مجلة حكمة
ضد الإمبراطورية - مايكل بارينتي / ترجمة: سمية العنقري

ضد الإمبراطورية – مايكل بارينتي / ترجمة: سمية العنقري

غلاف كتاب ضد الإمبراطورية

        هذا الكتاب لديواين هولمز -زعيم تحالف كريبس السابق- الذي جلب السلام بين عصابات لوس انجليس، وأصبح بعد ذلك منظم لمجتمع يقاتلون من أجل إجراء الإصلاحات الديمقراطية داخل المدينة. وأيضًا لجهوده فقد كان يساق إلى السجن بتهم ملفقة ليقضي سبع سنوات. ولوالدته الباسلة تيريزا اليسون التي تواصل النضال في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية في مجتمعها والبلاد.

 

الفصل الأول

تعد الإمبريالية (1) أقوى قوة في تاريخ العالم على مدى أربعة أو خمسة قرون الماضية، فقد نحتت قارات بأكملها، وقمعت الشعوب الأصليين، وأزالت حضارات بأكملها، ومع ذلك لاتزال الامبراطورية قائمة حتى اليوم ونادرًا ما يمنحها الأكاديميون والإعلاميون والقادة السياسيون لدينا اهتمامًا جديًا، وذلك لا يعني أنهم تجاهلوا الأمر تمامَا، وقد صُحح موضوع الإمبريالية بحيث سميت إمبراطوريات “الكومنولث”، وأصبحت المستعمرات “أقاليم” أو “أملاك”، فعرفت التدخلات العسكرية الإمبريالية بمسائل “دفاع وطني” و” أمن قومي”، وحفاظ على” الاستقرار” في منطقة لأخرى. في هذا الكتاب أردت أن أسلط الضوء على الوجه الحقيقي للإمبريالية.

 من مختلف أنحاء العالم

أقصد بـ(الامبريالية) تلك العملية التي تهيمن عليها المصالح السياسية والاقتصادية لأمة واحدة، بحيث تصادر أراضي وعمالة ومواد الخام وأسواق الناس الآخرين. فبعد ثمانمائة سنة أصبحت ايرلندا أول مستعمرة والتي عرفت لاحقًا باسم الإمبراطورية البريطانية، ولا يزال اليوم جزء من ايرلندا تحت سلطة الاحتلال البريطاني، كما تعد القوقاز إحدى الضحايا حيث استولت أوروبا الشرقية عليها في وقت سابق. وخلال القرن التاسع عمل شعب السلاف(2) تحت سلطة شارلمان(3) في المناجم حتى الموت، فكان استعباد الأوروبيون الشرقيون متواصل وطويل الأمد، فأصبح “سلاف” مرادفًا للعبودية، وبالتأكيد إن كلمة “عبد” مستمد من “سلاف”. وبحلول القرن السابع عشر كانت أوروبا الشرقية مصدرا لتراكم رؤوس الأموال، بعد أن أصبحت كليًا تعتمد على أوروبا الغربية في الصناعة.

من ضمن الأمثلة السيئة على الإمبريالية بين الدول الأوروبية، العدوان النازي خلال الحرب العالمية الثانية الذي أعطى اتفاقات الشركات الألمانية والدولة النازية فرصة لنهب الموارد واستغلال العمالة في الدول الأوروبية المحتلة، بما في ذلك الأعمال الاستعبادية في معسكرات الاعتقال.

وبحلول القرن التاسع عشر توجهت أغلب أوروبا وأمريكا الشمالية والقوى الإمبريالية اليابانية ضد أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث رأوا أن العالم الثالث ليس فقط مصدرًا للمواد الخام والعبيد ولكن سوق للسلع المصنعة أيضًا. وبحلول القرن العشرين، أصبحت الدول الصناعية المصدرة ليس فقط للسلع، إنما لعبت دورًا أساسيًا في تصدير الآلات والتكنولوجيا والاستثمارات والقروض، لتقول بذلك أننا في مقدمة الدول المصدرة و المستثمرة، مشيرةً بهذا أن نهب الموارد الطبيعية قد أوقف، فإذا كان أي شيء يُغتصب وينهب فجدير بك  أن تسارع.

فمن مختلف المفاهيم المتداولة حول الامبريالية اليوم في الولايات المتحدة، فمثلاً مفهوم “المهيمن” لم يعد موجودًا، بينما مفهوم “الإمبريالية” لم يُعرف كمفهوم شرعي بعد، وبالتأكيد ليس فقط بخصوص الولايات المتحدة، فيمكن للمرء أن يتحدث عن “الامبريالية السوفيتية” أو “الامبريالية البريطانية في القرن التاسع عشر”، ولكن ليس عن الإمبريالية الأمريكية. لم يُمنح لطالب الدراسات العليا في العلوم السياسية في معظم الجامعات في هذا البلد الفرصة للبحث عن الامبريالية الأمريكية، على أساس أن مثل هذا المشروع لن يكون جديرا لعالم [في الفصل العاشر سيشار للمزيد من التفاصيل حول العلاقة بين الإمبريالية والأوساط الأكاديمية]. بينما يتهم العديد من الناس في جميع أنحاء العالم الولايات المتحدة بكونها القوة الامبريالية “الاستعمارية”، وعادة ما يحكم على الذين يتحدثون عن إمبريالية الولايات المتحدة في هذا البلد بازدراء على أنهم ثرثارين أيديولوجيًا.

