مجلة حكمة
زيجمونت باومان

زيجمونت باومان: موسوعي سنفتقده بشدة / ترجمة: غيداء الجويسر، رولا رشوان

نُشِرَت هذه المقالة في مجلة رابطة علماء الاجتماع البريطانيين Network في ربيع ٢٠١٧، وهي عبارة عن تكريم بعض من عاصروا زيجمونت باومان وعرفوه عن قرب لذكراه، وأرادوا تقديم هذه المقالة تقديرا له ولأعماله. وهم على التوالي: مارك ديفيس Mark Davis، توم كامبل Tom Campbell ،  جيف هيرن Jeff Hearn  وجون بريور John Brewer.  تحتوي المقالة كذلك على نبذة قصيرة عن حياة باومان. من الجدير بالذّكر أنّ جريدة جيل جديد نشرت عددًا خاصًا من مجموعة ترجمات خاصة في إبريل ٢٠١٧ بعنوان: زيجمونت باومان ”أبو الحداثة السائلة“، يمكن العودة إليها كذلك لقراءة مقالات مشابهة.  نسخة PDF


أ. مارك ديفيس   Mark Davis

كان لوفاة زيجمونت باومان صدى عالميا استثنائيا، بتفاعل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي في كل من إيطاليا وإسبانيا من شخصيات وأوساط متعددة خارج نطاق المهتمين بعلم الاجتماع، كبعض الزعماء السياسيين مثلا وعدة حركات اجتماعية داخل أمريكا اللاتينية وخارجها. ويلاحظ المتابعون لمسيرة أعمال بومان أن شهرة أعماله تتزايد طرديا كلما ابتعدت عن مدينة ليدز، وطبقا للقول المأثور الذي تتناقله وتعترف به الأوساط الأكاديمية: “التحدي الحقيقي يكمن في تجاوز صدى إنتاجك الأكاديمي للنطاق المحلي المتعارف عليه، وأن يصبح صيت أعمالك ذا صلة حقيقية بالنطاق العالمي.” من اللافت للنظر، أننا لمسنا بُعدا متناقضا للقول السابق في أعمال زيجمونت باومان ومعهد باومان للدراسات الاجتماعية، فعلى الرغم من اتساع صدى شهرته التي وصلت بالفعل إلى العالمية، فإن العكس تماما ينطبق على النطاق المحلي في بريطانيا؛ حيث تتمركز الشريحة الأكبر من قارئي أعمال باومان خارج المملكة المتحدة. وهنا يُطرح التساؤل: لماذا يخفت وميض عَلَم كزيجمونت باومان في علم الاجتماع البريطاني؟ ربما يعود ذلك لتقاعده عام 1990 وابتعاده أكثر وأكثر عن المعايير الأكاديمية التقليدية في علم الاجتماع، واعتماده على نموذج أكثر بساطة وأقرب – من خلال كتاباته – لفهم العامة، وذلك أملا في جذب المزيد من تفاعل المجتمع المدني مع أعماله.

يرى بعض المختصين البريطانيين بأنّ أعمال باومان لم تقدم جديدا بعد “الحداثة السائلة” (2000)، لكننا بمزيد من الجزم نؤكد أن الادعاء عار من الصحة، فأعمال زيجمونت ما بعد عام 2000، لا تقل قوة وجدارة عن قيمة ما قدمه قبله. وخير مثال على ذلك هو كتابه الأشهر “العمى القيمي” (2013) والذي يستعرض انعدام حسّنا الأخلاقي تجاه معاناة الآخرين وموقفنا اللامبالي تجاه ما يحدث في العالم حولنا. وللراغبين في التعرف على أعمال بومان لأول مرة، فإننا نوصيهم بالاطلاع على كتابه “العمل، الاستهلاكية، والفقراء الجدد” 1998، ليس لمجرد كونه من أقوى كتبه تأثيرًا، بل لجمعه في هذا العمل التحولات العالمية العميقة على مستويات اجتماعية، اقتصادية وسياسية مختلفة، والتي أثرت على شريحة واسعة من البشر، بما يتعدى تصورنا لنطاق التزاماتنا الأخلاقية تجاه الإنسانية. يحتوي كتابه الوفاة، الخلود واستراتيجيات أخرى للحياة (1992)، على بعض المواضيع التي خضعت للكثير من التطورات بعد أعماله التي صدرت بعد الألفية الثانية فيما يتعلق بأن يعيش المرء (moral life)  حياة فاضلة.

