مجلة حكمة
شروط الإبداع الموسيقي ومدخله في الإنسانيّة عند أبي نصر الفارابي - سالم العيّادي

الإبداع الموسيقي وشروطه ومدخله في الإنسانيّة عند أبي نصر الفارابي – سالم العيّادي

ESnrw7_235250
د. سالم العيّادي، الإبداع الموسيقي

ذهبت العديدُ من التّصوّرات – وعلى رأسها التّصوّر الفيثاغوريّ– إلى أنّ فنّ الموسيقى قد ظهر مكتملاً منذ البداية وذلك بفضل الفطرة الخارقة الّتي كان يتمتّع بها بعض الأنبياء والحكماء,وإلى أنّ ممارسة النّاس للموسيقى لم تكن بعد ذلك إلا على سبيل “الوراثة” الّتي ليس للخلف فيها من فضل إلا القدرة على الحفاظ على “التّراث” كما هو حتّى لا ينقطع انتسابُه إلى أصله المطلق المكتمل.

وكانت هذه التّصوّرات تذهب أيضًا إلى أنّ الفنّان لا يبدع فنّه وإنّما يتلقّاه من ربّات الفنون أو الجنّ على سبيل الوحي والإلقاء في الرّوع والخطف. فإذا بلحظة التّجلّي الفنّيّ تتحوّل إلى حالة مسّ وهوس ديونيزوسيّ يغيب فيه الإنسان عن ذاته وعقله. وإذا بالفنّ يُختزَل في القدرة الّتي يدّعيها بعض النّاس على التّلقّي من الهاتف الجنّيّ أو الشيطانيّ المبهم (Le démon) والتّعبير عنه بكلام إنسانيّ على نحو لا يخلو من رمز ومجاز.

وليست الموسيقى داخل هذه الرّؤية إلا محاكاة لموسيقى السّماء. وهذا ما يفسّر المنزلة الوسطى الّتي احتلّها علم الموسيقى النّظريّ بين عالم الطبيعة وعالم ما وراء الطّبيعة. فالموسيقى النّظريّة داخل الرّؤية الفيثاغوريّة أصلٌ من أصول العلم الرّياضيّ من جهة ما هو علمٌ يمكّن الإنسان من تجاوز الفيزياء نحو الميتافيزيقا ومن تجاوز العالم المحسوس نحو ضربٍ من العلاقة بالوجود عرفانيّةٍصّوفيّةٍ. وكانت الموسيقى تمثّل البراديغم النّظريَّ (علم التّناسب) والعمليَّ (فنّ تأليف النّغمات)المشرّع لهذا التّجاوز الميتافيزيقيّ الغنوصيّ.

ويذهب الفارابي على العكس من ذلك تمامًا إلى أنّ الموسيقى ظاهرة تجريبيّة تاريخيّة من جهة الظهور والتطوّر متخلّيًا بذلك عن مفاهيم “جودة الذهن” (أن يكون أصلُ الموسيقى هو حكمة الأوّلين) و”صفاء الرّوح” (أن يكون أصلُ النّغم هو الموهبة المحضة أو العبقريّة الخالصة)[1] لصالح مفهوم الخيال من جهة أنّه المفهومُ الأقدر على تأكيد الطّابع الإنشائيّ للموسيقى كما يمارسها الموسيقار المسلجس[2]: أي العالم بقوانين فنّه والمالك لقواعده امتلاكًا تقنيًّا. فكيف يستقيم الجمعُ بين الخيال من ناحية وبين العلم والتّقنية من ناحية أخرى؟ وبأي معنى يكون مفهوم الخيال أساس الفهم العقلانيّ لإنشائيّة الفنّ الموسيقيّ عند الفارابي؟

الإبداع الموسيقي

يرفض الفارابي إرجاعَ الموسيقى إلى مبدأ العبقريّة الفائقة والقريحة الكاملة الّتي لا تستند إلى التّجارب والمستغنية عن العلم[3]. ويرى أنّ هذا الرّأي عوامّيٌّ لا يليق بصاحب العلم الأخذُ به. يقولالفارابي: “فقد تبيّن أنّ الأمر فيها على خلاف ما يظنّه الجمهور ومن ليست له خبرة وحنكة ممّن يتعاطى شيئا من العلوم. والسّبب في هذا الظنّ هو ما يُعتقـَد في الحكمة والعلوم الّتي يُنسَب إليها من أنّها تحيط بكلّ شيء وأنّ المقتنين لها يعلمون كلّ شيء. فلذلك يرون أنّ الحكيم هو أوّل من استنبط الصّنائع العمليّة وانبثـّت عنه في الجمهور لا بحسن تصرّفه وجودة تأتّيه للأعمال لكن بجودة فهمه وقوّته على إدراك الأشياء كلّها, وليس هذا الظنّ حقًّا على الإطلاق”[4].

ليس الموسيقار صاحب عبقريّة وإلهام وإنّما قدرته الإبداعيّة ثمرةٌ متأخـّرةٌ لتراكم التّجارب سواء كانت تجارب شخصيّة (حسن التـّصرّف وجودة القيام بالفعل) أو كانت تجارب الإنسانيّة عبر تاريخها. “… فلم يزل يُنقِص الآخرُ ما زيّده الأوّلُ أو يزيد الآخرُ ما نقصه الأوّلُ إلى أن حصلت (الألحان) كاملة أو قريبة من الكمال… ثمّ لم يزالوا بطباعهم يتحرّون من الأجسام طبيعيّةً كانت أو صناعيّةً ما يعطيهم تلك النّغم أكمل. فكلّما اهتدوا لواحد ثمّ أحسّ فيه بعد ذلك بخلل تحرّوا هم أنفسهم أو غيرهم ممّن ينشؤوا بعدهم إزالة ذلك الخلل إلى أن حدث العود وسائر هذه الآلات وكملت صناعة الموسيقى العمليّة واستقرّ أمر الألحان”[5].