الديناميكية في نمو رأس المال

تعتبر الإمبريالية أقدم من الرأسمالية، فقد وجدت الإمبراطوريات الفارسية والمقدونية والرومانية والمغولية قبل عدة قرون من عائلتي روتشيلد وروكفلر-هما عائلتان تمتلكان أغلب السندات في البلدان الكبيرة وأغلب البنوك العالمية-، وكان معظم الأباطرة والغزاة مهتمون في النهب والجزية والذهب والمجد. وتختلف الامبريالية الرأسمالية عن هذه الأشكال السابقة في الطريقة، بحيث أنها تراكم رؤوس الأموال بشكل منهجي ليتيح الاستغلال المنظم للعمل والاختراق الاجنبي للأسواق، وتستثمر الامبريالية الرأسمالية في البلدان الأخرى، فتهيمن على اقتصادها و ثقافتها وحياتها السياسية، وتدمج هياكلها الإنتاجي في نظام دولي يدعم تراكم رؤوس الأموال.

ويعد التوسع الضرورة المركزية للرأسمالية، فلن يضع المستثمرين أموالهم في مشاريع تجارية ما لم يعلموا بأنهم سيجنون أكثر مما استثمروا، حيث تأتي زيادة الأرباح مع النمو في المؤسسة. فيبحث الرأسمالي بلا كلل عن سبل لصنع المزيد من المال في نظام زيادة الأموال، ينبغي على المرء أن يستثمر دائمًا لتحقيق الأرباح، وأن يجمع أكبر قدر ممكن من القوة لمواجهة القوى المتنافسة والأسواق المفاجئة.

ونظرًا للطبيعة التوسعية للرأسمالية، نجد أنها تميل قليلاً إلى البقاء في الداخل، منذ ما يقرب من 150 عامًا وصف ماركس وإنجلز(4) – صاحبا النظرية الماركسية- البرجوازية ب: “المطاردات فوق سطح الكرة الأرضية، يجب أن تسكن في كل مكان، وتستقر في كل مكان، وتؤسس الروابط في كل مكان …. وتخلق عالم بعد تصوره”، فيدمر التوسع مجتمعات بأكملها، ويحول الشعوب قسرًا إلى مكتفية ذاتيًا من أجور العمال المحرومين، ويتم استبدال المجتمعات الأصلية والثقافات الشعبية بأسواق ووسائل إعلام جماهيرية ومجتمعات استهلاكية، ويحل محل الأراضي غنية المحاصيل بمصانع زراعية والقرى بمدن مهجورة صغيرة جدًا والمناطق المستقلة في الحكم بأوتوقراطية مركزية (أنظمة استبدادية مركزية).

وبالنظر في واحدة من ألف حالة مثل هذه، وقبل بضع سنوات تحديدًا ,أعدّت صحيفة لوس انجليس تايمز تقريرًا خاصًا عن الغابات المطيرة في (بورنيو) في جنوب المحيط الهادئ، بشهادة منهم أن الناس هناك يشعرون بالرضا حول حياتهم، فهم يطاردون الفرائس ويصطادون السمك ويزرعون طعامهم في الأدغال والبساتين. ولكن طرقهم في الحياة بأكملها، أزيلت بقسوة على أيدي عدد قليل من الشركات العملاقة التي دمرت الغابات المطيرة من أجل قطع الأخشاب الصلبة لتحقيق أرباح سريعة، وبهذا تحولت أراضيهم إلى مناطق منكوبة بيئيًا، وتحولوا هم إلى سكان مسلوبي الحقوق ,يقطنون مدينة صفيح(5)، ويُجبرون على العمل مقابل أجور كفاف طبعًا عندما يكونون محظوظين في العثور على عمل.

وقد سيطرت أمريكا الشمالية والمؤسسات الأوروبية على أكثر من ثلاثة أرباع الموارد المعدنية المعروفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولكن ليس السعي للموارد الطبيعية هو السبب الوحيد للتوسع الخارجي الرأسمالي. فهناك حاجة إضافية لخفض تكاليف الإنتاج وزيادة الأرباح من خلال الاستثمار في تلك البلدان وفيرة الإمدادات من حيث العمالة ذات الأجور الرخيصة، فارتفع الاستثمار الأجنبي للشركات في الولايات المتحدة بنسبة 84 بالمئة من عام 1985إلى 1990، مع زيادة بارزة في البلدان ذات الأيدي العاملة الرخيصة مثل كوريا الجنوبية وتايوان واسبانيا وسنغافورة.

ويرجع سبب ارتفاع معدلات أرباح شركات الولايات المتحدة في العالم الثالث حوالي 50 بالمئة من أرباحها في البلدان المتقدمة لانخفاض الأجور والضرائب ,وفوائد العمل المعدومة ,وضعف نقابات العمال ,وغياب الحماية المهنية والبيئية. فيكسب مصرف سيتي -واحد من أكبر شركات الولايات المتحدة- حوالي 75 بالمئة من أرباحه من العمليات في الخارج، بينما هوامش ربحه (الفرق بين إيرادات المبيعات وتكاليف الإنتاج) من الداخل، ويشهد في بعض الأحيان تباطؤ في النمو، على الرغم من استمرار ارتفاع الأرباح في الخارج بشكل كبير، وذلك يعزز التطوير وهو ما أصبح يعرف باسم( شركة متعددة الجنسيات أو العابرة للحدود الوطنية)(6). فاليوم هناك حوالي أربعمائة شركة عابرة للحدود الوطنية تسيطر على نحو 80 بالمئة من الأصول الرأسمالية للسوق العالمية الحرة، وتمتد قبضتها على الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية.

وقد شهدت الشركات العابرة للحدود تطورًا في خط الإنتاج العالمي، فمثلًا شركة جنرال موتورز(General Motors) تملك مصانع لإنتاج السيارات والشاحنات ومجموعة متنوعة من قطع غيار السيارات في كندا والبرازيل وفنزويلا واسبانيا وبلجيكا ويوغوسلافيا ونيجيريا وسنغافورة والفلبين وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية وأكثر من عشر دول أخرى، فهي شركة ذات مصادر متعددة تمكنت من تجاوز الإضرابات في دولة من خلال تكثيف الإنتاج في دولة أخرى، فلعِب العمال من مختلف الدول ضد بعضهم البعض من أجل تثبيط الأجور والمطالبة بالفوائد وزعزعة استراتيجيات النقابات العمالية.

