مجلة حكمة

سالينجر، الروائي الخالد – ترجمة: سعيد بوخليط


سعيد بوخليط
غلاف الكتاب

يصعب أن أحدد، ما شكله بالنسبة لجيلي  في فرنسا نهاية سنوات 1950، اكتشاف “جيروم دافيد سالينجر”. نتكلم غالبا عن أي شيء، عمله “كتاب التعبد”، أكره إحالة كهاته، وأظن بأن “سالينجر” لن يحبها قط، لانطوائها  على الاجتماعي وكذا ما هو سخيف، يجعلانها في تعارض مطلق مع جل ما عاشه وكتبه. مع ذلك، فإن ذوقنا (شعوري) نحوه، كان لا عقلانيا واعتياديا، بل، إجلالا ونوعا من الانتباه الطقوسي.

ينبغي أن ندرك ماهية الأدب خلال تلك الحقبة، في فرنسا وأمريكا  الشمالية. إذا خرجنا من أقصى جاذبية روائيي ما بعد الحرب، وباستثناء “بوريس فيان” « Boris Vian »، لم يكن هناك ما يبهج في قراءة الرواية. إنها، فترة المفاهيم الكبرى، التي صاغت مثل الخصوصية الفرنسية المتعلقة ب “الأدب الملتزم”. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد استعصى التخلص من الحالة المذهلة التي جسدها كل من : “ستينبيك” « Steinbeck »، “دوس باسوس” « Dos Passos »، “سينكلير لويس” « Sinclair Lewis ».

أمكننا الإحساس بسطوة قامة “هيمنغواي”، القناص العظيم  والمموه الكبير، بلوحاته عن الحرب وكذا العودة إلى الطبيعة. بالتأكيد، كان “فولكنر” أكثر الروائيين الأمريكيين صعوبة عن الفهم، أسطورة “الجنوب الرباني”، بسحر جمله الطويلة ومونولوجاته الباطنية (من غير الصائب، أن نضم إليه الروائية الأمريكية « Flannery o’connor »)

يبدو، بأن الرواية الجديدة في فرنسا، قد غيرت الحقبة التي استبطنها الأدب، لكن يجب الاعتراف بعدم مقروئيتها. باختصار، كنا (جماعة شباب شدّه الأدب، كما تملكه الاضطراب الذي تبعثه فكرة واجب المشاركة في حرب الجزائر) منفصلين عن الثقافي. بصيغة ما، قد نقارن ارتباك جيلنا سنوات 1960، مع جيل الشباب الحالي، حيث كلمة “أدب” لا تعني شيئا بالنسبة إليه. هناك مشهد “الكتب” الذي نتكلم عنه، ثم انعدام المشروع كما لو أن ما هو مكتوب صار ظلا باهتا، للمفترض أو اليومي. فضّلت الحقيقة، تدبير الدم والجنس أو المخدرات ؟

Salinger
Salinger

أن تقرأ للمرة الأولى، كما كان الأمر بالنسبة إليّ، عمل “سالينجر” المعنون ب : [For Esmé, with love and squalor] (النسخة الصادرة سنة 1960، هيمنت عليها صورة المراهقة المثيرة، والتي أضحت قبل ذلك مستهلكة ثم استعادتها قصص مجموعته : Nines stories)، مثّل انبهارا وجسد أفضل افتتان، شخص ما، كاتب يتواجد في أبعد جهة أخرى من العالم ، بوسعه التكلم عن ما أشعر به وأتشوق إليه، يروي حكاية قد لا تتأتى لدي بهذه الكيفية، وهي جزء من ذكرياتي ومشاعري، بحيث منحتني إمكانية التفكير بناء على لمسة خفيفة،غريبة في الآن ذاته  ومؤثرة، وليس بمعاني انتُقدت بقوة. بالتالي، سيتغير مجمل مسار حياتي.

فترة شبابنا، احتجنا إلى رموز، أدركت بأن “جيروم دافيد سالينجر”، سيكون نموذجي، على مستوى الكتابة والحياة، من خلال نصوص مثل : [Perfect Day for Banana Fish] أو [Teddy] ثم خاصة أولى حكايات نصوصه :[Esmé] حيث  وقائع تلك الزيارة الصاخبة ل “كاتب كبير”، إلى قاعة الطعام خاصة بالجنود، إبان الحرب العالمية.

لقد، كان في مقام أخ أكبر، جراء المرارة كما يكشف عنها الواقع وكذا السخرية الجريئة للأجيال الضائعة في الحرب (كل الحروب)، ثم أيضا هذه الرؤية الحالمة التي تترقب إلهاما، أيا كان، بغية التخلص من وحل العجز واللاتكيف. أخ أكبر، استضافني إلى عالمه.هكذا، اقتفيت آثار خطواته، ليس بانذهال أعمى، ولكن لأني أصغر سنا، يمكنني الانضمام إليه من خلال تمثل حقيقة صارت سهلة البلوغ أخيرا. في المقابل، أبدي له وفائي، وإذا لم يرغب في ثقتي، فلن يخمد همتي، لأنه كان جزءا من منطق الأشياء.

مع رواية سالينجر « The Catcher in the Rye »، لم أكن في نفس عمر “هولدن كولفيلد”، لكني عشقت كل ما لديه، طريقته في التأويل (بعده، يأتي “ريجين دوشارم” ب “قربانه الكوميدي” !)، تقديسه لقبعة بيسبول، تقززه من الشغف بالسينما. حتما، هي تجربة تتطلب القوة، حين يندس شخص يبلغ الثلاثين من عمره إلى جسد مراهق في الثالثة عشر، لكنها جيدة بالنسبة لنجاح أدبي. الأمر إذن، كذلك.for-esme

ولأني أحببت مع “سالينجر” اللغة الإيطالية القديمة، فقد قرأت كل ما كتبه. وحين بدا جيدا، عدم رغبته في إخراج أي عمل، وكبرت أسطورة الرجل الذي آثر الاعتناء بوروده، حيث يعيش كما صرح  ذات يوم : ((في ولاية « New hampshire » الأمريكية مع زوجته وكلبه)). أحسست بشيء من الحزن، يمتزج بهذا النوع من الوفاء الملزم للكاتب بالتماهي مع شخصياته، ويقول ما يريده ثم يصمت. لأننا على الدوام غير مكتملين، فقد كان له الحق، في أن يكون على الوجه الأكمل. شكرا، لك إذن”سالينجر” وإلى الأبد.


– le monde : 7 février 2010.