مجلة حكمة
سيبالد بروست

شارع الحوانيت المعتمة لموديانو، وتقاطعات الذاكرة مع بروست وسيبالد – أحمد الحقيل


تقاطعتُ أول مرة مع موديانو قبل أشهر من فوزه بنوبل، حينما ذكره بيتر هاندكه كأحد الفرنسيين الذين قام بترجمتهم إلى الألمانية. ولكنني حينها لم أبالي كثيرا بملاحقته. ثم فاز بنوبل، وكذلك لم أبالي كثيرا بملاحقته (يجب ألا تجعل الجوائز تتحكم في توجيهك القرائي فضلا عن أن تثق بها أصلا). ثم صادفته في قائمة الأسماء التي تتلمذت على يد ريمون كينو، أحد مجانين السرد في فرنسا أثناء أربعينيات القرن العشرين. فكرة اهتمام طفيفة تتكوّن. ثم قرأت أخيرا إشارة من الألماني سيبالد يذكر فيها قدرة موديانو على النفوذ إلى الذاكرة بدقة حميمية حلمية. ولأن سيبالد يعتبر من أفضل كتاب الذاكرة، تشكلت فكرة الاهتمام بموديانو بشكل نهائي.

ولكن قبله، لا بد أن أعود إلى مارسيل بروست. لا بدّ دائما أن تعود إلى مارسيل بروست مع الفرنسيين.

لماذا موديانو إذاً؟ لماذا يقدم كوارث شرعي لبروست؟

بروست من أمهر من تعاملوا مع الذاكرة. الذاكرة البانورمية التي يتم تفكيكها إلى فسيفساء مدببة من الاستطرادات والتشابك والتيه. كل عضلة تستجيب عصبيا لحركة السارد اللامقصودة تدفعه إلى استرجاع ذكرى تقاطعت مع ذات العضلة، أوتوماتيكيا. ذاكرة بروست حسية وإجبارية بدرجة كبيرة، وكأن الشخص مجموعة ذكريات تتحكم في المسار الحاضر. ولذا لا يوجد ما هو حاضر، كل شيء انعكاس للماضي، فالحاضر ليس إلا تكرار حدوث الماضي كما يقول أوجين أونيل. ولهذا يُعبِّـر عنها بتدفق تأملي وشعري كثيف. موديانو ذهب بالذاكرة إلى مسار مختلف، مسار الانفصال عوضا عن المحسوس. الذاكرة محرك خارجي يعمل خارج الذات. الشخص في هذه الرواية لا يتذكر من يكون، لا يعرف شيئا من ماضيه القديم، تخدعه الصور والشكوك التي تقنعه ببساطة أنه كان ما يراه الآن، ثم يكتشف لاحقا أنه لم يكن. حتى الشكل، ملامح الوجه، الصورة الحسية لك، لا يمكن الثقة بها، معرضة للتشابه الذي قد يخدعك حينما تقتنع أنك ترى وجهك في صورة فوتوغرافية لشخص ما ثم تكتشف لاحقا أنك لم تكن هو. الذاكرة لدى موديانو متاهة من الانفصال، من اللاانتماء، من الفجوة التي تفصل بين الحاضر والماضي. موديانو يعكس معادلة بروست ويؤكد أننا لسنا الماضي، وإنما الماضي هو الكذبة الكبيرة المشكوك في وجودها، ولذا شخصياته مجوفة، مفرغة من انتمائها، جميعهم يتذكرون ماضيهم وكأنه لم يكن، وكأنه شيء حدث خارج محيط ذاتهم، وهو ما يجعلهم يفقدون شعورهم بذاتهم، فما هي هذه الذات؟! من أنا؟! موديانو يُعمّق سؤال كافكا القديم: هل أنا نفسي فعلا أم صنع مني الآخرون الشخص الذي أنا عليه؟! ويطرح سؤالا معاكسا: هل أنا الذي صنع مني الآخرون الشخص الذي أنا عليه؟! هل أنا فعلا ما أنا عليه الآن؟! شخصيات موديانو عبارة عن بخار، طيف، جملة أوصاف حسية قابلة للتلاشي مع أول نفثة هواء.