من أكثر ما يميز زيجمونت هو قدرته الباهرة على التحليل؛ وذلك من خلال ربطه التوجهات النظرية في علم الاجتماع بنظيرتها في الأدب، الفلسفة، والتاريخ، ثم يفسر من خلال تلك التوليفة ما يحدث في العالم حولنا. ورغم أن أعماله تتعرض للنقد بالتشكيك في صلابتها الأكاديمية طبقا للمتعارف عليه من معايير البحث الأكاديمي، إلا أنه يتحدث إلى عامة الناس من خلال أعماله بطريقة واضحة ومباشرة. إنّ رغبته في تشجيع علماء الاجتماع على رؤية العالم من منظور الضعفاء والعامة، هو إلى حد ما نابع من اشتراكيته المتشكلة من تجربته المعرفية والشخصية معا. لقد عايش باومان بشكل مباشر الكثير من أحداث الرعب في القرن العشرين والتي لونت بدورها طريقة رؤيته للعالم.

تأتي أعمال زيجمونت بمثابة رسالة من القرن العشرين لجيل القرن الحادي والعشرين. ويظهر حسّه الاشتراكي بوضوح من خلال تفسيره وتحليله للأزمة المالية العالمية؛ حيث يرى أن كل المبادئ الاجتماعية التي تتبناها الحكومات فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي، تصب في نهاية الأمر في صالح الأغنياء، ويتم إعفاء البنوك من تلك الآثار المدمرة لهذه الاستراتيجية. أما عن آليات التيسير الكمي، فهي من خلال منظور باومان، حل فوري وسريع لمنح الأغنياء مزيدا من الرفاهية. يؤمن باومان بأن التعاملات الاقتصادية تتم بناء على توافر المال ومنحه بسخاء اعتمادا فقط على شخصية وكيان من يطلبه؛ مثل تلك النظريات الجريئة هي من أعطت لزيجمونت وأعماله تلك الشهرة وذلك التأثير العالمي الممتد.

لازلت أتذكر رحلتنا معه على القطار من مدينة ليدز إلى مدينة شيفيلد لحضور إحدى الجلسات العلمية، قدم لنا يومها تحليلا حيا ودقيقا للوضع العالمي المعاصر، وذلك من خلال حديثه عن بربرية إحدى الدول القومية التي قامت بمضاعفة تكاليف التعليم العالي. كان نقاشه يتمحور حول أن كل الحكومات بغض النظر عن توجهها السياسي هي مسؤولة عن توفير كل احتياجات شعبها على كافة المستويات، وإلا فلم سميت بالحكومة ولم تستحق قيادة البلاد؟ لاحظنا خلال الرحلة نظرات الركاب تجاهنا وتساؤلهم عما يحدث؟ هذا الخطاب الحكيم من شيخ مسن كان قد جذب انتباه القاطرة كاملة.

بغض النظر عن المحاولات العديدة لبعض المختصين والباحثين في علم الاجتماع لتصنيف باومان خارج حدود التخصص وتلقيبه بـ الفيلسوف الاجتماعي، المفكر أو المحلل، لم يفشل زيجمونت في التأكيد مرارا وتكرارا على أهمية نظريات علم الاجتماع؛ والتي يراها ملكة متوجة فوق عرش النظريات المثبتة لكافة العلوم الأخرى وأن هذا العلم قد وُجِد لخدمة الآخرين. علم الاجتماع الذي لا يخدم الحرية، العدالة الاجتماعية والمساواة لا يستحق أن يسمى علم اجتماع ولا أن يربط اسمه بالمجتمع، هكذا رسم باومان الحدود بين علم الاجتماع والعلوم الأخرى.