ليس ضروريًا، إنما إجباريًا

يتساءل بعض الكتاب عمّ إذا كانت الإمبريالية شرطًا ضروريًا للرأسمالية، مشيرين إلى أن معظم رؤوس الأموال الغربية تستثمر في الدول الغربية، وليس في دول العالم الثالث، فإذا خسرت الشركات جميع استثماراتها في العالم الثالث، -كما يقولون- يمكن أن تنجو الكثير منها في الأسواق الأوروبية والأمريكية الشمالية. وكرد على ذلك، يجب على المرء أن يلاحظ أن الرأسمالية قد تكون قادرة على البقاء دون الإمبريالية، لكنه لا ينبغي أن يظهر أي رغبة في القيام بذلك، كما لا يبدي أي رغبة في تجاهل المشاريع المربحة جدًا في العالم الثالث، فقد لا تكون الإمبريالية شرطًا ضروريًا لبقاء المستثمرين، ولكن يبدو أنها نزعةً متأصلةً ونتاجًا طبيعيًا للرأسمالية متقدمة، فقد لا تكون العلاقات الإمبريالية الطريقة الوحيدة لتحقيق الأرباح، ولكنها الطريقة الأكثر ربحًا.

فسواءً كانت الإمبريالية أمراً ضروريًا للرأسمالية أو لا , فهذه ليست المسألة الحقيقة، وهناك العديد من الأشياء التي ليست ضروريةً على الاطلاق ولكن لا تزال مرغوبة للغاية، لذلك يفضل بقوة السعي الحثيث لها. فنجد أن المستثمرين الأجانب يجدون أن العمل في العالم الثالث رخيص من حيث المصادر الطبيعية الحيوية وغيرها من مختلف الظروف المربحة للغاية، والتي تعد وسيلة جذابة لإجبارهم على الاستثمار. فليس بالضرورة أن تكون الأرباح عظيمة لبقاء الرأسمالية، حيث لا ينصبّ اهتمام الرأسماليين كله على البقاء، على الرغم من أن الرأسمالية تفضّل الأرباح العظيمة بشدة لجني إيرادات أكثر تواضعًا، فلا توجد ضرورة بين الرأسمالية والإمبريالية، وهذا لا يعني عدم وجود أي علاقة إجبارية.

وينطبق الشيء نفسه على الديناميات الاجتماعية(7) الأخرى، وعلى سبيل المثال ليس بالضرورة أن تملك ثروة حتى تنعم بالعيش الرغيد، فيمكن استثمار حصة أعلى ممّا تمتلكه الطبقة الغنية، بدلاً من الاستهلاك الشخصي، حيث يمكن للأثرياء جدًا العيش على مبالغ أكثر تواضعًا من غيرهم، ولكن هذا ليس ما يفضله معظمهم. وعمومًا على مر التاريخ أظهرت الطبقات الغنية أنها تفضل الحصول على الأفضل من كل شيء، وبعد كل شيء فإن الغرض الأساسي هو الحصول على الثراء مقارنةً بغيرهم من الأشخاص العاملين، ويتمثل في العيش جيدًا، وتجنب كافة أشكال الكد والكدح غير المقدر، وتتمتع بأفضل الفرص للعيش وفق أنماط حياتية مترفة، والرعاية الطبية والتعليم والسفر والاستجمام والأمن والترفيه، والتنعم بالفرص المتاحة للسلطة والهيبة. في الواقع لا شيء من هذه الأمور يعد ضروريًا، ولكنهم التصقوا بشدة مع أناس يملكون هذه الأمور، كما شهدوا على إجراءات عنيفة أقرتها الطبقات المحرومة كلما شعرت بالتهديد من حيث تعادل أو تسوية القوة الديمقراطية.

أساطير التخلف

ومن المعروف لنا أن الأراضي الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تعرف ب”العالم الثالث”، وذلك لتمييزها عن “العالم الأول” من أوروبا الصناعية وأمريكا الشمالية والدول المنحلة إلى حد كبير وعن “العالم الثاني” من الدول الشيوعية. فدُعي الفقر في العالم الثالث بـ”التخلف”، وتمت معاملته من قبل معظم المراقبين الغربيين كشرط تاريخي أصلي، والمطلوب منا أن نؤمن بأنه موجود دائمَا، وأن البلدان الفقيرة ضعيفة لأن أراضيها كانت دائمًا قاحلة أو أن شعوبها لديهم قصور في الإنتاجية.

في الواقع، لقد أنتجت الأراضي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ مدة طويلة الكنوز العظيمة من الأطعمة والمعادن وغيرها من الموارد الطبيعية، ولهذا يرجع سبب ذهاب الأوروبيين وخلق الكثير من المشاكل لسرقتها ونهبها، فلا يذهب المرء إلى الأماكن الفقيرة للإثراء الذاتي، العالم الثالث غني ولكن شعوبه فقيرة بسبب عمليات النهب التي كابدوها.

وقد بدأت عملية مصادرة الموارد الطبيعية في العالم الثالث منذ قرون مضت ولا تزال حتى يومنا هذا، استخرج المستعمرون أولاً الذهب والفضة والفراء والحرير والتوابل، ثم الكتّان والقنّب والخشب والدبس والسكر ومشروب الروم والمطاط والتبغ والكاليكو والكاكاو والبن والقطن والنحاس والفحم وزيت النخيل والقصدير والعاج وخشب الأبنوس، ولاحقًا استخرجوا النفط والزنك والمنغنيز والزئبق والبلاتين والكوبالت والبوكسيت والألمنيوم واليورانيوم، وهناك ما لا يمكن تجاهله ألا وهو اختطاف ملايين البشر بغرض الأعمال العبودية، حيث يعد أكثر المصادرات بشاعة.

