُرتابة في الاستدلال الاستقرائي لمشروعه الخاص المعني بتطوير “المثالية المتعالية”، وبقي بمنأى عن المشاكل التي أثارتها الرؤية التجريبية للمعرفة. لم يسِر كانط على خطى هيوم في المستوى الإبستيمولوجي فحسب، بل إنه اقتدى بعنصرية هيوم أيضا. فوفقا لكانط؛ الذي توسّع مبكرا في مجموعة كبيرة من نظريات العِرق العلمية – الزائفة؛ فإن السكان الأصليين في الأمريكيتين “عاجزون عن خلق أي ثقافة”، لذا فإن درجتهم “العِرقية تنحدر إلى ما دون العِرق الزنجي بكثير والذي يحتل أدنى المستويات التي أشرنا إليها في إطار الاختلافات العِرقية”.

ج) ثُم هناك عاشق المساواة والحرية الشهير؛ جون ستيوارت ميل. مثل هيوم وكانط؛ اعتقد ميل أن الشعوب غير الأوروبية لا تتمتع أساسا بالكفاءة، وتفتقر إلى القدرة على الاستقلال وتقرير المصير. ووفقا لميل؛ فإن السيطرة الاستعمارية لم تكن فقط أمرا جيدا بشكل عام، بل إن اعتبار سلوك المستعمِرين أمام “الشعوب الهمجية” غير قانوني أو غير أخلاقي هو خطأ جسيم. على العكس من ذلك؛ جادل ميل أن “الطغيان هو الوضع الشرعي للحكومة التي تتعامل مع البرابرة”، كما يقول في كتابه؛ في الحرية، فإن الشعوب المستعمَرة كالأطفال، تحتاج إلى “تحسين” بالطاعة القسرية للمشْرِفين “الخيّرين”.

د) وإلى عهد قريب؛ كما أشرنا أعلاه؛ ثمة مثال جوتلوب فريجه (توفي عام 1925) والذي اشتهر على نطاق واسع بأنه مؤسس ما صار يعرف بـ “الفلسفة التحليلية”. فريجه كان واضحا تماما بشأن عدائه الشديد للسامية وللديموقراطية، وولعه بالسياسيين القمعيين الفاشيين المعادين للسامية (وخاصة أدولف هتلر وإريك لودندورف؛ القادة المشاركون في انقلاب “بير هول”).

يمكن القول أن صوت فريجه كان عاليا في شجبه لليهود والماركسيين؛ أعلى حتى من هايدغر (مرة أخرى نقول: أن هذه الحقيقة بالكاد تصل لمستوى الدفاع عن هايدغر). كان فريجه قلقا بشكل خاص من حصول اليهود في جمهورية فايمار (نشأت في ألمانيا عام 1919 عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى واستمرت حتى عام 1933 بعد تولي هتلر منصب المستشارية ورئاسة الجمهورية) على حقوق مدنية متساوية جنبا إلى جنب مع “بقية الأعراق التي تحت رعايتنا وتُطالب بأن يتمّ اعتبارها ألمانا”.

يسترجع فريجه بحنين ذكريات صغره، وكيف أن “اليهود لم يُسمح لهم أن يبيتوا ليلة واحدة في مدينتي الأم؛ فيسمار. كان يُسمح لهم بالمجئ في المعارض السنوية فقط، وكان يُدَقُّ لهم جرس للدخول إلى المدينة، ويُدقُّ لهم جرس للخروج منها”.

بالتالي؛ هايدغر ليس بأي حال من الأحوال مثال معزولا. المشكلة هنا عامة جدا، لدينا – إلى جانب هيوم وكانط وميل وفريجه – عدد من الأمثلة الأخرى: عداء روسو الشديد للمرأة، ادعاء هيغل أن الأفارقة ليس لهم تاريخ، دفاع جون لوك عن استعباد الأفارقة والسلب وتشريد الشعوب الأصلية … وهلم جرا.

