مجلة حكمة
ابن عربي موسوعة ستانفورد الفلسفية

حدود العقل وسلطة الوهم عند ابن عربي – محمد بنيونس


       يعيش الإنسان مع ذاته صراعات عديدة منها داخلية وأخرى خارجية، تؤثر على باطنه، كي يصبح الصراع فردي وشخصي، مما يطرح صعوبات في تحديد الذات، ومن ثمة الإنسان، إذ كل طرف من أطراف الصراع يحاول أن يأخذ وضع التعريف والتحديد، كتحديد الإنسان بالعقل أو النطق أو الجسد أو بالروح؛ إلا أن هذا الصراع يعمل على تغيير المواقع والأولوية، ويعيد مسألة التحديد إلى عدم التحديد بوجه واحد والارتكاز على معطى دون آخر. ومن بين الأمور التي تؤثر في عملية التحديد وتشوش على إمكانية التعريف مفهوم الوهم، الذي يعطيه ابن عربي أهمية في تصور الوجود والعالم والحقيقة، بل وله  سلطة على العقل والتفكير، مما يهدد الوجود والعالم والحقيقة بدخول الأوهام عليها في تصورنا لها. لذلك يطرح علينا هذا البحث الخروج بمجموعة من الضوابط، تؤطر العقل والتفكير، للوصول والبحث عن الحقيقة، ويجب أن تفضي هذه الآليات إلى نتيجة ممكنة، التي وجب ضبطها وتصنيفها وتمحيصها، حتى لا يزيغ العقل ويحيد عن المطلوب. إذن، ما الوهم في تصور ابن عربي؟ وكيف يشتغل ويؤثر في مصادر المعرفة كالعقل والتفكير؟  وهل يمكن تجاوز الوهم أم أنه من صميم وجودنا وماهيتنا؟ وكيف يمكن توجيه الوهم نحو طريق الحقيقة؟

 

          1 – تعريف الوهم

        يعتبر الوهم من المفاهيم المتداولة في كتابات ابن عربي، يعطيه أهمية في تحصيل المعرفة والتأثير في الوصول إليها؛ ولدى الوهم القدرة على التحكم والسيطرة من خلال سلطته التي يفرضها على النتائج المتوصل إليها، وكذا طريقة التفكير التي يتبعها في تحصيل المطلوب. وقد تدخل عدة عوامل في الزيادة من حدة الوهم وقوته أو قد تخفف من سطوته وتحكمه «فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الإنسانية»(1)؛ إلا أن الوهم قبل أن يكون له هذه السلطة، هو قوة من قوى  الإدراك «غير أن هذه القوى الأربعة قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر هي في الإنسان أقوى منها في الحيوان»(2)، من هنا جاءت سلطته وقوته وتحكمه، أي أنه لا يمكن الاستغناء عنه أو محاولة تجاوزه لأنه يطال مصادر المعرفة  وطرق الوصول إليها، فيؤثر فيها ويتدخل في تشكيل معالمها، كما أنه قد يتحكم في رؤية الإنسان للوجود والعالم ولذاته. مما يعطي انطباعا أوليا بأن الوهم يسري في الإنسان وقدرته على إدراك وتصور كل شيء في الوجود. وبالتالي، قد نقول إن سلطة الوهم آتية من تحكمه في باقي القوى وكيفية انتقال المعرفة فيما بينها خصوصا العقل.

 

               2- سلطة الوهم

           يقدم لنا الوهم الأشياء على غير حقيقتها، بحيث يخرج الشيء عما صوره لنا العقل وضبطه الفكر. يطال الوهم الصورة فيحدث فيها تغييرا على حسب استعداد الإنسان. ولا يستطيع العقل مجارات الوهم في توهمه وتعامله مع الأمور والأشياء لأنها «تنفلت من العقل وتثبت في الوهم ويحكم عليها ويؤثر فيها»(3) بحيث ما لا يضبطه العقل وينفلت من حدوده وتحديده يظفر به الوهم ويتحكم فيه، بل يتجاوز حدود التحكم نحو التأثير، وقد يحدث تغييرا في تصورنا للأشياء. وَهْمُ الصورة ليست في تشويه الواقع وتحريفه وإخراجه عن حقيقته وإنما وهم الصورة هنا يطال العقل والكيفية التي يتصور بها الأشياء.

     ما يحاول ابن عربي الوصول إليه هي الحقيقة الخالصة من كل تشويه أو شبهة أو خطأ أو مغالطة. حاول ابن عربي تحديد حدود العقل وتأطير الممارسة العقلية، ولهذا الغرض انصبت معظم كتابات ابن عربي في رسم الحدود للعقل وتحديد دوره في الوجود، حتى لا يحيد عن المقصود.

