مجلة حكمة
الامراض النفسية

عالم مجنون: شيوع تشخيص الأمراض النفسية – جوزيف بيير / ترجمة: سارة اللحيدان

photo
جوزيف بيير، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا- لوس أنجلوس. رئيس مساعد في مركز وحدة علاج الفصام غرب لوس أنجلوس، صاحب مدونة Psych Unseenفي موقع Psychology Today

عندما يقابل الناس طبيبا نفسيا في حفلة ما، ثم يفصح عن مهنته، ستكون هناك اثنتين من ردود الأفعال المتوقعة، فإما أن يقولوا: “من الأفضل أن أكون حذرا في حديثي” ثم يصمتون، أو أنهم سيقولون “من الممكن أن أتحدث معك لساعات” ويبدأون فعلا بسلسلة من التذمرات والأسئلة التشخيصية، والتي عادة ما تكون عن أحد أفراد العائلة، أو الأقارب، زملاء العمل، أو معارف آخرين. إذن، من الواضح أن الناس يقرّون بأن هناك من يستفيد من إنصات الطبيب النفسي له ، لكنهم بالمقابل يظهرون ترددا عميقا حينما يحتاجون الذهاب إلى ذلك الطبيب.

إن التردد أمر مفهوم رغم أن كثير منا يتعطش للدعم والفهم والتواصل البشري. وربما نكون قلقين بأنه في حال انكشاف ذواتنا فسوف يُحكم علينا أو نُنتقد، أو نُرفض بطريقة ما. والأسوأ من هذا كله، يقلق البعض من الإفصاح عن ذاته أمام الطبيب النفسي بسبب استحضار أساطير بالية فقد يوصم بالجنون، أو يحبس في مستشفى الأمراض العقلية، يلبسونه سترة المجانين، ويعالجونه بأدوية تسبب له النسيان. ومن المؤكد أن تلك المخاوف تأتي مترافقة مع طبائع ونقاط ضعف هذا الإنسان، بالإضافة لصراعات الحياة التي يستحيل معها العيش بصحة عقلية مثالية.

كطبيب نفسي، أرى أن هذا أكبر تحدّ يواجه الطب النفسي في الوقت الحالي، وذلك لوجود فئة كبيرة من المجتمع -ربما تكون الغالبية- يمكن أن تستفيد من الرعاية الصحية النفسية. لكن هناك الكثير ممن يخاف من كون مهمة الطب النفسي الحديث تنحصر في معاينة الأفراد الطبيعيين بخطة بائسة تدعمها جشع مصانع الأدوية، وكل ذلك لوضع السكان تحت حاجة الأدوية المخدرة للعقل. وقد تضخم الجدل حول المبالغة في التشخيص النفسي، من نقاد معنيين يعملون في هذا المجال، وذلك عقب صدور أحدث طبعة في العام الماضي من (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية)، أو مايسمى “كتاب الطب النفسي المقدس”.

ومن المعلوم أن نطاق الطب النفسي قد توسع بشكل كبير خلال القرن الماضي، فقبل مائة عام كان تركيز المهنة يكاد أن يكون محصورا على رعاية وصائية للمرضى الذين يعانون من أمراض عقلية خطيرة. لكن في الوقت الحاضر، تحولت ممارسة الطب النفسي لتشتمل على تدبير جلسات للقلقين الأصحاء الذين يريدون التأكد فقط من سلامتهم النفسية. و قد قاد هذا التحول مطلع القرن العشرين  إلى ظهور جلسات العلاج النفسي والعلاج بالتحليل النفسي على يد سيجموند فرويد، وكان لإمكانية علاج الحالات المرضية الأقل خطورة- مثل القلق ومايسمى باضطرابات التكيف المتعلقة بضغوط الحياة ، وعلاج اضطرابات التخاطب- أثر بالغ على الصحة النفسية في الولايات المتحدة.

ولقد مهد النموذج المبكر من العلاج النفسي سبيلا لحركة الصحة النفسية والتي استمرت من عام header_pierre-dsm1910 حتى 1950 .هذا النموذج من الصحة العامة يرفض الحدود الجامدة للمرض النفسي، وذلك لصالح وجهة النظر القائلة بإمكانية وجود درجة معينة من الاضطراب النفسي عند أي شخص تقريبا. لذا، فالتدخلات المقترحة ليست ضرورية داخل مكتب الطبيب النفسي فقط، ولكن على نطاق واسع في المجتمع، والمدرسة، ومؤسسات المجتمع الأخرى، كلها يجب أن تشارك في تقديم الدعم والمساعدة.

