مجلة حكمة
نحو سياسة الحراك - تيم كريسويل / ترجمة: محمود أحمد

نحو سياسة الحراك – تيم كريسويل / ترجمة: محمود أحمد

transitioning-toward-low-carbon-mobility_-a-holistic-approach-to-transition-policy-tim-cresswell-sd_dvd.original
تيم كريسويل

شهدت السنوات القليلة الماضية الإعلان عن “نموذج الحراك الجديد”، وإطلاق مجلة الحراك، وعدد من النصوص الرئيسية ومجموعات من الكتب المحررة التي خصصت للموضوع. ولقد أفادت الأعمال الفكرية المستوحاة من نموذج الحراك الجديد عددا من الكتابات المتناولة لأشكال الحراك وأماكنها التي تبدأ من الحراك بالقيادة وعبر الطرق إلى الحراك بالطيران ومن خلال الموانئ. وهذا ليس المكان المناسب لاستعراضها. والأحرى أن الهدف العام من هذه الورقة هو مواصلة مناقشة الأفكار المتصلة بنموذج الحراك الجديد، وتطوير بعض الأفكار التي ارتبطت به. على وجه الخصوص، تطور هذه الورقة مقاربة استخدمتها في كتاب “على الطريق: الحراك في العالم الغربي الحديث”. ففي هذا الكتاب حددت دور الحراك في عدد من دراسات الحالة، بدءا من الحركات الدقيقة للجسم حتى سياسة السفر العالمية. ولم يتضمن الكتاب على تحليل مفصل لمختلف جوانب الحراك، يبين قوتها السياسية. وهذه الورقة، إذن، محاولة لتوضيح بعض الأفكار الرئيسية لمقاربة نظرية لسياسة الحراك. استراتيجيا، فإنها تستخدم أفكار منظرين آخرين، ومجموعة متنوعة من الأمثلة الواقعية. وهي لا تنتمي لنموذج نظري بعينه، ولكنها تسعى إلى المساهمة في تطوير مقاربة جغرافية للتنقل. فهي جزء من عملية مستمرة من البناء النظري.

تسعى الورقة إلى تحقيق هذه الأهداف بطريقتين رئيسيتين: أولا، تقسيم الحراك إلى ست أجزاء مكونة له (قوة الدافع، والسرعة، والإيقاع، والطريق، والخبرة والعائق) من أجل فهم سياسات الحراك، وثانيا، تطوير مفهوم “مجموعات الحراك” كتشكيلات من الحركات ذات الخصوصية التاريخية والجغرافية، والروايات السائدة حول الحراك وممارساته، والتي تكشف عن أهمية المنظور التاريخي الذي يخفف من الشعور الطاغي بالحداثة والجدة في بحوث الحراك. ومع ذلك علينا أولا النظر في فكرة نموذج الحراك الجديد.

 

هل ثمة نموذج جديد للحراك ؟

لقد اقترح برونو لاتور أن هناك ثلاثة مشاكل مع مصطلح “نظرية شبكة الفاعل” وهي المشكلات المتمثلة في الكلمات “فاعل” و”شبكة” و”نظرية”. والفكرة ذاتها نجدها مع القول بنموذج للتنقلات جديد. فأولا كلمة نموذج توحي بالمعنى الذي قصد إليه كون في فهمه للعلوم الطبيعية التي تتغير عبر الثورات المفاجئة: حيث ما كان سلفا تذروه الرياح داخل التاريخ الأكاديمي. وعلينا أن نكون حذرين بشأن هذا المعنى. فأي دراسة للتنقل تخاطر بالقول بأن المفاهيم الجامدة (ظنا)، مثل الحدود والأطر والمكان والأرض والمناظر الطبيعية، هي من الماضي ولم تعد ذات صلة بعالم القرن الواحد والعشرين كثير التقلب. هذا خطأ، ولكي نكون منصفين، لن يكون قائما في نموذج الحراك الجديد حيث أن الاستقرار له أهمية الحراك. والمشكلة الثانية تتعلق بتنوع فهم صور الحراك الجديد، فلو كان الاهتمام بكلمة “جديد”، فإن هذا يعني أن المهتم معني بنموذج الحراك القديم، ولو كان الاهتمام منصبا على كلمة “تنقلات”، فإن ذلك الاهتمام يعني أن النماذج القديمة اهتمت بالثبات أو الاستقرار. ثاني هذه الخيارات يبدو متعذرا لأن الحركات أيا كان نوعها موضع اهتمام كل العلوم الاجتماعية (لاسيما الجغرافيا) منذ بدايتها.

وفي علم الاجتماع، كانت مفاهيم الحركة والحراك مركزية لدى مفكرين مثل جورج زيمل وعلماء اجتماع مدرسة شيكاغو. وإذا نظرنا لعلم الجغرافيا، سنجد فيه فروعا علمية تهتم بالأشياء والناس في وضع الحركة، بدءا من اهتمام سوير suer بالأصول والتفرق، من خلال تركيز العلوم المكانية على نماذج الجاذبية ونظرية التفاعل عبر المكان ومفاهيم الفضاء الهش عند فورير، حتى المقاربات النسوية وأنماط الحراك اليومي. أعني علوم جغرافيا النقل، ونظرية الهجرة وجغرافيات الزمن والسياحة – والقائمة لا تنتهي. ويمكن أن يقال نفس الأمر على الأنثربولوجيا. وبالتالي فإن سؤالا يطرح نفسه: ما الجديد في نموذج الحراك الجديد؟

على الرغم من كل المحاذير أعلاه، من الواضح أن هناك شيئا جديدا في مناهج مقاربة الحراك حاليا التي تختلف عن المناهج السابقة لدراسة الحركة والهجرة والنقل (إن أردنا ذكر ثلاثة من طرق الحراك التي لطالما درست). فمقاربة الحراك تجمع مجموعة متنوعة من أشكال الحراك عبر مستويات تبدأ من جسم الإنسان(أو أجزاء منه) إلى العالم. هذه المجالات البحثية قد حددت حدودها تخصصات منضبطة وشبه منضبطة قاومت الفهم الكلي للتنقلات. علاوة على ذلك فإن المقاربات المذكورة أعلاه نادرا ما دارت حول الحراك، وإنما تعاملت مع حركة الإنسان كأمر مفروغ منه – مساحة فارغة تحتاج إلى المحو أو التقييد. ففي نظرية الهجرة، تقع الحركة من مكان لآخر لأن المكان الأول يدفع الناس للخروج والآخر يجذبهم إليه، وعلى الرغم من كونها تدور حول الحركة، نجدها تدور حقا حول الأماكن. وبالمثل، كثيرا ما ظنت دراسات النقل ورأت في الوقت عند العبور “الوقت الجامد” الذي لا يحدث فيه أي شيء – وهي المشكلة التي يمكن حلها تقنيا. ولقد بدأت دراسات الحراك والحراك في التعامل مع الحركة على محمل الجد.

