مجلة حكمة
الآلات

جيل دولوز و فليكس غاتاري: محصّلة برنامج لـ الآلات  الراغبة / ترجمة: وليام العوطة


ملحق  الـ آنتي-أوديب

  1. الاختلاف النسبي للآلات الراغبة مع الأَدْوَةٍ gadget – مع الاستيهامات أو الأنساق الإسقاطية الخيالية – مع الأدَوات أو الانساق الإسقاطية الواقعية – مع الآلات المنحرفة، التي تضعنا، مع ذلك، على درب الآلات الراغبة .

لا علاقة للآلات الراغبة مع الأدْوات، أو مع الإختراعات الصغيرة في مباراة Concours Lépine[1]، ولا مع الاستيهامات. أو بالأحرى، لها علاقةٌ ولكن في المعنى المعاكس، لأن الأدْوات، الإكتشافات والاستيهامات هي مخلّفات آلاتٍ راغبة خاضعة لقوانينٍ محددة للسوق الخارجي للرأسمالية، أو للسوق الداخلي للتحليل النفسي (تنتمي الى “العقد” contrat التحليلي النفسي في إختزال الحالات المعاشة للمريض، في ترجمتها الى استيهامات). لا يمكن للآلات الراغبة أن تُردُّ الى التكيّف مع الآلات الواقعية، أو مع شُدَف من الآلات الواقعية ذات الاشتغال الرمزي ، ولا الى حلم الآلات الاستيهامية ذات الاشتغال الخيالي. في حالةٍ كما في أخرى، نشهدُ على تحويلٍ لعنصر انتاجٍ الى إواليةِ استهلاكٍ فرديّ (الاستيهامات من حيث هي استهلاك نفسي أو رضاعة تحلينفسيةٍ). يتماثل الأمرُ في الأدْوات وفي الاستيهامات، حيث يأخذ التحليل النفسي مداه، و حيث يمكنه أن يطوّر كل عوائقه الأوديبية الإخصائية. ولكن هذا لا ينبئنا ابدًا بما هو مهمّ حول الآلة وعلاقتها بالرغبة.

يحملُ الخيال الفنّي والأدبي العديد من الآلات العبثية: إمّا من خلال السمة اللامحددة للمحرّك أو مصدر الطاقة، بالإستحالة الفيزيائية لتعضّية\تنظيم القُطَع العاملة، وإمّا عبر الاستحالة المنطقية لإوالية النقل. مثلاً يقدّم ألـ الراقص-الخطر dancer-danger  لـ مان راي[2] ، المعنون فرعيًا “الإستحالة”، درجتين من العبث: مجموعات العجلات المسنّنة التي لا يمكنها الاشتغال أكثر مما تفعل عجلة النقل الكبيرة. بقدر ما يُفترَض بأن تمثّل هذه الآلة دوران راقصٍ اسبانيّ، يمكننا القول: انها تترجم ميكانيكيًا، من خلال المُحال absurde، استحالة ان تنجزَ آلةٌ بنفسها حركةً كتلك (الراقص ليس آلة). ولكن يمكننا القول ايضًا: هنا حيث يجب ان يتوفر راقصٌ يفعلُ بكونه قطعة من آلة، فإن هذه القطعة لا يمكنها ان تكون سوى الراقص؛ هاكم الآلة التي يكون الراقص قطعةً منها. لا يتعلق الأمر بعدُ بمواجهةٍ بين الانسان والآلة لكي نقيِّم التناظرات correspondance، الاستطالات والتبديلات الممكنة أو المستحيلة بين الواحد والآخر، ولكن بأن نجعل الاثنين يتواصلان كي يظهر كيف ان الانسان يشكّل قطعةً مع الآلة، أو مع شيءٍ آخر لأجل تكوين آلة. وهذا الشيء الآخر قد يكون أداةً outil، أو حتى حيوانًا، أو اناسًا آخرين. ومع ذلك، لا نتكّلم، من باب المجاز، عن الآلة: الإنسان يصنع آلةً منذ ان اتصلت هذه السمة، عبر المعاودة، مع المجموع الّذي ينتمون اليه في شروطٍ جدًا محددة. ان المجموع انسان- حصان- قوس يشكّل آلة حربية ترحّلية (بدوية) في شروط السَهب. يشكّل البشر آلة عملٍ في الشروط البيروقراطية للإمبراطوريات الكبيرة. يصنع جندي المشاة الاغريقي آلةً مع أسلحته تحت شروط الكتائب.يندمج الراقص مع المنصةِ من أجل تشكيل آلةٍ في الشروط المحفوفة بالخطرِ للحب و للموت… لا ننطلقُ من استخدام مجازي لكلمة آلة، ولكن من فرضية (مشوَّشة) حول الأصل: الطريقة التي تتحدد بها العناصر المتنافرة لصناعة آلةٍ بالتواتر و التواصل؛ وجود “شُعبة آلية Phylum machinique” .  تقتربُ الأرغونوميا[3] l’ergonomie  من وجهة النظر هذه حين تطرح المُشكِل العام، ليس فقط بألفاظ التكيّف أو الاستبدال – تكيّف الانسان مع الآلة والآلة مع الإنسان – ولكن بتعابير التواصل المتواتر في سيستامات بشر-آلات. صحيحٌ انه في اللحظة عينها التي تعتقد فيه انها تأخذ بمقاربةٍ محض تكنولوجية، فإنها تثير مشاكل السلطة، القمع، الثورة والرغبةِ، مع عزمٍ لاإراديّ أكبر بكثير ممّا هو في المقاربات التكيّفية.