لقد كان لتزايد الأعراض العصابية الناجمة عن الحرب العالمية الأولى والثانية التعزيز الأكبر لوجهة النظر التي تؤكد بأن المرض النفسي موجود باستمرار. وبظهور الدليل التشخيصي لأول مرة عام 1952، كان الأطباء النفسيين يعالجون الناس أكثر مما مضى. ومنذ صدور أول نسخة من الدليل التشخيصي حتى أحدثها، كانت الشمولية والعناية الطبية تقود مبادئها، إلى جانب حصر الأخطاء المهنية للحالات التي تستدعي الناس لطلب العلاج النفسي من أجل تسهيل التقييم والعلاج.

ابتعد العلاج النفسي في العصر الحديث عن التحليل النفسي القديم ليكون عمليا أكثر، فعلى سبيل المثال هناك جلسات علاج قصيرة المدى، وجلسات العلاج الديناميكي الذي يكشف صراعات اللاوعي والضغوط الكامنة، هذه الجلسات عادة ماتكون لمدة أسابيع وقد تصل لأشهر قليلة، و أيضا هناك الهدف الموجه في تقنية العلاج المعرفي، باستخدام تقنيات سلوكية تقوم بتصحيح التشوهات الفكرية. وقد رفعت هذه التقنيات البسيطة للعلاج النفسي احتمالية زيادة قاعدة المحتاجين للتدخل الطبي وتوسع نطاق الأطباء القادرين على تقديم العلاج النفسي، لتشمل أطباء الرعاية الأولية إلى جانب الأطباء والأخصائيين النفسيين، الأخصائيين الإجتماعيين، والمعالجين المختصين بأمور العائلة والزواج. في ذات الشأن، أصبح من السهل تقديم العلاجات الحديثة التي تحتوي على أعراض جانبية قليلة للأفراد الذين لديهم اضطرابات نفسية غير خطرة أو واضحة المعالم، فيمكن وصفها من طبيب العائلة أو الأخصائي، أو الممرضة في بعض الدول .

وبالنظر إلى الدليل التشخيصي، من السهل رؤية كيف مد الطب النفسي يد العون لأعماق الناس، والذي يفسر غالبا بأنه دلالة على أن الاطباء يعتقدون أن المرضى النفسيين يتزايد عددهم أكثر فأكثر. وطبقا لمعايير الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية، ألمحت دراسة وبائية أجريت مؤخرا أن نصف أو أكثر سكان الولايات المتحدة سيواجهون مقدمات لاضطراب نفسي في مرحلة ما في حياتهم. وقد تبدو فكرة الإصابة بمرض نفسي للكثيرين متناقضة في أحسن الأحوال، ومهددة لحياتهم في أسوئها. وهذا مع اتساع نطاق الطب النفسي مدفوعا بإيمان الأطباء والمحتاجين له بأن الطب النفسي يمكن أن يعالج الكثير من المشاكل.

وقد أصبح التدرج في التشخيص أكثر قابلية للفهم وذلك من خلال تصور المرض النفسي مثل معظم الأشياء في الطبيعة له سلسلة متصلة. وهناك العديد من أشكال الاضطرابات النفسية مثل الفصام والخرف الشديد، والتي تعتبر حالات متقدمة- تنحرف عن الوضع الطبيعي- ونادرا مايجادل في كونها أمراضا أو غير ذلك. أما المتلازمات الأخرى مثل اضطراب القلق العام، والذي قد يكون مشابها للقلق الطبيعي حيث يتذمر المريض من أعراض منفصلة كالأرق، أو الخمول، والتي تنشأ دون وجود أعراض لاضطراب متكامل، و في هذه الحالة نلاحظ استمرار تشعب المرض داخل مناطق قد تكون طبيعية، ثم تسلبه مثالية الأداء في العمل اليومي.