الموسيقى إذن ظاهرةٌ تاريخيّةٌ مرّت بمراحل وأطوار يصفها الفارابي وصفًا مستفيضًا, ثمّ يجملها في مرحلتين أساسيّتين هما: مرحلة حدوث الموسيقى بالطّبع والغريزة ومرحلة حدوثهابالإرتياض العمليّ والتّعليم أي بالصّناعة[6]. ويذهب الفارابي إلى أنّ هذا التّطوّر في نمط وجود الألحان من وجود يُباشره الإنسانُ عفويًّا وتلقائيًّا إلى وجود ينشئه الموسيقارُ عن وعي وبفضل الممارسة هو تطوّرٌ في اتّجاه تقدّميّ: فلمْ تكتمل الموسيقى إلا بفضل تحوّلها من انفعال غريزيّ إلى فعل صناعيّ.

ويرى الفارابي أنّ اكتمالَ القدرة على “الخيال” تحرّرًا من سلطة المحسوس هو أهمُّ علامة دالّة على ارتقاء الممارسة الموسيقيّة إلى الرّتبة الصّناعيّة. فكيف يكون الخيالُ مبدأً إنشائيًّا في مجال الإبداع الموسيقي ؟ وبأيّ معنى يكون الخيالُ الموسيقيُّ الأساسَ الّذي ينبني عليه كمالُ الموسيقى من جهة ما هي ممارسة صناعيّة؟

يقول الفارابي: “والألحان وما يُنسَب إليها هي من الأشياء الّتي تُحَسُّ وتُـتخيَّل وتُعقَل[7]”. فإذاكانت الألحان تصير معقولةً حين تصير موضوعَ علم نظريّ هو علم الموسيقى بوصفه فرعًا من فروع الرّياضيّات فإنّها تكون محسوسةً ومتخيّلةً حين تُمارَس بوصفها فنًّا. وعلينا أن ننتبه إلى التّرتيب الّذي اقترحه الفارابي لأنماط الوجود الموسيقيّ (محسوس- متخيّل- معقول) وذلك لأنّه ترتيبٌ لها من جهة مخصوصة هي جهة الاستماع والتّلقـّي. أمّا من جهة الإبداع فإنّ وجودها المتخيّل يسبق وجودها المحسوس ويكون في المرتبة الأولى بوصفه المبدأ الإنشائيّ الّذي به تصير الموسيقى إلى كمالها الصّناعيّ.

يقول الفارابي:”والصّناعة الّتي يُقال إنّها تشتمل على الألحان منها ما اشتمالها عليها أن توجد الألحان الّتي تمّت صياغتها محسوسة للسّامعين (التّلحين يسبق الأداء) ومنها ما اشتمالها عليها أن تصوغها وتركّبها فقط وإن لم تقدر على أن توجدها محسوسة (لا اهتمام للملحّن بمدى قابليّة موسيقاه للتّنفيذ) وهذان جميعًا يسمَّيان صناعة الموسيقى العمليّة”[8]. ويقول أيضًا: “والهيئات الفاعلة الّتي تنطق منها ما هي فاعلة عن تصوّر وتخيّل صادق حاصل في النّفس. ومنها ما هيفاعلة عن تخيّل كاذب حاصل في النّفس. فالّتي هي أحقّ باسم صناعة الموسيقى العمليّة هي هيئة تنطق فاعلة عن تخيّل صادق حاصل في النّفس توجد الألحان المصوغةَ محسوسةً. والصّناعة الثّانية الّتي تُسَمَّى بهذا الاسم هي هيئة تنطق فاعلة عن تصوّر صادق حاصل في النّفس توجد الألحانَ مركّبةً مصوغةً”[9].

نلاحظ في هذا القول كيف انزاحت العبارة الفارابيّة عن مفهوم الخيال إلى مفهوم التّصوّر. وليس في ذلك نفي للخيال أو تجاوز له وإنّما فيه تأكيد على الدّرجة العليا الّتي يدركها الخيالُ الموسيقيُّ في هيئة التّلحين عندما يصير الموسيقارُ الملحّنُ مبدعًا لـ”صُوَر” متحرّرة تمامًا من المضمون الحسّيّ سواء من جهة الأصل أو من جهة المنتهى. فخيال الموسيقار خيالٌ مبدعٌ للصُّوَر المحضة. وهو بذلك خيالٌ “متعال”: أي أنّه لا يُشتَقُّ – بعديًّا – من التّجربة الحسّية. وهو مع ذلك شرطٌ قبليٌّ لكلّ تجربة موسيقيّة ممكنة من جهة الإبداع ومن جهة التّلقّي.

ولمْ تدرك المتخيّـلة ُعند الفارابي هذه المنزلة الحرّة المتعالية لا في مجال نظريّة المعرفة ولا في مجال نظريّة النّبوّة وإنّما هي منزلة موسيقيّة صرفة. وفي ذلك تأكيد على ما تتيحه الموسيقى من فرصةٍ للتّحرّر من العالم وإبداع موجودٍ مستقلّ بذاته هو عالم النّغم والإيقاع أو الموجود الموسيقيّ بحسب عبارة الفارابي ذاته. فلننظر أوّلاً كيف يحدّد الفارابي العلاقة بين المؤدّي والملحّن تأكيدًا منه على الدّور الأساسيّ للخيال سواء من حيث التّلحين أو من جهة التنفيذ التـّأويليّ Interprétation؟

يكشف الفارابي عن مقتضيات هيئة الأداء الموسيقيّ مشدّدًا على أنّها تلتئم بتوافر شرطين هما:

أ / أن يحصل في نفس المؤدّي “تخيّـلُ اللّحن المصوغ”[10] وأن يكون استحضارُه للّحن من القوّة ما “يظهر به المتخيَّـلُ محسوسًا”[11]. بمعنى أنّ تخيّـلَ المؤدّي للّحن ينبغي أن يكون من الشدّة والوضوح ما يجعل اللّحنَ يظهر محسوسًا مباشرة ً وفي الآن ذاته الّذي يُستحضَر فيه دون أن يتأخـّر المحسوسُ عن المتخيَّل. وهذه القدرة على التّنفيذ التـّأويليّ لا تحصل للمؤدّي إلا بالدّربة والإدمان على الفعل.

