مجلة حكمة
ذكرى إدوارد سعيد الحصاة التي أصبحت صخرة تملؤ قبضة اليد: عن الأهمية المستمرة للاستشراق عند إدوارد سعيد - جورج صليبا / ترجمة: عبدالرحمن القحطاني

الحصاة التي أصبحت صخرة تملؤ قبضة اليد: عن الأهمية المستمرة للاستشراق عند إدوارد سعيد – جورج صليبا / ترجمة: عبدالرحمن القحطاني

ذكرى إدوارد سعيد
إدوارد سعيد راميًا حصاة

في ذكرى إدوارد سعيد (نشرت في مجلة المجتمع الحديث والثقافة LOGOS في خريف 2003)


في ذكرى إدوارد سعيد

انسحبت قوات الإحتلال الإسرائيلية من لبنان في الرابع والعشرين من مايو لسنة 2000 ميلادية بعد أكثر من إثنين وعشرين عاماً من الاحتلال الغاشم. ذاك الإحتلال الذي مزّق نسيج المجتمع اللبناني وقَتل الآلاف من المواطنين اللبنانيين الأبرياء والأطفال والنساء الذين يسكنون في مخيمات الأمم المتتحدة للاجئين بدم بارد. ذاك المجرم الذي هَدم المنازل وأَجلى وشَرّد المزارعين اللبنانيين بالآلاف. ذاك المحتل الذي أهان الشعب بجعل كل خطوة من خطواته خاضعة لنقاط التفتيش وطرق التحويلات وجعل من بعضهم قوات له وخونة وعناصر قتل. ذاك المغتصب الذي اغتصب وعذب المعتقلين في فترات احتجاز طويلة من غير محاكمات عادلة أو حتى إصدار مذكرة  إيقاف بحقهم. ذاك الغاشم الذي سمّى قرى زراعية بسيطة “معاقل الارهابيين” وقام بقصفها من الجو بطائرات F-16 والتي تم شراؤها ودفع قيمتها بمال دافع الضرائب الامريكي، ليقتلوا عدداً لايحصى من المزارعين الأبرياء. لقد قاموا بسرقة الماء وجرف التربة السطحية ونقلها عبر الحدود الدولية لمستوطناتهم والتي هي نفسها بنيت على أراضي مسلوبة استولوا عليها بالقوة.

إسرائيل لم تقدم على تنفيذ هذا العمل- الإنسحاب–لأنها اكتشفت فجأة أنها في انتهاك صارخ لقانون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 425 الصادر قبل22 سنة والذي ينص على أن تسحب إسرائيل قواتها حالاً ومن غير شروط خلف الحدود الدولية. إنما فعلت ذلك لأنها أجبرت بسبب وجود أطول حركة مقاومة مستمرة في لبنان. بدأت هذه المقاومة بفصائل سياسية لبنانية مختلفة كردة فعل على الإحتلال الإسرائيلي ومن ثم استمرت وانتظمت في ما يعرف بحركة المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله حتى حازت على نصر كبير وفعال.

خلال أيام من الانسحاب المصيري للإسرائيليين، وبينما مقاتلي حزب الله يستعرضوا بالسيارات المصفحة والدبابات وقطع الأسلحة التي غنموها بعد هروب القوات الإسرائيلية والذي حدث متزامناً في الساعات الأولى من الفجر؛ كان هنالك الآلاف من اللبنانيين يتقاطرون إلى أرض الجنوب المحررة. ذلك الجنوب الذي أصبح كأيّ أرض محرمة ومحتلة موضوعاً لأغاني الحنين والعشق خلال سنوات إحتلالها. لقد وفدوا ليشتمّوا تربة أرضها وليلقوا نظرة أخرى على تلالها المدرجة، وليعانقوا بلطف ويقبلوا غِراسها وأشجارها، وليستلقوا على مراعيها ويحدقوا في سمائها الحرة و”المحررة”. تلك السماء التي إلى اليوم عرضة لغارات مفاجئة من قوات الجو الإسرائيلية. لقد أصبحوا مبتهجين ومنتشين بطعم العزة والكرامة التي عادت إليهم. لقد أراد معظم اللبنانين أن يرتحلوا إلى الجنوب إن لم يفعلوا ذلك مسبقاً ليحيّوا المزارعين العائدين لمزراعهم ومنازلهم، ويهنئوا ويصافحوا السجناء المحررين من سجن الخيام سيئ السمعة. لم يكن ذلك فقط، بل أرادوا أيضاً أن يقتربوا بأكبر قدر ممكن من الحدود اللبنانية الإسرائيلية ليلقوا نظرة على ذلك الوحش القابع خلف الأسلاك الشائكة  والجدران الإسمنتية؛ ذاك الوحش الذي حول حياتهم إلى جحيم على مدى إثنين وعشرين عاماً وإلى اليوم يهدد وجودهم. إن هذا الإبتهاج والإحتفاء بكل شخص من أهل الجنوب والذي ظل على قيد الحياة خلال الإحتلال جعل الشعور العام كإحتفالية مستمرة، وإن كل لبناني يغمره هذا الشعور يود أن يصرخ بأعلى صوته “ أخيرا، أنا حر “.

