مجلة حكمة
رحيل هنري ميشونيك - ترجمة: سعيد بوخليط

رحيل هنري ميشونيك – ترجمة: سعيد بوخليط

سعيد بوخليط
غلاف الكتاب

 

ولد هنري ميشونيك Henri Meschonnic بباريس سنة 1932. بدأ، مشروعه، المسمى : Pour la poétique، سنوات 1970، وكذا أول ترجمة لنصوص التوراة. ثم، أول مجموعاته الشعرية : (Dédicaces proverbes) (1972). وبوصولنا إلى سنة 1990، سنقف على دراسته، عن هيدغر، تحت عنوان: [Le langage Heidegger, la rime et la vie]. توفي ، يوم 8 أبريل 2009.

عن سن يناهر 78 سنة، توفي هنري ميشونيك ، بعد معاناة مع مرض سرطان الدم. هو، لساني وشاعر ومترجم للتوراة وكذا أستاذ متقاعد بجامعة (باريس VIII). بعد، أن انطلقت مسيرته الجامعية من مدينة “Lille”. ولد في باريس يوم 18 شتنبر 1932. دشن منذ بداية السبعينات نشاطا ثلاثيا، فأقام عملا مدهشا، تجاوز حقل العلوم الإنسانية.

بحث متغير الشكل، توزع بين النّقد الأدبي، التّرجمة، الإبداع الأدبي، التحليل النفسي، اللسانيات والفلسفة. لكنه تفاعل بشكل دائم ولم يتحمل قط السمة الوحيدة لاستثناء انتقائي. كان من اللازم عليه هنا، إقامة مسار مترابط ومتصل يدير ظهره للمقولات السائدة. ويتمرد على التاريخ وكذا نظرية الممارسات الأدبية. كي يفهم، لماذا وكيف تظل القصيدة الفضاء الأكثر حساسية وإلهاما اتجاه ما يمكن للمجتمع أن يصنعه من الفرد.

منذ ظهور عمله الأول : Pour la poétique(غاليمار 1970). والذي، وصل إلى 5 أجزاء ما بين توارScreen Shot 1436-09-03 at 4.34.11 PMيخ 1973 و 1978 (خصص عددين لدراسة فيكتور هيغو)، لم يتوان مشروع ميشونيك  على سبر أغوار مجموعة أسئلة. تبدو سهلة ظاهريا، إلا أن رهاناتها تبعث التيهان حقا : ماذا تعني كلمات مثل : شعرية، نص،  عمل، قيمة ؟

لم يتوقف ميشونيك ، عن القيام بمقاربة عميقة  لمثل هاته التساؤلات، بين طيات كتبه اللاحقة(2)، كي يحمل لها عناصر الجواب. استبعد، أدوات التحليل الأسلوبية الموروثة عن القرنين 17 و 18، والمتطابقة مع مفهوم زخرفي للأدب. كما رفض، البقاء سجين ميكانيزمات البنيوية التي ازدهرت سنوات السبعينات.

موقفه هذا  المعارض للبنيوية، ونقده اللاذع للمفاهيم اللسانية الرائجة كثيرا في تلك الفترة، نظرا لتطبيقها على تحليل النص. يفسر التلقي البارد نسبيا أو السري، لعمل ينهض ضد الأنماط والاتجاهات.

بالنسبة لهنري ميشونيك ، تنتهي البنيوية في الغالب عند نماذج فقيرة تعجز عن الإدراك المُقنع، لخصائص النصر الأدبي. فلا يمكننا بحسبه تناول خصوصية عمل، دون أن نتبين كون النص صلة بين ذات وشيء، داخل تاريخ وإيديولوجية. بحيث تبقى عناصر غائبة عن تفكير البنيوية. أما، العدو الأساسي للفكر واللغة والقصيدة والأدب ؟ فهو ذاك المفهوم للغة المهيمن في جميع الأحوال على الغرب، منذ أفلاطون والمستند على ما يسميه اللسانيون ب : العلامة. أي، ثنائية داخلية لمفهوم اللغة، حيث الكلمة هي صوت ومعنى. أما، التباين بين الشكل والمضمون فهو بالأخص كارثي قصد التفكير في القصيدة.