         ما نتوهم بالوهم لا وجود له في ذاته، أي الوجود العيني، «والمتوهم ما لا وجود له في عينه»(4)، بحيث يعطي الوهم ما لا يعطيه العقل، يصور لنا العدم وجودا، ويمنح المعدوم صورة الوجود. إشكالية الوهم هي في تصويره لنا للموجود على مستوى الوجود، مما يعطي الأمر بخلافه، ويحدث أثرا في النفوس والعقول، من هنا سلطته على الإنسان وليس فقط على العقل، لأن الإنسان هو من يعطي للوهم فرصة بأن يسيطر عليه، من خلال هواجسه ومخاوفه. سلطة الوهم آتية من قدرته على التأثير لأن «أثر الأوهام في النفوس البشرية أظهر وأقوى من أثر العقول»(5)، ما نتوهم وجوده وهو غير موجود قد يحدث أثرا وتغييرا في الذات، سواء في التصور أو على مستوى الآثار النفسية. وبالتالي، من قوة الوهم قدرته على التحكم في العقل، ومن ثمة في المعرفة التي ينتجها، أي أن الإنسان في حد ذاته، بمخاوفه وهواجسه، يعطي لما لا وجود له أن يتحكم فيه.

 

          3-  أوهام العقل

          إذا كان العقل حسب ابن عربي قيد «فإن العقل قيد»(6)، يعقل الأمور بحدها وتحديدها ووضع الحدود لها حتى تُعرف بماهيتها وجوهرها، لأن تحرير المعرفة أو العلم من الحدود قد يؤدي إلى التداخل وعدم إمكانية التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الصواب والخطأ، إلا أن الأولى أن يضع العقل حدودا لممارسته،  بأن يمارس على ذاته ما يمارسه على غيره، وأن يضع حدودا لممارسته في تحديد الأشياء، وإلا فإنه قد يسقط في أوهام ميتافيزيقية، وهذا الوهم هو ما يمكن تسميته “بوهم إدراك ما لا يمكن إدراكه” أو “بوهم تصوير ما لا يمكن تصويره”، وذلك بادعاء العقل قدرته على تقييد المطلق، إلا أن المطلق لا يتحدد حسب ابن عربي «فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر، فلا يسعه سبحانه إلا أن يقلب ما  عندك، ومعنى قلب ما عندك هو أنك علقت المعرفة به عز وجل وضبطت ما عندك في علمك أمرا ما، وأعلى أمر ضبطته في علمك به أنه لا ينضبط سبحانه لا يتقيد ولا يشبه شيئا ولا يشبهه فلا ينضبط مضبوط لتميزه عما ينضبط، فقد انضبط ما لا ينضبط»(7)، وهذا ما يحاول العقل فعله، وهو تقييد المطلق بتحديده وتصويره، وهذا محال حسب ابن عربي.

     تتميز الذات بقبولها للتقييد ، لكن ليست “ذات الله” ولولا التقييد لما تميزت الذوات ولما عرفت على حدة، ولطالها النسيان وأخفاها الاشتراك، فتضيع الحدود وتتجاوز القيود، مما يؤدي بالعقل إلى الوقوع في الأوهام والمغالطات، خصوصا تلك التي تطال أحكام العقل «ولولا العين ما ظهر للتقييد حكم في الكون، فلو زالت الحدود لزال التقييد، ولا سبيل إلى زوالها فإن بقاءها عين كمالها بها صنعت المناضلة وبانت المفاضلة»(8). إذن، ما هي حدود العقل؟ وكيف يمكن الالتزام والتقيد بها؟ ومن يضع هذه الحدود؟ هل العقل هو من يضعها أم يضعها غيره؟

 

         3-1 – حدود العقل

          تروم محاولة ابن عربي في وضع الحدود من أجل احترام المهام، وعدم التطاول على الغير، وإذا لم يتخل العقل عن أنانيته فإن غيره يثوق إلى تجاوزه وإظهاره بمظهر الجاهل الذي يعول على غيره ولا يعول عليه «فلا أعلم من العقل ولا أجهل من العقل، فالعقل مستفيد أبدا فهو العالم الذي لا يعلم علمه وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله»(9). ما حاول ابن عربي القيام به هو محاكمة العقل ووضع الحدود له لأن «للعقول حد تقف عنده»(10)، محاكمة العقل هنا في تجاوزه لحدوده، لأنه في ذلك يكون معرضا للخطأ من جهة، ومن جهة أخرى إرادته في السيطرة على غيره لأن «العقول المحجوبة بالهوى وبطلب الرياسة والنفاسة والعلو على أبناء الجنس يمنعهم ذلك من القبول  والانقياد»(11).

      ما يريده ابن عربي من نقده للعقل وموقفه منه، هو منعه من الوقوع في الأوهام أو سقوطه في الأخطاء والمغالطات، لأن ما يعيبه ابن عربي على العقل هو مآل المعرفة التي ينتجها، وكأنه يحاول تقويم العقل حتى لا يقع في هذه الأوهام والأخطاء، وهذا التقويم له ضوابط وقواعد وما على العاقل أو العقل إلا أن يضبطها ويلتزم بها للوصول إلى الصواب من المعرفة.

        تأصيل ابن عربي للممارسة العقلية حتى يكون العقل قادرا على الإدراك الذاتي، يؤدي به إلى الوقوف من العقل موقفا سلبيا، يتجلى في تضييق الحدود عليه، وجعله فقط قابلا يتلقى دون إمكانية الفعل النظري الذي يتميز به «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»(12).