ذكرى إدوارد سعيد
إدوارد سعيد مع أخته في فلسطين عام 1940

كانت فرحة فلسطينيّي المخيمات اللبنانية والذين يعيشون في ظروف صعبة بهذا الإنتصار مختلطة، لأنه نكأ جراحهم الغائرة وحرك غضبهم الدفين. لقد أتاح لهم هذا الإنتصار اللبناني أن يروا تلك الأرض التي اضطُرّوا لهجرها قبل خمسين سنة ونيف تحت وطأة هجوم القوات الإسرائيلية والتي كانت تؤسس بوحشية دولتها في عام 1948. لقد وفدوا أيضاً لتلك الحدود ونظروا لذلك الوحش القابع خلفها. لم يسبق لبعض منهم وخصوصاً الأطفال أن رأوا تلك المناطق القابعة خلف الحدود، وهاهم لأول مرة ينظرون لتلك الأرض التي حملت في مخيلاتهم أحلام العودة وصورها. تلك التي أخبرهم عنها آباؤهم وأمهاتهم كتنوع البساتين وكروم العنب، وصور مفاتيح منازلهم التي مازلوا يحتفظون بها طيلة فترة إبعادهم. نعم، لقد أتى الفلسلطينيون من أمكان بعيدة مختلفة كلندن وباريس ليلقوا نظرة على أرض الأحلام، نعم لقد احتضنوا لبنانيّي الجنوب وشاركوهم فرحهم ولكنهم غبطوهم لأن كل فرد فيهم لم يستطع أن يصرخ مثلهم “ أخيراً، أنا حر”.

أحد أولئك الفلسطينين الذين قدموا لهذه الحدود كان إدوارد سعيد. لقد أراد أيضاً أن يرى الأرض المحرمة ويشارك اللبنانيين فرحتهم عند الحدود، ويطرد ذلك الوحش الغاشم الذي عذّبه طيلة حياته. قام إدوراد بإلتقاط حصاة وقذفها بإتجاه ذلك الوحش كما فعل الشيء نفسه شيوخ وعجائز و حتى أطفال شديدي التهذيب والانضباط كأولئك الذين يرتادون المدارس الدينية. حرّكت هذه الإحتفالية الكبيرة مشاعر جمّة مختلفة ولايمكن وصفها لأي شخص لم يتسنى له في يوم من الأيام أن ينام تحت شجرة جوز أو لوز أو في حقل عنب على ضفاف شواطيء البحر الأبيض المتوسط خلال أشهر الصيف الدافئة. أنه نوع من السعادة والذي أعتقد ألّا يستطيع مواطنو دول الثلج-المقيد للحركة أن يستوعبوه.

لقد كان هذا هو المزاج العام عندما إلتقط إدوارد سعيد حصاته التي اشتهرت فيما بعد ورماها بإتجاه أرض فلسطين التي غُيّر اسمها إلى إسرائيل خلال فترة حياته، وهاهي الآن قابعة أمامه ومع ذلك لايستطيع أن يصل إليها. رمى إدوراد الحصاة تصاحبها هتافات فرح وهتافات امتعاض وشتم. وحده هو من يعلم الدافع الأساسي والذي  أنا متأكد أنه استغرقه سنوات طويلة من العلاج ليتبيّن له أكانت فعلته بدافع الألم أم الفرح أم الثورة العارمة ضد الظلم الذي أُنزل على أهله وبلده.