وبما أن النظرة السائدة قد تعكس الواقع القائم، فإنها حتما تؤدي لمناطق رمادية. فيمكن أن يتم تقرير حالة عشوائية بمكالمة تقديرية من أطباء خبراء في الطب النفسي (سواء كان المريض يعاني أو لايعاني من مرض نفسي) وهذه التقديرات تعتمد على ما إذا كانت شكوى المريض مرتبطة بمحنة عسيرة أو ضعف في أداءه. بعكس الأمراض الطبية حيث يتم تحديد المرض بملاحظة الأعراض الجسدية أو تهديد وشيك بالموت. ولذا، فارتباط الضغوط وتعطل الأداء الاجتماعي بالمرض النفسي يمكن أن يكون موضوعيا إلى حد ما. حتى تلك الأعراض الخفيفة التي لاتصل إلى حد المرض، يمكن أن تؤدي لتدهور ومعاناة كبيرة، فعلى سبيل المثال، شخص يعاني من اكتئاب معتدل لايصل لحد التفكير بالانتحار، لكن قد يعاني معاناة شديدة في عمله إلى جانب القلق وضعف التركيز. وقد يواجه كثير من الناس أعراضا لاتصل لحد الاضطراب لكن بإمكانهم الاستفادة من التدخل الطبي.

ومادام تشخيص الأمراض مساعدا لفهم مايعانيه المريض عن طريق وضع خطة علاجية له، فإن الأطباء لايضيعون وقتا كثيرا بالقلق حول ما إذا كان المريض يعاني من مرض يصنف من الاضطرابات النفسية، أو هل المريض يعاني من مرض نفسي بالفعل. فالمريض يحضر بشكوى ومعاناة مستقلة وفروقات دقيقة، والطبيب يحاول تخفيف ذلك عنه. وقد يخطئ الطبيب في تشخيص حالة للحصول على تعويض لمريض قد يكون عاجزا عن تلقي الرعاية، ومثل هذه التفاصيل تعد أمرا مهما في كشف حساب التأمين.

ورغم أن الاعتراضات المتعددة التي يدركها الطبيب النفسي قد تخطت المعدل الطبيعي، إلا أننا نادرا مانسمع تذمرا من بقية أقسام الطب. قليل من الرثاء على حالنا، فنحن في مرحلة من حياتنا نحتاج لرعاية الطبيب وقد يصل الأمر بنا لتناول أدوية من دون وصفات طبية لعرض جسدي واحد أو أكثر. فإذا قبلنا فكرة أن من الطبيعي أن أكون مريضا بمرض غير عابر كالسعال والبرد، بل باضطرابات مزمنة مثل طول النظر، آلام أسفل الظهر، ضغط الدم، أو السكر، لم لانقبل أن من الطبيعي أن أمرض نفسيا في مراحل معينة من حياتي؟

الجواب على هذا السؤال لأن الاضطرابات النفسية تحمل وصمة عار بدرجة أعلى إذا ماقورنت بالأمراض الجسدية. يقلق الناس من أن الطبيب النفسي ربما يظن أن الجميع مجانين، وذلك لأنهم يخطؤون بمساواة كل شكل من الأمراض النفسية بالجنون، وهذا النوع من المساواة يشبه أن تساوي السعال بالسل أو سرطان الرئة. وللتقليل من حدة وصمة العار تلك، يجب على الطبيب دعم رؤية متواصلة للصحة النفسية بدلا من إبقاء تركيزه على الاضطرابات التي تشكل قائمة في الدليل التشخيصي، فإذا كان الطب العام يعمل على رؤية مستمرة للصحة البدنية والعقلية، فلايوجد سبب يمنع الطبيب النفسي أن يعمل بالمثل.

نقد هذه الرؤية يأتي من القلق حول نوعية التدخل التي تعرض في فترة التعافي المستمرة. فإذا توسع نطاق الطب النفسي هل سيزيد وصف الأدوية النفسية بشكل كبير، مثلما حصل مع منبهات الميثيل (ريتالين) لاضطراب نقص الانتباه وفرط الحركه؟ من الواجب تبديد هذا القلق نظرا لما أعطته الأدوية من فعالية غير مؤكدة على المرضى الذين لايستوفون معايير الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية. فعلى سبيل المثال نُشرت عام 2008 دراسة من أحد أخصائي هارفارد إيرفين كيرش في نشرة بلوس الطبية، تقول الدراسة أن مضادات الاكتئاب ليست بأفضل من المهدئات لشكل معتدل من أشكال الاكتئاب، وبالمثل تشير الأبحاث الأخيرة إلى أن الأطفال معرضين لخطر تنامي الذهان لديهم – دراسة غير مبنية على تشخيصات- وقد يستفيدون من أدوية زيت السمك والعلاج النفسي، أكثر من مضادات الذهان‫.