     حاول الشيخ الأكبر أن يذهب بالعقل إلى أبعد الحدود الممكنة فيجد دوره يقتصر فقط على القبول، عقل قابل يعني عقل غير قادر على الفعل، ينتظر ما يمكن أن يقدمه الشيء أو يكشف عن خفاياه، لم يضع ابن عربي هنا الحدود للعقل وإنما قام بسجنه، وفي نفس الوقت وسع من أفق رؤيته للوجود والعالم، من خلال قدرته على قبول كل شيء، والأهم من ذلك هو عدم الوقوع في الوهم أو الخطأ الذي يشكل أكبر تهديد للعقل .

       دعوة ابن عربي لوضع الحدود كانت الغاية منه، الحد من فعالية العقل وأن يقتصر دوره على التلقي، أي عقل منفعل ومرتبط بغيره في تحصيله لمطلوبه «فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم»(13). لا يدعو ابن عربي إلى استقلال العقل وإنما إلى تبعته. وبالتالي، على الرغم من بحث ابن عربي عن نجاعة العقل في فعل المعرفة، إلا أنه ضيق من حدود فعله، مما يخدم توجهه وغايته وهي فلسفة التلقي والانتظار «ونحن نعلم أن ثم علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا، وثم علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من الله عز وجل»(14). بمعنى آخر أن كل ما يتلقاه الصوفي هو من استعداده للقبول والتلقي وليس من استقلاله وإرادته في المعرفة وادعائها لأن «الحق الذي نأخذ العلوم عنه بخلو القلب من الفكر والاستعداد لقبول الواردات هو الذي يعطينا الأمر على أصله من غير إجمال ولا حيرة»(15).إذن، أهم حد يضعه ابن عربي للعقل هو أن يقتصر دوره على القبول والتلقي وأن لا يتعدى ذلك نحو الفعل والنظر «إذ إن علوم النظر أوهام، عند أهل الإلهام القائم عن الإلهام لا تخطيء والحكم به لا يبطئ»(16). لماذا إذن، هذا التضييق على العقل؟

        تضييق ابن عربي على العقل، كان الهدف منه التأسيس لمعرفة لها مصداقية أكبر، ولا يدخل عليها الخطأ والباطل والوهم، إلا أنه «لا بد من سلطان الوهم الذي يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة»(17)، ولأن هذه الأوصاف أي الباطل والخطأ والكذب، يعطيها ابن عربي اسما واحدا هو العدم، وما نحتاج إليه هو عدم العودة إلى العدم والهروب منه، أي الابتعاد عن العدم  والخروج معرفيا إلى الوجود. لذلك فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة صحيحة لا فاسدة، صائبة لا خاطئة، معرفة يمكن نعتها بالوجود؛ ومن ثمة على العقل أن لا ينزلق إلى الأوهام وإنتاج أحكام يطالها الخطأ والغلط، وأن يكون قادرا على إنتاج الجديد ولا يقع في آفة التقليد، الذي يقتل العقل، ويحد من انفتاحه على الوجود.

      موقف ابن عربي من العقل موقف متناقض، يتراوح بين الإيجاب والسلب، يعطي تارة أهمية للعقل وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته، يعطيه أهمية كعارف من حيث هو قابل ومنقاد، وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته ويعتبره جاهلا، تارة مجددا وأخرى مقلدا «فلا شيء أكثر تقليدا من العقل وهو يتخيل أنه صاحب دليل إلهي وإنما هو صاحب دليل فكري، فإن الفكر يمشي به حيث يريد، والعقل كالأعمى بل هو أعمى عن طريق الحق»(18).

    يعد العقل عارفا وجاهلا، وكأنه في ذاته يحتوي على هذا التقابل، والجهل بهذا التقابل إقصاء للعقل وتعسف عليه، أو قد نقول إننا نتطاول على العقل بجهلنا لهذا التقابل، مما يترتب عن ذلك سوء في فهم العقل ودوره. علينا أن نستحضر هذا التقابل حتى لا نقع في المغالطات على مستوى فهمه والحكم عليه.   

 

       أ – حدود حسية

     يرى الشيخ الأكبر أن بنية العقل هشة، ويعتمد على غيره في بناء الأحكام العقلية، لأن العقل في ذاته مفتقر إليها، أو أنه فارغ إلا من الضروريات أو ما هو فطري مادام «العقل لا علم عنده إلا الضروريات التي فطر عليها»(19). هناك مبادئ، لكنها مبادئ ضرورية وفطرية تحتاج إلى من يحركها نحو تحصيل المعرفة، وهذا التحريك تدخل فيه مجموعة من القوى. لكن في قول آخر يرى أن العقل فارغ من أي محتوى «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»(20). يركز ابن عربي دائما على القبول والتلقي، هذه هي حدود العقل التي عليه أن لا يتجاوزها، فالعقل فقير بالذات، وافتقاره هذا جعله في حاجة إلى غيره في إصدار أحكامه العقلية «فانظر يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بواسطة هذه القوى وفيها من العلل ما فيها»(21).