هناك ترسيمة كلاسيكية مستوحاة من الأداة: الأداة كإستطالةٍ وإسقاط للكائن الحيّ، عمليةٌ يظهر من خلالها الإنسان تدريجيًا، تطور الأداة الى الآلة، وعكسيًا حيث تنمو الآلة أكثر فأكثر مستقلة عن الانسان… ولكنّ لهذه الترسيمة مساوىء عدّة. لا تمنحنا اي وسيلة لتلمّس حقيقة الآلات الراغبة ، وحضورها طوال هذا المسار. انها ترسيمة بيولوجية وتطوّرية تحدد الآلة كما لو انها تحدثُ في لحظةٍ ما في عِقبٍ lignée  ميكانيكيّ يبدأ مع الأداة. انها انسانوية ومجرّدة، تعزلُ القوى الانتاجية عن شروط تمرسّها الاجتماعية ، متوّسلةً الانسان-الطبيعة بُعدًا مشتركًا لكل التشكيلات الاجتماعية التي نضفي عليها صلات تطورٍ. انها خيالية، استيهامية، أناوية  Solipsiste، حتى حين تنطبقُ على أدَواتٍ واقعية، على آلات واقعية، لأنّها ترتكز بأكملها على فرضية الإسقاط ( روهِيم[4] مثلاً التي يعتمد هذه الترسيمة يبيّن جيدًا المماثلةَ بين الاسقاط الفيزيائي للأدوات وبين الإسقاط النفسي للإستيهامات)[5].

نحنُ نعتقدُ، على العكسِ، انه يلزمُ ان نضعَ منذ البَدْءِ الإختلافَ في الطبيعة بين الأداة وبين الآلة: الأولى كعاملِ إحتكاك (إتصال) agent de contact  ، والثانية كمُعمِل تواصلٍ facteur de communication؛ واحدة اسقاطية و الاخرى متواترة، الواحدة تحيل الى الممكن والمستحيل، و الثانية الى ترجيحية الأقلِّ ترجيحًا؛ الواحدةُ تشتغل عبر التوليف synthèse  الوظيفي للكلّ، الثانية عبر التمييز الواقعي في مجموع. يختلف الاشتغال كعنصرٍ مكوِّنٍ مقترنٌ مع مكونات اخرى ، بشكل كبير، عن كون الشيء امتدادًا أو اسقاطًا أو أن يتم استبداله (حالةُ حيث لا وجود فيها لتواصلٍ).

يبيّنُ بيير أوجيه Auger [6] ان هناك آلة حيثما هناك تواصلٌ بين حصتين portion من العالم الخارجيّ، متمايزتان واقعيًا في سيستامٍ ممكنٍ و لو انه أقلُ ترجيحًا[7]. بإمكان الشيء عينه أن يكونَ أداةً وآلة، وفقًا لـ “العِرق الآلي” إستولى عليه أو لم يفعل، مرّ به أو لم يمرّ: وُجِدَت الاسلحة الهوبليتية Hoplitique [8] كأدوات منذ العصور الغابرةِ، ولكنها اصبحت مكوّنات آلةٍ،  مع  الرجال الّذين استخدموها، في شروط الكتيبة والمدينة الاغريقية. حين نحملُ الأداة الى الانسان، وفقًا للترسيمة التقليدية، فإننا نعدمُ كل امكانية فهمِ كيف ان الانسان  و الأداة  يصبحان أو هما سلفًا كذلك متمايزان عن الآلةِ بالنسبةِ الى مَقامٍ هو بالفعل مؤلِّل machinisante. ونعتقدُ كذلك بوجود دائمٍ لآلات تسبق الأدوات، لأعراقٍ تحدد في هذه اللحظة او تلك ايّ من الأدَوات، من البشر يدخل كقطَعٍ من آلةٍ في السيستام الاجتماعي المعتبَر.

ليست الآلات الراغبة إسقاطات خيالية على شكل استيهامات، ولا اسقاطات واقعية على شكل أدَوات. يُشتقُ سيستام الاسقاطات بأكمله من الآلات، وليس العكس. هل نعرّف، اذَا، الآلة الراغبة عبر نوعٍ من الاجتياف Introjection، من خلال استخدامٍ منحرِفٍ perverse للآلة؟ فلنأخذ مثال التبادل الهاتفي: حين نطلب رقمًا هاتفيًّا غير مخصصّ، وموصولًا بمجيب أوتوماتيكيّ (“هذا الرقم غير مخصصّ…”) فبإمكاننا ان نسمع تراكب مجموعة محتشدة من الاصوات، التي تنادي أو التي تجيب بعضها بعضًا، التي تشتبك، تتلاشى، والتي تمرر من تحت، من فوق ، بداخل المجيب الأوتامتيكي،  رسائل قصيرة جدًا، ملفوظاتٍ وفق شيفرات سريعةٍ و احادية الصوت. ها هو النمر؛ ويُقال ايضًا ان أوديب على الشبكة؛ فتيانٌ يتصّلون بفتياتٍ، فتيانٌ ينادون فتيانًا. بيسرٍ، نتعرّف على الشكل نفسه للمجتمعات المنحرفة المصطنعة، أو على مجتمعات اللامعروفين. تتصلّ سيرورة اعادة أقلمةٍ بحركة الاقتلاع الاقليمي التي تتعهدها الآلة (تمثّل المجموعات الخاصة بالراديوهات التي ترسل البنية المنحرفة عينها).

انه لمن المؤكد ان المؤسسات العامة لا ترى ايّ مساوىء لهذه المكاسب الثانوية في الاستخدام الخاص للآلة، في ظواهر الهُدب frange والتداخل. ولكن، في الآن عينه، هناك ما هو أكثر من مجرّد ذاتويةٍ منحرفةٍ، حتى كمجموعة. ان الهاتف العادي هو آلة للتواصل، ولكنه يشتغلُ كأداةٍ طالما ينفع في اطلاق أو اطالة اصواتٍ ليست في بذاتها جزءًا من الآلة. ولكن، يصل التواصل، هاهنا، الى درجة عليا، بالنظر الى ان الاصوات تدخل في صناعة الآلة، تصبح قطعًا من الآلة، موزّعةً ، مذاعة بطريقة عشوائية عبر المجيب الاوتوماتيكي. يُبنى الأقل ترجيحًا على اساس انتروبيا مجموع الاصوات التي تلغي نفسها. من وجهة النظر هذه، لا يوجد فقط استخدامٌ أو تكيّف منحرف لآلة اجتماعية تقنية، ولكن تراكبٌ لآلة راغبة موضوعية فعلية، بناء لآلة راغبة في قلب الآلة الاجتماعية التقنية. هكذا، يمكن للآلات الراغبة ان تولد عند الهوامش المصطنَعة لمجتمعٍ ما، بالرغم من انها تنمو بشكلٍ مغايرٍ كليًا ولا تتشابه مع اشكال ولادتها.