Henri Meschonnic
Henri Meschonnic

الجسد ضد الفكر،  الصوتي في تعارض مع المكتوب، المقطع الشعري مقابل  النثر، لغة نقيض للأدب، الفرد في تضاد مع الجماعة : استمر هنري ميشونيك في التصدي بعمق لهاته التقابلات. كما أنه، لم يحكم لأي أحد من الخصمين : العلموية والذاتية، الصورية والموضوعاتية. في حين، انبنت “مرتكزاته” النظرية على مجموعة فلاسفة ولسانيين وباحثين : ويليام فان همبولت
Wilhem von Humboldt (1767-1835)، إيميل بنفنست Emile Benveniste (1976-1902)، والتر بنيامين (1892-1940)، ثم الشكلانيين الروس. بحيث، ينفلت فكره من الانقسام بين الشكل والمضمون، كي يحس في عمل كاتب ما، ريادة لغته، وبأن لا شخص قد حقق ذلك الإنجاز قبله.

لن ننسى، من بين أشياء أخرى، النص المدهش عن الحياة السالفة ل بول إلوارد (في الجزء الثالث من : Pour la poétique). أو، دراسته للعبة النهايات، من خلال عمل فيكتور هيغو (le Dernier jour d’un condamné ) (في الجزء الرابع من : Pour la poétique).

جانب آخر، مهم جدا في اشتغالاته. يحيلنا على الإنجاز الكبير فيما يتعلق بترجماته للتوراة. ابتدأها، سنة 1970 بخمسة ملفات(3). وتواصلت، مع بداية سنوات 2000، حيث جاء أولا “سفر التكوين”، الأسماء. ثم “سفر الخروج” وسماه لاوي Lévitique في الصحراء. وأخيرا، ترجمة كتاب الأعداد.

يجب أن ندرك تكامل هاته الترجمات، مع عمل الشاعر واللساني هنري ميشونيك. وقد صرح بهذا الخصوص لجريدة “لوموند” سنة 2005 : ((لا تقول العبرية “لغة مقدسة” بل “لغة القداسة”. فهناك،  اللغة والقداسة. المفارقة، هي أنني أترجم نصا مكتوبا داخل  لغة القداسة، غير أنه لا أقوم بذلك دينيا، لكن كشخص يحاول فهم الصلة بين الإلهي واللغة)).

ينطلق ميشونيك، من تأكيد : نص التوراة إيقاعي على امتداده. بطريقة يتخلص فيها من التمييز التقليدي بين الشعر والنثر. ظاهرة، أهملها أغلب المترجمين سواء في  فرنسا أو خارجها. لقد توخى إعادة النص التوراتي إلى ما هو متواصل، بمعنى : إيقاع /تركيب/ عروض. بالتالي، أعطاه ثانية قوته وأصالته. خاصة، وأنه يضفي على نص يهودي خاصيته اليهودية.

إن ترجمة التوراة أساسا ظاهرة مسيحية، ركزت فقط على اللغة وتجاهلت كليا الإيقاع الخاص بالنص التوراتي. بهذا الخصوص، بذل ميشونيك مجهودات مضنية، في سبيل إرجاع هذا  النص التأسيسي إلى هويته. هل بإمكاننا البرهنة إيجابا أم سلبا على ترجمته ؟ إذا أخذنا في الاعتبار سعيه، سيظهر يقينا لا جدوى هذا النقاش اللانهائي. مايهم، ميشونيك بالأحرى وهو يعيد تشكيل هذه النصوص، أن نقرأها ونحن نحس بجمالها إلى جانب تعقدها.