           تمر المعرفة العقلية حسب ابن عربي عبر سلسلة من النقلات لكي تصل إلى العقل، مرورا من الحس إلى الخيال إلى الفكر، وهذا الأمر يضع مسافة بين الشيء وإدراكه مباشرة من طرف العقل، إلى جانب عيب الوساطة هناك عيوب تنطوي عليها كل قوة، وهي أنها غير قادرة على تجاوز حدود إدراكها، وفيها من العيوب ما فيها، مما يطرح على المعرفة العقلية صعوبات أهمها السقوط في الغلط والخطأ، ومن ثمة إنتاج الأوهام بحيث «ما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت»(22). يؤدي عيب الوساطة إلى عدم إدراك الشيء مباشرة وفي ذاته.

       نقد ابن عربي للعقل هو نقد للطريقة وادعاءاته النظرية في الممارسة الفعلية لإنتاج معرفة عقلية. من هنا كانت أهمية دعوة ابن عربي لإقامة الحدود حتى لا يسقط العقل في ادعاء ما ليس له، أي ادعاء الاستقلالية والفعالية وهو في ذاته مفتقر ويعتمد على غيره في إصدار الأحكام والتي قد يطالها الوهم.

    يحاول ابن عربي أن يتتبع مسار المعرفة، للوقوف على مصادر الوهم والقوى المسؤولة عنه، فيبدأ بالحس أولا في علاقته بالحكم العقلي، وينسب الخطأ للعقل وحده، ويتهمه بالغلط، ولا دخل للحس في ذلك ولا حتى للخيال. لكن الفكر قد يكون له دور كبير في أوهام العقل .

        يعتمد العقل على ما ينقله الحس كشاهد، لأنه ينقل ما يتلقاه دون أن يتدخل في ذلك، كما أن إدراك الحس مباشر وبدون واسطة، لأنه يكون أقرب من الشيء أكثر من غيره. لا يخطئ الحس لأن إدراكه مباشر ولا يتدخل فيما يتلقاه «فما غلط حس قط ولا ما هو إدراكه ضروري، فلا شك أن الحس رأى تحركا بلا شك ووجد طعما مرا بلا شك، فأدرك بالبصر التحرك بذاته (….)فبان أن العقل غلط لا الحس، فلا ينسب الغلط أبدا في الحقيقة إلا للحاكم لا للشاهد»(23). لذلك لا يخطئ الحس عند ابن عربي، إلا أن الناقل قد يتصرف فيما ينقله، والشاهد قد يتدخل في تغيير معالم الشهادة، إلا أن ابن عربي يؤكد على أن الخطأ ليس من طبيعة الحس وإنما من العقل «فلم يجعل للحس غلطا جملة واحدة. وأن الذي يدركه الحس حق فإنه موصل ما هو حاكم بل شاهد، وإنما العقل هو الحاكم والغلط منسوب إلى الحاكم في الحكم»(24).

       يعطي ابن عربي أهمية للحس بعدم وصفه بالغلط أو إمكانية الوقوع في الخطأ ونقل الأوهام، لأن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة أو العلم، أما باقي القوى فإنها تأخذ منه حسب القرب أو البعد منه، «والحس أشرف من العقل لما فيه من الإطلاق فله السراح بالاستحقاق وإنه المحيط بما تعطيه الأوهام وإن أحالته الأحلام، والعقول قاصرة عن نسبة الوجود إلى هذه الأعيان المتخيلة»(25).

       إدراك الحس للأشياء إدراك مباشر وبدون واسطة، لا يقلد غيره وإنما يحاكي الشيء كما هو أو كما يتبدى له، ينقل دون أن يتصرف، يشاهد دون أن يعاند لأنه شاهد، كما أنه لا يدعي ما ليس في قوته وقدرته، لذلك يسلم من الوهم والوقوع في الغلط أو الخطأ، مادامت الأوهام قد تطال الأحكام العقلية، لأنها هي من يدخل عليها الغلط والخطأ «وإنما المذهب الصحيح إنما العين لا تخطيء أبدا لا هي ولا جميع الحواس، فإن إدراك الحواس الأشياء إدراك ذاتي ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات»(26). لا ندرك الذاتيات إلا ذاتيا، والحس من القوى التي لا تخطيء ذاتيا حتى وإن اعترضتها صعوبات. من هنا أهمية الحس في تشكيل المعرفة وتكوين رؤية صادقة بالعالم والوجود فلا «يعقل بالعقل ولا بالحس إلا الوجود الذي نستند إليه في وجودنا»(27). تقدم لنا المعرفة الصادقة رؤية حقة وحقيقية بالوجود، بمساهمة كل من العقل الذي لا يخطئ والحس في تشكيل معالم هذه الرؤية للوجود.

    يؤدي الإدراك الذاتي للشيء إلى عدم الوقوع في الغلط، باعتباره إدراكا مباشرا وبدون وساطة؛ من هنا كان شرف الحس على العقل وهو أنه لا ينتج عنه ما ينتج عن العقل «فالحس أشرف من العقل، فإن العقل إليه يسعى»(28).

      يأتي الغلط من تعدد الوسائط وكيفية نقلها للمعرفة وللمعطيات، وإدراك الحس إدراك واقعي وواضح ولا يكتنفه الغموض والتعقيد، إدراك بسيط غير مركب، لأن عملية التركيب قد تكون هي الأخرى إحدى العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الغلط والخطأ، ينقل الظاهرة كما هي في بساطتها دون أن يضيف إليها أو يزيد في هذا الإدراك. كما قد يأتي الغلط من حدود كل قوة على حدة. فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها.