معلّقًا على ظاهرة الشبكة هذه، يكتب جان نادال Nadal [9] : ” هذه، كما اظنّ، الآلة الراغبة الأكثر نجاعةً والاتمُّ التي اعرفها. تحتوي كلّ شيء: فيها تشتغل الرغبة بشكلٍ حرّ، على الفاعل الايروتيكيّ للصوت كموضوعٍ جزئيّ، في الصُدفةِ والتعددية، و تتصلُ بدفقٍ يضيء كامل حقل اجتماعيّ للتواصل، عِبر الانتشار اللامحدود لهذيانٍ أو لمشتقٍّ dérive.” لم يكن المعلّق على صوابٍ تام: هناك آلات راغبة افضل، وأتمّ. ولكن الآلات المنحرفة بشكل عام تمتلك افضلية انها تبيّن لنا تذبذبًا ثابتًا بين تكيّف ذاتي، انعطاف آلةٍ اجتماعيةٍ تقنية، و استئنافٍ موضوعيّ لآلةٍ راغبةٍ […] . جهدٌ اضافيّ إن أردتَ أن تكون جمهوريًا..

في واحد من أفضل النصوص حول المازوشية، يبيّن ميشيل دو موزان  [10] كيف ان آلات المازوشي المنحرفة، والتي هي آلات بالمعنى الدقيق للكلمة، لا تُفهَم بمصطلحات الاستيهام، أو الخيال، كما انها لا تُفسّر إنطلاقًا من أوديب او من الاخصاء من خلال الإسقاط: لا يوجد استيهام، يقول [دون موزان]، ولكن ما هو مختلف تمامًا،[توجد] برمجةٌ ” مبنينةً ، بشكل جوهريّ، من خارج الاشكالية الاوديبية”. ( وأخيرًا قليلٌ من الهواء الطلق في التحليل النفسي، قليلٌ من الفهمِ حول المنحرِف!)[11].

  1. الآلة الراغبة والجهاز الأوديبيّ: المعاودة ضدّ القمع-النكوص

تكوّن الآلات الراغبة الحياةَ اللا-أوديبية للّاوعي. أوديب، الأدْوةُ أو الاستيهام. بالتعارض مع ذلك، سمّى بيكابيا Picabia[12]  الآلة “البنت المولودة من دون أمّ”. باستر كيتون Buster Keaton[13] قدّم الآلة-البيت خاصته، فيه كل الغرف منثنية ، كبيتٍ من دون امّ: كل شيء يجري عبر آلات راغبة، كما في وجبةِ العوازب (الفزّاعة، 1920). هل يجب ان نفهم ان الآلة ليس لها سوى أب، وانها تولد كمثلِ آثينا [14] مجهّزةً بدماغٍ رجوليّ؟ يلزم الكثير من الارادة الطيبة كي نعتقد مع رينيه جيرار Girard[15]  ان الأبوية تكفينا كي نخرج من أوديب، وان “التنافس المحاكاتي ” rivalité mimétique  هو بالفعل آخر العقدةِ. لم يكفّ التحليل النفسي عن القيام بالتالي: بعثرة أوديب أو تكثيره، أو بالأحرى تقسيمه، معارضته لذاته، أو التسامي به، تضخيمه، الارتفاع به الى مصاف الدال. لقد اكتشفنا ما قبل-الأوديبيّ، و ما بعده، و أوديب الرمزي، و لم يجعلنا ذلك نخرج من العائلةِ كالسنجاب من دولابه الدوّار.

يُقال لنا: ولكن انظروا، لا علاقة لأوديب مع ماما و بابا، انه الدال، انه الاسم، الثقافة، التناهي، هي الحياة نقصُ كائنٍ، انه الإخصاء، العنف المشخصن…انه لأمرٍ مضحك! لا نفعل سوى متابعة العمل القديم، عبر قطع كل روابط الرغبة من أجل ان نغلقها في “الماما و البابا” المتسامية الخيالية، الرمزية، اللسانية، الاونتولوجية، الابستيمولوجية. حقًا، لم نقل ربعَ ولا حتّى خمسَ ما ينبغي قوله ضد التحليل النفسيّ، ضد ضغينته تجاه الرغبة، طغيانه وبيروقراطيته.

ما يعرِّفُ الآلات الراغبة هو بالتحديد قوتها على الربط الى ما لانهاية، في كل مسلكٍ وفي كل الاتجاهات. لهذا السبب بالضبط هي آلات تقطع وتهيمن على بنى كثيرة في الوقت عينه. للآلة سمتان أو قدرتان: قدرة الاستمرار Puissance du continu، العِرق الآلي حيث هذه القطعة تتصلّ بأخرى، الاسطوانة والمضخّة في آلة البخار، أو ايضًا، وفق عِقبٍ بزري germinal أبعد، المغزل في السيّار locomotive؛ ولكن ايضًا كسرُ الاتجاه، الطفرةُ من حيث ان كل آلةٍ هي قطْعُ مطلقٌ بالنسبة الى ما تحلّ محلّه، كمحرّك الغاز بالنسبة الى آلة البخار.  قدرتان ليستا إلاّ واحدة طالما ان الآلة في حد ذاتها هي قطعُ-دفق coupure-flux ، القطْعُ وهو المتاخمُ ابدًا لإستمرارية الدفق والّذي يفصله (يفصل الدفق) عن غيره [من الدفوق] بإعطائه شيفرةً، بجعله ينقلُ هذا العنصر أو ذاك. مرةً أخرى، ليس للآلة امٌّ بفضلِ ابٍ دماغيّ، بل بفضل جسدٍ جمعيّ ممتلىء ،[بفضل] المقام المؤلِّل الّذي تنصبُ الآلة عليه روابطها وتمارس قواطعها.