ب / ويتمثّل هدفُ هذه الدّربة في السّيطرة التّقنيّة على الآلات الّتي منها تصدر النّغم (الحلق أو المعازف). فمن شروط امتلاك صناعة الأداء الموسيقيّ القدرة على إخراج المسموع من الآلة المعدّة لذلك دون تخمين أو تردّد من ناحية وفي أبهى جَرَسيّة ممكنة (الصّفاء والفخامة) من ناحية أخرى.فتخيّـل اللّحن لا يكون تخيّـلاً صناعيًّا ما لم يقترن عند المؤدّي بالقدرة على تحريك “أعضائه القارعة تحريكًا يصيّر قرعها قرعًا تحدث به الألحان على ما هي متخيّـلة عنده”[12].

يمكن القول إذن إنّ لحظة إنشاء الصّوت وإيجاده محسوسًا للسّامعين ينبغي أن تُصاحِبَ لحظة استحضاره في الخيال وأن تقترن بها فلا تتأخـّر عنها ولا تتراخى. ولأجل ذلك يدعو الفارابيصاحبَ هذه الهيئة إلى امتلاك عالم الصّوت بالإدمان على إنشائه. ويذهب الفارابي إلى أنّ صاحب هذه الهيئة لا يقدر على التّلحين إلاّ وهو يعزف أو يؤدّي. وذلك يعني أنّ المؤدّي يظلّ دائمًا مشدودًا إلى عالم الصّوت فلا يستطيع اتّخاذ مسافة تفصله عنه, فإذا ما لحّن فإنّ تلحينه يكون محدودًا بحدود السمع الّذي تتيحه له آلتُه أو تعوّد عليه حلقُه. وهكذا لا قدرة للمؤدّي على الإبداع بالمعنى الحقيقيّ لمفهوم الإبداع. أمّا صاحب هيئة التّلحين فوضعه مختلفٌ تمامًا. فكيف ذلك؟

ليس للمـؤدّي من إمكان إنشائيّ إلا إخراجَ اللّحن مسموعًا لحظة استحضاره في الخـيال “بحيـث إنّما تـرتسـم في نفسـه (الألحانُ) في الحين الّذي يحسّها فيه… وهؤلاء (المؤدّي الّذي أراد أن يلحّن) هيئاتهم هيئات إنّما تحصل لهم بها الألحانُ مرتسمة في الحين الّذي يقصدون فيه صياغتها متى ترنّموا بها أو أن تحضرهم آلة تـُسمَع منها النـّغم”[13]. تفترض هيئة الأداء إذن ضربًا من الإتّحاد الحدسيّ بين الحسّ والخيال بحيث قد يتبادلان المواقع في كلّ مرّة. ولهذا السّبب يؤكّد الفارابي على أنّ معنى الموسيقى قد ينطبق على هيئة الأداء أكثرَ من انطباقه على هيئة التّلحين. غير أنّ هذا الإتّحاد الحدسيّ بين المحسوس والمتخيّل هو الّذي يمنع الموسيقى من أن تكتمل في وجهها الصّناعيّ. ومعنى ذلك أنّ تحرّر الخيال من الحسّ هو الشـّرط الأساسيّ لبلوغ الموسيقى مرتبة الكمال الفنـّيّ. ولا يحدث ذلك إلا بفضل هيئة التّلحين الصّناعيّ.

تقتضي هيئة الصّيغة -علاوة على امتلاك العناصر المكوّنة لهيئة الأداء[14]- أن تتوفّر في الملحّن شروط أخرى أساسيّة يمكن إجمالها في معرفة “كيف ينبغي أن تُرتَّب (النّغم) حتّى يصير ترتيبُها ترتيبًا ملائما للسّمع. وتكون له (الملحّن) مع ذلك قدرة على ترتيبها حتّى يأتلف منها اللّحن”[15]. نلاحظأنّ الأمر يتعلّق عند الملحّن بشرطين لا يفترضان علاقةً بالمحسوس هما: أ/ علم التّلحين: معرفة التّرتيب الّذي به تكون النّغم ملائمة للسّمع (وهو ما يمكن الإشارة إليه بعبارة “الفكرة الموسيقيّة”).ب/ تقنية التّلحين: القدرة على ترتيبها حتّى يأتلف اللّحن (وهو ما يمكن الإشارة إليه بعبارة “الكتابةالموسيقيّة”).

فهذان الشرطان يتعلّقان بالنّغم فيما يمكن أن نسمّيه بـ “المسموعيّة المحضة” الّتي يكون الملحّن قادرًا على تخيّـلها في شكل علاقات (التّرتيب/ التّأليف). ويؤكّد الفارابي على هذا المعنى قائلا: “ومَن هو أزيد تخيّلا من هذه الطّبقة (طبقة الملحّنين المشدودين إلى المحسوس ترنّمًا وعزفًا) هو الّذي به ترتسم في نفسه الألحان وما بها تأتلف من غير حاجة إلى أن يسندها إلى محسوس بل تجول في ذهنه متخيَّـلة متى شاء ذلك”[16]. فهذه الطّبقة من الملحّنين هي الطّبقة الّتي يكون اللّحنعندها قابلا لأن يرتسم في النّفس ويجول في الخيال دون سند محسوس أيْ دونما علاقة بالعالم الخارجيّ للصّوت. فاللّحن يحضر في ذهن هذه الطّبقة من الملحّنين على هيئة خيال محض متعال يمكن أن نسمّيه “العالم الدّاخليّ للصّوت”.

وعلى هذا النّحو تتجلّى الطّاقة الإبداعيّة للمخيِّـلة الموسيقيّة في القدرة على التّعالي على المحسوس والالتقاء بالمسموعيّة الخالصة في ذاتها. بل للملحّن الحقّ في الإنشاء الخياليّ للألحان حتّى وإن لم يقدر على إيجادها محسوسةً للسّامعين. غير أنّ اقتران الخيال المحض بالقدرة على إيجاد اللّحن مسموعًا يمثّل في نظر الفارابي الدّرجة العليا من درجات الإبداع الفنّيّ, وهي الدّرجة الّتي تكفّ فيها الممارسة الموسيقيّة عن كونها ممارسة فطريّة غريزيّة وتتّخذ شكلا صناعيًّا يستند فيه الملحّنُ إلى امتلاكٍ معرفيٍّ لقوانين الإنشاء الموسيقيّ وتحكّمٍ تقنيٍّ في “هيولى”الموسيقى[17]. وقد اتّخذ الفارابي إسحاقَ الموصليَّ نموذجًا له في ذلك. ويمكن لنا نحن أن نتّخذ من بيتهوفن نموذجًا لهذه الدّرجة العليا من الامتلاك الصّناعيّ لفنّ الموسيقى: فلو لم يكن بيتهوفن مستغنيًا عن السّند المحسوس لما أمكن له التّلحين وهو أصمّ. ولوْ لم يكنْ مالكًا لقوانين فنّه ومتحكّمًا في “هيولاه” لما أمكن له تنفيذ ألحانه المتأخّرة وإدارة ُ”لعب” العازفين وهو الّذي لا علاقة له بعالم الصّوت الخارجيّ.