الذاكرة لدى الألماني سيبالد مختلفة أيضا. إنه يتناول الذاكرة بعقلية محقق، تحرّي. الذاكرة لديه مرادف للتاريخ، حيث أنها جملة من الأحداث والصور الموثقة واللاموثقة. ولذا سيبالد في روايته يخترق الذاكرة وكأنها شارع تسير فيه وتسجل معلومات البيوت على حافته: اللون، الحجم، المظهر، الأشخاص. سيبالد في the ring of Saturn يخترق الريف الإنجليزي ويتحدث عن الموسوعيّ توماس براون وقصرٍ أرستقراطيٍّ فقد بريقه ليتحول إلى متحف ومطاحنٍ قديمة على حافة شواطئ مهجورة وأكاديميين زاملهم في فترة ما. سيبالد يتعامل مع الذاكرة كأكاديمي فوقي، يسجل ملاحظاته ويتوارى سريعا بصمت. ولكنه يتوه تماما كما يتوه موديانو وبروست، ولكن توهانه يأتي من كونه ليس مهتما بالاكتشاف الذاتي، بالتوثيق المصيري. إنه منفصل عن الذاكرة، يعاملها كمستودع محايد للمعلومات، ولذا يضيع كل شيء عدا المعلومة، ويبدو وكأنه يخوض في حلم. هو أقل حميمية ولكنه أكثر بانورامية، وإن جاز لي القول أكثر عمقا. شخصيات موديانو بسيطة، لديها نزعة أوتوماتيكية للتحدث عن ذكرياتها، لا يتعب البطل في محاولة استخراج ما يحتاجه من معلومات، لأن الجميع متورط في رغبة الحديث عما كان. شخصيات موديانو متورطة جدا رغم أنها تريد الانفصال بتناقض، إنها الحراك الوجداني للذاكرة الفردية المثقلة، الذاكرة التي تكاد ترى آثار صورها الدخانية على كل الشوارع والأسطح والبيوت التي مرت بها. وأنت تقرأ الرواية ستشعر بذلك فعلا، بأن كل مكان يمر به البطل تبدو على أسطحه صور كل ما مر به، حتى صورة البطل نفسه تبخر منه إلى المكان لتنضم إلى البقية، في حفلة دخان باهت هو الذي يسبب شحوب الأماكن القديمة التي نرتادها: إنه شحوب ذكرياتنا كلنا.

ذاكرة موديانو موغلة في الكآبة، الحزن الرتيب الذي يطبع الأشياء التي تقف فوق الأرصفة برثاثة أزلية، تُـكرر تيه انعدام قدرة الاكتشاف والقبض على شيء ما. شخصيات حزينة، موغلة في الحزن الجامد مثل الوجه الذي تصحّر بفعل الشيخوخة حتى اختفت ملامحه، أو تكاد. شخصيات مظلمة تعيش في ظلٍّ شاحب وتحاول قدر المستطاع أن تثبت لنفسها وللآخر أنها “تتذكر” بأن تسرد ذكرياتها المشوشة. هنالك ثقل تطهيري في هذه الرواية، ثقل الوحدة التي يشعر بها كل واحد منا حينما يتذكر شيئا قديما يؤكد له أنه يشيخ وأن ما ذهب لن يعود وأن بقية حياته تكرار لهذا: أشياء تجيء ثم تذهب ولا تعود، ولا يبقى منها شيء كما يقول البطل ولو حتى سحابة الضوء المنبعثة من دودة براقة. هذه الرواية ألم لطيف، ألم ضروري. والأهم: ألم نقي. لا يحاول فرض نفسه، لا يشرعن وجوده بشعرية اكسسواراتية. إنه أكثر حدة من أن يكون مزيفا، أكثر رتابة من أن لا يكون أصيلا. إنه كما يفترض من الذاكرة المثقلة أن تكون. الاستسلام الشاحب المستقر في الظل، ينتظر مصيرا يشبه الانطفاء.