     قد يأتي الغلط من الحس حسب ابن عربي، فلماذا يقول بعدم إمكانية وقوع الحس في الغلط؟ إذا كان ابن عربي يؤكد على ضرورة التسليم بعدم وقوع الحس في الغلط  أو أن إدراكاته لا يمكن أن يدخل عليها الغلط، فلماذا يقول بالحدود ومن ثمة محدودية كل قوة بحدودها في عملية الإدراك؟ إذا كانت لكل قوة موانع أغاليط، فما هي هذه الموانع؟ وما هي هذه الأغاليط التي يمكن أن يقع فيها الحس؟ ولماذا هذا التناقض والازدواجية في القول؟

           يأتي الغلط من حدود كل قوة، فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها، بحيث قد تعترض الحواس مجموعة من الموانع، قد تؤدي به إلى الوقوع في مجموعة من المغالطات مادام «الحس له أغاليط كثيرة»(29)، منها العجز عن الإدراك بحصول عاهة على مستوى الحواس، والتي قد تؤدي إلى عدم الإدراك المباشر للشيء، لأن مانعا يحول دون ذلك، ليصبح الإدراك الحسي هو إدراك بواسطة. كما أن هناك مانعا آخر هو المحدودية الذاتية للحواس أي عدم القدرة على التجاوز، وذلك من خلال افتقار كل قوة إلى غيرها وتعويلها عليها في عملية إيصال المعرفة وتناقلها حتى يتم إنتاجها.

     كل قوة لا يمكن أن يكون إدراكها إلا بغيرها أي بواسطة، وهذا ما يؤدي إلى مجموعة من المغالطات أهمها الغلط في الحكم على ما تم نقله وهذا فعل العقل، كما قد يؤدي بنا هذا الإدراك بواسطة إلى الوقوع في التقليد لا التجديد. وهذا ما يرفضه ابن عربي، الابتعاد أكثر فأكثر عن التقليد؛ وهل يمكن اعتبار الوقوع في التقليد والتكرار مغالطة؟

        الحس مشروط بوجود الموضوع الخارجي أو العالم الخارجي، هو إدراك لشيء ما، وبدون وجود الحس لا يمكن نقل معطيات العالم الخارجي إلى قوى أخرى، فالمعرفة مشروطة بوجود الحواس، إلا أن الحس هنا هو في مرتبة المنفعل، والفاعل هو العالم الخارجي، والمنفعل يتلقى الفعل من الفاعل، أي ينقل دون أن يحكم  أو يتصرف فيما ينقله لأنه ليس في قدرته أن يحكم على ما ينقله، من هنا محدودية الحس .لكن، أهم مغالطة يمكن أن تقع فيها كل قوة هي ادعاؤها تجاوز حدودها نحو معرفة ميتافيزيقية، أو أن كل قوة قادرة على أن تصل إلى مستوى تحصيل المطلوب يفوق حدود هذه القوى، خصوصا “معرفة الله”، حسب ابن عربي فإن هذا الادعاء من طرف هذه القوى هو ما يوقعها في أكبر المغالطات وأخطرها، أي الوقوع في ذلك الادعاء الذي يدعي معرفة ما لا يمكن معرفته أو الوصول إليه نظرا لمحدودية وحدود كل قوة. وبالتالي، كل معرفة تدعي تجاوز حدودها الذاتية هي معرفة ميتافيزيقية، وعلى كل قوة أن تلتزم بحدودها وتتقيد بها، وإذا لم تتقيد بهذه الحدود فإنها تؤدي إلى السقوط في الميتافيزيقا.

 

        ب – حدود فكرية

       رغم سيادة العقل وقدرته على السيطرة، إلا أنها سيادة في الظاهر، لكن في تحصيله للمعرفة يرتكز على غيره، أي افتقاره في الباطن، لأن ذلك من طبيعته وماهيته مادام «العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء»(30)، ومن القوى التي يعتمد عليها كثيرا، الفكر، والذي يعتبره ابن عربي شقاء أبدي لازم الإنسان في وجوده، لأن قدر الإنسان هو أن يفكر، وفي تفكيره شقاء في حياته. يرهق الفكر الإنسان، ويقلق وجوده، يجعل حياته هشة، ومؤسسة على أوهام واقعية، لأن الفكر يوصل إلى ذلك في معظم حالاته ووضعياته التأملية «غير أن الله تعالى ابتلاه ببلاء ما ابتلى به أحد من خلقه إما لا يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله، فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر، وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية»(31). إذن، هناك سيادة في الظاهر وأخذ في الباطن. لهذا الغرض يرفض ابن عربي معظم المعارف التي يتم تحصيلها من طريق الفكر ويشكك فيها، مما جعل علاقته مع الفكر متوترة إلى أقصى حد، بل أكثر من ذلك هو أشد الرافضين والمنتقدين له. لماذا هذه العداوة للفكر وهذا الرفض بهذا الشكل؟

        يتوجه ابن عربي بالنقد إلى ما تبنى عليه المعارف، أي أنه لا يتوجه إلى المدلول ولا إلى الدال، وإنما يتوجه إلى الدليل، الذي يبنى عليه المدلول بإدخال الدال في عملية التدليل، والذي يقوم بهذه العملية هو الفكر، لذلك نجد هذا الاهتمام الكبير بالفكر، لأنه الأصل في إيصال العقل إلى تحصيل المدلول. إذن، حتى وإن كان ابن عربي عرفاني في توجهه، إلا أنه منطقي في تعامله مع طرق تحصيل المعرفة، وتعقب مسارها من الأوائل أي تمحيص المعطيات وإدخالها في تركيب الدليل وصولا إلى النتيجة أو المطلوب. ما يهم ابن عربي في هذه العملية هي تلك النقلة من الدال إلى المدلول، والتي ترتبط بالدليل خصوصا.