إنّ الخيال المحض هو مبدأ الإنشاء و الإبداع الموسيقي . كما أنّه العلامة الفارقة بين الممارسة العفويّة للموسيقى والممارسة الصّناعيّة لها. لذلك يقول الفارابي:”ومتى قسّمت أطراف هذه الهيئة (هيئة صيغة اللّحن) صارت ثلاثة: أحدها ما يحتاج أبدًا في تخيّـله إلى أن يستند إلى محسوس.والثّاني ما ليس يحتاج فيه إلى أن يستند إلى محسوس أصلا غير أنّه لم يبلغ بَعْدُ إلى أن ينطق عنه (أيْ أنْ يوجد اللّحنَ خارج نفسه محسوسًا للسّامعين). والثّالث ما بلغ من قوّة تصوّره إلى أن ينطق عن جميع ما يتخيّـل منها مثل ما كان بلغه إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصليّ… غير أنّ ما لم تبلغ بَعْدُ من قوّتها إلى أن ينطق بها عمّا حصل له فيها من خيالات فهي أحرى أن تُسمَّىقوّة أو غريزة أو طبيعة أو ما جانس هذه الأسماء من أن تُسمَّى صناعةً. وما كان مبلغها من القوّة مبلغًا يمكن أن ينطق بها عمّا يتصوّره فتلك أحرى أن تُسمَّى صناعة من أن تُسمَّى قوّة أو طبيعة”[18]. يؤكّد هذا الشاهد على أنّ الأحقّ باسم الموسيقار إنما هو-من ناحية أولى- القادرُ على تجاوز الصّوت في “محسوسيّته ” حتّى يرتقى بخياله إلى مقام الإبداع الحرّ للصّور الموسيقيّة المحضة.وهو القادر -من ناحية ثانية- على إبداع الحلول التّقنية لإيجاد تلك الصّور الخياليّة المحضة محسوسةً وذلك حتّى لا يكون خيالُه مجرّد وهم. فدرجة التّلحين أرقى إذن من درجة الأداء. يقول الفارابي: “وبيّن أنّ مقدار المعرفة والتّخيّلات الّتي تكمل بها الهيئة الأولى (الأداء) دون مقدار المعرفة والتّخيّلات الّتي تكمل بها الهيئة الثّانية (التّلحين)”[19].

ولهذا السّبب يؤكّد الفارابي على أنّ هيئة الصّيغة هي في الوقت ذاته العلّة الفاعلة لهيئة الأداء وعلّتها الغائيّة[20]. فلا يكون أداءُ المؤدّي صناعيًّا إلا إذا سبقه تلحينُ الملحّن وعمل المؤدّي على أن يتطابق أداؤه مع خيال الملحّن: فتطابق الأثر الموسيقيّ مع غايتِه هو شرطُ كماله بوصفه عملاً فنّيًّا. أمّا التّرنّم والارتجال دون خيال يسبقه فذلك أمر غريزيّ يأتيه الإنسانُ بحكم سجيّته وطبعه.

لا تُؤدَّى الموسيقى أداءَ صَنْعَةٍ إلاّ حين يحاكي المؤدّي بخياله خيالَ الملحّن ويسعى إلى أن يكون خيالُه مطابقًا لخيال الملحّن. وذلك هو معنى أن يكون خيالُ المؤدّي خيالا صادقًا كما عبّر عن ذلك الفارابي في تعريفه لهيئة الأداء. إنّ اللّحن في محض مسموعيّته كما جالت في خيال الملحّن هو الغاية الّتي على المؤدّي إدراكها “من قبَل أنّ المؤدّي إنّما يتبع في إعداد هيئة تخيّـله وهيئة العضو الّذي به يؤدّي النّحوَ الّذي به يصير اللّحن المعمول محسوسًا للسّامع ويقتفي في إيجاده النّغم ولواحقها محسوسةً حذو ما صاغته هيئة الصّيغة”[21]. وهكذا يمكن القول إجمالا:

أ – لا تكتمل الموسيقى اكتمالا صناعيًّا إلا في الدّرجة العليا لهيئة التّلحين وهي الدّرجة الّتي يصير فيها الملحّن قادرًا على إنشاء اللّحن دون أن يكون محتاجًا من جهة الأصل إلى أن يستند في ذلك إلى المحسوس, ودون أن يلتفت من جهة المصير إلى مدى قابليّة اللّحن للتنفيذ. فالملحّن لا ينبغي أن يحصر خياله في حدود ما تتيحه له تقنيّات عصره (صنع الآلات وتقنيّات العزف) وإنّما عليه أن يحرّر “المسموعيّة المحضة” من كلّ سند حسّيّ.

ب – إنّ اكتمالَ هيئة التّلحين يقتضي قدرة الملحّن على أن ينطق عن كلّ ما يتخيّـله من صور موسيقيّة محضة أيْ على إيجاد الحلول التّقنيّة لتحويل المتخيَّـل من الصّور إلى علاقات تناغميّةوإيقاعيّة مسموعة. وقد خصّ الفارابي إيجادَ الحلول التّقنيّة (صنعًا وتنفيذًا) بمبحثٍ خاصٍّ يسمّيه “علم الحيل الموسيقيّة”.

ج – إنّ قدرة الخيال المتعالي على إبداع صور جديدة للإنشاء الموسيقيّ, والقدرة التّقنيّة على إيجاد الحلول والحيل لإنتاج الصّوت على نحو يُطابق تلك الصّور, هما العلامتان الدّالتان على ارتقاء الموسيقى إلى مرتبة الممارسة الصّناعيّة. ولا يرى الفارابي في ذلك انحطاطًا للفنّ بل يرى فيه تقدّمًا هامًّا.