لكن ربما ثمة شئ مميز في مثال هايدغر؛ شئ لا يوجد في الأمثلة الأخرى. إنه نوع فريد من التشابك المعقد، يوحي بعضه بل قد يكشف عن ارتباط متواشج يصعب تجاهله ويكمن في التقارب الفكري بين الآراء السياسية التي نجدها مثيرة للاشمئزاز والمساهمات الفكرية التي لا زلنا بصورة أو بأخرى منجذبين لها.

لا. هذه أيضا مشكلة تمتد إلى ما قبل هايدغر، وتورط فيها آخرون.

مفاهيم كانط للعقلانية (المعاملة كوسيلة) وللإنصاف (المعاملة كغاية) تمّ تعريفها – جزئيا – بالتباين مع مفاهيم اللاعقلانية التي تحوي عنصرية خفية في فكر كانط. فـ “التنوير” نفسه على وجه الخصوص؛ يعتبر (كما يزعم كانط) تجسيدا تاريخيا “لنضج” العقل البشري؛ كما يعتبر أيضا من قِبَل كانط إنجازا أوروبيا. وبالتالي؛ فثمة تشابك بين مفهوم العقلانية لديه والنضج الإداركي من جهة، والأحداث الطارئة على الثقافة الأوروبية الحديثة ومشاريع الاستعمار والهيمنة الناشئة من جهة أخرى.

يمكن أن نستخلص وجهة نظر مشابهة من مفهوم ميل لـ “الحرية”، بوصفها أحد متطلبات النضج، و”البرابرة” لديه كانوا شبيهين بالأطفال. تمايز  أوروبا “المتحضرة” عن “البرابرة” كان عنصرا أساسيا في فهمه للحكم الذاتي الذي أتاح للبيض أن يكونوا أحرارا، وأن يكونوا بمثابة “الطغاة الخيّرين” فيما يتعلق بعلاقتهم مع الشعوب المستعمَرة.

لا أستطيع التوقف عن إثبات هذه المسألة عند كل حالة مذكورة هنا، لكن فريجه يستحق اهتماما خاصا في هذا السياق، بما أن بعض المدافعين عنه – إن كانوا فعلا كذلك – يصرون على أن إنجازه الفكري معزول تماما عن أي ارتباط جوهري بالعنصرية والفاشية، وبذلك فإنه من المفترض أن تكون حالته مختلفة عن حالة هيدغر.

فريجه نفسه – على عكس ذلك – يصر أن مشكلة “فهم معاداة السامية” ترتبط ارتباطا وثيقا بالقضايا الأساسية في فلسفة الرياضيات، وفي صُلب بحثه الفلسفي. “يمكن للمرء أن يعترف بأن هناك يهودا محترمون جدا، ورغم ذلك فمن سوء الحظ وجود الكثير من اليهود في ألمانيا، الذين لديهم حقوق سياسية متساوية مع المواطنين ذوي الأصل الآري”.

يكتب فريجه: “إذا رغب أحد في صدور قوانين لمعالجة هذه الشرور، فالسؤال الأول الذي يجب الإجابة عليه سيكون: كيف للمرء أن يميز اليهود عن غير اليهود؟”. ويقول “يبدو ذلك صعبا للغاية”. مركِّزا على الرهانات الفلسفية لهذا المسار من التفكير؛ يكتب فريجه: “إذا أراد المرء أن يجعل القوانين ضد اليهود فعليه أن أن يكون قادرا على تحديد علامة فارقة [Kennzeichen]  والتي يمكن للمرء من خلالها أن يتعرف على اليهودي على وجه اليقين”. ويضيف: “لطالما اعتبرت هذا الأمر مشكلة”. ماذا قال؟ قال: “لطالما اعتبرت هذا الأمر مشكلة”. بالتأكيد؛ لقد كان ذلك ما فعله.

حمل معه مشكلة “العلامة الفارقة” لوحدها في كتابه؛ Grundlagen der Arithmetik (1884), §62: “إذا استخدمنا الرمز أ للدلالة على كائن ما فلا بُدّ أننا نملك معيارا لنقرر في جميع الحالات ما إذا كان الرمز ب مساويا للرمز أ، حتى لو لم يكن دائما في وسعنا تطبيق هذا المعيار”.