      تعتمد المعرفة أو العلم أو ما يمكن تسميته بالحكم العقلي أو المدلول، على ما يركبه الفكر من دليل، لهذا يشدد ابن عربي ويركز اهتمامه على الفكر وكذلك العقل. لا يمكن إنكار دورهما، لكن مهمتهما عليها أن تكون على درجة عالية من الدقة والصرامة والتزام الحدود وتقييد الممارسة حتى لا يكون هناك زيغ أو خروج عن المطلوب. ما يرغب فيه ابن عربي من كل هذا، تقويم الأفكار والأحكام وفق ضوابط وقواعد صارمة تؤول بنا إلى معرفة صادقة ناتجة عن فكر صحيح لا فاسد وعن عقل سديد، لأن «علم العقل: وهو علم يحصل لك ضرورة أو عقب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلم ولهذا يقولون في النظر منه صحيح ومنه فاسد»(32).

   يأخذ الفكر من الحس مجموعة من الانطباعات والإدراكات الحسية، لكي يؤلف بينها، بواسطة تلك الأوليات العقلية أو البديهيات، وهذا الأخذ يؤدي بالفكر إلى السقوط في تعدد الوسائط، لأنه بين طرفين الحس والعقل، يأخذ من الحس كما يأخذ من العقل، إلا أنه لا يقتصر عليهما وإنما يستطيع أن يأخذ حتى من الخيال، وفي هذا المستوى ينتقل من الأخذ عن العقل والحس، إلى تقديم الدليل له، وذلك بتركيبه للصور الخيالية.

     يأخذ الفكر من العقل الأوليات وهي بمثابة مبادئ وقواعد للتفكير، لأنه لا يحتوي على مبادئ قبلية ومنطلقات سابقة بها يعمل ويشتغل، بحيث يعطي للعقل أفكارا في شكل دليل، يأخذ العقل هذا الدليل فيحكم به على المدلول. إذن، «القوة المفكرة إذا جاءت إلى الخيال افتقرت إلى القوة المصورة لتركب مما ضبطه الخيال من الأمور صورة دليل على أمر ما، وبرهان تستند فيه إلى المحسوسات أو الضرورات وهي أمور مركوزة في الجبلة، فإذا تصور الفكر ذلك الدليل حينئذ يأخذه العقل منه فيحكم به على المدلول، وما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط»(33).

      يتموضع الفكر بين وضعيتين مع دورين مختلفين، دور يأخذ فيه من الحس والعقل لكي يجد طريقة في الاشتغال، حتى يعمل على تركيب الدليل للانتقال إلى وضعية من يقدم الدليل العقلي لكي يمارس مهمته وهو الحكم العقلي بناءا على ما ركبه الفكر. لهذا الغرض يذم ابن عربي العقل من جهة الفكر، لأن الدليل من تركيب الفكر وليس العقل. وهذا الأمر سوف يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن «العقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالاتفاق فما تم إلا تقليد»(34).

       وهكذا، يكون الفكر أقرب شيء إلى الإنسان من العقل والخيال والقلب، يعبر عن معاناة الإنسان وقلقه الوجودي والمعرفي، يعبر عن ذلك الجانب السلبي من وجود الإنسان. الفكر لصيق بالإنسان وأكثر تعبيرا عن وجوده الشقي، لأن «أصحاب الأفكار ما برحوا بأفكارهم في الأكوان فلهم أن يحاروا ويعجزوا»(35).

    إذن، ما هو مفارق لا يمكن تصوره أو التفكير فيه إلا بعد مروره عبر وسائط أهمها واسطة الحس، ومادام الحس لا يستطيع تجاوز ما هو محسوس، فإن ذلك يؤدي به إلى عدم قدرته على إدراك ما هو مفارق، ومادامت القوى تعتمد على الحس فإنها ترتبط به ولا يمكنها الاستغناء عنه «أما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلى في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحس وأوائل العقل، ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه، فإذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى»(36).