لقد شددّ الرسّامون الآليون على هذا: لم يرسموا آلاتٍ بإعتبارها بدائلَ عن الطبائع الميتة أو عن العراة. ليست الآلةُ بعدُ موضوعًا ممّثّلاً بقدرما ان رسمتها ليست تمثيلاً. ينبغي إدخال عنصرٍ من الآلة، بحيث يصبح فيها قطعةً مع شيءٍ أخر فوق الجسدِ الممتلىء للقماشِ، ان يحصل هذا مع اللوح بحد ذاته، مع النتيجة ان مجموع اللوحِ ،بالتحديد، هو الّذي يشتغلُ كآلةٍ راغبة. ان الآلة المتولّدة هي دائمًا شيىءٌ يختلفُ عن تلك التي تبدو ممثّلةً: سوف نرى ان الآلةَ تسلكُ عبر مثل هذا “الفضّ décrochage” ، وتضمن بالتالي الاقتلاع الاقليمي المميِّز للآلات حصرًا. انها القيمة الإستقرائية أو بالأحرى الإنتقالية transductive للآلة والّتي تعرِّف المعاودة، والتي تعارض التمثيل-الإسقاط: المعاودة الآلية ضد الإسقاط الأوديبيّ، بما هو حيّز كفاحٍ، وانفصال، كما نراه في الآيروبلابلا Aeroplap(l)a    أو  الأوتومونا Automona ، أو ايضًا في الآلة المعروفة بالشكل الأم لفيكتور برونر[16]. عند بيكابيا يصنع المطهرُ épure قطعةً مع الترقيش الناشِز inscription hétéroclite ، بالرغم من ان عليها الاشتغال مع هذه الشيفرة، مع هذا البرنامج، بتوليدِ آلةٍ لا تشبهها. مع دوشّمْبْ [17] يتمّ إدخال العنصر الحقيقيّ للآلةِ مباشرةً، صالحًا بنفسه أو عبر ظلّه، أو عبر إواليةٍ عشوائيةٍ تحثُّ حينذاك التمثّلات المتبقيّة لتغيير دورٍ أو وضعٍ: أنت …ـــي Tu m’.

تمتاز الآلة عن كل تمثّلٍ représentation (بالرغم من استطاعتنا دائمًا ان نمثّلها، ان ننسخها، بطريقة لا تقدّم، على اي حال، منفعةً ما)، وهي كذلك لأنها تجريدٌ محض، غير استعارية و غير اسقاطية. وقد بيّن ليجي[18] جيدًا ان الآلة لا تمثّلُ شيئًا، بالأخص لا تمثّل نفسها، لأنها كانت في حد ذاتها انتاجًا لحالاتٍ مشتدّةٍ منظمّةٍ: لا شكل ولا امتداد، لا تمثيلَ أو اسقاط، ولكن شدّات intensités محضة ومتواترةٍ. يحدث احيانًا، كما عند بيكابيا، ان اكتشاف المجرّدِ يقود الى العناصر الآلية، واحيانًا اخرى الى الدرب المعاكس، كما بالنسبة للعديد من المستقبليين[19].  فلنفكّر بالتمييز القديم للفلاسفة بين الحالات الممثِلّة والحالات الانفعالية التي لا تمثّل شيئًا: الآلة، هي الحالة الانفعالية،  ومن الخطأ ان نقول ان الآلات الحديثة تمتلك ادراكًا، وذاكرةً…ان الآلات بحد ذاتها لا تملك إلاّ حالات انفعالية.

حين نعارضُ بين الآلات الراغبة وأوديب، لا نريد القول ان اللاوعي ميكانيكيّ (اذ تنتمي الآلات بالأحرى الى الميتا-ميكانيك)، ولا القول ان اوديب ليس شيئًا ما. الكثير من القوى والناس يُبقون على ادويب لأجل الكثير من المنافع على المحكّ: من دون اوديب، أولاً، لن يكون هناك نرجسية. سوف يظل اوديب يثير الدعاوى والاحتيالات. سيحرّك الابحاث الى مدى غير واقعي أكثر فأكثر ، وسوف يستمر بتغذيةِ الاحلام والاستيهامات. أوديب هو موجّهٌ vecteur: 4، 3، 2، 1، 0 … اربعةٌ، المصطلح الرابع الرمزيّ الشهير، 3 هو التثليث، 2 وهو الصوَر البارزة، 1 هو النرجسية، و الصفر نزوة الموت.  أوديب هو أنتروبيا الآلة الراغبة، ميلها الى الدمار الخارجي. انها الصورة او التمثّل الّذي ينزلق داخل الآلة، الروْسَم [الستريوتيب] Cliché الّذي يصدّ الترابطات، يستنفد الدفوق، و يضع الموت في الرغبة ويستبدل القواطع بنوعٍ من الكمادات- انها القاطعةُ l’interruptrice  (التحاليل النفسية كمخرّباتِ الرغبة). بدل التمييز بين المحتوى الظاهر والمحتوى الكامن، بين الكابت والمكبوت، علينا أن نحلّ قطبيْ اللاوعي: الآلة الفصامية-الراغبة، والجهاز العُظاميّ الأوديبيّ، روابطُ الرغبة و قوامعها. نعم، بإمكانكم ان تجدوا اوديب بقدرِ ما تريدون، طالما تستدعونه لكي يُسكِت الآلات (بالقوة، طالما ان اوديب، هو في الآن عينه الكابت والمكبوت، اي انه الصورة الرَوْسم image – cliche التي توقف الرغبة، التي تُثقِلها، والتي تمثّلها متوقفةً). الصورةُ هي شيء لا يمكننا إلاّ أن نراه..انها التسويةُ، ولكنها التسوية التي لا تشوّه بدرجةٍ أقل جزءها هذا أو ذاك، اي طبيعة القامِع الرجعي وطبيعة الرغبة الثورية. في التسوية، يمرّ الجزءان في الجهة عينها، بالتعارض مع الرغبة التي تبقي في الجهة المقابلة، خارج التسوية.