إدوارد في مكتبه بجامعة كولومبيا

مع قذفه للحصاة، حرك إدوارد سعيد نزاع آخر.  لقد كان من حوله مصوّر فوتوغرافي، وفي اللحظة التي إلتقط فيها إدوارد الحصاة بيده اليمنى وفرد ذراعه الى الوراء ليقذف بها، تم إلتقاط الصورة ونشرها في الأرجاء. لقد برزت أول مرة في الصحف من خلال وكالة فرانس برس (Agence France Press) واعتقد منذ تلك اللحظة أنها ظهرت في صحف مختلفة حول العالم. بسبب الانتشار الواسع لتلك الصورة، أجزم أن أي قارئ على معرفة بسيطة بأي محرك بحث على الإنترنت في مقدوره أن يحصل على نسخة مجانية منها ويطلع عليها بنفسه (الصورة مرفقة بالأعلى). ترون في هذه الصورة رجل هزيل ليس في كامل صحته الجسدية، قد أمضى عقد من الزمن يصارع مرض اللوكيميا (سرطان الدم). ترونه يمسك شيئاً في يده اليمنى بثلاتة أصابع: الإبهام وأول إصبعين والباقية معكوفة على راحة يده. هنا ترون رجلاً يحمل شيئاً في ثلاثة أصابع ويده مفرودة للوراء في حركة يهم بها أن يقذف هذا الشيء. في الجهة المقابلة له وفي إتجاه المكان الذي أراد ن يقذف حصاته له، جل ماترون هو مايشبه الجدار الإسمنتي والذي يبعد  عنه بمسافه كبيرة.

الآن، فكر في هذا الشأن فقط. ماحجم هذا الشي لكي يستطيع رجل منهك هزيل مثله أن يقذفه في أي إتجاه إذا كان ممسكه بثلاثة أصابع فقط؟ الصورة توضح هذا بجلاء، إنظر إليها مرة أخرى. حتى لو استطاع أن يرمي الحصاة إلى الحدود المحصنة جيداً بكل تلك الجدران الإسمنتية والخنادق والمركبات المدرعة والأشخاص، فكم الضرر الذي يمكن أن تحدثه تلك الحصاة وأي نوع من العنف يمكنها أن تلحقه بدولة إسرائيل والتي تملك رابع أكبر وأجهز قوات مسلحة في العالم؟. كيف لها أن تكون أكثر ضرراً من الحصاة التي يرميها طفل فلسطيني في العاشرة أو الحادية عشر من عمره ضد دبابة إسرائيلية؟

لقد تم تفسير هذا الفعل من قبل إثنين من زملاء إدوراد في جامعة كولومبيا وللأسف أنهم زملاء لي أيضاً، على أنه عمل من أعمال العنف وطالبوا إدارة الجامعة بتوبيخ البروفيسور سعيد على الأقل أو أكثر من ذلك. لم يُرفق هؤلاء الزملاء تلك الصورة مع المقالة التي نشروها في صحيفة الطلبة والتي حولوا فيها تلك الحصاة إلى “حجر”، ذلك المصطلح الذي استُحضِر سابقا مع أطفال الانتفاضة الفلسطينية؛ أطفال “الحجارة” ومن المحتمل أنه استُحضِر في “حجر” العهد الجديد – الجزء الثاني من الأنجيل -. لسنوات عديدة، مازال الأطفال الفلسطينين يجابهوا شياطيين ووحوش الإحتلال برميهم “بالحصى”. لابد لها أن تكون حصى أذاً، فما حجم الحجارة التي يستطيع طفل في العاشرة من عمره أن يرميها؟ ولكن بسبب شيطنة وتشويه الإعلام الغربي بصورة عامة والامريكي بصورة خاصة لهؤلاء الإطفال ونعتهم “بالارهابيين”، فلقد تم ربط البروفيسور سعيد بنفس المصطلح – إرهابي -. كان هذا سبباً في حدوث موجة من الإحتجاجات والغضب ضد إدوارد سعيد ودفاعاً عنه والتي بدأت في جامعة كولومبيا مع بداية الفصل الدراسي الخريفي لعام 2000 م.