     لا يستطيع الفكر العلم “بالله” «وهو هنا ما يخطر لمن نظر في توحيد الله من طلب ماهية حقيقته وهو معرفة ذاته التي ما تعرف، وحجر التفكير فيها لعظيم قدرها، وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلا عليها فلا يتصورها وهم ولا يقيدها عقل»(37)، ولكن عليه أن يدافع عنه ويثبت وجوده، ويرد على ما يمكن أن يؤدي إلى الوقوع في الشبهات والتلبيس »ونمنع من الفكر جملة واحدة لأنه يورث التلبيس وعدم الصدق»(38). نطالب الفكر بالدفاع عما لا يمكن أن يعلمه أو يتصوره، وما لا يمكن إدراكه. إذن، كيف يمكن أن يدافع الفكر عما لا يدركه؟ ومن يضمن لنا أن دفاع الفكر هذا قد لا يترتب عنه مغالطات وأخطاء؟

للإجابة على هذين السؤالين، يقتضي منا هذا الأمر توضيحا، وهو أن الذات لا تعلم بأي حال من الأحوال، ولا يقتصر هذا الأمر على قوة بعينها وإنما جميع القوى بدون استثناء. وحتى يتحقق “العلم الإلهي” من جهة الفكر، فإن له شروطا من بينها، أن يكون هذا العلم علما برهانيا قائما على فكر صحيح لا فاسد، وهذا البرهان الناتج عن الفكر الصحيح، يقوم بالإثبات والرد، لأن ما ينبغي إثباته بالبرهان هو وجود الحق والدفاع عنه، والرد على من يشكك في ذلك والتبس عليه الأمر بشبهة، سواء كانوا معطلة أو أهل الشرك(…) وهو ما يؤكد عليه ابن عربي بقوله:«وعلم النور على قسمين: علوم كشف، وعلوم برهان بصحيح فكر، فيحصل له من طريق البرهان ما يرد به الشبهة المضلة والقادحة في وجود الحق وتوحيد أسمائه وأفعاله، فالبرهان يرد على المعطلة، ويدل على إثبات وجود الإله وبه يرد على أهل الشرك»(39).

إذا كان الفكر لا يصيب إلا قليلا  في مجال “العلم الإلهي”، ورغم أن هامش الصواب على مستوى الفكر أقل من هامش الخطأ، إلا أن ابن عربي يعطي لهذه القلة أهمية، لا يلغيها من إمكانية المعرفة، وتحقيق المطلوب وهو الصواب في العلم الإلهي، بمعنى آخر، حتى وإن كان هامش الصواب أقل، فإن الفكر عليه أن يضبط عمله وينتج معرفة قائمة على البرهان من جهة الفكر الصحيح، إلا أن الفكر في هذه الحالة يقتصر دوره في الدفاع وليس في إنتاج معرفة، أي نطالبه بالرد على الخصوم بالبرهان، لكن بفكر صحيح. إذن، هناك إمكانية “للعلم الإلهي” لكنه علم يقتصر فيه على الرد والإثبات وليس على إنتاج معرفة. لذلك، كل عملية تفكيرية تدعي الإحاطة والتقييد لكيفية من الكيفيات التي يمكن أن يكون عليها “الله”، بمحاولة استيعاب تلك الكيفيات التي هي للأشياء، ولا يمكن أن تعلم هذه الكيفيات لأنه لا مناسبة، والفكر يحاول أن يجد هذه المناسبة.

كل محاولة قياسية توظف الشاهد للاستدلال على ما هو غائب استدلال ناقص، وذلك على اعتبار أن الشاهد يختلف كليا عن الغائب، لذلك يجب إخراج “الله” عن أي محاولة إحاطة تروم تجسيده في مقولات عقلية، وهذا التجسيد تعطيل، وتقييد لما هو مطلق، «ومن هنا يأتي خطأ المفكرين العقلانيين الذين غلطوا في تصوراتهم عن الحق نفسه:” حيث يفكر الإنسان بعقله في الله، يخلق بتفكيره ما يعتقده في نفسه. ومن هنا يفكر في الرب الذي خلقه بفكره»(40). فالمطلق لا يحد ولا يعرف، وأي تعقل “لله” هو منذ البداية تعقل مآله الفشل؛ وذلك لأن “الله” لا يقبل هذا التحديد ولا يمكن وضعه في قوالب فكرية، لذلك «ما أنتجه الفكر من معرفة الله لا يعول عليه»(41). وبالتالي، نقل كيفيات ما هو معلوم وإسقاطها على ما هو مجهول نقل غير مشروع، ومستحيل في نفس الوقت، في إطار تقييد المطلق، لأن المجهول “الله” يخرج عن أي تصور ولا يعلم له كيفية ولا حيثية إلا ما سمى به نفسه؛ لذلك «يؤكد ابن عربي ـ في رده على الفلاسفة واللاهوتيين – أن الله لا يمكن تصوره ولا يمكن معرفته أبدا، فلا ينطبق عليه أسماء ولا صفات، كما يؤكد أن كل أفكارنا ومفاهيمنا التي نشيدها قياسا على أنفسنا لا تدانيه»(42)، وهذا الأمر سقط فيه “نصر حامد أبو زيد” بقوله:«وحين تعبر اللغة عن المطلق أو المتعالي فهي إنما تعبر عنه بمفاهيم المحدود والمتعين والمحسوس. إن الله ـ بعبارة أخرى ـ ليس إلا بشرا نُفيت عنه كل صفات النقص والتحدد، وأكدت فيه كل صفات الكمال والإطلاق، والنفي والإثبات ليسا سوى أدوات لغوية لها طابعها البشري»(43)، وكأن الإنسان بهذا القول هو  “الله” لكن بصفات ناقصة ومحدودة. ومن ثمة، «يرى ابن عربي أن أهل النظر جميعهم لا يشيدون أفكارهم عن الله على شيء ليس هو الله على الحقيقة»(44).