وخلال قرون من الاستعمار، نُسجت العديد من النظريات الاستعمارية بغرض خدمة المصالح الذاتية، ودرست في المدرسة أن الناس في الأراضي الاستوائية كسالى, ولا يعملون بجد كما نعمل نحن سكان المناطق المعتدلة، وفي الواقع كان الأداء الإنتاجي لسكان المناطق ذات المناخ الدافئ مدعاة للمفخرة بشكل ملحوظ، كما بنيت حضارات عظيمة قبل ظهور عصور الظلام في أوروبا. أما اليوم فهم يعملون لساعات طويلة وشاقة نسبة للمبالغ الضئيلة، ومع ذلك لا تزال الصورة النمطية الأولى عن “المواطن الكسول” لدينا، فعادةً ما يلقى باللوم على أوضاعهم الخاصة في كل مجتمع رأسمالي أو فقير على الصعيدين المحلي والخارجي.

ونسمع أن شعوب العالم الثالث متخلفون ثقافيًا في مواقفهم وعاداتهم وقدراتهم التقنية، وإنها لفكرة مريحة اعتنقها أولئك الذين يريدون تصوير الاستثمارات الغربية على أنها عملية انقاذ مصممة لمساعدة الشعوب المتخلفة على أنفسهم. فهذه أسطورة من “التخلف الثقافي” تعود الى العصور القديمة، استخدمها الغزاة لتبرير استعباد الشعوب الأصلية، كما استخدمها المستعمرون الأوروبيون على مدار الخمسة قرون الماضية لنفس الغرض.

ما السيادة الثقافية التي طالب بها الأوروبيون الأوائل؟ من القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر، تعد أوروبا في مقدمة الدول من حيث عدد حالات الشنق والقتل وغيرها من الجرائم العنيفة، وحالات الأمراض التناسلية والجدري والتيفوئيد والسل والأوبئة وغيرها من الآلام الجسدية، والتمييز الاجتماعي والفقر (في كل من المناطق الحضرية والريفية)، وإساءة معاملة النساء والأطفال، والمجاعات المتكررة والرقّ والبغاء والقرصنة، المجزرة الدينية، والتعذيب كأسلوب استجوابي. فينبغي لأولئك الذين يعتقدون أن الغرب هم أكثر الدول المتقدمة حضاريًا، أن يضعوا هذه “الإنجازات” نصْب أعينهم.

يمكن أن نلاحظ أن الأمر الأخطر من ذلك هو تمتع أوروبا بميزة قوية من ناحية الملاحة والتسلح، فكانت البنادق والمدافع والبنادق الرشاشة والسفن الحربية واليوم الصواريخ وطائرات الهليكوبتر الحربية والقاذفات المقاتلة عوامل حاسمة عندما يلتقي الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وتفوقت أوروبا بالقوة النارية وليست الثقافية، فقد أحضر الأوروبيون والأمريكيون الشماليون مواقف سيادية عرفت بالقوة، لا تزال تحتفظ بها الأذهان حتى اليوم، ولكن ليس بالقوة وحدها.

وقيل إن الشعوب المستعمرة كانت متخلفة بيولوجيًا وأقل تطورًا من المستعمرين لهم، فـ”وحشيتهم” ومستوى التطور الثقافي “المتدني” رمزًا للتطور الجيني الطفيف، ولكن هل كانوا أقل شأنًا ثقافياً؟ في أجزاء كثيرة مما يعتبر الآن بالعالم الثالث، تطورت مهارات الناس بشكل مثير للإعجاب في الفن المعماري والبستنة والحرف والقنص وصيد الأسماك والقبالة والطب وغيرها من الأمور الأخرى. فغالبًا ما كانت تَنُم عاداتهم الاجتماعية عن أبهى صور الكرم والإنسانية وأقل مستويات الأتوقراطية والقمعية من أوروبا في ذلك الوقت، ولا يجب علينا بالطبع الاعجاب بهذه المجتمعات الأصلية، بل إظهار عدد من ممارساتهم الوحشية والاستثنائية، فعمومًا تتمتع هذه الشعوب بالصحة والحياة السعيدة وأوقات الفراغ أكثر من معظم سكان أوروبا.

تتمتع النظريات الأخرى برواج واسع، حيث سمعنا أن الفقر في العالم الثالث يرجع إلى الاكتظاظ السكاني، فالعديد من الناس لديهم الكثير من الأطفال المسؤولين عن إطعامهم، وفي الواقع وعلى مدى القرون الماضية، سُجلت العديد من الأراضي في العالم الثالث كأقل كثافة سكانية من أجزاء معينة من أوروبا، فمثلاً لدى الهند عدد سكاني أقل للدونم الواحد – ولكنها أكثر فقرًا – من هولندا وويلز وانجلترا واليابان وإيطاليا وعدد من البلدان الصناعية الأخرى، إضافة لذلك فإن الدول الصناعية من العالم الأول وليس الدول الفقيرة من الثالث، تبدد قرابة ٨٠% من الموارد العالمية، حيث تشكل أكبر خطر على البيئة على كوكب الأرض.

ولا ينفي هذا أن الاكتظاظ السكاني مشكلة حقيقية للمحيط الحيوي على كوكب الأرض، تساعد جميع الدول في الحد من النمو السكاني لحماية البيئة العالمية، ولكن هذا لن يحل مشاكل الفقراء لأن الاكتظاظ السكاني في حد ذاته ليس سببًا من أسباب الفقر ولكنه من آثاره، فلدى الفقراء غالبًا العائلات الكبيرة بسبب الأطفال، حيث يعتبر الأطفال مصدرًا كأيدي اعاملة في الأسرة والدخل , والدعم الأسري في مرحلة الشيخوخة.