لم يتوفر ميشونيك على فكر للانضباط، فقد ترجم، فكر في اللغة ثم  كتب الشعر : تكلم عن “التحام” يتوخى تحويل فكرة الإيقاع التقليدية، أبعد من إقامة “صيغة معينة للفكر النقدي”.  فليس بوسعنا، إلا الاندهاش أمام انسجام هذا  الفكر المثير، حتى ولو استعار سبل السجال مع ما يستوجبه ذلك من تحمل للظلم والمغالاة : يبدو، بأن قصيدته اتبعت مسارات أخرى، لم يثقلها أبدا الفكر النظري. فهي، كما لو كانت مُهدئة، دافئة، شفافة وفي الغالب غنائية. دون، سقوطها قط في البوح الماجن ل “أنا” ظافرة. يعرف، الشخصي على النقيض، كيفية أن يصير عاما وكونيا. يقول، في إحدى مقاطعه الشعرية :

[Ma voix vient/ d’en dehors de moi/ elle vient de là/où je ne suis plus]

حيوية شعرية غير ميالة إلى المماحكة، لكنها على العكس سخية، عطوفة، وعاشقة أيضا.

بعد، نشره لقصائد مع مطلع سنوات 1960 في مجلة : Europe. أخرج ميشونيك للعموم أول مجموعاته الشعرية : Dédicaces proverbes عام 1972، عن دار النشر غاليمار، وحصل بها على جائزة “Max-Jacob”. ثم، تجربة شعرية أخرى تحت عنوان : [Dans nos recommencements ] (1976). وعمل آخر، ثلاث سنوات بعد ذلك، صنفه تحت اسم : [Légendaire chaque jour] (1979). إنتاجات، ثمنتها عدة جوائز التقديرية، اعترافا بقيمة نصه الشعري. كتب، ميشونيك في ديوانه الأخير [De monde en monde] ما يلي :

“Je ne parle pas mes mots/ce sont mes mots qui me disent/ et qui me réconcilient”.

تحيل هاته الإشارة أيضا على الفكر النقدي للكاتب، ولو أن بساطة القصيدة تحول دون أن نتنبأ بالاعتقاد الاقتحامي والصلب الذي تنطوي عليه. إنها، لا تخل بذلك: “ما يهم في عمل للغة،  هو ما يصنعه للغة والحياة، أكثر بكثير مما يقوله. لكن، بكيفية تمنع انفصالهما”.

وفي مقاربته المعنونة ب “الاحتفال بالقصيدة” (Verdier 2001) ـ ندرك ذلك تهكميا ـ فقد هيأ ميشونيك آلة حربية حقيقية ضد ما يكرهه أكثر، أي “جوهرية” الفعل الشعري. يقول : “الشعرية نار السعادة التي نصنعها بلغة الخشب”. ثم، حدد “الأعداء” بجلاء : “لم يفهم الشعراء، بأن للقصائد عدوان بأذية متغيرة. الأول، هو القصيدة. في حين تمثل الفلسفة العدو الثاني”.

الفيلسوف هيدغر  ـ ومعه كل الفينومينولوجيا ـ سيرتقي إلى مرتبة الخصم الأساسي(4). يشتكي ميشونيك مما سماه ب : “ركود الفعل الشعري” وكذا “فراغ فكر حول اللغة”، وهما يختفيان وراء “تقديس للقصيدة” مثير للسخرية.

الشعراء المعاصرون، الذين ينضوون من قريب أو بعيد داخل هذه الجينيالوجيا، من “André du Bouchet” إلى “Yves Bonnefoy”
و “Jacques dupin” مرورا ب “Philippe jaccottet”، “Michel Deguy” و”Jacques Roubaud”، هم موضوع اتهام في رأيه، لأنهم انحرفوا عن إرث الشاعر مالارميه واستسلموا لعبادة تلك السخرية.  بالتأكيد، تهمة مبالغ فيها، لكنها لا تفتقد سواء للبسالة أو الجرأة.

 

 

 


الهـــــــوامش:

(1) le monde : 12/13/ Avril 2009.

(2) * Critique du rythme, Anthropologie historique du langage (Verdier 1990).

* La Rime et la Vie (Verdier, 1990)

* Politique du rythme, politique du sujet (Verdier 1995).

* dans le bois de la langue (Laurence Teper, 2008).

(3) Le chant des chants / ruth/comme ou les lamentations /paroles du sage/Esther.

(4) Heidegger ou le national –essentialisme, (laurence Taper 2007).