لم تكن تلك الفعلة هي ما أزعج خصوم إدوارد وأنما أرادوا أن يستغلوها. لقد أدرك خصومه أهمية اللغة ولذلك أرادوا إضفاء بعض من الإجرامية لفعلته وذلك من خلال تغيير ما يتضح أنه “حصاة” بريئة إلى “حجر”. ولاحقاً، مع استفحال الجدل، تحول “الحجر” إلى “صخرة” لكي يتسنى لهم أن يقولوا إنما أراد إدوارد حقاً أن يؤذي بها شخص ما. في آخر حلقة من حلقات هذا الجدل، رُبط اسم إدوارد بمصطلح “جدلي” والتي قامت جريدة  New York Times في نعيها لأدوارد سعيد باقتباسه منها، ذاك المصطلح الذي يُؤخذ صاحبه على محمل الشك. آخر هجوم على ذكرى إدوارد سعيد والذي نمى إلى علمي كان في موقع Daniel Pipes الإلكتروني، تحولت فيه الحصاة إلى “صخرة تملؤ اليد”. إذا استمرّ هذا الجدل وأتوقع أن يتفاقم بعد مراسم العزاء الرسمية في جامعة كولومبيا لذكرى البروفيسور إدوارد سعيد، أتوقع أن يقوم شخص ما في مكان ما بتحويل تلك “الحصاة” إلى “جلمود من الصخر”. كل هذا يحدث ولا يكلف أحدهم نفسه العناء لينظر لتلك الصورة ليرى تلك الأصابع الثلاثة ممسكة تلك الحصاة استعداداً لرميها.

ذكرى إدوارد سعيد الاستشراق
كتاب الاستشراق لـ إدوارد سعيد

لم استعرض ماسبق من باب التسلية، وإنما لإيماني أن هذا الحادث من شأنه أن يعلمنا الكثير عن إرث إدوارد سعيد. ليست المرة الأولى التي يتم فيها استخدام الخطاب واللغة لتغيير الحقائق على الإرض إلى نيات إجرامية. لم يُرد مهاجموا البروفيسور سعيد أن يناقشوا الحقائق الواضحة للعيان في الصورة الملتقطة، وإنما ليشوهوا تلك الحقائق لكي يحوّروا نيّته ويجعلوا مقصدها إجرامي. لم يشيروا إلى حقيقة أن الحصاة لايمكن لها أن تلحق الضرر بأحد، وأن قذفها كان من نوع التعبير عن الفرح الذي شاركه سعيد مع الآلاف من اللبنانيين والسياح، وإنما أرادوا أن يجعلوا فعله ضرباً من أعمال العنف. لقد قام رئيس جامعة كولومبيا في ذلك الوقت الدكتور Jonathan Cole باصدار بيان مفاده أن البروفيسور إدوارد سعيد لم يقم بأي عمل إجرامي وأنه لم يقصد بتلك الحصاة أحد معين ومن غير الممكن لأي أحد أن يتأذى من فعلته. وبهذا فسرت الجامعة فعلته على أنها من حرية التعبير الشخصية.

ولكن العبرة ليست في هذا، وإنما في حقيقة أن حتى المدافعون عن إدوارد سعيد سقطوا في الحجج الجدلية لخصومه، وانساقوا معهم في طريق تشويه الحقائق وذلك بإستبدالهم “الحصاة” ”بالحجر” وأحياناً “ بالصخرة” في كتاباتهم الدفاعية. في وقت ما، وخلال مقابلة مع أدوارد سعيد تم تجاهلها، وصف إدوارد ذاك الشيء “بالحصاة” ولكن في خضم الجدال الساخن لم ينتبه لذلك أحد. لقد استمر كل من أصدقاء إدوارد وخصومه في وصف “الحصاة” بكل من “الحجر”، “الصخرة” أو “ الصخرة التي تملؤ اليد”.  وبإمكاننا جميعا أن نتوقع وصف “جلمود من الصخر” قادم لا محالة.

هذه الحلقة تُحضر للذهن موضوع آخر مشابه له. بينما أودع جثمان إدوارد سعيد في كنيسة Riverside Church، تذكرت موضع آخر خذله أصدقاؤه فيه. لقد سمحوا لأعدائه بانتزاع مسار الحوار واضطُرّوا أن يخوضوا معركتهم الدفاعيه عنه على أراضي الخصوم.  لقد تذكرت الجدل الذي حدث حول كتابه “ الإستشراق”  Orientalism الذي كان مؤذناً بعهد جديد في هذا المجال. أتذكر ما قد أعتَقَده بعض من أصدقائه من أن سعيد لم يعرّي الإستشراق في كتابه بشكل كافي. على سبيل المثال، لم يتحدث سعيد عن المستشرقين الألمان والذين كان لهم دور في تشويه الحقائق عن الشرق مثلما فعل زملاؤهم الفرنسيين والإنجليزيين، إن لم يشوهوها أكثر منهم. إنخرط الجميع في هذه الجدلية التي انتشرت في أواخر السبعينيّات وبداية الثمانينيّات من القرن الماضي. ولكن موضوع الجدل صيغ كالآتي: هل من حق إدوارد سعيد، الناقد الأدبي المشهور، أن ينتقد حقل معرفي له معاييره الخاصه ومصطلحاته ومختصّيه ويعود تاريخه إلى عصر النهضة الأوربيه إن لم يكن أقدم من ذلك؟ ماذا كان يفعل ناقد للأدب في أروقة مستشرقين متمكنين، ملحق باسمائهم لغات سامية متعددة و سلسلة متتالية من ألقاب Dr و Dr  و Prof على نمط العرض المهني الألماني القديم؟