(خذ بعين الاعتبار أيضا محاولة فريجه لتطوير قيمة صارمة لـ “الأصل” / السلالة:  http://rgheck.frege.org/pdf/unpublished/Ancestral.pdf ؛ في هذا السياق، يمكن للمرء أن يقفز مباشرة إلى الصفحة الرابعة التي تتعلق بهذه النقطة: أن ترسيخ استمرارية الأسلاف أمر مرتبط – في عقل فريجه – بالأسئلة الجوهرية في فلسفة الرياضيات. وفي الحقيقة؛ فإن السلالة تكمن في قلب فهم فريجه للعدد).

قد يبدو الأمر غريبا بالنسبة لنا، لكن حسب تفكير فريجه؛ فإن مشكلة تأسيس يهودية الشخص هي “بالتأكيد” مرتبطة ارتباطا عميقا بطبيعة الأعداد الطبيعية عبر إشكالية “الأصل” و”العلامة الفارقة”.

إلى أي استنتاج يجرنا أشخاص مثل هيوم وهايدغر وفريجه وكانط وجون ستيوارت ميل؟ هل نعتبر إنتاجهم الفكري ملطخا على وجه كامل؟ أو لنقل بشكل أكثر صرامة: هل فقد إنتاجهم الفكري مصداقيته تماما بسبب الارتباط والتشابك القائم بين تصوراتهم الفلسفية والأفكار أو الافتراضات العنصرية (و/ أو الاستعمار، التمييز الجنسي..إلخ)؟ هل يجب علينا التوقف عن تعلم ودراسة وقراءة مؤلفات أولئك الأشخاص، والتوقف عن محاولة الاشتباك مع أفكارهم؟

بالتأكيد؛ هذا موقف قد يبدو مغريا للبعض، لكنه ليس معقولا إن فكرنا فيه.

لمعرفة السبب؛ لاحظ أن حركة فصل الآراء والأفكار القابلة للدفاع عن تلك التي لا يمكن الدفاع عنها – والتي تبدو في البداية سليمة ومترابطة – لا تمثل مشروعا مميزا يمكن أن نقترحه لتصعيد قضية مهمة مثل عنصرية الفلاسفة.

لا؛ بل هي أمر أساسي لفهمنا للاستفسار العقلاني والحياة الفكرية. أن تفكر يعني أن تؤدي بدقة هذه العملية من الفصل / التفكيك. “أتفق معك في هذه النقطة، وفي هذه النقطة الأخرى، لكن ليس في هذه النقطة الثالثة، هنا أصر أنك قد جانبت الصواب، وأستطيع أن أخبرك لماذا..”، أليس الإلزام بتكرار هذا الأداء، بالدوران عبر هذا الفعل التفكيكي مرارا وتكرارا؛ هو المصدر النهائي لدراما الفلسفة والنداء الدائم لها؟ أليس ذلك – أيضا – واجبا لا مفر منه يثقل كاهل الجميع وربما بشكل لا إرادي حالما يستلم المرء مهمة التفكير؟

نعم؛ بالفعل. فزحزحة وفضح زيف تشابك الخطأ والالتباس الذي ينسج نفسه حول أفضل إنجازاتنا الفكرية هو ما نعنيه بالضبط بالتفكير. إذا؛ لماذا لا نستجيب بالطريقة القديمة للتشابك في مفهوم جون لوك “حق الثورة” ورأيه في “الدفاع عن العبودية”: من خلال التفكير المباشر؟ لا توجد استجابة أخرى تبدو متاحة بشكل موثوق، بما أن كنسه تحت البساط لن يستدعي إلا استمرار بروز شبحه، كوجود مؤرق نتفق جميعنا على عدم الإشارة إليه ناهيك عن الاصطدام به ومواجهته.