وجدت فرانسيس مور- كاتبة وناشطة و مؤسسة ثلاث منظمات الوطنية تستكشف عن جذور الجوع والفقر والأزمات البيئية- وراشيل سكرما -دكتورة جامعية في تخصص علم الاجتماع في جامعة مينيسوتا- وجدتا أن سبعين دولة من العالم الثالث – منها الصين وسريلانكا وكولومبيا وشيلي وبورما وكوبا وولاية كيرالا في الهند – نجحت في خفض معدلات المواليد من خلال سياسة الطفل الواحد، واستمتعوا بهذا القرار فلا التوسع الصناعي يثيرهم ولا ارتفاع نصيب الفرد من الدخل ولا البرامج واسعة النطاق التي تحث على تنظيم الأسرة. وكانت لديهم عوامل مشتركة كالتعليم العام والرعاية الصحية والحد من التفاوت الاقتصادي وإجراء تحسينات في مجال حقوق المرأة والدعم الحكومي للمواد الغذائية وفي بعض الحالات إصلاح الأرضي الزراعية، وبعبارة أخرى إن خفض معدلات الانجاب ليس لصالح الاستثمارات الرأسمالية والنمو الاقتصادي بل لأجل التحسينات الاجتماعية والاقتصادية، وحتى لو كانت تحسينات متواضعة ورافقها ظهور لحقوق المرأة.

التحويل المصطنع للفقر

وهو ما سمي ب “التخلف”، ويُعرف كمجموعة من العلاقات الاجتماعية التي فرضت بقوة على البلدان، ففي الواقع أعاق قدوم المستعمرين الغربيين شعوب العالم الثالث عن تنميتهم أحيانًا لعدة قرون، وتقدم الإمبريالية البريطانية في الهند نموذجًا مفيدًا، فنلاحظ في عام 1810، كانت الهند تصدر منسوجات إلى انجلترا أكثر من تصدير انجلترا لها، وبحلول عام 1830، حدث تدفق عكسي للحركة التجارية، وكان البريطانيون يفرضون تعريفات جمركية باهظة كعوائق والغرض منها الاستعباد التام للسلع الهندية وإلقاء سلعهم في الهند، حيث أن هذه الممارسات مدعومة بالزوارق الحربية البريطانية والقوة العسكرية، وفي غضون سنوات تحولت مراكز النسيج الكبرى في دكا ومدراس إلى مدن مهجورة، وقد عاد الهنود إلى الأرض لجمع القطن المستخدم في مصانع النسيج البريطانية، وقل نمو الهند لتصبح كبقرة تحلب من قبل الممولين البريطاني.

وزادت ديون الهند بحلول عام ١٨٥٠ لتصل الى 53 مليون جنيه استرليني، حيث انخفضت حصة الفرد من الدخل إلى ما يقرب الثلثي من عام 1850 إلى عام 1900، وخلال القرن التاسع عشر اضطر الهنود -بسبب قيمة المواد الخام والسلع- لإرسالها إلى بريطانيا، حيث بلغت سنويًا –ما يقارب 60 مليون- أكثر من الدخل الكلي للعمالة في القطاعين الزراعي والصناعي. ونحن شركاء مع الهند في هذا الفقر الهائل، حيث لم يكن هذا الفقر حالة تاريخية أصلية لهذا البلد، فقد أحدثت الإمبريالية البريطانية أمرين: أولاً أنهت التنمية في الهند، ثم جعلتها تتخلف بالقوة.

وقد وقعت عمليات تجاوز مماثلة في جميع أنحاء العالم الثالث، فينبغي أن تذكرنا هذه الثروة الهائلة المستخرجة بأنها في الأصل كانت لدول فقيرة حقًا، ولاحظنا دولاً لا تزال غنية بالموارد مثل البرازيل واندونيسيا وتشيلي وبوليفيا وزائير والمكسيك وماليزيا والفلبين، وفي الجانب الآخر أراضي قد نهبت بالكامل لتصبح خرابًا من جميع النواحي، ومع ذلك فإن معظم دول العالم الثالث ليست “متخلفة” ولكنها مستنزفة، ولقد خلق الاستعمار والاستثمارات الغربية مستوى معيشي متدني بدلاً من مستوى عالي.

وفي إشارة إلى ما فعله المستعمرون الإنجليز في إيرلندا، كتب فريدريك إنجلز عام 1856:” كم مرة بدأ الايرلنديون في تحقيق شيء ما، وفي كل مرة سُحقوا سياسيًا وصناعيًا بقمع متين، فقد تحولت ايرلندا اصطناعيًا إلى دولة فقيرة تماما”، وهكذا الحال مع معظم دول العالم الثالث. فكان هنود المايا في غواتيمالا في أوائل القرن السادس عشر قبل وصول الأوروبيين يتبعون نظاماً غذائياً منوعاً ,ويحتوي على كثير من المغذيات ويتمتعون بظروف صحية أفضل من حالهم اليوم، وكان لديهم حرفيون ومهندسون معماريون وفنانون وبستانيون أكثر من اليوم، فما يُدعى بالتخلف هو نتاج الاستغلال المفرط في الإمبريالية، كما يعد التخلف بحد ذاته تطورًا.

لقد خَلقت الإمبريالية ما دَعته بـ”سوء التنمية”، فشيدت مباني للمكاتب الحديثة وللفنادق الفخمة في العاصمة بدلاً من المساكن للفقراء، وعيادات جراحات التجميل للأثرياء بدلاً من مستشفيات للعمال، وصرفت النقد لتصدير المحاصيل الزراعية بدلاً من تزويد الأسواق المحلية بالأغذية وأنشأت الطرق السريعة التي تصل المناجم والأراضي المملوكة بالمصافي والموانئ بدلاً من الطرق الخلفية للبلاد التي يسلكها أولئك الذين يأملون أن يروا طبيبًا أو معلمًا.

