مجلة حكمة

رسالة والتر رالي الأخيرة إلى زوجته – لينكولن شوستر / ترجمة: هديل الدغيشم


   أشار كثير من النقاد إلى هذه الرسالة الدراماتيكية بأنها اشتهرت بـ “بلاغة شكسبيرية” تلك الرسالة التي كُتبت بيده المغلولة، إذ كان رالي يتوقع بأنه سيُعدم صباح اليوم التالي.

  وُلد والتر رالي سنة ١٥٥٢، وحظي بإعجاب الملكة إليزابيث منذ سن صغير، فهو مثال على رجل البلاط الكلاسيكي المثالي؛ وهو مؤرخ، ومستكشف، ومغامر أجنبي. وعُرف في الجانبين الأسطوري والتاريخي، ويعود ذلك لبسالته ومآثره   أثناء الاستعمار، والتي أدت إلى دخول التبغ إلى العالم المتحضر. خلعت إيرل إيكس (طبقة النبلاء)  والتر رالي برغبة من الملكة، وارتحل بعدها إيرلندا، ثم ما لبث أن عاد وأُعيد إلى رعاية الملكة واهتمامها، ولكن ذلك لم يدم طويلًا؛ إذ اكتشفت الملكة علاقته الغرامية مع وصيفتها إليزابيث ثروغمورتون. وبعد المد والجَزْر الذي مر به، استغل أعداؤه الكبار في البلاط الملكي سقطته أثناء إحدى بعثاته الاستعمارية إلى أمريكا الجنوبية وكادوا له بتهمة تآمره ضد السلطة الملكية، مما أدى إلى محاكمته في وينشستر. ثم أُرسل إلى برج لندن للمحاكمة، وكان ذلك في عهد جيمس الثاني عام ١٦٠٣. وأثناء إقامته هناك، كتب عمله الشهير “تاريخ العالم” والذي يحتوي اقتباسه الشهير الذي يناجي فيه الموت، واُقتبس هنا لارتباطه بموضوع رسالته:                

“الموت وحده الذي يجعل الإنسان يعرف نفسه بغتة، ويقول للمختال والفخور بأنهم مجرد أذلاء، ويُهينهم حالًا، ويدفعهم للبكاء والنواح، والندم حتى على سعادتهم الماضية.

فهو يأخذ بالغني ويحيله إلى فقير متشرد عارٍ، لا هم له إلا لقمة تملؤ فمه. ويُجلي لأكثر الناس أُبّهة وجمالًا بشاعتهم وانحطاطهم، ويدفعهم للاعتراف بها.

أواه! أيها الموت العظيم المهيب، يا من لا يقدر أحد على مواجهته، يا من تعلم بقدرتك على ما لا نقدر، ومن يبجلّه العالم بأكمله. إنك وحدك من ينتزعنا من الحياة الدنيا، ومن زممت عظمة الإنسان وغطرسته واختصرتها في هاتين الكلمتين: شهيق وزفير.

لستُ إلا رمادًا …” 

 

“زوجتي الغالية، على الأحرى أنكِ ستتلقين آخر كلماتي في هذه السطور. أرسل لكِ حبي ليدوم معك عند موتي، وأرفقه بوصيتي لك لتتذكريها حين لا يبقى لي أثر. وأؤكد لكِ يا عزيزتي أنني لن أُسرَّ بنحيبكِ وجزعكِ على وفاتي، فدعي الحزن ليُدفن معي ويتلاشى مع التراب. وكما نرى أن مشيئة الإله اقتضت بأن لا نلتقي ثانية في هذه الحياة، فأرجو أن تتحملي ذلك بصبر وأناة وبقلب مؤمن.

بدايةً، أوجه لكِ كل الشكر من قلب مخلص وبكلمات صادقة على الأعباء التي تكبدتِها من أجلي وعلى عنايتك بي. ورغم أن جهودك لم تحقق النتيجة التي تطلعتِ إليها، إلا أنني ما زلت ممتنًا لكِ وعاجزًا عن رد جميلك ما حييت.

ثم إنني أتوسل إليكِ باسم المحبة التي تحملينها لي بألا تنغلقي على ذاتك أيامًا كثيرة، بل استعيني بمصائبك لتساعدك على الحصول على ثرواتك البائسة، ولأخذ حق طفلك المسكين.

إن نحيبك لن يجدي، فلستُ إلا رمادا.

وعليكِ بأن تدركي بأن ملكية أرضي نُقلت إلى ابني عن حُسن نية؛ أُبرمت العقود منتصف الصيف. ويستطيع ابن عمي المخلص بريت إثباتها، ويتذكر دولبري بعضًا من ذلك أيضا.            

أثق بأن دمائي ستُطفئ ضغائنهم التي تسببت بقتلي بقسوة، لذا لن يتعطشوا لقتلك أنتِ وطفلك البائس المسكين. 