لقد ذهبت إلى أن الحراك مرتبط بعلاقة مع الحركة ارتباط المكان بالموقع ، وأن الحراك ينطوي على الانخراط في تحريك البدن، وعلى تمثيلات وممارسات. وعلاوة على ذلك، هذا الانخراط له آثار تاريخية وجغرافية. وهناك مجموعات سائدة من الحراك – أنماط معينة من الحركة، وتصورات عن الحركة وسبل ممارستها، لها معنى في تواجدها معا. ومجموعة الحراك القديمة يمكن لها أن تخترق الوقت الحاضر بطرق مدهشة. ولنا قبل أن ننتقل إلى ستة جوانب لسياسة الحراك أن نعرف الحراك كانخراط في الحركة والتمثيل والممارسة.

 

الحركة، والتمثيل، والممارسة

انظر، إذن، إلى هذه الجوانب الثلاثة لفعل الحراك، أي جوانب حقيقة الحركة المادية: الانتقال من مكان إلى آخر، وتصورات عن الحركة تضفي عليها معنى مشتركا، وأخيرا، ممارسة للحركة متحققة ومختبرة. وفي الواقع هذه الجوانب ليس من اليسير فصلها عن بعضها. فهي مرتبطة ببعضها البعض. والفصل بينها لغرض تحليلي، ولبناء النظرية. ولعل بعض بحوث الحراك تفضل بحث أي جانب من هذه الجوانب الثلاثة. فالمتخصصون في بحوث النقل، على سبيل المثال، بذلوا جهودا لإفهامنا حقيقة الحركة، وكيف تحدث غالبا، بأي سرعة، وأين. وفي الآونة الأخيرة، قدموا لنا معلومات حول من ينتقل وكيف تتغير هويته. ولكنهم لم يبذلوا جهدا كافيا لإفادتنا في التعريف بالتصورات والمعاني الواردة حول الحراك سواء على المستوى الفردي أو على المستوى المجتمعي. ولم يخبرونا كيف يحدث الحراك ويمارس. فحركة الأجساد الحقيقية لم تكن موضع اهتمامهم في دراسات النقل. ولعل فهم الحراك بشكل كلي يعني الالتفات للجوانب الثلاثة سالفة الذكر.

إن الحركة البدنية هي المادة الخام اللازمة لإنتاج الحراك. والناس تنتقل، والأشياء تتحرك، والأفكار تمر. ومع توفر الأدوات العلمية اللازمة يمكن قياس الحركة ووضع خرائط لها. يمكن إجراء القياس باستخدام المعادلات، ومنها نخرج بالقوانين العلمية. هذا التحليل الوضعي للحركة مستخدم بجميع المجالات. فاستخدمت فكرة الحركة البدنية للجسم البشري لتطوير نموذج الحراك في دراسات العلاج الرياضي، والرسوم المتحركة. وفي المدن، يقوم مهندسو النقل بوضع نماذج للحركة المادية الميكانيكية من أجل جعل النقل أكثر كفاءة أو أقل ضررا بالبيئة. وفي المطارات ومحطات السكك الحديدية استخدم المخططون نماذج تحليل المسار النقدي لقياس الوقت المستغرق بين نقطتين والعمل على تقليله. ولذلك فإن فهم الحركة البدنية هو جانب واحد من جوانب فهم الحراك. ولكن هذا لا يفهمنا ماذا تعني هذه الحراك أو كيف تمارس.

وكما يوجد جهود كبيرة لقياس الحراك ووضع نماذج له، كذلك يوجد تصورات عديدة للحركة. فقد تم تصوير الحراك كمغامرة، وشيئا يدعو للملل، وفرصة للتعلم، والحرية، وأمر حداثي، وخطر داهم. انظر إلى الصلات المعقودة حاليا بين حركة المهاجرين ومعاني التهديد التي نراها في استعارات الفيضانات والغرق التي تستخدم من قبل الصحفيين والسياسيين. أو بالأحرى تفكَّر في فكرة الحق في الحراك باعتبارها عنصرا أساسيا في المواطنة الغربية الحديثة التي يتم التعبير عنها في الوثائق القانونية والحكومية. وانظر في جميع المعاني المستدل عليها في إعلانات السيارات أو الهواتف المحمولة. ولنضرب مثلا بواحدة من الممارسات المرتبطة بالتحرك، أعني مسألة المشي التي ارتبطت بمجموعة من المعاني العميقة التي تبدأ من معنى الانصياع حتى التمرد في الأدب والسينما والفلسفة والفنون. وقد انخرط الجغرافيون، وأصحاب النظريات الاجتماعية وغيرهم في نسج القصص حول الحراك. ولقد صورناه في مخيلتنا كأمر مختل، وزائف وبلا أصول، وفي الآونة الأخيرة كدليل على التحرر وآثم وضد الأصول.

وأخيرا، هناك جانب الممارسة. وأعني بها ما نعنيه من ممارسات في حياتنا اليومية، مثل المشي أو القيادة، وأعني بها ما تعنيه النظرية الاجتماعية أي الممارسات التي يتربى عليها الإنسان. فالحراك البشري هو برأيي حراك ممارس أي يقوم به الإنسان ويخبره من خلال جسمه. أحيانا نتعب وتكون الحركة مؤلمة، وأحيانا نتحرك مفعمين بالأمل ونخطو خطوات سريعة. وحين نهم بالسفر تعتمد مشاعرنا في الحركة داخل المطار على هويتنا وماذا يمكن أن نتوقع عندما نصل مقدمة الصف. كذلك تختلف مشاعرنا بشأن قيادة السيارة فهي مصدر للحرية، أو مثيرة للحنق، أو تدعو للشعور بالذنب. وسواء اخترنا الحراك أو اضطررنا إليه، فهو يؤثر علينا. وفي بعض الأحيان تتطابق خبرتنا بالحراك مع تصوراتنا عنها. فنحن نخبر الحراك كشعور بالحرية عندما تقلع الطائرة وترتفع. وفي أوقات أخرى، يوجد تنافر بين التصورات والممارسة. كما هو الحال حين نقف في ازدحام المرور. فخبرة الحراك وممارسته تجمع بين العالم الداخلي للإرادة والعادة والعالم الخارجي للتوقع والإكراه. وفي نهاية المطاف، نقول بأن الجسد هو مصدر إنتاج الحراك البشري وتكراره وتغييره.