د – إنّ هيئة التّلحين رئيسةُ هيئة الأداء ولا تُطلَب هذه إلاّ لأجل تلك. ومعنى ذلك أنّ المؤدّي لا يكون متحكّمًا في فنّه إلاّ بقدر ما يسعى إلى أن يطابق خيالُه خيالَ الملحّن: أي أن يكون إنشاؤه للألحان “عن تخيّـل صادق” لا عن تخيّـل كاذب.

وتعود جميع هذه الملاحظات التّأليفيّة إلى أمرٍ أساسيٍّ كان فيه الفارابي مجدّدًا في مجال النّظريّات الموسيقيّة وفلسفة الموسيقى. ويتمثّـل هذا الأمر في التـّأكيد على أنّ المبدأ الإنشائيّ في مجال الموسيقى هو الخيال المتعالي وأنّ هذا الخيال حرّ مبدع. وذلك بمعنى أنّه ليس محاكاة لنموذج موسيقيّ سماويّ أو مثاليّ متقدّم على التّجربة الإنسانيّة ولا هو تقليدٌ محافِظٌ على التراثكما ذهب إلى ذلك الفيثاغوريّون والأفلاطونيّون. فالتّجديد الموسيقيّ يقتضي في نظر الفارابي القدرة على التّحرّر من السّند الحسّيّ واستحضار الخيال في بعده المحض. وذلك لا لأجل القطع نهائيًّا مع الموسيقى المحسوسة وإنّما لأجل الدّفع بها إلى أقصى أوجه الكمال حيث يمكنلمسموعيّة النّغم أن تتجلّى في أبهى صورها كمًّا وكيفًا. وذلك هو معنى الجمال عند الفارابي: أن يصير الشيء إلى كماله فتكتمل لنا بإدراكه متعتُنا الجماليّة[22].

إنّ المتتبّع لتاريخ الموسيقى في منعرجاته الحديثة والمعاصرة يلاحظ أنّ كلّ أشكال التّجديد الكبرى اقترنت بالتّحرّر من البداهة الحسّية, أيْ من ارتباط الخيال بالسّند الحسّيّ. وقد تجلّى هذا التّحرّر في التّطوّر الهائل الّذي شهدته الكتابة الموسيقيّة في مستوى العلامة كما في مستوى التّركيب. فالكتابة الموسيقيّة مكّنت الملحّن من ضرب جديد للتّعامل مع الوجود الموسيقيّ هو التّعامل الرّمزيّ. ومكّنته أيضًا من بناء التّجربة الإنشائيّة على أساس ما يُسمَّى بـ”الفكرةالموسيقيّة”. بل إنّ تحوّل التّلحين إلى كتابة قد مكّن العديد من التجارب الموسيقيّة منتصوّر”أنظمة” جديدة لعالم الصّوت و”نحو” مختلف للّغة الموسيقيّة. وليس أدلّ على هذه المحاولات التّحديثيّة من”الموسيقى الجديدة” الّتي اتّخذت لنفسها الشّكلَ الدّوديكافونيَّ والتّسلسليَّ كماباشره شونبروغ وبولاز مثلا. ولكنّ السّؤال الّذي ينبغي طرحه في هذا السّياق هو: هل يجوز فارابيًّاأن ينطلق الخيالُ حرًّا إلى درجة البحث عن “موسيقى دون موسيقى” أو البحث عن “التـّأليف دونتأليف” كما هو الحال عند الدّوديكافونيّين أو استعمال الضّجيج مادّةً للعمل الموسيقيّ كما هو الحال عند الضّجيجيّين؟

تقتضي منّا الإجابة عن هذا السّؤال أن نستحضر من جديد التّعريف الّذي يقترحه الفارابي لفنّ الموسيقى. يقول الفارابي: “… والهيئات الفاعلة الّتي تنطق منها ما هي فاعلة عن تصوّر وتخيّل صادق حاصل في النّفس. ومنها ما هي فاعلة عن تخيّل كاذب حاصل في النّفس. فالّتي هي أحقّ باسم صناعة الموسيقى العمليّة هي هيئة تنطق فاعلة عن تخيّل صادق حاصل في النّفس توجِد الألحانَ المصوغةَ محسوسةً. والصّناعة الثّانية الّتي تُسمَّى بهذا الاسم هي هيئة تنطق فاعلة عن تصوّر صادق حاصل في النّفس توجِد الألحانَ مركّبةً مصوغةً”[23]. يؤكّد الفارابي في هذا التّعريف على شرط أساسيّ للإنشاء الموسيقيّ حتّى يكون إنشاءً صناعيًّا هو الصّدق: أن يكون التّخيّل والتّصوّر صادقًا. فما معنى ذلك؟

أن يكون التّخيّل أو التّصوّر أو الفكر صادقًا فمعناه -داخل نظريّة المعرفة عند الفارابي- أنيكون ما يرتسم في النّفس من صور (عالم الأذهان) مطابقًا لموضوعه أي لماهيّة الشيء في ذاته(عالم الأعيان). ولكن إذا كان صدق المؤدّي في أن يطابق خيالُه خيالَ الملحّن فيما نسمّيه اليوم بالتّنفيذ التّأوليّ Interprétation ففيمَ يتمثّل صدق الملحّن؟ مع أي شيء ينبغي لخياله أن يتطابق؟

للملحّن كامل الحرّية في أن يبدع صورًا موسيقيّة جديدة. بل إنّ رسوخ الصّناعة فيه لا يكون إلا بقدر انطلاق خياله المحض وتجاوزه للصوت في طابعه الحسّيّ المباشر والبديهيّ. غير أنّ الخيال المتعالي لا يكون إنشاءً فنّيًّا إلا متى كان صادقًا. ويتمثّل الصّدق هنا في أن يطابق الخيالُ الموسيقيُّ بنية الذوق والإدراك الموسيقيّ الّتي هي في نظر الفارابي بنية قبليّة كونيّة[24]. فلئن كان للملحّن الحقّ في أن يتصوّر من الألحان ما يجود به خيالُه المحضُ فإنّه في مقابل ذلك عاجـزٌ عن صنع الذوق ذاته. وذلـك لأنّ الذوق هــو “ممّا ليس لنا فعله”. وهكذا فإنّ ارتياض السّمع “وهو الهيئة الّتي بها يُميَّز بين الألحان المتفاضلة في الجودة والرّداءة والمتلائمات من غير المتلائمات فليست تُسمَّى صناعة أصلاً وقلّما إنسان يُعدَم هذا إمّا بالفطرة وإمّا بالعادة”[25].