رغم اعتياده على البقاء في الظل، إلا أن باومان لم يتوان عن تقديم الدعم لنا في المعهد، كنا نلتقي به بشكل مستمر، وكان مهتما بالاستماع لمناقشات الطلبة، والتعرف على مصادر شغفهم، ما يحفزهم، ما يشغل بالهم وما يثير فضولهم وتساؤلاتهم. كان مهتما بكل ذلك أكثر من اهتمامه بمعرفة إنجازات المعهد. في أكتوبر 2016 هنا في معهد ليدز، قام بتقديم محاضرة كانت على الأغلب هي محاضرته الأخيرة، وقد كان رغم كبر سنّه وضعف صحته، لايزال مهتما بالتعرف على الطلاب عن قرب.

نتذكر كم كنا محظوظين بقضاء الوقت في صحبته خاصة في تلك الأثناء التي يندر فيها أن تتاح لك مجرد الفرصة في التعرف على المؤلفين العظام اللذين اعتدت أن تقرأ لهم، ناهيك عن إمكانية أن تكتشف خفة ظلهم وأنّهم يضجّون بالحياة أكثر مما كنت تتوقع، وأن تلمس جذوة شغفهم التي لم تخفت، رغم فارق 60 عقدا من العمر بيننا وبين زيجمونت.

ب. نبذة مختصرة عن حياة باومان عرضتها الشبكة

زيجمونت باومان من سكّان مدينة پوزنان Poznan البولندية التي تقع في النصف الغربي من بولندا، وهو ابن لكل من مورتيز باومان (Mortiz Bauman) والده، الذي كان يعمل محاسبًا، وصوفيا ني كوهان  (Sophia née Coh)  والدته . هاجر زيجمونت في صحبة عائلته إبان الحرب العالمية الثانية إلى الاتحاد السوفيتي، وحارب ضد النازية ومنح في إثر ذلك وسام الشجاعةCross Valour   من الجيش البولندي. تزوج بومان من جانينا لوينسن (Janina Bauman)  في 1984 وحاضر في علم الاجتماع في جامعة وارسو في بولندا، ثم أصبح أستاذا بروفسورا في 1964. في 1968 تم طرده هو وعائلته بعد أن شنّ عليه الحزب الشيوعي حملة اتهامات بمعاداة السامية. قام بعدها – مؤقتا – بشغل منصب محاضر في عدة جامعات: تل أبيب، حيفا وملبورن. في 1971 استقر هو وعائلته في بريطانيا حيث ترأس قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز. توفيت زوجته جانيا في 2009، وبعد ست سنوات تزوج مرة أخرى بألكسندرا جاسينكا-كانيا، وهي باحثة في علم الاجتماع كذلك. عاشت ألكسندرا مع زيجمونت وبناته وأحفاده، ورافقته حتى وفاته في .2016

أثمرت مسيرة باومان الأدبية عن 60 مؤلفا، يأتي على قائمتها، كتابه الأشهر والأبرز: الحداثة ومحرقة الهولوكوست ((1989. تجاوزت أعمال زيجمونت حدود علم الاجتماع والنظريات الاجتماعية إلى: السياسة، الفلسفة، الأخلاق، دراسات الإعلام، الدراسات الثقافية، علم النفس والديانات. قدم باومان فكرة الحداثة السائلة لما لاحظه من التغيرات السريعة والحادة التي تصيب البشرية على أصعدة مختلفة مثل العلاقات الشخصية، الهويات والاقتصاد العالمي في المجتمع الحديث. قام باومان بتناول ظاهرة الهجرة وصعود اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، قائلا بأن الاتحاد الأوروبي استطاع أن يكون سدا منيعا ضد الحرب وانعدام الأمن الاجتماعي. ربط زيجمونت بين محرقة الهولوكوست وتزايد حجم الشعبوية في العصر الحالي، حيث يتعامل الجميع مع الآخرين باعتبارهم “آخرين”. تقلد باومان وسام European Amalfi لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية في عام 1992 وجائزة Theodor W. Adorno Award الألمانية للإسهامات الفلسفية والفنية في المسرح، الموسيقى والأفلام، وذلك في مدينة فرانكفورت عام 1998. وقامت جامعة ليدز بإنشاء معهد باومان التابع لقسم علم الاجتماع والسياسات الاجتماعية تقديرا له عام .2010

ج. البروفيسور جيف هيرن :Jeff Hearn

 أدين فعليا بجزء من شغفي بعلم الاجتماع لـ زيجمونت باومان؛ بعد دراستي للجغرافيا، التخطيط وعلم الاجتماع في أواخر الستينيات، ومن ثم العمل بعد ذلك في مجال التخطيط الحضري، عدت للجامعة في 1973 لاستكمال الماجستير في دراسة المنظمات الدولية في جامعة ليدز. قمت بالبحث دون تخطيط مسبق عن الندوات العلمية في قسم علم الاجتماع والتي كانت في العادة تٌدار – حسبما أذكر – بواسطة زيجمونت باومان، وقد كان حينها ما يزال حديث التعيين.