إن الانتقال من ألف إلى باء يختلف باختلاف حركة الجسم. فأي دراسة معنية بالحراك عليها أن تشمل على كل ما يقوم به الناس من أعمال عندما يتحركون بطرق مختلفة. فالمشي، والرقص، والقيادة، والتحليق، والجري، والإبحار، ممارسات لعبت أدوارا هامة في بناء النظرية الاجتماعية والثقافية، والفلسفة والرواية. ولننظر في فعل المشي مثلا. يمكننا أن نفكر في طريقة استخدام ميشال دي سيرتو له لدراسة القواعد المتحكمة في المكان داخل المدينة التي تصور مشهدا معد سلفا لتكتيكات المشي الماكرة:

تناور ملحمة المشي التنظيمات المكانية، مهما كان سلطانها الشامل: وهي ليست غريبة عن هذه التنظيمات (فهي تحدث داخلها فقط) ولا تتفق معها (فهي لا تستمد هويتها منها). وتخلق فيها الظلال والغموض.

هذه قصة عن المشي تعيد سرد أدبيات يقف فيها السائر في مقام المتمرد والحر والشخص المستقل في المدينة – بطل المشاة. فممارسة المشي ليست مجرد الحراك من نقطة ألف إلى باء، بل هي، على الأقل جزئيا، تتشكل عبر ما يدور حولها من خطابات. فإمكانية المشي مغلفة بروايات عن الجدارة والأخلاق والجمال التي تتناقض باستمرار مع أشكال الحركة المبالغة في ميكانيكيتها التي يتم تصويرها باعتبارها حركات أقل جدارة، وأصالة، وأقل أخلاقية. وما يهم هو أين تجري عملية المشي – فالمشي في القرن التاسع عشر بباريس مختلف جدا عن المشي في المناطق الريفية في مالي أو السير في الريف البريطاني المعاصر.

وبالإضافة إلى كون المشي حركة بدنية يمكن تتبع آثارها ورسم خريطة لها ويتم تصويرها رمزيا، فإنه أيضا ممارسة متجسدة نخبرها على نحو لم يتم الالتفات لأبعادها الموضوعية أو أبعادها الاجتماعية والثقافية. وهنا تساعد مقاربات الدرس الظاهراتي والنظريات غير التمثيلية في إعطاء نظرة ثاقبة لتجربة المشي. ولعل مجموعة مماثلة من الملاحظات يمكن صياغتها حول كافة أشكال الحراك – أن لها حقيقة مادية، ويتم ترميزها ثقافيا واجتماعيا وتعاش من خلال الممارسة. والأهم من ذلك، أن كلا من أشكال الحراك وجوانبه سياسية – فهي منخرطة في إنتاج القوة وعلاقات الهيمنة.

 

ستة عناصر لسياسة الحراك

أعني بالسياسة العلاقات الاجتماعية التي تنطوي على إنتاج وتوزيع القوة. وأعني بسياسة الحراك كيف تنتج الحراك العلاقات الاجتماعية وتُنتج من خلالها. والعلاقات الاجتماعية بطبيعة الحال معقدة ومتنوعة. وتشمل على العلاقات بين الطبقات والجنسين والأعراق والقوميات والجماعات الدينية، وكذلك هي وعاء لأشكال أخرى من الهوية الجماعية.

والحراك، كما هو الحال مع الظواهر الجغرافية الأخرى، يقع في قلب كل هذه العلاقات. هو مورد يتباين الناس في حصولهم عليه. ذلك أن سرعة شخص تعني بطء شخص آخر. فالبعض يتحرك بطريقة تجعل الآخرين يكونون ثابتين في مكانهم. والأمثلة على ذلك وفيرة. انظر إحضار الأبناء من المدرسة حيث يسمح للنساء بممارسة نموذج كفء للتنقل كثيرا ما حرموا منه. وفي نفس الوقت يؤثر هذا على قدرة الطفل على المشي إلى المدرسة، ويجعل الشوارع أقل أمانا للمشاة. وقليل ما نعرفه حول هذا التشابك بين الجنس والعمر والحراك. وانظر في مسألة فتح الاتحاد الأوروبي للحدود تمكينا لسن شعار الاتحاد الأوروبي، شعار حرية الحركة. وهذا بدوره يعتمد على غلق الحراك على حدود -وفي كثير من الأحيان مطارات- أوروبا الجديدة. فالسرعة والبطء والثبات أمور مترابطة على نحو يجعلها مرتبطة تماما بالسلطة وتوزيعها بين الناس.

إن سياسة الحراك تربو إذا كنا نفكر فيها من جهة الحركة المادية، والتصوير، والممارسة. ومن الواضح أن هناك سياسة للحركة المادية. من الذي يتحرك أبعد؟ من الذي يتحرك أسرع؟ من الذي يتحرك معظم الأحيان؟ هذه كلها عناصر هامة في سياسة الحراك، يمكن للمقاربات التقليدية الإجابة عليها جزئيا في دراسات النقل. ولكن هذه ليست سوى البداية. هناك أيضا سياسة التمثيل والتصوير. أي كيف يتشكل معنى الحراك؟ ما الروايات التي تم بناؤها حول الحراك؟ كيف يتم تصوير الحراك؟ فبعض الروايات التأسيسية للحداثة أنشئت حول حقيقة التحرك الخام – الحراك كحرية والحراك كتقدم. حيث تظهر اللغة اليومية وتكشف بعض المعاني التي تصاحب فكرة الحركة. ونحن نحاول دائما الحصول على مكان ما. ولا أحد يريد أن يكون ثابتا في مكانه أو موحولا. تظهر هذه القصص في كل مكان بداية من إعلانات السيارات حتى نظرية الاقتصاد السياسي.

انظر في فعل المشي مرة أخرى. لقد اقترح منظر الإعاقة مايكل أوليفر أن هناك أيديولوجية للمشي تضفي على المشي مجموعة من المعاني المرتبطة بالإنسان وبالذكر. فعدم القدرة على المشي لا ترقى بصاحبها أن يكون إنسانا كاملا. فالثقافة الشعبية تخبرنا بأن “المشي لمسافة طويلة” هو علامة على الرجولة: والمهن الطبية تكرس نفسها في السعي لجعل أولئك الذين لا يستطيعون المشي يمشون مرة أخرى. وفيها يتم السعي لتطوير جميع أنواع التقنيات التي تمكن الناس من المشي. وتأثير مثل هذه الثقافة الإسعافية، بحسب ما يقوله لنا، يمكن أن يكون تأثيرا مدمرا تماما على أولئك الذين يتلقون العلاج. وكما يقول أوليفر “إن عدم المشي أو رفض المشي تقريبا كاختيار شخصي يهدد سلطة المتخصصين، ويفضح أيديولوجيا السواء الطبيعي ويطعن في ممارسة إعادة التأهيل كلها”. هنا يكون الحراك، ولاسيما المعاني المتصورة المرتبطة بممارسات معينة، هو عمل سياسي للغاية.