يمكن القول إنّ الخيال يصير كاذبًا حين يكون الذوقُ على غير المجرى الطبيعيّ للإنسان. ولمتغب عن الفارابي إمكانيّةُ استعمال الصّوت على غير المجرى الطّبيعيّ وإمكانيّةُ توظيفه مع ذلك في “أشياء من الأمور الإنسانيّة”. فالأصوات الهائلة والحادّة الّتي ليس في قوّة الإنسان احتمالُها قد تكون في بعض الحالات “بمنزلة الأدوية وتُستعمَل في الأمور الإنسانيّة في المواضع الّتي نسبتها منها كنسبة أمكنة الأدوية من الأبدان. وبعضها بمنزلة السّموم وتُستعمَل في مثل ما تُستعمَل فيه السّموم مثل الأصوات المهلكة أو المصمّمة وآلاتها الّتي تُستعمَل في الحروب”[26]. ولكن لأنّ الفارابي لم يكن ينظّر لمدن التّغلّب والخسّة وللمدن الجاهليّة فإنّه لم يرض للموسيقى لا أن تكون دواءً لمجتمع مريض ولا أن تكون سمومًا يستعملها الإنسان في مشاريع التّغلّب والقهر. إن موسيقى المدينة الفاضلة هي الموسيقى الّتي يتحقّق معها كمالُ سمع الإنسان وتكتمل بها المتعة الجماليّة.

ولهذا السّبب يشترط الفارابي في الملحّن أن يكون “قويَّ الإحساس للمسموعات وتكون قوّتُه الغريزيّة الّتي بها يُحسّ الأصوات والّتي بها يتخيّل طبيعيّةً للإنسان حتّى لا يستحسن أو يستلذ ما ليس هو طبيعيًّا للإنسان ويطرح ما هو طبيعيّ له”[27]. وهكذا لا يكون الخيال المتعالي موسيقيًّا عند الفارابي إلّا بقدر ما يكون منتجًا لتجربة سماع مطابقة لبنية الذّوق الموسيقيّ كبنية قبليّة كونيّة: أي منتجًا لأكمل متعة جماليّة ممكنة. ولم يضع الفارابي شرط مطابقة الخيال للذوق بهدف تقييد حرّية الإنشاء الموسيقيّ وإنـّما وضعه لأجل أمرين هامّين قد يبدوان متعارضين هما:

– أن يرتقي الفنّ الموسيقيّ إلى أعلى مراتب الممارسة الصّناعيّة فينكشف ما فيه من بعد عقلانيّ[28].
– ألاّ يفوّت الموسيقار في المتعة الجماليّة. وذلك لأنّ هذه المتعة هي المدخل الوحيد لفنّه في الإنسانيّة. فإذا لم يعمل الموسيقار على إظهار هذه المتعة في أكمل صورها فإنّ فنّه يصير لعبًا عديم الجدوى.
فالمتعة الجماليّة الجامعة بين لذة المحسوس (السّماع الموسيقيّ) والانفعال النّفسيّ (هيئات النّفس من انشراح وانبساط أو حزن وانقباض) والتّخييل (المضمون الدّلاليّ للجملة الموسيقيّة الّذي يحدّد معنى الألحان) هي الّتي تمكّن الموسيقى من الانخراط في الحياة المدنيّة بوصفها فضاءً لاستعمال عموميّ للحقيقة (المعرفة) ومشاركة جماعيّة في السّعادة (الإتيقا).

الذوق بهذا المعنى هو الشّرط القبليّ لإمكان التّجربة الموسيقيّة في بعديها الفنّيّ (لذة المسموع)والمدنيّ (أن تكون هذه اللذة في خدمة الحقيقة والسّعادة). ولا سبيل لتطابق الخيال الموسيقيّ مع بنية الذوق إلا السّبيل الصّناعيّ حيث يكون الموسيقار فنّانًا مُسَلْجِسًا. وهكذا إذا كان الذوق شرطًا قبليًّا لصناعة الموسيقى فإنّ الشّرط البعديّ لها هو العلم. وإذا كان الفارابي يعلي من قيمة العلم الموسيقيّ ويفرد له أضخم ما ألّف من كتب فذلك لأنه يرى أنّ فنّ الموسيقى قد اكتمل بَعْدُ فيما يسمّيه بـ”مملكة العرب”[29].

لقد اكتملت التّجربة الفنّية القائمة على مجرّد الطّبع والسّجيّة. ولا يحقّ للموسيقار أن يمارس فنّه على سبيل البخت والمصادفة. وقد يعني ذلك أن التّجربة الموسيقيّة قد استنفذت الخيالَ في جميع ممكناته الجوهريّة. والفارابي يذهب في الأمر مثل هذا المذهب. إلاّ أنّه يرى لتجديد الخيال سبيلاطريفًا هو العلم. ولهذا السّبب وظّف الفارابي علم الموسيقى النّظريّ توظيفًا لم تكن تسمح به روح العصر الّذي عايشه. فالفيثاغوريّة ترى في علم الموسيقى النّظريّ رياضةً روحيّةً تُطلَب لأجلالتّطهّر الرّوحيّ. وذلك بدعوى أنّ الموسيقى الحقيقيّة هي موسيقى السّماء أيْ موسيقى الكمال والطّهارة. أمّا أفلاطون فيرى فيه وجهًا من وجوه “الجدل” بدعوى أنّ النّسب الموسيقيّة هي قانون التّأليف الّذي عنه انبثّت روحُ العالم. وكلا التّصوّرين يعتبر العلاقات التّناغميّة طبائعَ لا يمكنتغييرها ولا معنى للتّجديد فيها إلاّ الفساد والانحطاط. فالنّسب التّأليفيّة مبدأ أنطولوجيّ وقانون كونيّ يحكم السّماء والنّفس. ولهذا السّبب لم يكن اكتمال الموسيقى ممكنًا داخل هذه الرّؤية إلاّ من باب المحاكاة الّتي لا يحقّ للإنسان فيها أيّ ضرب من ضروب الإبداع أو الخيال الإنشائيّ.