في نهاية الأمر، نقول إن تحقيق العلاج النفسي لحالة ما يتطلب دلائل قوية من الدراسات البحثية واستعراض النظائر. ورغم اتضاح أن فائدة العلاج تنخفض في نهاية المرض ( في حال كان الشخص غير مريض، تنخفض درجة تقدم العلاج)، إلا أننا لسنا بحاجة لنبذ الدواء في نهاية كل حالة مرضية، خاصة أن الأدوية المعطاة آمنة وفعالة، بالتأكيد الدواء ليس نوعا من الحلوى -ولدى بعضها قائمة طويلة من الأعراض الجانبية المحتملة تتراوح من تافهة لخطرة على حياة المريض- ولهذا السبب هذه الأدوية تتطلب وصفة طبية من الطبيب. وللسبب نفسه يرتاب الأطباء النفسيين من المقترحات التي تمنح امتياز وصف الأدوية من قبل الممارسين الصحيين ذوي الخبرة القليلة.

ومن المرجح أن يزيد استهلاك العلاج الدوائي للأفراد المتعافين مستقبلا، وذلك بتطور الأدوية الآمنة. مثلما حدث مع مثبطات استرداد السيروتونين الإنتقائية التي حلت محل مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات خلال عام 1990. في المقابل فإن التحول لعلاج من هم في فترة التعافي، قد مهد الطريق ليس فقط تجاه تحقيق أقصى قدر من العافية، بل أيضا تعزيز الأداء الطبيعي للفرد من خلال تدخلات تحسينية. في نهاية المطاف فإن توفر الأدوية التي تعزز وظائف الدماغ وتجعلنا نشعر بالتحسن ستكون مدعومة بطلب المحتاجين لها، وليس خططا ميكافيلية من الأطباء النفسيين.

لقد أصبح الاستخدام القانوني للمخدرات لتحسين المزاج متوفرا في كل مكان تقريبا، نحن نتناول ريتالين، مودافينيل، أو مجرد كوب قهوتنا اليومي ليساعدنا على التركيز والبقاء متيقظين حتى نهاية العمل، ثم نأخذ الفاليوم والكحول والماريجوانا في نهاية اليوم للاسترخاء. ولو اُخترع نوع من الستريود المنشطة للدماغ، أو لنقل نوعا من الحبوب التي يمكن أن تزيد معدل الذكاء عشر نقاط، وبحد أدنى من الأعراض الجانبية، هل هناك أدنى شك من أن العامة سيثيرون ضجة حول ذلك؟ إن إمكانية وجود الطب النفسي التحسيني واردة جدا في المستقبل، متضمنا آثارا أخلاقية لاتحصى. في نهاية الحديث، لايظن الأطباء النفسيين بأن أي شخص مجنون، كما أننا لسنا مذنبين بمعاينتنا للوجود الطبيعي، وتقديم الأدوية للناس وكأنها رهانات من الشركات المصنعة للأدوية. بل أننا نفعل مانستطيع لتخفيف معاناة من يأتون إلينا طلبا للمساعدة، بدلا من صدهم.

والخبر الجيد لمرتادي عيادات الصحة النفسية أن الأطباء النفسيين يقدرون همتهم (فقد تضطر للتسوق بالجوار، لتعثر على أحدهم). وإياك أن تعتمد على الدليل التشخيصي وكأنه كتاب مقدس مثلما يتخيل البعض، فتبحث عن الأعراض مثل الكمبيوتر، وتحاول علاج الناس في حدود مسمى التشخيص. فالطبيب النفسي الجيد يوجه جهده للتجربة العيادية ليعطي تعاطفا وفهما كاملا لقصة كل مريض، ثم يعرض مجموعة من التدخلات المصممة لحالة المريض لتخفف من معاناته، سواء كانت تمثل اضطرابا، أو جزءا من الحياة اليومية.

المصدر