وأخيرا، وربما الأهم من ذلك كله، هناك سياسة ممارسة الحراك. كيف يتجسد الحراك؟ كيف يكون الحراك مريحا؟ هل هو قسري أم مجاني؟ فالرجل والمرأة، أو رجل الأعمال وموظف المحليات، أو السائح واللاجئ قد يمر بخريطة تربط النقطة ألف بالنقطة باء بشكل مختلف تماما. فحقيقة الحركة، والمعاني المرتبطة بها، والممارسة المعيشة كلها أمور متشابكة معا. فصورة الحركة يمكن أن تؤثر بالتأكيد على تجربة ممارستها. انظر إلى المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة مثلا. وقارن أحدهم بأحد أعضاء شركة متعددة الجنسيات يتنقل بين مدن العالم. وانظر لصورة قطار البولمان الذي يتحرك خلال المناظر الطبيعية في أمريكا أواخر القرن التاسع عشر. ولعل تجد في المقطع التالي وصفا يقدمه صحفي في برنامج أخبار شيكاغو:

إن العالم يحترم الرجل الغني الذي اعتاد أن يكون متجولا حول العالم، ويركب كابينة الدرجة الأولى وسيارات البولمان، بل ولديه ميل للنظر شذرًا للمتشرد الذي يضطر لاستخدام المقطورات، تلبية لهذا الدافع القوي جدا، يرفع اللوح الموجود تحت البولمان أو بطرق أخرى يغامر بسلامة حياته وسلامة عظامه.

هنا لدينا بالضبط نفس فعل الانتقال من النقطة ألف للنقطة باء ولكننا لدينا ممارسات ومعاني مختلفة تماما عن الحراك. فالرحالة يجلس في مقعد فخم مخملي ويختار من قوائم النبيذ الطويلة، في حين يسافر المتشرد وهو على وشك الموت على لوح خشبي غير مستقر على محاور عجل نفس عربة النقل التي يركبها الرحالة. إن الرحالة يدل على عالم مختلف عن عالم المتشرد. والحكايات والخطابات المحيطة بهم تجعل تنقلاتهم ممكنة، وتؤثر في هذه الممارسات المتباينة. وفي الواقع، منذ خمسين عاما لم يكن هناك وجود للرحالة والمتشرد، تماما كما لم يوجد عربة البولمان أو طريق السكك الحديدية العابرة للقارات. هذه الأماكن، والذوات والممارسات متشابكة في تلك اللحظة بالذات.

يبدو أن هناك لا شك في أن الحركة مورد من الموارد الرئيسية للحياة في القرن الواحد والعشرين، واختلاف الناس في الحصول عليها وامتلاكها هو الذي ينتج بعض الاختلافات البالغة اليوم. ولكن هذه الحجة لا تزال موحية أكثر من كونها محددة. ولا تزال هناك مهمة تقسيم الحراك إلى جوانب مختلفة من التحركات، لكل منها دور في بناء التسلسل الهرمي للحركة وسياسة الحراك. وفي هذه العملية نستطيع التعرف على كيف يصبح الحراك والحراك سياسيا. سأتناول لاحقا ستة جوانب للتنقل، ولكل منها سياسة، من الضروري النظر فيها.

أولا – لماذا يتحرك الإنسان أو الأشياء؟ فالشيء الواحد لابد أن يمتلك قوة خارجية تدفعه للتحرك. فيما هذه القوة المحركة تبدو مع البشر معقدة لأنها تأتي من داخل الإنسان ومن خارجه. كما تمتاز مثل هذه القوة الدافعة بأن هناك فارق هام بين أن يكون الإنسان مجبرا على الحراك أو أن يختار ذلك طوعا. هذا الفارق هو في صميم مناقشة زيجمونت بومان في تمييزه بين السائح والمتشرد: أولئك “العليون” مقتنعون بأن سفرهم عبر الحياة برغبة قلوبهم واختيارها فيختارون وجهتهم وفقا للأفراح التي يمنون بها. وهؤلاء “السفليون” يطردون مرارا وتكرارا من مواقع يفضلون البقاء فيها …. وإذا لم يتحركوا، فغالبا ما يسحب الموقع بعيدا من تحت أقدامهم، لذلك يشعر الواحد منهم وكأنه في ارتحال.

بطبيعة الحال، فإن الفرق بين الاختيار وعدم الاختيار غير واضح أبدًا وهناك درجات بينهما. حتى أن أعضاء النخبة كثيري الحراك، الذين ينتقلون على ما يبدو بسهولة عبر العالم، يجب أن يشعروا أنهم مضطرين لتسجيل الدخول إلى الفنادق ولحجز رحلات الدرجة الأولى إلى وجهات بعيدة. ومع ذلك، فإن هذا الفارق الأساسي بين الحرية والاضطرار عند الحراك هو محور أي تسلسل هرمي، وبالتالي أي سياسة للتنقل. فاختيار الحراك أو العكس أمر أساسي لكافة حقوق الإنسان في الدولة القومية وداخل الأنظمة “العالمية”.

ثانيا – ما مدى سرعة الإنسان أو الأشياء عندما يتحركان؟ فالسرعة هي مورد ثمين وموضوع استثمار ثقافي كبير. ونراها لدى بول فيريليو، في اتصالها بتطور التكنولوجيا العسكرية خاصة، هو المحرك الرئيس للتطور التاريخي. ففي كتابه السرعة والسياسة وفي غيره، يرسم صورة لسرعة متزايدة تغمر الإنسانية. وبحسب فهمه، فإن أمورا شديدة الوضوح مثل المكان هي نتاج سرعات متغيرة وليست نتاج القانون والثبات. وهو يفترض “علما للسرعة” يمكنه مساعدتنا في فهم مأزقنا الحالي. وكلما كنا أسرع، تعرضت حرياتنا لمزيد من المخاطر:

إن عمى سرعة وسائل نقل الدمار ليس تحريرا من عبودية الجغرافيا، ولكنها إبادة للمكان، كمجال لحرية العمل السياسي. نحن فقط بحاجة إلى الرجوع إلى الضوابط والقيود الضرورية المفروضة على البنية التحتية للسكك الحديدية، والبنية التحتية لمجاري الهواء أو الطرق السريعة لمعرفة الدافع القاتل: كلما ازدادت السرعة، تقل الحرية أسرع.