في كتابيْه عن جول فيرن[20]، يلقي موري[21] على التوالي الضوء على ثيمتين يمثلّهما ببساطةٍ كمتمايزتين: المشكَل الأوديبيّ الذي عاشه جول فيرن كوالدٍ و كذلك كإبن، ومشكل الآلة كتحطيم لأوديب وبديل عن المرأة[22]. ولكنّ مشكَل الآلة الراغبةِ، في سمتها الإيروتيكية أساسًا، لا يكمن بالمرّة في معرفة إن كان بإمكان آلةٍ أن تمنحَ دائمًا “وهمَ إمرأة تامًا”. بالعكس، في ايّ آلةٍ توضع المرأة، في آي حالة تضع المرأة نفسها كي تصبح موضوعًا لاأوديبيًا للرغبةِ، اي جنسًا غير بشري؟ في كل الآلات الراغبة ، لا تتألفُ الجنسانيةُ من مزدوجٍ خياليّ آلة-إمرأة كبديل عن أوديب، ولكن من المزدوجِ الآلة-الرغبةِ كإنتاجٍ واقعيّ للبنت المولودة من دون أمّ، للمرأةِ اللاأوديبية (والتي لا تصيرُ أوديبية لنفسها و لا للآخرين). أن نضفيَ على الروايةِ، بشكلٍ عام، مصدرًا أوديبيًا – لا شيء يشير الى ان الاشخاص [الّذين] يعانون من تمرين نرجسيّ مثيرٍ للبهجةِ، نفس-نقديّ، [هم] نغِلون، أطفال مكتشفون. يلزم القول ان كبار المؤلّفين يحبّذون هذا الالتباس Équivoque، بالتحديد لأن أوديب هو العملة الزائفة في الأدب، أو ،ما معناه ايضًا، قيمته التجارية الحقيقية. ولكن في اللحظة نفسها التي يبدون فيها مغروزين في أوديب، في النحيب-ماما الأزلي، في النقاش-بابا الأزلي، فإنهم، في الواقع، يدخلون انفسهم في مؤسسة يتيمة أخرى كليًا، و يجمعون آلةً راغبةً  جهنمية، واضعين الرغبة في علاقةٍ مع العالم الليبيدي للروابط والقواطع، الدفوق والفصْمات schizes  التي تكوّن العنصر اللابشري للجنس، والتي، في كلّ مرّةٍ، تصنعُ قطعةً مع “المحرّك الرغبة” moteur desir ، مع “العجلة الشبِقة” rouage lubrique  ، قاطعةً، ممتزجةً، قالبةً البنى والأنظمة، معدنيةً، نباتيةً، حيوانيةً، طفليةً enfantin، اجتماعيةً، مُبطِلةً كلّ حين صوَر أوديب البائسة، دافعةً دائمًا ،الى أبعد مدى، سيرورةً من الاقتلاع الاقليميّ déterritorialisation. لأن الطفولة ليست بحدّ ذاتها أوديبية، وهي ليست كذلك بالمرّةٍ، ولا تمتلك إمكانية ان تكون كذلك. ما هو أوديبيّ هو الذكرى البائسة للطفولة، الشاشة l’ecran. وفي الختام، ان النهج الأنسب حيث يمكن لمؤلّف ان يُظهِرَ تفاهة وحماقة اوديب هو حين يصل الى ان يحقن مؤلَّفَه بكتلٍ فعلية متكررة من الطفولة والتي تعيد تشغيل الآلات الراغبة بالتعارض مع الصور القديمة، مع الذكريات-الشاشات التي تُتخِم الآلات والتي تجعل من الطفل استيهامًا نكوصيًا بين ايدي العجائز المبتذلين.

نرى ذلك جيّدًا في حالة كافكا، المثال المفضّل، الأرض الأوديبية بإمتياز: هنا ايضًا، وهنا بالدرجة الاولى، القطب الأوديبي الّذي يتصّف كافكا به ويضعه أمام انف القارىء، هو قناع مؤسسةٍ أكثر فأكثر تحت-أرضية، إستئنافٌ لآلةٍ أدبيةٍ كلّية الجِدّةِ. بكلمةٍ أدقّ آلة لصناعة الرسائل ونزعِ الطابع الأوديبيّ عن الحب الإنسانيّ جدًا. تعلّق الآلةً الرغبةَ بهاجسِ آلةٍ بيروقراطيةٍ وتكنوقراطية منحرفةٍ، بآلةٍ قبلئذٍ فاشية،  حيث تفقد اسماء العائلةِ ثباتها من أجل ان تنفتح على الامبراطورية النمساوية المبهرجةِ للآلة-القصرِ، على وضعية اليهود فاقدي الهوية، على روسيا، وأميركا، الصين والقارات الواقعة أبعد من الاشخاص واسماء العائلانية familialisme. بإمكاننا ان نجد تصديّا متوازيًا عند بروست Proust : الأوديبيان الكبيران، بروست وكافكا، هما إيهامٌ بأوديب ، وهؤلاء الّذين يحملون أوديب على محمل الجد بإمكانهم دائمًا أن يطّعمونهما برواياتهم أو بتعليقاتهم الحزينة حدّ الموت. لأن، ولنخمّن ما سوف يخسرونه: فكاهةِ الانسان الأعلى، الضحك الفصاميّ الّذي يهزّ بروست أو كافكا خلف التكشيرةِ الاوديبية، الصيرورةَ-عنكبوتًا أو الصيرورةَ-كليوباترا.