تحول الجدل حول رسالة سعيد عن الإستشراق من نقاش عن مزايا ومحتوى الرسالة والتي تُعنى بضرر المستشرقين الذي ألحقوه بهذا الحقل بسبب انحيازهم الأيدولوجي بوعي أو غيره، إلى نقاش عن أحقية سعيد في هذا العمل من عدمه. لقد نسى المدافعون عن إدوارد سعيد أن حقيقة الأفكار التي أحاط بها المستشرقون هذا الحقل المعرفي قد بُنيت على تصور خاطئ كما هي حقائق تلك الصورة والتي تُقذف فيها الحصاة، وانغمسوا في بحر من المناقشات الجدلية.

بعض من أصدقاء إدوارد أساؤا فهم المغزى الأساسي من رسالته “الإستشراق”. لقد قلقوا من قول سعيد أن المستشرقين لم يُلمّوا بلغات الحقل الذي خاضوا فيه وطالبهم بإطلاع أكبر، و قد عنى هذا لبعض أصدقائه أنها دعوة من إدوارد سعيد للمستشرقين أن يقدموا خدمة أفضل لأسيادهم الاستعماريين، وبالتالي يعرّض شعوب الشرق التي أراد أن يحميها من تشويه الإستشراق إلى الخطر. وبتركيزه المكثف على المستشرقين الجدد وكشف فهمهم القاصر عن حقل الاستشراق، يبدو سعيد حتى لبعض أصدقائه وكأنه يلتمس العذر لقدماء المستشرقين المتمكنين والذين أتقنوا أدوات هذه المهنة. يستشهد خصومه بمستشرقين مختلفين واحداً تلو الآخر ممن حرر كتاباً من أمهات الكتب العربية “الكلاسيكية” هنا أو ألّف قاموساً عربياً-إنجليزياً أو عربياً-لاتينياً هناك، كل هذا ليقولوا أن المستشرقين قاموا بعمل  ما، يستحق الإحترام، وبالتالي فإن إدوارد سعيد كان غير منصفٍ في هجومه عليهم. لقد تشعبت هذه النقاشات الجدلية في كل إتجاه، وجميعها من وجهة نظري اخفقت في إصابة الحقيقة ومازالت كذلك.

بالنسبة لي، سعيد لم يقل أن المستشرقين غير أكفاء ولا إنحيازيين ولا عملوا في إطار ايديولوجي إستعماري منعهم من أن يروا أفضل من ذلك، وأنا أرى أن فيهم كل ذلك. لم يقل أنهم خدموا أسيادهم السياسيين بدلاً عن أن يخدموا مجالاتهم العلمية كما ينبغى، ولقد فعلوا ذلك. ولكنه كان يقول، وهذا عندي أهم جزء من إرث الاستشراق عند إدوارد، أن المستشرقين نظّروا لتاريخ وثقافة الشرق بطريقة جعلت خصائصها الحقيقية غير قابلة للاسترجاع. إنه ليس من الكافي أن تحرر نصاً أو كتاباً أو تؤلف قاموساً، بل الأهمية البالغة تكمن في أن تفهم تلك النصوص وتنشر تلك القواميس في سياقها ومضمونها الثقافي وألّا تشوهها بقلة خبرة أو إنحياز سياسي أو رغبة إستعمارية أو ماشابه ذلك.

بنفس إسلوب  الدفاع عن الحصاة التي تحولت إلى صخرة، لم ينظر أصدقاء إدوارد للحقائق بأنفسهم ولم يطلعوا على صور تاريخهم، وهنا أتكلم عن أصدقائه من العرب والمسلمين والذين مازلوا منخرطين في النقاشات الجدلية للاستشراق عند إدوارد سعيد و التبعات السياسية لكتابه. لقد دافعوا عنه حتى الموت ولكن للأسباب الخاطئة.