أمّا الفارابي فيذهب إلى أنّ العلم الموسيقيّ هو المخرج الوحيد من المأزق الّذي آلت إليه الموسيقى بعد أن اكتملت من حيث هي فنٌّ. بمعنى أنّه يوظّف كلّ قدرات العقل لأجل تجديد الخيال.وهذا لعمري موقفٌ تحديثيٌّ لم يكن غريبًا عن الرّوح السّائدة في العصور القديمة فقط بل ولا نكاد نجد من معاصرينا من يمثّله في مجال الإبداع والبحث الموسيقيّين.

المطلوب من علم الموسيقى النّظريّ أن يمدّ الموسيقار بمادّة الخيال الموسيقيّ أيْ بالسّبل المختلفة للتّجديد في الموسيقى من داخل الاستعداد الذوقيّ للإنسان لا ضدّه. وهو مطالبٌ أيضًا بأن يمدّ الموسيقار بمختلف التّقنيّات والحيل حتّى يكون قادرًا على إنشاء الصّوت في أكمل هيئة ممكنة. وهكذا لا يقترح الفارابي العقل بديلا عن الخيال وإنّما يقترحه معزّزًا لقدرته الإنشائيّة. كما أنّه لا يضع العلم معيقًا للإبداع وإنّما يفترضه شرطًا من شروطه الأساسيّة.

وما كان للفارابي ليضع العقل والعلم في خدمة الخيال والإبداع إلا لأنّه يرى أنّ للإبداع الموسيقيّ دورًا هامًّا في بناء المدينة الفاضلة من جهة ما هي مدينةُ العقل العمليّ ومن جهة ما هي مدينةٌ لأجل بناء الرّأي المشترك. فبأيّ معنى يكون التّخييل الموسيقيّ وجهًا من وجوه المجهود المدنيّ لتحصيل المعرفة وتحقيق السّعادة؟

سيكون هذا السّؤال موضوع مقال آخر تحت عنوان التّخييل الموسيقيّ وسياسة الحقيقة عند الفارابي حيث سيتبيّن لنا أنّ للفنّ دورًا حاسمًا في هذه السّياسية وهو المتمثّل في الاستعمال المدنيّ للذّة أيْ في تحويل اللذّة -من حيث هي مبدأ حيويّ موجّه لقوّة النّزوعيّة نحو موضوعات الشّهوة والغضب والتعقّل- إلى مبدأ للتّعليم العموميّ وتخليق الجمهور.


الهوامش

١/ فقد نـُسب إلى فيثاغورس سماع موسيقى السّماء وذلك لصفاء روحه. انظر في ذلك رسالة الموسيقى من ” الرّسائل ” لإخوان الصّفاء. القسم الرّياضيّ, المجلـّد الأوّل, ص, 208 و ص 226.( دار صادر, بيروت, 1999 ) وتـُنسب الموسيقى من جهة الاشتقاق اللـّغويّ عند اليونان إلى ربّات الفنون Les Muses وقد أرجعها المسلـّم الموصليّ إلى موسى. انظر في ذلك الدرّ النـّقيّ في علم الموسيقى. ص, 13.( قدّم له وعلـّق عليه, جلال الحنفي. مطبعة دار الجمهوريّة, بغداد, 1991 ). كانت الموسيقى داخل إبستيميّة العصور القديمة فعلا معجزًا لا يأتيه إلا أصحاب الحكمة أو النـّبوّة. يقول إخوان الصّفاء: ” إعلم يا أخي أيّدك الله وإيّانا بروح منه بأنّ الصّنائع كلـّها استخرجتها الحكماء بحكمتها ثمّ تعلـّمها النـّاس منهم وبعضهم من بعض , وصارت وراثة من الحكماء للعامّة… فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماء بحكمتها وتعلـّمها النـّاس منهم”. رسالة الموسيقى. ص,186. المصدر ذاته المذكور أعلاه. بل إنّ الكندي أرجع صنع الآلات الموسيقيّة إلى الذكاء الخارق الـّذي اختصّ به الحكماء دون سائر النـّاس, يقول: ” فلمّا أبانوا أنـّه لا شيء محسوس إلا وعنصره متكوّن من الأركان الأربعة والطـّبيعة الخامسة, أعني النـّار والهواء والماء والأرض والفلك, بعثتهم الفطنة ودلـّهم الذكاء وأطلعهم الفكر على إبداع آلات صوتيّة وتريّة تتوسّط بين النـّفس وبين تأليف العناصر والطـّبيعة الخامسة باتـّخاذ آلات. وصنعوا آلات وتريّــة كثيرة تناسب تأليف الأجسام الحيوانيّة ويظهر منها أصوات مشاكلة للتـّرتيــب الإنسيّ ليُظهروا بذلك للعقول الذكيّـة مقدار شرف الحكمــة وفضلها “. كتاب المصوّتات الوتريّة من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة أوتار. موجود في” مؤلـّفات الكندي الموسيقيّة “. ص, 71.( تحقيق زكريّا يوسف. مطبعة شفيق, بغداد, 1962 ).

٢/ استعمل الفارابي صفة المسلجس لوصف فئة من الشـّعراء قائلا: ” إنّ الشـّعراء إمّا أن يكونوا ذوي جبلـّة وطبيعة متهيّئة لحكاية الشـّعر وقوله ولهم تأتّ جيّد للتـّشبيه والتـّمثيل… ولا يكونوا عارفين بصناعة الشـّعر على ما ينبغي…وإمّا أن يكونوا عارفين بصناعة الشـّعراء حقّ المعرفة حتـّى لا يندّ عنهم خاصّة من خواصّها ولا قانون من قوانينها في أيّ نوع شرعوا فيه, ويجوّدون التـّمثيلات والتـّشبيهات بالصّناعة, وهؤلاء هم المستحقـّون اسم الشـّعراء المسلجسين… وإنّ المتخلـّف في الصّناعة ربّما أتى بالجيّد الفائق الـّذي يعسر على العالم بالصّناعة إتيان مثله, ويكون سبب ذلك البخت والاتـّفاق, ولا يستحقّ اسم المسلجس “. مقالة في قوانين صناعة الشـّعراء. ص.ص, 155-157. موجود في ” أرسطو, فنّ الشـّعر “.(تحقيق عبد الرّحمان بدوي. دار الثـّقافة, بيروت, دون تاريخ).