في نصٍّ جديد، يطوّر روجيه دادون[23] مبدأَ قطبيْ الحلم: الحلم-البرنامج، الحلم-الآلة أو الماكينة machinerie ، الحلم-المصنع، حيث الأساسيّ هو الانتاج الراغب، الاشتغال الآليّ، إنشاء الروابط، خطوطَ الهرب أو الاقتلاع الاقليميّ لليبيدو المبتَلَع في العنصر الجزيئيّ اللابشري، مرور الدفق، حقنَ الشدّات – ومن ثمّ القطب الاوديبيّ، الحلم-المسرح، الحلم-الشاشة الّذي ليس سوى موضوعًا للتأويل الكتلويّ، وحيث ساد الحلم السرد الحلمَ بحد ذاته، و سادت الصوَر البصرية واللفظية verbale  المتواليات اللاشكلية informelles والمادية[24]. يبيّن دادون كيف ان فرويد، مع كتابه تأويل الأحلام، يتخلّى عن اتجاهٍ كان بعدُ ممكنًا في لحظةِ الـإظلال l’Esquisse، موصِلاً منذئذٍ التحليل النفسي إلى حائطٍ مسدودٍ بفعل شوط ممارساته الخاصة. نجدُ مسبقًا عند غيراسيم لوكا[25] وعند تروست[26]، وهما كاتبان مجهولان بشكلٍ غريب، مفهومًا آنتي-أوديبيّ للحلمِ يبدو لنا رائعًا. يأخذ تروست على فرويد انه انكر المحتوى الظاهر للحلم لصالح نمطيةً uniformite  أوديبية، انه أخفقَ في التعامل مع الحلم من حيث هو آلة اتصال مع العالم الخارجيّ،  وانه انجزَ نظريةَ تسويةٍ تنتزعُ من الحلمِ كما من العرَضِ حظوتهما الثورية المحايثة. يرفض [فرويد] فعلَ القوامِع أو النواكص regresseurs  كممثِّل لـ”عناصر اجتماعية رجعية” تدخل في الحلم لصالح تداعيات قادمة ممّا قبل الوعي وذكريات-شاشات Souvensir-écrans قادمة من الحياة النهارية. و بقدر الذكريات، لا تنتميَ هذه التداعيات الى الحلم، ولهذا الأمر عينه يُكرَه الحلم على ان يعاملها رمزيًا. لا شك ان أوديب موجود، والتداعيات دومًا أوديبية، ولكن بالتحديد لأن الإوالية التي تستند اليها [هذه التداعيات] هي نفسها إوالية أوديب. زد على ذلك، و لكي نسترجع فكرة الحلم، والّذي هو واحدٌ مع الفكر النهاريّ من حيث ان الاثنين يتعرّضان لفعل القوامع المتمايزة، يلزم بالتحديد كسرُ التداعيات: يقترح تروست لهذه الغاية نوعًا من التقطيع cutup  على طريقة بورّوز[27]، والّذي يكمن في وصل شدفةٍ من الحلم مع مرورِ كتيّبِ باتالوجيا جنسية. وهو تدخلٌ ينشّطُ الحلم و يزيده اشتدادًا ، بدل ان يأوّله، ما يمنحُ ترابطات جديدةٍ للعِرق الآليّ للحلم: لا نخاطر بشيء، ذلك ان المرور المختار عشوائيًا سوف يكوّن دائمًا آلةً بإقترانه مع شدفة الحلم.  وبلا ريب، سوف تتشكّل التداعيات من جديد، وسوف تنغلقُ بين القطعتين، ولكن سيتوجبّ أن ننتهز لحظةِ الإنحلال، وإن تكن موجزة، لكي نتسبب بظهور الرغبة في سمتها اللابيوغرافية و اللاذاكرية، أبعد أو دون تحديداتها الاوديبية المسبقة. وهذا هو بالفعل الاتجاه الّذي يشير اليه تروست أو لوكا، في نصوصٍ رائعة، لبعثِ لاوعيٍ مع ثورةٍ، يتوجّه صوب كائنٍ، رجلٍ وإمرأةٍ، لاأوديبيّين، الكائن “الآليّ بكلّ حريةٍ”،” إسقاطُ لمجموعةٍ بشريةٍ يبقى ان يتمّ إكتشافها”، وحيث الغموض هو ذاك المتعلّق بإشتغالٍ وليس بتأمّلٍ،” كل الِشدة العلمانيةُ للرغبة ” (لم يسبق ابدًا ان شًجِبَ الطابع التسلّطي والورِع للتحليل النفسي)[28]. أليس الهدف الأسمى للـ ح.ت.ن (MLF)[29]، بهذا المعنى، هو البناء الآلي والثوري للمرأة اللاأوديبية، بدل التهليل المضطرب للأمومية وللخصاء؟