كما تم نقل الثروة من شعوب العالم الثالث إلى النخبة الاقتصادية في أوروبا وأمريكا الشمالية (ومؤخرًا اليابان أيضًا) من خلال النهب المباشر ومصادرة الموارد الطبيعية وفرض ضرائب وإيجارات مهلكة ودفع أجور الفقراء والاستيراد الاجباري للسلع الجاهزة بأسعار مبالغ فيها للغاية، وبذلك حرمت البلاد المُستعمرة حرية التجارة والفرصة لتطوير مواردها الطبيعية و أسواقها و قدرتها الصناعية. وفي الجانب الآخر يفسح الدعم الذاتي والعمل الحر المجال لخوض تجربة عمل، حيث ازداد عدد العاملين بأجر في العالم الثالث من عام 1970 إلى عام ١٩٨٠ بمقدار ٧٢ مليون إلى ١٢٠مليون والمعدل يتسارع.

فمئات الملايين من شعوب العالم الثالث يعيشون الآن الفقر في قرى نائية وأحياء حضرية فقيرة مكتظة، ويعانون من الجوع والمرض والأمية، والسبب غالبًا يعود للأرضي التي يحرثونها مرة، وتسيطر عليها الآن الشركات العاملة في المجال الزراعي، وتستخدمها للتعدين أو لتصدير المحاصيل التجارية مثل القهوة والسكر ولحم البقر بدلاً من الفول والأرز والذرة التي تستهلك محليًا. وفي دراسة لأفقر عشرين بلدًا- والتي تم جمعها من الإحصاءات الرسمية- وُجد أن عدد الأشخاص الذين يعيشون مستوى يسمى ب “الفقر المطلق” أو براثن الفقر المدقع، هم أفقر الفقراء ويرتفع عددهم إلى 70000 في اليوم، وينبغي أن يَصلون إلى 1.5 مليار بحلول عام 2000 (صحيفة  San Francisco Examiner ، 8 يونيو 1994).

هكذا تجبر الامبريالية الملايين من الأطفال في جميع أنحاء العالم ليعيشوا حياة مرعبة، تؤذي صحتهم العقلية والجسدية بشدة جراء الاستغلال الأبدي، حيث كشف تقرير لفيلم وثائقي لإحدى القنوات (24 أبريل 1994) أن هناك أعداد كبيرة من القاصرين في دول مثل روسيا وتايلاند والفلبين يباعون لممارسة البغاء لأجل مساعدة أسرهم اليائسة للبقاء على قيد الحياة، ففي بلدان مثل المكسيك والهند وكولومبيا ومصر يُزجّ بالأطفال عنوةً من الفجر حتى غروب الشمس في أعمال تحطم صحتهم كالعمل في المزارع والمصانع والمناجم مقابل أجر ضئيل للساعة، ومع عدم وجود فرصة للعب أو التعليم أو تلقي الرعاية الطبية.

وكذلك الحال في الهند، يُدفع 55 مليون طفل كقوى عاملة، ويعمل عشرات الآلاف منهم في مصانع الزجاج فتصل درجات حرارتها إلى 100 درجة، وفي أحد المصانع يكدح أطفال في عمر الرابعة من الخامسة فجرًا وحتى منتصف الليل، ويستنشقون الأدخنة وتنتقل إليهم عدوى النفاخ الرئوي والسل وأمراض الجهاز التنفسي الأخرى. وهناك ضغوط مورست أيضًا في شركات فلبينية وماليزية لإسقاط قيود سن التجنيد للعمل، وبذلك يصبح السعي وراء الربح كالسعي للسوء.

نظرية التنمية

عندما نقول دولة “متخلفة” فهذا ضمنيًا يعني أنها متأخرة في تنمية بعض المجالات، وأظهرت أن قدرة شعبها على الإنجاز والتطوير ضئيلة، وتسببت هذه الدلالات الضمنية السلبية لمصطلح “التخلف” في الأمم المتحدة لدفع الأحزاب السياسية من مختلف الانتماءات للإشارة إلى دول العالم الثالث باسم الدول “النامية”، حيث يقلل من حدة الإهانة في مصطلح “متخلفة” ولكنهما مضللان على حد سواء كما ذكرت صحيفة (وول ستريت). أما بالنسبة لي أفضّل أن استخدام “العالم الثالث”، لأن مصطلح “النامية” يبدو كوسيلة لطيفة لقول “المتخلفة”، ولكن بدء فعل شيء حيال ذلك يبدو متأخرًا”. فلا يزال يشار ضمنيًا أن الفقر هو حالة تاريخية أصلية وليس شيئًا فرضته الامبريالية، كما يوحى كذبًا أن هذه الدول تتطور وفي الواقع أن أوضاعها الاقتصادية عادةً ما تزداد سوءًا.

فالنظرية السائدة في نصف القرن الماضي، أعلنت مرارًا من قبل الكُتاب مثل باربارا وارد ووالت ويتمان روستو ووفرت رواجًا واسعًا، وبذلك تبقي الأمر متروكاً للدول الغنية في الشمال لمساعدة الدول “المتخلفة” في الجنوب في رفع مستواهم، ولتجذبهم للتكنولوجيا ولعادات العمل المناسبة، فهذه نسخة محدثة من “عبء الرجل الأبيض”، وهو الحلم الإمبريالي المفضل. ووفقًا لسيناريو التنمية وإدخال الاستثمارات الغربية، سيجد العمال في الدول الفقيرة أعمالاً أكثر إنتاجية في القطاع الحديث وبأجرٍ أعلى من السابق، وبما أن رؤوس الأموال تراكمت، فستساهم الأعمال بإعادة استثمار أرباحها، وبالتالي زيادة في المنتجات والوظائف والقوة الشرائية والأسواق، وأخيرًا تطور وازدهار أكثر للاقتصاد.