٣/وينطبق هذا الرّفض على جميع ممارسات الإنسان, بما فيها أعلاها مرتبة وهي ممارسة التـّفكير. فالبعض يزعم أنّ ” المنطق فضل لا يُحتاج إليه ما دام يمكن أن يوجد إنسان كامل القريحة لا يُخطئ الحقّ أصلا “. والفارابي يرفض هذا الإدّعاء الواهم رفضًا قاطعًا. انظر إحصاء العلوم. الفصل الثـّاني في علم المنطق, ص, 74. ( تحقيق عثمان أمين. دار الفكر العربيّ ومطبعة الاعتماد, مصر, 1948).

٤/ الموسيقى الكبير . ص, 99. ( تحقيق وشرح غطـّاس عبد الملك خشبة. مراجعة وتصدير محمود أحمد الحفني. دار الكتاب العربيّ للطـّباعة والنـّشر, القاهرة, دون تاريخ ).

٥/ ن.م. ص, 74-75.

٦/” والـّتي أحدثت الألحان هي فطرٌ ما غريزيّة للإنسان “. ن.م. ص, 70. ” فقد بيّنـّا كيف حدثت هذه الصّناعة بالطـّبع وكيف نشأت إلى أن كملت. وأمّا حدوثها في الإنسان بالتـّعليم فإنّ أجزاءها العمليّة تحدث أوّل شيء بأن يتشبّه الإنسان… بآخر قد حصلت له الهيئة… فإن كان قد حصل له تمهّر وقوّة على سرعة الفعل وإلا أدمن على الفعل إلى أن يرتاض فتحصل له حينئذ هذه الهيئة إمّا على التـّمام أو على المقدار الـّذي في طباعه أن يبلغه… فلا يزال يتكرّر ذلك عليه إلى أن تحصل له القوّة على صيغة أمثال تلك الألحان وذلك مثل من يتعلـّم سائر الصّنائع العمليّة مثل البلاغة والكتابة وما جانسها “. ن.م. ص.ص, 81-82.

٧/ ن.م. ص, 48.

٨/ ن.م. ص, 49.

٩/ ن.م. ص, 51. الهيئة الأولى تـُسَمَّى ” هيئة أداء اللـّحن “, وتـُسَمَّى الثـّانية ” هيئة صيغة اللـّحن “.

١٠/ ن.م. ص, 51.

١١/ ن.م. ص, 53.

١٢/ ن.م. ص, 54.

١٣/ ن.م. ص, 56.

١٤/ التي هي إجمالا, قوّة الإحساس للمسموعات وأن يكون الذوق طبيعيًّا فلا يستلذ المؤدّي ما ليس طبيعيًّا لسمع الإنسان والقدرة على التمييز بين الجيّد والرّديء من الألحان.

١٥/ ن.م. ص, 55.

١٦/ ن.م. ص, 56.

١٧/ الهيولى في مفردات الفلسفة العربيّة هي كلمة معرّبة عن اللّسان الإغريقيّ وتفيد معنى “المادّة الأولى” أيْ المادّة قبل أن تتشكّل في كيانات حسّيّة هي موجودات العالم المادّي. فالمادّة لها دائمًا صورة حسّيّة أمّا المادّة الأولى (الهيولى) فلا صورة لها وهي مفهوم عقليّ مجرّد.

١٨/ ن.م. ص, 57.

١٩/ ن.م. ص, 60.

٢٠/ انظر, ن.م. ص, 62.

٢١/ ن.م. ص, 62.

٢٢/ يقول الفارابي: “… والجمال والبهاء والزّينة في كلّ موجود هو أن يوجد وجوده الأفضل ويحصل له كمالـُه الأخير… واللـّـذة والسّرور والغبطة إنـّما ينتج ويحصل أكثر بأن يُدرَكَ الأجمل والأبهى والأزين بالإدراك الأتقن والأتمّ “. آراء أهل المدينة الفاضلة. ص, 52-53. ( قدّم له وعلـّق عليه ألبير نصري نادر. دار المشرق, بيروت, الطبعة السّادسة 1991.

٢٣/ الموسيقى الكبير. ص, 51.

٢٤/ انظر , ن.م. ص.ص, 107 – 110. و ص.ص, 120 – 121. حيث يقرن الفارابي بين الموسيقى واللـّغة ويذهب إلى أنّ الضّرورة في الموسيقى أشدّ من الضّرورة في اللـّغة وذلك لأنّ الضّرورة اللـّسانيّة إنـّما هي بالمواضعة أمّا الضّرورة الموسيقيّة فهي طبيعيّة لا يجوز غيرها.

٢٥/ ن.م. ص.ص, 49 – 50.

٢٦/ ن.م. ص.ص, 75 – 76.

٢٧/ ن.م. ص, 55.

٢٨/ يقول الفارابي: ” وأمّا هيئة صيغة اللـّحن فهي تحدث بالإدمان على سماع الألحان المختلفة والمقايسة بينها وتأمّل مواضع النـّغم في لحن لحن يُقصد به أمر أمر. فلا يزال يتكرّر ذلك عليه إلى أن تحصل له القوّة على صيغة أمثال تلك الألحان “. ن.م. ص, 81. ونحن نشدّد هنا على أهميّة المقايسة والتـّأمّل من حيث هما الأساس المعرفيّ للتـّلحين. وهذا الأساس هو الـّذي يجعل الملحّن مالكـًا لفنـّه امتلاكـًا صناعيًّا لا على سبيل الاعتباط والعفويّة.

٢٩/ انظر , ن.م. ص, 75. وص.ص, 98 – 99.