رغم أنني كنت مهاجرًا صموتًا من قسم آخر، فقد كانت تلك اللقاءات العلمية مصدر إلهام لي لدراسة المنظمات. لقد فُتِنت بانسيابية حديث المحاضرين البارزين وبالأخص رئيس الجلسة (باومان)، بلاغته ولكنته وحسن إدارته لكل شيء في وقت واحد. وبدون أي تواصل شخصي – حينها – بيني وبينه، فقد علمني أهمية اتساع عمق النظرية الاجتماعية، واحترام الاختلاف، ولربما التناقض كذلك. علّمني باومان الاتجاهات النظرية التقليدية، كالماركسية، المادية، البنيوية، الوجودية، الحداثة (وما أصبح لاحقا يقاس بما بعد الحداثة)، الظاهراتية، والاثنوميثودولجي (منهج الجماعة)، والتي كنت أراها في ذلك الحين – بغض النظر عن نقد زيجمونت لها – متوائمة وليست متناقضة مع الماركسية والنسوية.

منذ ذلك الحين، لا أستطيع القول أنني آمنت بأفكار باومان على كثرتها، وإنما استعنت ببعض أعماله ونظرياته التي أثبتت صحتها وتطابقها على عدة مستويات: اجتماعيا واقتصاديا … إلخ، والتي أثارت لدي العديد من التساؤلات وأصبحت مصدر شغف لي في مجال عملي مقتحمة أفكاري مرارا وتكرارا، دافعة للمزيد من الاكتشاف والانبهار في كل مرة. منذ البداية وجدت منهج باومان في الكتابة عن المفاهيم المعاصرة، مُوَجِّهًا لي في محاولات الإسهاب في المجال غير الأكاديمي (المهني). وهنا أقتبس منه: “قد تمثّل الفكرة مفهوما اجتماعيا: أو بتبسيط غير مخل، آلة توجيه، كجهاز يساعدنا على توضيح وإعطاء معنى لخبرتنا، تحت شرط واحد وهو تناسبها واطرادها (الفكرة) مع تلك الخبرة ذاتها” (باومان، .(1974

بعد عشرين سنة، حينما حاولت تعريف مفهوم العولمة، وجدت ضالتي في مقالته المُلهِمَة “البحث عن نقطة التوازن” (1995)، وكذلك كتابه “النتائج الإنسانية للعولمة” (1998). كل ذلك كان له تأثير على مقالتي في عام 1996 “البحث عن السلطة .. البحث عن المركز”، والذي ناقش: الطبقة، الجندر والعرق في المنظمات (وهو ما أبحث فيه حاليا حول الرجال والشركات متعددة الجنسيات /عابرة الحدود).

قابلت زيجمونت شخصيا لأول مرة في مؤتمر رابطة علماء الاجتماع البريطانيين في يورك عام 1997، والذي كنت أحد منظميه مع بعض من زملاء باومان من جامعة ليدز. كنت أشعر بالرهبة في حضوره، وحينما قمت بتحيته فوجئت بمدى دماثته ولطفه بتعرّفه عليْ وأنه يتذّكرني – لحظة لن أنساها ما حييت. في ختام الندوة لخّص بشكل واضح تناقضات القضايا العالمية: فاحشو الثراء والمحرومون، مُقَدِّمًا نقاشًا حيًّا، وحاثًّا أحد الأعضاء في الجلسة، روزاليند إدواردز Rosalind)       (Edwards  – إن لم تخني الذاكرة – لعنونة توجهه في علم الاجتماع بـ “إسقاط علم الاجتماع الميّت”. قال ذلك بسعادة ومباركة تامة. في ختام المؤتمر أهدِيَت له باقة ورد قام بمناولتها فورا لزوجته جانيت باومان، والتي كانت هي نفسها كاتبة مشهورة، مبادرة استوقفتني كثيرا لما قد تحمله من تفسيرات مختلفة.