تصبح السرعة في ذروتها فورية – فسرعة الضوء التي يدعيها فيريليو هي في قلب العولمة. إنها السرعة التي يمكن أن تنتقل بها المعلومات في جميع أنحاء العالم ولها تأثيرات عميقة على الأماكن الصلبة والدائمة نسبيا.

ولكن السرعة البشرية هي مركز الهرمية في فعل الحراك. فأن تكون قادرا على الوصول إلى مكان ما بسرعة مسألة ترتبط ارتباطا قويا بالتفرد. حتى في السفر الجوي – حيث منذ زوال الكونكورد، جميع درجات سفر للركاب لها نفس السرعة – فهؤلاء العليون، بتعبير بومان، قادرون على المرور بسلاسة عبر المطار إلى السيارة المتوقفة بالقرب من المحطة. وفي المطارات مثل مطار شيبول بأمستردام، يستطيع المسافرون من رجال الأعمال التوقيع على خطة بريفيام، حيث يتطوعون بإجراء المسح الضوئي لقزحيتهم للقيام بمعالجة بيومترية في خط الهجرة السريع. وهذا يحرر مسئولي الهجرة لمراقبة خط الوافدين الأجانب البطيء الذين هم ليسم مسافرين من رجال الأعمال. وعلى هذا النحو تترابط السرعة والبطء منطقيا وعمليا. فليست دائما السرعات العالية التي هي موضع تقدير. انظر إلى انتقالات الغذاء والثقافة البطيئة. كيف يمكنك أن تكون من الطبقة البرجوازية؟ ومن لديه الوقت والمكان ليكون بطيئا بمحض إرادته؟ وعلى حد قول جون توملينسون فيما ببطيء حركة المدينة الإيطالية، أي مدينة سيتا البطيئة:

إن مدينة سيتا البطيء، عند تنمية البلدات الصغيرة (خمسون ألف نسمة أو أقل) تمثل مصالح دائرة مكانية وثقافية معينة ورأس المال. بمعنى أنها يمكن اعتبارها جيوب دفاعية عن المصلحة، بدلا من أن تمثل نموذج معقول لمزيد من التحول الاجتماعي العام.

بالنسبة للبعض، البطء أمر مستحيل. انظر للعمال في فيلم العصر الحديث لتشارلي شابلن. ففي المشاهد الافتتاحية الشهيرة نرى صفًا من العمال بالقرب من السير المحيط بالمكسرات كعنصر غير محدد في خط الإنتاج الضخم. ونرى مدير المصنع يقرأ الجريدة ويتمتع بتناول الإفطار على مهل. ويتم مقاطعة هذا عندما يدلي بأوامره “بزيادة السرعة” على خط الإنتاج أدناه. وهنا يستخدم شابلن مبادئ مذهب تايلور لنقد إنتاج العمال السريع عبر الزمن والحركة. هنا السرعة ليست بالتأكيد ترفا. بل فرض يعاني منه هؤلاء “السفليون”.

الثالث – بأي إيقاع يتحرك الإنسان أو تتحرك الأشياء؟ الإيقاع عنصر هام من عناصر الحراك بمستويات مختلفة. وتتكون الإيقاعات من لحظات متكررة من الحركة ومن الراحة، أو بالأحرى، ببساطة حركات متكررة لها مقياس معين. ولعل مخطط هنري لوفيفر لتحليل الإيقاع كوسيلة لتفسير العالم الاجتماعي مخطط موحي للغاية. حيث يعيد إلى الأذهان المفاهيم الظاهراتية عن “مكان-الباليه “التي وضعها ديفيد سيمون وأعيدت مؤخرا في جغرافيا الإيقاعات عند توم ميلس. ولكن على عكس سيمون، يحدد لوفيفر كيف تكون الإيقاعات، كتلك المرئية بأي ساحة بالمدينة، إيقاعات لها عضويتها، وحيويتها، وتكوينها الداخلي والخارجي، وميكانيكيتها، وطابعها القسري. فالإيقاع، عند لوفيفر، هو جزء من إنتاج الحياة اليومية، وبالتالي، “يبدو طبيعيا، عفويا، لا قانون له غير قانون انطلاقه. غير أن للإيقاع له دائما طابع خاص (الموسيقى والشعر والرقص والجمباز، والعمل، الخ) وله معيار يقيسه. وفي كل مكان يوجد إيقاع، وهناك إجراء، وهو القانون، والتزام متوقع ومحسوب، وهو مشروع. الإيقاع، إذن، جزء من أي نظام اجتماعي أو فترة تاريخية. وتشمل حواس الحركة هذه الحواس التاريخية للإيقاع داخلها. حتى أن الإيقاعات العضوية المتجسدة، بحسب ما يفترض، التي نجدها لدى السائر تختلف تاريخيا: حيث “تظهر الأفلام القديمة أن طريقتنا في المشي قد تغيَّرت على مدار القرن: فمشية المتبختر، لها إيقاع لا يمكن تفسيره بالتقاط الصور”.

وبشكل حاسم، بحسب رأي لوفيفر، الإيقاع منخرط في إنتاج النظام الاجتماعي والطعن عليه بموضوعية، ولكي يكون هناك تغيير، لابد للجماعة الاجتماعية، والطبقة أو الطائفة أن تتدخل بأن تطبع بإيقاع العصر، سواء كان ذلك عن طريق القوة أو خلسة. وفي الواقع، من الممكن أن نرى سياسة للإيقاع عبر مجموعة من الأنشطة البشرية. فمثلا نجد إيقاعات بعض أنواع الموسيقى والرقص قد خيبت آمال “العليين”. ومنها موسيقى الجاز، والبانك والراف التي أثارت استفزاز بعض المتفرجين. فموسيقى الراف أدت إلى نشوء قانون العدالة الجنائية والنظام العام لعام 1994 في المملكة المتحدة، الذي أشارت صراحة إلى الإيقاعات المتكررة بين أسبابه لتضييق الخناق على الناس الذين يلهون. ولكن الإيقاع هام بطرق أكثر خبثا. ويمكن بتحليل المشية الآن التعرف على الأجساد التي تتحرك بإيقاعات غريبة في المطارات وتمييزها لعمليات البحث الطويلة والمراقبة المكثفة. إيقاع غريب من الحركات على مدى فترة زمنية طويلة يمكن أن تميز شخصا بها. وحين يقوم شخص ما بكثير من الرحلات المتجهة في اتجاه واحد على فترات غير منتظمة أو تنقله المفاجئ، فإن ذلك يجعله شخصا مشتبها به. جنبا إلى جنب هذه الإيقاعات الغريبة يوجد الحركات الصحيحة والعادية الضمنية للتنقلات اليومية، والرقص الوقور أو الحركات العادية لرجال الأعمال الأوروبيين عبر المطارات. هناك جماليات للتنقل الصحيح، تمتزج بسياسة الحراك.