تحمل “نظرية التنمية” أو ما يطلق عليها أحيانًا بـ “نظرية التحديث” صلة بالواقع، وظهورها في العالم الثالث هو شكل استغلالي مكثف من الرأسمالية التابعة، فقد ساءت الأوضاع الاقتصادية بصورة كبيرة مع نمو استثمارات الشركات العابرة للحدود الوطنية، ولا تكمن المشكلة في الأراضي الفقيرة أو السكان الغير منتجين وإنما في الاستغلال الأجنبي والتمييز الطبقي، حيث لا يذهب المستثمرون لتنمية بلد بل لإثراء أنفسهم. لا تحتاج شعوب هذه البلدان إلى أن تدرس كيفية زراعة، ولكن هم بحاجة إلى أرض و معدات للزرعة، إنهم لا يحتاجون إلى أن يدرسوا كيفية الصيد، ولكنهم بحاجة إلى القوارب والشباك وإمكانية الوصول إلى واجهة الشواطئ والخلجان والمحيطات، إنهم لا يحتاجون إلى المنشآت الصناعية لوقف إلقاء المواد السامة في المياه، ولكنهم بحاجة إلى أن يقتنعوا أنه ينبغي عليهم استخدام القواعد الصحية، إنهم لا يحتاجون إلى المتطوعين من فيلق السلام(8) ليقولوا لهم أغلوا الماء، وخاصة حين يعجزون عن تحمل تكاليف الوقود أو لا يستطيعون الحصول على الحطب، فهم بحاجة إلى ظروف تتيح لهم الحصول على مياه شرب نظيفة وملابس ومنازل نظيفة، إنهم لا يحتاجون لمشورة من الأمريكيين الشماليين حول الوجبات الغذائية المتوازنة، فهم عادةً ما يعرفون ما هي أفضل الأطعمة التي تخدم متطلباتهم الغذائية، هم بحاجة للنظر إلى الوراء حيث أراضيهم وأعمالهم لعلهم حينها يعملون لأنفسهم ويزرعون محاصيل غذائية لاستهلاكهم.

إن إرث الهيمنة الإمبريالية (الإمبراطورية) ليس فقط بؤس وصراع، ولكنه هيمنة البنية الاقتصادية على يد شبكة من الشركات العالمية والتي تدين بالفضل إلى الشركات الأم في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان، وإذا كان هناك أي توافق أو تكامل، فإنه يحدث بين طبقات المستثمرين العالميين، وليس بين الاقتصاديين المحليين لهذه البلدان، ولا يزال اقتصاد العالم الثالث مجزأ وغير متكامل من الداخل وبين منشأة وأخرى، سواء في سيولة رؤوس الأموال والسلع أو في التكنولوجيا والتنظيم. خلاصة القول، ما نملكه هو اقتصاد عالمي يحقق القليل من الاحتياجات الاقتصادية للناس حول العالم.

الإمبريالية الجديدة

تُفسّر الهيمنة الإمبراطورية في بعض الأحيان على أنها ناتجة عن رغبة فطرية للهيمنة والتوسع “ضرورة الإقليمي”، وفي الواقع لم تعد الإمبريالية الإقليمية الوضع السائد، مقارنة بالقرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما كانت القوى الأوروبية منحوتةً في أذهان العالم، واليوم لم يبقى تقريبًا أي نقاط لسيطرة استعمارية. فمات ودفن الكولونيل بليمب – عبارة عن بورتريه جندي بريطاني للمخرج السينمائي البريطاني الراحل مايل باول- واُستبدل برجال ذو بدلات عمل، بدلاً من كونهم مستعمرين من قبل القوة الإمبريالية (الإمبراطورية)، فقد منحت البلدان الأضعف مظاهر سيادية في حين يحتفظ الرأسمالي الغربي بالسيطرة على حصة الأسد من مواردها مربحة، وذهبت هذه العلاقة تحت مسميات مختلفة: “الإمبراطورية العمومية”، “الاستعمار بدون مستعمرات”، “الاستعمار الجديد”، و “الإمبريالية الجديدة”.

كان الزعماء السياسيون ورجال الاعمال الأمريكيون من أوائل ممارسي هذا النوع الجديد من الإمبراطورية، وعلى الأخص في جزيرة كوبا بداية القرن العشرين، وانتزعوها قسرًا من اسبانيا في حرب عام 1898، وفي النهاية أعطوا كوبا استقلالها رسميًا، فأصبح للكوبيين حكومة خاصة بهم ودستور وعلم وعملة وقوات أمن أيضًا. ولكن لا تزال القرارات السياسة الخارجية الرئيسية في يد الولايات المتحدة، كما صنعوا ثروة في الجزيرة من السكر والتبغ ومصنوعات للجذب السياحي وللواردات وللصادرات الرئيسية.

لقد كانت المصالح الرأسمالية تاريخيًا للولايات المتحدة أقل اهتمامًا بزيادة المستعمرات من زيادة الثروة، وفضلت أن تصنع ثروة من الدول الأخرى دون أن تكلف نفسها عناء امتلاك وإدارة الدول، بموجب الاستعمار الجديد يبقى العلم ذاته للدولة، ولكن يذهب الدولار لكل مكان، وفي كثير من الأحيان بمساعدة القوة العسكرية.

فاعتمدت الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية استراتيجية الاستعمار الجديد، وذلك بسبب استنزافها ماليًا في سنوات من الحرب ومواجهة المقاومة الشعبية الشديدة من داخل العالم الثالث، لذا قررت على مضض أن تهيمن اقتصاديًا بطريقة غير مباشر، فكان ذلك أقل تكلفة, وأكثر منفعة سياسيًا من الحكم الاستعماري المباشرة، واكتشفوا أن إبعاد الحكم الاستعماري المتطفل بوضوح جعل من الصعب على العناصر الوطنية داخل البلدان المستعمرة سابقًا تعبئة المشاعر المعادية للإمبريالية.