          نعود الى ضرورة كسرِ التداعيات: ليس الانحلالُ فقط سمة الفصام، ولكنه مبدأ التحليل الفصامي. ما يشكّل العائق الأكبر أمام التحليل النفسي ،اي استحالة بناء روابط، هو بالعكس، شرط التحليل الفصاميّ- اي انه العلامة التي توصلنا في خاتمة المطاف الى العناصر التي تدخل في مجموعٍ اشتغاليّ للاوعي كآلةٍ راغبة. ليس من المستغرب ان تقودنا الطريقة المسمّاة التداعي الحرّ بإستمرارٍ الى أوديب؛ فهي مصنوعة من أجل ذلك.لأنها، وبعيدًا من ان تشهدَ عفويةً ما، فإنها تفترض تطبيقًا، إغلاقًا يطابقُ مجموعة انطلاقٍ معينة مع مجموعةٍ وصولٍ ذاكرية أو مصطنعة، محددة مسبقًا ورمزيًا على انها اوديبية. في الحقيقة،لم نفعل الكثير بعد طالما لن نصل الى العناصر التي لا تترابط، أو طالما لم نمسك بالعناصر تحتِ شكلٍ لا تكون فيه مترابطة. يخطو سيرج لوكلير[30] خطوةً حاسمة حين يقدم المشكل الّذي، كما يقول، ” يدفعنا كلّنا الى ألاّ نقف بالمواجهة…يتعلّق الأمر بالمحصّلة بتصوّر سيستامٍ تترابط عناصره ببعضها البعض من دون آصرة، وافهم بذلك، كل آصرة طبيعية، منطقية أو دلالية”، ” مجموعة من التفردّات المحضة”[31]. ولكن، ولأنه قلقٌ من البقاء قريبًا من الحدود الضيقة للتحليل النفسيّ، يخطو مرة أخرى وبشكلٍ عكسيّ الخطوة التي قام بها للتوّ: يقدّم المجموعة المنحلّة على شكل أخيولة fiction ، وتمظهراتها كتجليّات، يتوجب عليها ان تُرقَش في مجموعةٍ جديدة مُعادةُ البنيان، ولا يحصل ذلك إلاّ من خلال وحدة القضيب Phallus كــدالٍ على الغياب. ومع ذلك، هنا كان بالفعل ظهور الآلة الراغبة، التي تمايزت عن الصلات النفسية للجهاز الأوديبي، وعن الصلات الميكانيكية أو البنيوية للآلات الاجتماعية و التقنية: مجموعة من القِطع المتمايزة بالفعل والتي تشتغل معًا من حيث هي متمايزة حقيقةً(مترابطة في غياب ايّ رابط).  لا تُقدَّم تلك الإقترابات من الآلات الراغبة من خلال الاشياء السوريالية، التجليّات المسرحية أو عبر الأدْوات الاوديبية، والتي لا تسير إلاّ عبر إعادة إدخال إقترانات associations – وبالفعل كانت السوريالية مؤسسة أدبنةٍ شاسعة للحركات السابقة. ولكننا سنجدها (اي الاقترانات) ، بالأحرى، في بعض الآلات الدادائية، في رسومات روبي غولدبرغ[32]  ، أو اليوم في آلات تينغلي. كيف نحصل على مجموعةٍ اشتغاليةٍ في وقتٍ نحطّم فيه كل الاقترانات [الترابطات]؟(ما معنى “مترابط في غياب اي رابطٍ؟”).

          يُستحصَل على فن التمايز الحقيقي لدى تينغلي عبر صنفٍ من الفضِّ من حيث هو طريقة تواتر. ان آلةً تنطوي على لعبةِ مجموعة من البنى المتزامنة والتي تمرّ بها: تحتوي البنية الأولى على الأقل على عنصرٍ ليس اشتغاليّ بالنسبة اليها، ولكنه كذلك فقط بالنسبة الى البنية الثانية. انها هذه اللعبة التي يقدمها تانغلي على انها في المقام الأوّل لعبةُ فرِحةٌ، تكفلُ سيرورة الاقتلاع الاقليمي للآلة، وموقع الميكانيكي بإعتباره الجزء الأكثر إقتلاعًا. ان الأم الكبرى التي تضغطُ الدواسةِ في العربةِ تحت النظرةِ المنمقة للطفل – الطفل اللاأوديبي والتي تشكّل عينه جزءًا من الآلة- لا تقوم [اي الام هذه] بتحريك السيارةِ، ولكنها تفعلَ بالضغط على دواسةِ البنية الثانية التي تفرمُ الخشب. يمكن لطرائقِ تواترٍ أخرى ان تتدخل أو ان تنضاف، كتغليفٍ لأقسام في التعددية (من هنا الآلة-المدينة، المدينة حيث تكون كل المنازل في منزلٍ واحدٍ، أو الآلة-البيت عند باستر كيتون، حيث كل الغرف موجودة في غرفة واحدة). أو ايضًا يمكن للتواتر ان يتحقق في سلسلةٍ تضع الآلة في علاقةٍ جوهرية مع الفضلات والمتبقيات، حيث تدمّرُ بشكلٍ منهجيّ موضوعها الخاص مثل الروتوزاز[33] عند تينغلي، أو تقبضُ بنفسها على الشدّات أو الطاقة الضائعة كما في مشروع المتحوّل عند دوشام، وإمّا تنقسم بنفسها الى فضلات كما في فن الخردة  لدى ستانكيفتز[34]، أو الميرز   Merzوالآلة-المنزل عند شفيترز[35]، وإمّا انها، في الختام، تقوّض أو تدمّر نفسها، ويكون “انشاؤها وبداية تحطّمها لامتميزين”: في كل هذه الحالات (واليها يجب اضافة المخدّرات كآلة راغبة، آلة خردوية junkie) تظهرُ نزوة الموت الآلية حصرًا وتتعارض مع الموت النكوصي الاوديبي، مع القتل الرحيمي التحليلي النفسيّ. وفي الحقيقة، لا توجد واحدة من هذه الآلات الراغبة لا تكون في العمق لاأوديبية desoedipanisante.