رابعا، ما الطريق المتخذ؟ فالحراك موجه. يتحرك على طول الطرق والخطوط، معدة له القنوات في المكان. ولا يحدث بالتساوي على مساحة مستمرة كالماء المسكوب الذي يتدفق على طاولة. فالمسألة ليست على غرار تصور جيل دولوز وفيليكس جياتري عن البداوة، أي تصور بدو متنقلين بحرية بما يطعن في تصور “العلم الملكي” العلم الناهض على التقسيم الثابت والتصنيف. الحراك في حد ذاته “موجه” في قنوات مقبولة. والأرض الخلاء حقل دون قنوات أو خطوط. ولعل إنتاج النظام والقدرة على التنبؤ ليست مجرد مسألة الاستقرار في المكان ولكن توجيه الحركة – إنتاج تنقلات صحيحة بتعيين الطرق والمسالك.

لقد وضع ستيفن جراهام وسيمون مارفن فكرة “تأثير النفق” في المشهد الحضري المعاصر. كيف أن توجيه عناصر البنية التحتية بداية من الطرق إلى وصلات الكمبيوتر عالية السرعة، تغمر زمان المدن والمكان فيها. فالمناطق الهامة بالحاضرة ممهدة إليها الطرق، ولذلك هي “في تفاعل مكثف مع بعضها البعض”، في حين أن المناطق الأخرى مفصولة تماما عن هذه الطرق الممهدة. مثال ذلك الطرق السريعة التي تمر بالمناظر الطبيعية لكنها تمكنك فحسب من النزول في المحاور الرئيسية. أو انظر لخطوط القطار فائق السرعة التي تمر من المطار إلى وسط المدينة في حين تتجاوز المدينة الداخلية.

إنظر لتطور شبكة السكك الحديدية في لوس انجلوس. لقد بنيت بنفقات ضخمة لتسهيل العبور السريع من الضاحية إلى وسط المدينة متجاهلة تماما المناطق ذات الأغلبية السوداء وذوي الأصول الاسبانية بالمدينة. وعلى الرغم من أن راكبي القطار من ذوي البشرة البيضاء، لكن راكبي الأتوبيس بأغلبية ساحقة من السود، وذوي الأصول الإسبانية، والإناث. ولقد قامت واحدة من الحركات الاجتماعية الراديكالية، وهي حركة اتحاد راكبي الأتوبيسات، برفع قضية على جمعية النقل من أجل وقف استخدام المال العام في تمويل نظام القطارات على حساب نظام الأتوبيسات. وفي المحكمة دفع محامي الجمعية بأن خطوط القطار تمر عبر كثير من مناطق الأقليات بالمدينة، مثل منطقة واطس. ردا على ذلك، جادل محامي الحركة بأن سكان المناطق التي تمر بها خطوط القطار ليست ذات أهمية. فنقطة وصول خط القطار تعني الاستغناء عن خدمات الأتوبيس. وعلى الرغم من أن خدمات الأتوبيسات تتوقف مرارا على طول الممر (وتخدم 95% من مجتمع الأقلية) قلما توقف القطار وبالتالي فهو يخدم الركاب البيض الذين يسافرون لمسافات طويلة نسبيا. بالإضافة إلى ذلك، أشار محامي الحركة إلى أن خط السكة الحديد أنشيء في نفس مستوى خط الأتوبيس (بدلا من أن يكون تحت الأرض أو مرتفعا)، وأسفر عن ارتفاع عدد الحوادث والوفيات في مجتمعات الأقليات داخل المدينة. فلم يسفر نظام السكك الحديدية عن “آثار نفق” بالمرور عبر مناطق الأقليات لكنه كان أيضا مرتبطا منطقيا واقتصاديا بنقص خطوط الأتوبيسات المريحة وبزيادة معدلات الوفاة والإصابات بين سكان المدينة.

خامسا – كيف يشعر؟ فالحراك الإنساني، مثل المكان، مفعم بالتأكيد بالخبرات. والتحرك عمل مستهلك للطاقة. يمكن أن يكون عملا صعبا. كما يمكن أن يكون لحظة ترف وتدليل. وترتيب المقاعد على متن رحلة جوية عبر المحيط الأطلسي هو استعارة نموذجية تماما لسياسة الحراك المجربة. فالطبقة العليا، الأولى، أو الطبقة الخبيرة توفر لك مكانا واسعا، وغذاء خفيفا، والهواء النقي وأكثر من مرحاض للشخص الواحد، من بين المزايا الأخرى. أما أبناء الطبقة الدنيا من يقبعون في الخلف فهم يعانون من الزحمة وعدم الراحة، والهواء الملوث، ويقفون في صفوف لدخول المرحاض. ومن ثم يكون جسم الفقير متجمدا ومختنقا معلقا في عجلات الطائرة في انتظار أن يلقي به صاحبه في إحدى ضواحي المدينة العالمية.

وانظر في المشي مرة أخرى. لقد وصف تيم إنجولد كيف أن المشي (والى حد كبير كل أنواع السفر) عمل مرهق، عمل يحسن فيه المرء أداءه: “إن الأثرياء لم يسافروا من أجل السفر لذاته، مع ذلك، أو لأجل ما به من تجارب. فالسفر، وخاصة السفر على الأقدام، هو عمل مرهق – هو العناء ذاته- ولابد من تحمله للوصول إلى الوجهة المرادة”. وقبل قيام الشعراء الرومانسيين بتحويل المشي لعمل من أعمال الفضيلة، كان “المشي فعلا يقوم به الفقراء والمجرمون، والشباب، والجهلاء. فقط في القرن التاسع عشر، على غرار ما يرد في شعر وردزورث وكوليردج، اعتاد المرفهون المشي كغاية في حد ذاته، بعيدا عن الحدائق الخضراء أو المعارض الفنية”. وحتى ذلك الحين كان المشي مرتبطا بتطور أشكال النقل الميكانيكية، مما سمح للسعي بجدية للبيئات ذات المناظر الخلابة للمشي بها. أما الفقراء، الذين لم يتأثروا بشعر التجوال عند وردزورث وكوليردج، لم يخبروا المشي بطريقة جديدة، أكثر إيجابية. كان لا يزال شيئا مرهقا.