وعلى الرغم من إنشاء حكومة حديثاً بعيدة كل البعد عن الاستقلال التام، فعادة ما تتمتع بشرعية أكبر في أعين العامة من الحكم الاستعماري الذي تسيطر عليه القوة الإمبريالية. وتتولى الحكومة المحلية تكاليف إدارة البلاد في ظل الاستعمار الجديد، في حين تتحرر المصالح الامبريالية من التركيز على تراكم رؤوس الأموال، وهذا كل ما يريدون فعله حقًا.

فبعد سنوات من الاستعمار، تجد دول العالم الثالث صعوبة للغاية في تخليص نفسها من العلاقة الغير متكافئة مع المستعمر السابق، بحيث يستحيل خروجها عن المجال الرأسمالي العالمي، وتخضع تلك البلدان التي تحاول أخذ استراحة للعلاج اقتصاديًا وعسكريًا على يد قوة أو قوة رئيسية أخرى، وفي الوقت الحاضر تتمثل عادةً في الولايات المتحدة.

وقد أعرب قادة الدول الجديدة عن الشعارات الثورية، حتى أنهم يجدون أنفسهم غارقين في فلك الرأسمالي العالمي، فبحكم الضرورة تعاونوا مع دول العالم الأول للاستثمار والتجارة والمساعدات، وهكذا شهدنا ظاهرة غريبة من قادة دول العالم الثالث المستقلة حديثاً، ألا وهي استنكار الإمبريالية لأنها مصدر لاضطراب بلدانهم، في حين يستنكر المعارضين في هذه البلدان القيادات نفسها لأنهم متعاونين مع الإمبريالية.

برزت في كثير من الحالات الطبقة الكومبرادورية -طبقة طفيلية انتهازية استغلالية- أو تم نصبها كشرط أول للاستقلال، فهي طبقة تتعاون لتحويل بلدها الذي تنتمي إليه إلى دولة عميلة لمصالح أجنبية، فتفتح الدولة العميلة الاستثمارات وفقًا لشروط مواتية تمامًا للمستثمرين الأجانب، وفي هذه الحالة يتمتع المستثمرون في الشركات بالدعم المباشر ,ومنح الأراضي , والحصول على المواد الخام والعمالة الرخيصة, وإعفاء من الضرائب وعدد قليل من النقابات العمالية الفعلية ولا يوجد حد أدنى للأجور أو لعمالة الأطفال أو لقوانين السلامة المهنية، كما لا يوجد حماية للمستهلك أو للبيئة للحديث حولها، وإذا وُجدت قوانين الحماية فلا تطبيق إلى حد كبير.

يعد العالم الثالث أشبه بالجنة الرأسمالية، حيث يقدم الحياة في القرن التاسع عشر كما كانت في أوروبا والولايات المتحدة مع معدل ربح أعلى بكثير مما قد يحصل اليوم لبلد ذو أنظمة اقتصادية قوية. فتجازى الطبقة الكومبرادورية جيدًا على تعاونها، ويستمتع قادتها بالفرص لمليء جيوبهم من المساعدات الخارجية التي ترسلها حكومة الولايات المتحدة، ليضمنوا بذلك الاستقرار مع إنشاء قوات أمن مسلحة ومدربة من قبل الولايات المتحدة وتمتلك أحدث التقنيات للإرهاب والقمع.

ولا يزال الاستعمار الجديد يحمل بين طياته المخاطر، وفي النهاية يعزز تحقيق الاستقلال الشرعي من توقعات الاستقلال الفعلي، فتحث صور الحكم الذاتي الرغبة في جني ثمار هذا الحكم، فقد يبرز أحيانًا زعيم وطني -رجل وطني ومصلح- وليس متعاون كومبرادوري. وبالتالي لا يخلو التحول من الاستعمار إلى الاستعمار الجديد من المشاكل الامبريالية، حيث تمثل صافي ربح القوات الشعبية في العالم.


الهامش:

الإمبريالية(1): نوع من الدعاوى الإمبراطورية، وتعني الحكم والسيطرة على أقاليم كبيرة، فيمكن تعريفها بسعي الدولة لتوسيع سلطتها وتأثيرها عبر الاستعمار، بحيث تستخدم القوة العسكرية، ووسائل أخرى.

شعب السلاف(2): هو أحد الشعوب الهندو-أوربية التي يتحدث أهلها اللغات السلافية الشرقية، ونزحوا من أوروبا الشرقية خلال القرون الوسطى.

شارلمان(3): شارلمان (742-814)، والمعروف أيضا باسم كارل الكبير، وهو الإمبراطور الروماني المقدس وملك الفرنجة، كان مصدر إلهام للزعماء مثل نابليون بونابرت وأدولف هتلر.

ماركس وإنجلز(4): كان فريدريك انجلز فيلسوف و عالم اقتصاد سياسي ألماني شارك في تأسيس النظرية الماركسية مع صاحبه و رفيق كفاحه كارل ماركس الذي يعد فيلسوف ألماني واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرخ وصحفي واشتراكي ثوري، لعبت أفكاره دورًا هامًّا في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير الحركات الاشتراكية.

مدينة صفيح(5): يقصد بها المنطقة العشوائية التي تبنى من بقايا مواد خام من صفيح أو خشب رقيق أو بلاستيك أو غيرها.

شركة متعددة الجنسيات أو العابرة للحدود الوطنية(6): هي شركة ملكيتها تخضع لسيطرة جنسيات متعددة كما يتولى إدارتها أشخاص من جنسيات متعددة وتمارس نشاطها في بلاد أجنبية متعددة على الرغم من أن استراتيجياتها وسياساتها وخطط عملها تصمم في مركزها الرئيسي الذي يوجد في دولة معينة تسمى الدولة الأم.

الديناميات الاجتماعية(7): مصطلح يوفر الحركة الاجتماعية في كل الاتجاهات على معنى سام وأهداف مرسومة.

فيلق السلام(8): برنامج تديره حكومة الولايات المتحدة الأمريكية يعمل فيه متطوعون على التنمية الاجتماعية والاقتصادية بصورة عامة.