لا أجد أيًّا من أصدقائي ليرشدكِ، إذ أنهم جميعًا تخلوا عني في وقت المحنة الحقيقي، وعلمت بأن موتي محسوم من أول يوم. ويعلم الإله بمدى أسفي الشديد، حيث أن الموت باغتني وليس لدي إلا تركة زهيدة لأتركها لكِ. ووحده يشهد بأنني أردت لك كل مكاسبي، أو لكنت بعت كل ما قد ابتعته مسبقًا؛ نصف ممتلكاتي وكل جواهري باستثناء واحدة للطفل، لكن مشيئة الإله حالت دون تحقيقها،  وحده من يدير كل الأمور. ولكن إن لم تعوزك الحاجة إلى المال فلا تهتمي لأكثر من ذلك، فإن زيادته ليست إلا ترفا. أحبِّي الإله  والتجئي إليه عاجلًا، وستجدين الغنى الحقيقي الأبدي، والاطمئنان الأزلي. بينما حين تعانين وتُنهكين نفسك بالخواطر والتأملات الدنيوية، فإنكِ في النهاية ستغرقين في الأحزان.                

علّمي طفلكِ بأن يحب الإله ويخشاه أثناء صغره، لعل ذلك ينمو معه، وليكون الإله صاحبًا ووليًّا لكما؛ وليًا لا يمكن انتزاعه.

يدين لي بيلي بمئتي باوند، وآدريان غيلبرت بستمائة باوند. بالإضافة إلى آخرين يدينون لي بمبالغ مختلفة في جيرسي. أما أرباحي المؤجلة فستغطي ديوني، ثم إنني أتوسل إليك بحق روحي بأن تنفقي على الفقراء حسبما ترتئين. لا شك بأن كثيرين سيسعون طلبًا لرضاكِ عندما أرتحل، معتقدين بغناي وثروتي، ولكن احذري من تملّق الرجال وادعاءاتهم، إذ أنها لا تدوم إلا لدى الصادق والشريف منهم، ولا مصيبة أفظع من أن تكوني ضحية لأحدهم ثم تُحتقري. ويعلم الإله بأنني لا أتفوه بهذا الكلام لأمنعك من الزواج، لكنه لمصلحتك فيما يتعلق بالدنيا والإله. أما أنا فلم أعد لكِ، ولم تعودي لي حيث أن الموت مزّقنا إربًا وشتتنا، ومشيئة الإله وحدها التي انتزعتني من الدنيا، وانتزعتكِ مني.                  

تذكري طفلكِ المسكين من أجل والده الذي انتقاكِ وأحَبَّكِ في أسعد أوقاته. ودونكِ هذه الرسائل (إن أمكنكِ ذلك) التي كتبتها    للأولياء، حيث قاضيت فيها على حياتي. ويشهد الإله وحده بأنني تمنيت الحياة لأجلكِ، ولو أنني أهنت نفسي بالتوسل إليها. وكما تعلمين يا زوجتي العزيزة بأن طفلك ابن رجل حقيقي، رجل يجلّ الموت على ازدراءه إياه، رغم بشاعته وفظاعته.          

لا أستطيع الكتابة كثيرًا، يعلم الإله وحده بأنني استرقت هذا الوقت بينما ينام الآخرون، إنه أيضًا الوقت الذي علي فيه أن أعزل خواطري عن الدنيا. اعطفي على جسدي الذي أُعدم، واجعليه يرقد إما في شيربورن (إن بقيت) أو في كنيسة إكستر، بجانب والداي. أعجز عن قول المزيد، فالموت يناديني.

يا إلهي العظيم المجيد، يا ذا العزة والجبروت، أيها الجبّار الذي هو الخير بذاته، يا من يرجع إليه النور كله والحياة الدنيا كلها، أتوسل إليك أن ترحمني وتعطف علي، وأن ترشدني إلى العفو عمَّن اضطهدني وظلمني، وابعثنا جميعًا لنلتقي في الملكوت الأعلى. زوجتي العزيزة، وداعًا. طفلي المسكين، باركك الإله. ادعوا من أجلي، ولعل الإله الكريم يحفظكما بحفظه وبين يديه.

كُتبت بيدٍ مغلولة لرجل كان يومًا زوجكِ، أما الآن فياللأسى.. إنه راحل.

كان لكِ، أما الآن فليس حتى ملكًا لنفسه،

والتر رالي.”

 

في حقيقة الأمر، لم يُعدم والتر رالي في الصباح التالي، لكنه حُبس في برج لندن مع زوجته حتى عام ١٦١٦ عندما أتيح له أن ينضم إلى بعثة البحث عن الذهب في أورينيكو. ولكن هذا لا يثبت إلا إرجاء تنفيذ موعد الإعدام، فقد أُعدم أخيرًا عام ١٦١٨ في فناء البرج. هناك حيث شَهِدَ مرة إعدام أعتى وأشهر منافسيه، روبرت ديڤركس.