سادسا – متى وكيف يتوقف؟ أو أي نوع من العوائق يواجهه المتنقل؟ ليس هناك آلة دائبة الحركة، ومع ذلك لا تتوقف الأشياء على الرغم من النبوءات الوحشية التي أتى بها فيرليو وغيره. لقد أتى علماء المكان بفكرة “عائق المسافة” كجزء من تطويرهم لنماذج الجاذبية. هنا المسافة بين نقطتين أو أكثر من النقاط التي تقف كعائق. ولكن في عالم فوري غير ممهد، عالم أصبح فيه الاتصال “متغيرا هاما في تقييم إمكانية الوصول”، تتسم العوائق بالخصوصية والتنوع. كما هو الحال مع مسألة أسباب الحراك (القوة المحركة) نحن بحاجة إلى إيلاء اهتمام بعملية التوقف. هل هو خيار أم قسري؟

إن جراهام ومارفن عندما اهتما بمدينة التدفقات، يستندان إلى أعمال مانويل كاستلز وكارلو إزاشيلي، فيذهبان إلى أن النقاط الجديدة للعوائق ليست أسوار المدينة ولكن الحدود المحلية المعززة حديثا. “فالتواصل العالمي بين المناطق الهامة للغاية، عبر شبكات البنية التحتية القوية، يصاحبه تعزيز الاستثمار في مجال الأمن، ومراقبة الدخول، والبوابات، والجدران، والدوائر التلفزيونية المغلقة والتعزيز المتناقض للحدود المحلية على الحركة والتفاعل داخل المدينة”. وواحدة من آثار النفق هو إنتاج جيوب جديدة من الجمود داخل المدينة. فالحركية الاجتماعية والثقافية تعني إعادة النظر في الحدود، التي ميزت حافة الأراضي واضحة المعالم، ولكنها ظهرت الآن في كل مكان. فالمطارات حدود واضحة في الفضاء الرأسي.

وفي كثير من الأحيان بعض الناس، وربما أصحاب الإيقاعات المشبوهة، يتوقفون عند الحدود الوطنية – أحيانا لساعات، وأحيانا فقط ليتم إرجاعهم من حيث أتوا. ولا يزال السود في المدن الرئيسية في جميع أنحاء الغرب أكثر عرضة للتوقيف من قبل الشرطة حتى الآن بسبب التنميط العنصري وبسبب الجريمة الأسطورية: “أن تقود وأنت زنجي”. وفيما بعد الحادي عشر من سبتمبر، والناس الذين يبدون ظاهريا من منطقة الشرق الأوسط يوقفون كثيرا في لندن من قبل الشرطة للاشتباه في الأنشطة المرتبطة بالإرهاب. وفي حالة أكثر تطرفا، في يوليو 2005، قُتل جان تشارلز دي مينيزيس على يد الشرطة، وهو رجل برازيلي اعتبر خطئا إرهابيا من منطقة الشرق الأوسط، قتل بسبع رصاصات في رأسه لمنعه من الوجود على متن قطار الأنفاق في لندن. كذلك يظهر التنميط العنصري أيضا في مطارات الدول الغربية حيث يوقف غير البيض كثيرا، ويفتشون في الجمارك، أو قبل الصعود إلى الطائرة. فالعوائق منتثرة عبر المكان، وهي عنصر هام في دراسات الحراك.

وبذلك لدينا ستة جوانب للتنقل، لكل منها سياسة: نقطة الانطلاق، والسرعة، والإيقاع، والتوجيه، والخبرة والعائق. كل منها هام في خلق عالم الحراك الحديث. كل منها مرتبط بذوات بعينها من المتنقلين (السياح، راكبي طائرة، واللاجئين، والمهاجرين غير الشرعيين، والعمال المهاجرين، والأكاديميين) وممارسات الحراك من المشي حتى الطيران.

 

مجموعات الحراك

إن طرق ترابط الحركة البدنية، والتمثيل والممارسات تختلف باختلاف اللحظة التاريخية. ولا تدعنا المساحة المتاحة لتقديم عرض لصور الحراك المتغيرة عبر التاريخ. والنقطة الأساسية هنا هي إخماد الحماسة “للجديد” الذي يميز بعض أعمال نموذج الحراك الجديد، وتوضيح استمرار الماضي في الحاضر. على سبيل المثال، حركة الجسم في وعي فترة الإقطاع الأوروبي هي الحركة المنضبطة، أوانها ظل احتكار تعريف الحركة المشروعة بيد من يقبعون في القمة وبأيديهم الأوامر. كان الغالبية العظمى من الناس حركتهم تحت سيطرة الأمراء والطبقة الأرستقراطية. كان الحراك منظما على المستوى المحلي. وحتى الآن لا تزال توجد أماكن دوامة الحركة خارج نطاق سلسلة أوامر المهيمنين في الحفلات الغنائية، يوجد بها المتشردون والحجاج.

ومع سقوط الإقطاع، نشأت طبقة عريضة من المتنقلين تهدد السيطرة المحلية على الحراك. فتظهر ذوات جديدة، ومعارف، وباحثون جدد، وتصورات وخطابات، وممارسات جديدة للتنقل. وأصبح مأوى الفقراء، والسجن والمعسكر أماكن لضبط الحراك. وبحلول القرن التاسع عشر في أوروبا، انتقل حق تعريف ومراقبة الحركة المشروعة إلى الدولة القومية، وكان جواز السفر في الأفق، وتحددت الحدود الوطنية وضبطت. وسمحت الأشكال الجديدة من وسائل النقل بالحركة بدرجات غير مسبوقة في فترات زمنية قصيرة. وصاحبت التصورات القائلة بأن الحراك حرية وأن الحراك تقدم ورافقت أفكار حركة الدورة الدموية كأمر صحي وأخلاقي. وبحلول القرن العشرين، كان الحراك جوهر كل ما هو عصري. فالرجال العصريون، والمرأة العصرية، كثيرو الحراك. وأصبحت المساحات الجديدة للتنقل من شارع مشجر إلى محطة السكك الحديدية (أماكن مشروع الممرات عند والتر بنيامين) علامة مميزة للحداثة. وظهر للعيان أناس جدد؛ السياح، والمواطنون، والرحالة، والمتشردون.