وهكذا، يكون ابن عربي قد عدد من زوايا النظر إلى نفس الشيء، حتى يكون موقفه موقفا وسطا، يرفض ولا يرفض الوهم في مستويات معينة من إدراك الأشياء إلى إدراك الحقيقة والوجود، من هنا أهميته كقوة من قوى الإدراك لها دور في تحصيل المعرفة وفهم الإنسان لأمور قد لا تفهم، وقد لا نجد لها تفسيرا. لذلك يؤكد ابن عربي على غرابة المعرفة التي يتم تحصيلها من طريق الوهم. تأتي الأوهام من إدراكنا للتكرار، لكنه تكرار لا يتكرر إلا مرة واحدة. ويعدم التكرار كل إمكانية للتجديد والإبداع، لأنه يحول دون ذلك. فالتكرار لا يعول عليه في إنتاج معرفة صادقة خالية من الأوهام.

             لقد حاول ابن عربي أن يؤسس للمعرفة على مجموعة من الضوابط، يعمل على فحص قوى الإدراك والتحقق من قدرتها على تحصيل المطلوب، حتى يكون لموقفه ما يبرره، وهذه الضوابط كالتالي:1ـ وضع الحدود لكل قوة حتى لا تتجاوزها، وفي تجاوزها سقوط في إنتاج معرفة تتخللها الأوهام والمغالطات والأخطاء. فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة لا كاذبة. ووضع الحدود والقيود، يؤدي إلى إنتاج المطلوب بكيفية صادقة. 2-الإدراك المباشر وبدون وسائط؛ 3ـ إنتاج معرفة تقوم على التجديد وليس على التقليد؛4ـ تحصيل معرفة صادقة وصحيحة مع عدم السقوط في الأخطاء وتجنب الوقوع في المغالطات. فكل قوة تتحقق فيها هذه الضوابط تكون مؤهلة للمعرفة، أما إذا سقطت فيما يتناقض مع هذه الضوابط، كالسقوط في عيب الوساطة، أو إعادة المعرفة بناء على تكرارها، أو إنتاج الأخطاء والمغالطات، وتجاوز الحدود، فإن هذه القوى إما يتم رفضها من طرف ابن عربي وإما يضطر إلى تقسيمها والعمل على تأطيرها بوضع حدود أخرى؛ وبناء على ذلك، قسم ابن عربي العقل إلى قسمين: عقل يدرك بواسطة، وهو ما يرفضه انطلاقا مما يترتب عنه من نتائج، وعقل ذاتي، ينتظر ويقبل دون أن يفعل أو يتعقل؛ وقسم الفكر إلى:فكر فاسد يتم رفضه، وفكر صحيح، يقبل به لكنه يؤطره ويضع له حدودا. لكن، سوف يختلف الأمر مع الخيال والقلب، ولا يقوم بمثل ما قام به مع العقل والفكر، وكأنه يميل في موقفه رغم هذه الضوابط، أو إن موقف ابن عربي من القوى فيه شيء من الانحياز إلى جانب الخيال والقلب.

 

 

 


هوامش وإحالات:

  • ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص167.
  • ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ج1، ص157.
  • نفسه، ج3، ص379.
  • نفسه، ج7، ص45.
  • نفسه، ج8، ص143.
  • نفسه، ج3، ص338.
  • نفسه، ج1، ص348.
  • نفسه، ج 8، ص54.
  • نفسه، ج3، ص134.
  • نفسه، ج5، ص26.
  • نفسه، ج5، ص26.
  • نفسه، ج1، ص347.
  • نفسه، ج1، ص122.
  • نفسه، ج1، ص307.
  • نفسه، ج1، ص73.
  • نفسه، ج8، ص62.
  • فصوص الحكم، ص169.
  • الفتوحات المكية، ج3، ص337.
  • نفسه، ج1، ص341.
  • نفسه، ج1، ص347.
  • نفسه، ج1، ص347.
  • نفسه، ج1، ص347.
  • نفسه، ج1، ص262.
  • نفسه، ج1، ص198.
  • نفسه، ج8، ص131.
  • نفسه، ج4، ص293.
  • نفسه، ج6، ص280.
  • ابن عربي، محيي الدين، كتاب الجلال وهو كلمة الله، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص59.
  • ابن عربي، محيي الدين، التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1998، ص145.
  • الفتوحات المكية، ج1، ص151.
  • نفسه، ج1، ص159.
  • نفسه، ج1، ص49.
  • نفسه، ج1، ص347.
  • نفسه، ج3، ص346.
  • نفسه، ج1، ص326.
  • نفسه، ج1، ص121.
  • نفسه، ج5، ص103.
  • نفسه، ج4، ص173.
  • نفسه، ج1، ص196.
  • إيان، أموند، التصوف والتفكيك درس مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011، ص47.
  • ابن عربي، محيي الدين، رسالة لا يعول عليه، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص294.
  • التصوف والتفكيك، ص47.
  • أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1998، ص363.
  • التصوف والتفكيك، ص48.