تأثرت أعمالي بالكثير من مؤلفات باومان، وأذكر هنا اثنين منها: الأول إضافته العميقة عن الهولوكوست، ونموذجه عن اللاإنسانية والانحطاط الأخلاقي لهيمنة المنظمات الحديثة. وهزالة جدواها (كتابه الحداثة والهولوكوست 1989). والثاني هو سلسلة الحداثة وعلى وجه الخصوص اهتمامه بالرقابة السائلة. كل ذلك كان بمثابة الأعمدة التي توكأت عليها واستعنت بها في سلسلة أعمالي حول علاقة العنف والجندر والجنسانية بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي تنطبق تماما على ما يحدث هذه الأيام على الصعيد السياسي. أخيرا، أضيف أن ما أبهرني في أعماله خلال السنوات الأخيرة هو نموذج النشر المؤثر والتفاعلي الذي يٌظهر قوة الخطاب الاعتراضي في ولـِ علم اجتماع أكثر اتساعا وحميمية.

د. البروفيسور جون بريور :Professor John Brewer

تعرفت على باومان للمرة الأولى أثناء مرحلة البكالوريوس، كان ذلك منذ وقت طويل جدا حينما زار القسم الذي درست فيه لإلقاء محاضرة. كانت أناقة تعاطيه لغليونه آسرة بحيث يستحيل ألّا ألاحظها. يشعل غليونه بعود الثقاب ثم يعيد ذات العود المستخدم إلى علبته دون أن يعكر ذلك صفو تدفق حديثه. في ذلك اللقاء تحديدا، لم يكن عود الثقاب قد انطفأ تماما عند إعادته إلى العلبة مما أدى لاشتعال العلبة كاملة. ولكن باومان وبذات السمت والقرار هزّ العلبة لتنطفئ دون أن يقطع حديثه أو يتحرك من مجلسه.. ذكَّرتُه بذلك خلال تناولنا العشاء في ليدز في 2012، وكان آنذاك قد تحول من تدخين الغليون للسيجارة.

تحدث هو ومايكل بوروي (Michael Burawoy) عن مدى استيعاب علم الاجتماع لأحداث العالم في الوقت الراهن. في آخر حفل لتَقَّلُد منصب رئاسة رابطة علماء الاجتماع البريطانيين وقبيل نهاية فترة رئاستي للرابطة، بعد ما قمت بتقديم الخطاب الافتتاحي الذي يقدمه رئيس الرابطة، قام بتقديم خطابه كعادته دون يستعين بورقة – كلاهما فعلا ذلك زيجمونت ومايكل – وقد كان حديثه واضحا ومباشرا كعادته.

أتذكر حديثه كما لو أنّه كان كتابًا نطقت صفحاته أمامنا بمحتواه، تماما كذاكرته القوية في استحضار مؤلفاته، أتذكر كذلك حديثه المطول والوافي تماما والمخبر عن اتساع علمه وضلاعة معرفته، رغم قيود الأعراف الأكاديمية البغيضة التي كانت تنص على الالتزام بالجدول الزمني ومحدودية المشاركات والمداخلات الفكرية المتاحة. كانت الجلسة إنجازًا بحد ذاتها، لكن إدارتها كانت كابوسا.

كثيرة هي ذكرياتي مع باومان والتي لا يسعني حصرها هنا، ولعل من المناسب أن أختم حديثي بالإشادة بتأثيره القوي على عملي في علم اجتماع السلام، والذي استلهمت فيه الصبغة المميزة لفكره الاجتماعي، ووصفه للطريقة التي يوصم بها العنف الواقع الحديث، والازدواجية والتناقض تجاه المهاجرين، بالإضافة لتحليله لتداعيات العولمة على الإنسانية.

إن العلامة الفارقة لباومان كعالم اجتماع هي أنه مازال هنالك الكثير الذي لم يُدَوَّن عنه بعد، وأن ما ذكرته هنا هو نقطة من بحر ما قدّمته أعماله. زيجمونت باومان موسوعيّ  ..  سنفتقده بشدة.

مراجعة: حمد الشمري