وبحلول الحرب العالمية الثانية، أصبحت جوازات السفر أمرا شائعًا، وأخذت الدول في التعاون في تنظيم وضبط تنقل الأجساد. لقد كان الجسد العنصر الأساسي حتى في نطاق الحراك الواسع والسريع. وإن وجدنا أن متشردي المرحلة الإقطاعية كانت توضع علامات على أجسادهم مثلهم مثل الماشية، نجد المسافرين لاحقا عليهم أن يقدموا صورة وتفاصيل شخصية بما في ذلك “العلامات المميزة” من أجل عمل جوازات السفر. وحاليا نحن في مرحلة جديدة من مراحل تنظيم الحراك وضبطه، وسائل الحركة المشروعة فيها في أيدي الشركات والمؤسسات الدولية. مثلا الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، حددتا ما هو ملائم وغير ملائم من الحركات والحراك. فتسعى مبادرة السفر عبر نصف الكرة الغربي لتنظيم الحركة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ومنطقة البحر الكاريبي بطرق متطورة. والمصالح الوطنية يزداد ارتباطها بما يسمى التجارة السائدة كأشكال مبتكرة لتحديد الهوية بفضل القياسات الحيوية والتكنولوجيا المتطورة.

ولعل واحدة من أحدث التطورات في تقنية التعرف على الهوية عن بعد هي رقاقة التعرف على الهوية بترددات الراديو. وقد تم إضافة هذه الرقائق إلى السلع التجارية منذ الثمانينات. وهذه الرقائق عبارة عن باقة تنبعث منها إشارة منخفضة القوة جدا يمكن قراءتها من قبل الأجهزة التي تبحث عنها. يمكن أن تحمل الرقاقة كمية كبيرة من البيانات عن الشيء المضافة إليه. وهي قابلة للقراءة عند السير بها، ويمكن قراءتها من وراء طلاء ومن وراء أي شيء يحجبها، ومن مسافة قصية. فهي، بعبارة أخرى، مصممة لتتبع الخطى وتستخدم لتتبع الناس. وفي مطار مانشستر أجريت تجربة تم فيها تتبع خمسين ألف مسافر عبر ممر باستخدام الرقائق المرفقة بكروت المرور. وقد طلبت سلطات المطار أن ينفذ ذلك بشكل دائم. كذلك أجرت ولاية واشنطن، جنبا إلى جنب مع وزارة الداخلية، مؤخرا تجربة تتضمن إدخال رقائق التعرف على الهوية في تراخيص القيادة، مما يتيح للمستخدمين الحراك بين الدول المشاركة في مبادرة السفر عبر نصف الكرة الغربي. ويمكن أن تشمل هذه الرقائق على معلومات أكبر مما هو موجود عادة على رخصة القيادة، ويمكن بطبيعة الحال أن يتم تتبعها عن بعد. مثل هذه التجارب أدت بالبعض إلى التكهن بتطوير شبكة عالمية من أجهزة استقبال رقائق التعرف على الهوية التي توضع في أماكن الحراك الرئيسية، مثل المطارات، والموانئ، والطرق السريعة، ومراكز التوزيع والمستودعات، التي تقوم باستمرار بتقييم سلوكيات الناس والمشتريات وتفسيرها.

إن عملية جمع المعلومات وتنظيمها تختلف بقوة عن صور الحراك القديمة. ولعل ضبط الحراك هي مسألة سرعة، بلغة فيريليو. ويرى فيريليو وآخرون أن التصورات المعمارية السابقة عن تنظيم الزمان والمكان هي تصورات زائدة عن الحاجة أمام المشهد المعلوماتي والحاسوبي الجديد، الذي يتكامل فيه تنقل الناس والأشياء بإحكام مع البنية التحتية للبرمجيات التي هي قادرة على توفير القوة الدافعة أو زيادة العوائق بلمسة زر واحدة. واللوجستية هي النموذج لهذا النمط الجديد لضبط الحراك. فالأماكن التي ينتج عنها الحراك والحراك هي دوما أماكن مرتبة لقواعد البيانات وجداول البيانات.

 

خاتمة

إن الغرض من هذه الورقة هو وضع مجموعة من الأسئلة حول نموذج الحراك الجديد وتقترح سبلا لتطوير مقاربة الحراك. ولقد حذرت من اثنين من المحاذير أرى من الضروري أن تكون في موضع الاهتمام في بحوث الحراك المعاصرة. أولها الوعي بتنقلات الماضي. فالكثير من بحوث الحراك كان لديها حب الجديد حول هذا الموضوع. وفي هذه الصياغة، الحاضر هو المتنقل، في حين أن الماضي كان أكثر ثباتا.

وبالعودة إلى التاريخ، انظر في دور المتشرد في العصور الوسطى في تشكيل الحراك المعاصرة. كان وجود هؤلاء الرجال هو الذي دفع لاختراع أشكال جديدة من المراقبة وتوثيق الهوية التي تشكل أساس لما يجري اليوم في المطارات وعلى الحدود الوطنية. وشخصية المتشرد، وهي شخصية القرن الخامس عشر المتنقلة بأوروبا، لا تزال تتحرك بأنماط وتصورات وممارسات في وقتنا الحاضر. والواقع أننا لا يمكننا أن نفهم الحراك الجديدة، من دون فهم الحراك القديمة. والتفكير في الحراك كمجموعات من الحركات، والتصورات، والممارسات يساعدنا على تجنب فقدان الذاكرة التاريخية عند التفكير في الحراك. وعند تأمل أفكار رايموند ويليامز عن التقاليد الناشئة والسائدة والمتبقية التي تعمل على تشكيل التكوينات الثقافية، يمكننا أن نفكر في مجموعات الحراك بالمثل. فعناصر الماضي موجودة في الحاضر، مثلما عناصر المستقبل تحيط بنا.

والتحذير الثاني هو أنه بالإضافة إلى الوعي باستمرارية الماضي التي تجعل الحراك المعاصرة واضحة، نحن بحاجة للحفاظ على مفاهيم الثبات، والركود، والجمود في الاعتبار. على الرغم من أن هناك إغراء للتفكير في عالم متنقل يحل محل عالم الثوابت، نحن بحاجة إلى النظر باستمرار لسياسة التعنت، والثبات والعوائق. فالسرعة توجد إلى جوار الطوبولوجيا والطبوغرافيا.

وأخيرا، بالإضافة إلى الاعتراف بأهمية المجموعات التاريخية للتنقل في فهم الحاضر، يمكن ضبط الحراك في حد ذاته من خلال النظر في جوانبه الأكثر تحديدا، ولكل جانب منها سياسته الخاصة، وكل منها منخرط في تشكيل التسلسل الهرمي للحركات في أوقات وأماكن معينة.