ويبدو أن هذا يطلعنا على كيفية الرد على هايدغر. قبل كل شئ؛ يجب أن نقاوم إصرارنا – كما لو كنا في قبضة ذعر شديد رغم أنه غير ملحوظ – على أنه يمكننا نسيانه وجميع ضجيجه الفاشي. على النقيض من ذلك؛ علينا حقا قبول مسؤوليتنا في التفكير بطريقتنا من خلال هايدغر. عندما يدعي – على سبيل المثال – أن كرسيا أو عملا فنيا يمكن فقط أن “يكون”، أي أنه إطلاقا ممكن (ككرسي أو كعمل فني) بفضل السياقات التفسيرية غير الموضوعية لكن الفعالة، التي تمنح الوضوح بسحب نفسها من الوضوح، كاللغة التي تعمل فقط على إضاءة نص معين لفترة طويلة حتى تصبح قابلية قراءته معطلة أو مستبدَلة. هل هذا الاقتراح يمكن استعادته في سياق مناهضة العنصرية أو مساءلتها أو فهمها؟ أم أننا بأخذنا الأمر على محمل الجد، وبالاشتغال عليه فكريا، حتى بأسلوب نقدي مغاير؛ هل في الواقع ندعم قوى الهيمنة العرقية، أو شيطنة المعاداة للسامية؟

هناك من يفترض أنه يتعين تسوية هذا السؤال مسبقا. يجب أن أعترف (وأخشى أن يكون ذلك غير مؤدب) أنني أعتبر أولئك الناس؛ حسنا؛ ساذجين قليلا، على الأقل في هذا المجال. فكرة أن هذا السؤال يمكن الإجابة عليه دون فرز الكتابات الخاصة بهايدغر والأسئلة التي تثيرها هو موقف تبسيطي وفجّ: أمر شبيه بما يهمس المرء لنفسه، سعيا للراحة والطمأنينة، وانعزالا من قلق المجهول ومن ضرورة التفكير في الأمور. أتذكر عتاب ماركس: “لا يوجد طريق ملكي للعلم، وفقط أولئك الذين لا يرهبون تعب تسلق مساراته الوعرة لديهم فرصة الفوز بِقِمَمِه النيّرة”.

هذا يعيدنا إلى الدكتور فيغال. هل شعر بالرهبة من عناء التسلق الوعر؟ هل شعر بالقلق إزاء عدم وجود قضبان أمان أو وسادة تخفف سقوطه؟ أفترض أنه لم يفعل. أنا متأكد أنه سيواصل التفكير في هايدغر، وفي كانط أيضا، وهيوم، وفريجه، والبقية. لكن التفكير فيهم ليس مسألة اتفاق معهم، أو تصويرهم على أنهم مميزون أو عظماء: جمعية هايدغر – إن كانت ضرورية – ينبغي ألا “تستثمر” في الدفاع أو تتمسك في “العظمة” المفترض لهايدغر (استثمار بدا واضحا جدا باستقالة فيغال). ربما يكون هؤلاء “الفلاسفة العظماء” مخطئين بإلحاح وبعناد حول شئ تلو الآخر.

ربما علينا أن نحاربهم، أو نحارب أجزءا منهم، بأي وسيلة ضرورية. هم بالتأكيد، في كل حالة، مخطئون بقدر كبير، بشكل واضح في كثير من الأحيان ولكن ليس دائما. ليكن. لسنا مدينون لهم بأي ولاء شخصي أو فكري. بدلا من ذلك؛ نحن مدينون بولائنا لصعوبة ومتعة التفكير، وهذا ما يجعلنا أعداء الأفكار الساذجة، والسطحية، والمعلومات الخاطئة، والأفكار التي يستحيل الدفاع عنها، سواء أتت من أشخاص نحن معجبون بهم (ماركس؟) أو من أشخاص نجدهم مثيرين للاشمئزاز (هايدغر، فريجه..إلخ)، أو من الأشخاص الذين لا نعرفهم ولا نهتم بهم. إن كان لا بد من وجود جمعية هايدغر، فينبغي أن تكون وظيفتها: الإصرار على ضرورة فصل الرؤى عن الحماقة، لأن الكثير منهما يتجسد في أعمال هايدغر، كما هو الحال في أعمال أي شخص يضلله “مُريدوه” / تلامذته ويوهمونه بمركز سخيف وبوسم “الفيلسوف العظيم”.

المصدر