الكثير من إصدقاء سعيد في العالم العربي مازالوا يدافعوا عنه خصوصاً عند الحديث عن الفترة الحالية من تاريخهم، ولكن عندما تستدعي المناسبة تحيلاً أعمق عن الإستمرار التاريخي والذي أوجد هذه الفترة، وقتها يبدؤا بالتنظير عن شرقيتهم، و جميعهم تقريباً مع الأسف يتبنون نظريات المستشرقين. كم يوجد حالياً من المفكرين العرب أو المسلمين والذي يمكن أن تقرأ له – تعبيراً عن القلة -، على سبيل المثال، أحدهم وهو صديق مقرب لسعيد مازال يعتقد أن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية والذي يرتبط به العصر الإسلامي الحديث، هو القرنين الأولى من الخلافة العباسية والتي تمتد من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي. هذا الصديق مازال لا يدرك أن تقسيم الحضارة الاسلامية إلى فترات ذهبية وفضية و فترة إضمحلال وفترة إنحطاط  إنما هو من عمل المستشرقين والذين أيضا حرروا تلك النصوص وألفوا تلك القواميس! إنهم نفس المستشرقين الذين أعلنوا وفاة الحضارة الإسلامية بنهاية القرن الثاني عشر وبهذا أرسوا القواعد لعمليّة تجريد الحضارة الاسلامية من إنسانيتها وذلك بتخصيص الفترة الحالية من هذه الحضارة كإمتداد لعصر الانحطاط الذي بدأ بعد القرن الثاني عشر. ومما يسترعي الإنتباه، المصادفة الغريبة أن القرن الثاني عشر مهم جداً لنفس المستشرقين والذين كانوا جميعاً أوربيين، ومهم أيضاً لطلبتهم من العرب والمسلمين وذلك لأن القرن الثاني عشر جلب نهضة القرون الوسطى – تختص بحضارة المسلمين والعرب –  إلى الغرب وباعترافهم بأنها حدثت بسبب إتصال أوروبا في ذلك الوقت بالحضارة الإسلامية. نفس هؤلاء المستشرقين وطلابهم لايرو أي إتصال بينهم بعد العصور الوسطى وبالتالى ينظّروا لفكرة أن النهضة الأوربية ماهي إلا معجزة أوربية على غرار معجزة نهضة الإغريق وكثيراً مايزاوجوا بينهما.

الخبر الجميل أن بعض من أصدقاء إدوارد سعيد الجيدين والذين لم يلتقوا به شخصياً، قد بدأوا إخضاع أقوال وتصريحات مفكّري العرب والعالم الإسلامي لتمحيص دقيق، وبدأوا بانتقاد مركّز لتلك البيانات والمقولات التي خلدت إرث الإستشراقيين. ظهرت بعض الكتب والتي تعنى بهذا المجال في السنوات الأخيرة، وهناك كتب أخرى ستصدر مستقبلاً.

لكن المهمة الكبرى والتي تقع على عاتق أولئك الذين وَرِثوا تراث الاستشراق ومهمة دراسته وتمحيصه مازالت في مراحلها الأولى.هذه المهمة تتطلب منهم أن يعيدوا النظر في تاريخ الحضارة الإسلامية بعيون جديدة غير متأثرة بنظرات المستشرقين الضبابية المختلة، وأن يدرسوا الحضارة لأجل الحضارة لا لشيء آخر، ومن ثم يُخرجوا لنا نظرية جديدة تستبدل نموذج المستشرقين العام.

لقد وجد أولئك الذين بدؤوا بالسير على هذا الطريق فترات ذهبية أو فضية خلال الحضارة الإسلامية لا تتماشى مع التقسيم الزمني لحضارة المسلمين من قبل المستشرقين. لقد اكتشفوا أن هذه المماثلة المعدنية – استخدام الفترة الذهبية والفضيه – غير مجدية أبداً. هذا العمل بالكاد بدأ، ولكن بفضل إدوارد سعيد وكتابه الاستشراق، يمكن لهذا العمل أن يخطوا بخطًى ثابته. هذا أيضا “حصاة” قذف بها البروفيسور إدوارد سعيد في الحوض الأكاديمي ومازلت دوائرها في اتساع مستمر والآن تلامس كل حقل علمي له علاقة بالاستشراق عند إدوارد سعيد.

المصدر

*جورج صليبا هو بروفيسور في قسم اللغات والثقافات الشرق أوسطية والآسيوية في جامعة كولومبيا. يعمل على تاريخ العلوم العربية والإسلامية. منشوراته تركز على التاريخ الفكري للإسلام مع اهتمام بالتقاليد الفلكية العربية وتأثيرها على عصر النهضة الأوربية.