أو ايضًا، انها تلك العلاقات العشوائية التي تضمن ذلك الترابط من دون رابطٍ بين العناصر المتمايزة حقًا من حيث هي كذلك، أو لبناها المستقلّة، وفقًا لموجِّهٍ ينطلقُ من اللانظام الميكانيكي نحو الأقل ترجيحًا، والّذي سوف نسمّيه “الموجّه المجنون”. هنا نذكر أهمية نظريات فندرايس[36] التي تسمح بتعريف الآلات الراغبة عبر حضور تلك العلاقات العشوائية في الآلة بحد ذاتها، ومن حيث هي تنتجُ الحركات البراونوية Brownoides [37]   كما النمط المشاهَد في التجوّل أو الجِماع [38]. وبدورها  رسومات غولدبرغ، بالتحديد من خلال تنفيذ العلاقات العشوائية تتحقق اشتغالية العناصر المتمايزة حقًا، مع الفرح عينه عند تينغلي، الضحك الفصاميّ: يتعلّق الأمر باستبدال تيارٍ ذاكريّ بسيط، أو تيارٍ اجتماعي، بمجموعة تشتغل كآلةٍ راغبة فوق موجّه مجنون (في المثال الأول، تعبر الآلة الراغبة وتبرمجُ البنى الثلاث المستقلّة للرياضة، للبستنة ولقفص الطير؛ في المثال الثاني، آلة الاختزال البسيطة، جهدُ ملاّح الفولغا[39]، تنفيس كرش الملياردير الّذي يتعشّى، سقوط المصارع فوق الحلبة وقفزة الارنب، كلّها تبرمجها الاسطوانة بإعتبار انها تعرّف الأقل ترجيحًا أو تزامنية نقطة الانطلاق والوصول).

كلّ هذه الآلات هي آلات حقيقية. كان هوكنغهم[40] محقًّا في قوله:” حيث تفعل الرغبةُ لا يوجد محلّ للخياليّ” ولا للرمزي. كلّ تلك الآلات هي مسبقًا هنا، ونحن لا نكفّ عن انتاجها، أن تصنيعها، عن جعلها تشتغل، لأنها رغبة، رغبة كما هي – بالرغم من ضرورة وجود فنانين من أجل ضمان تمثيلها المستقلّ. لا توجد الآلات الراغبة في رؤوسنا، في خياللنا، [بل] في الآلات الاجتماعية والتقنية نفسها. ليست علاقتنا مع الآلات علاقة اختراع أو تقليدٍ، لسنا الآباء الدماغيين ولا الاطفال المنضبطين للآلات. انها علاقةُ تأهّل peuplement: نحنُ نأهلُ الآلات الاجتماعية التقنية للآلات الراغبة، ولا يمكننا ان نفعل ذلك بطريقةٍ اخرى. علينا ان نقول في الآن عينه: ان الآلات الاجتماعية التقنية ليست سوى تكتّلاتِ آلاتٍ راغبة في الشروط الكتلوية المحددة تاريخيًا؛ و الآلات الراغبة هي آلات اجتماعية تقنية مأخوذة في شروطها الجزيئية المحددة. […].  لا طائل من التساؤل حول فائدة أو لا فائدة، حول إمكانية أو إستحالة هذه الآلات الراغبة . لا تظهر، إلاّ نادرًا، الإستحالةُ واللافائدة إلاّ في التمثيل الفني المستقلّ. لا تنظروا اليها على انها ممكنة، فهي كذلك، بكافة الضروب هي هنا، ونحنُ نشتغل بمعيتها. هي، بكل معنى الكلمة، نافعة، لأنها تكوّن في الاتجاهين العلاقة بين الانسان وبين الآلة، تواصلهما الاثنين معًا.  وفي اللحظة عينها التي تقول فيها ان “انها مستحيلة”،لن تجا سوى انك جعلتها ممكنة، بكونك انتم قطعةً من قطعها، بالضبط تلك القطعة التي ظهرت لك انها ناقصة كي تسير قبلاً، الرقص-الخطر. تتجادلون حول الامكانية والمنفعة، ولكنكم مسبقًا في الآلة، جزءًا منها، وفيها قد وضعتم اليد، العين والشرج أو الكبد.(النسخة المعاصرة من “أنتم في القارب نفسه..”).

بان لنا تقريبًا ان الفرق بين الآلات الاجتماعية التقنية و الآلات الراغبة هو في البدء مسألة حجمٍ أو تكيّفٍ، الآلات الراغبة من حيث هي آلات صغيرة، أو الآلات الكبيرة المتكيّفة مع المجموعات الصغيرة. هذه ليست بالمرّة مسألة أدْوة. ان الميل التكنولوجي الحالي، والّذي يستبدل أولوية الترموديناميك بأولوية المعلومات، يترافق مع اختزال في حجم الآلات. في نصٍ بهيجٍ، يبيّن ايفان ايليتش[41] ما يلي: تتضمن الآلات الكبيرة علاقات انتاجٍ من الصنف الرأسمالي أو الاستبدادي، مؤديةً الى التبعية، الاستغلال، الى عجز البشر المختزلين الى مستهلكين أو الى خدم. ان الملكية الجماعية لوسائل الانتاج لا تغيّر شيئًا وتغذّي فقط تنظيمًا استبداديًا ستالينيًا. ايضًا يدفع ايليتش الى الأمام حق كل فردٍ بإستعمال وسائل الانتاج، في “مجتمعٍ وديّ convivial”، اي رغبويّ وغير أوديبيّ. ما معناه: الاستعمال الواسع للآلات من قبل العدد الاكبر الممكن من الناس، مضاعفة الآلات الصغيرة وتكيّف الآلات الكبيرة مع الوحدات الصغيرة، البيع الحصريّ للعناصر الآلوية التي قد يتم تجميعها بيد المنتجين-المستخدِمين أنفسهم، و تدمير تخصصية المعارف والاحتكار الاحترافيّ. ومن البديهيّ أن الامور، المختلفة جدًا عن الاحتكار أو عن تخصصية غالبية المعارف الطبية، وعن تعقّد محرّك السيّارات،وعن ضخامة الآلات، لا تستجيب الى ايّ ضرورة تكنولوجية، ولكن فقط الى إلزاماتٍ اقتصادية وسياسية تفترضُ تمركز القدرة أو التحكّم بين ايدي طبقة مهيمنة. لا يتصلّ الأمر بحلمِ عودةٍ الى الطبيعة حين يُشار الى اللاجدوى الآلوية الراديكالية للسيارات في المدن، طابعها المهجور Archaïque بالرغم من أدْواتِ تمثيلها، و الى الحداثة الممكنة للدراجة الهوائية، في مدننا كما في حرب فييتنام. ولا يعني هذا بالتحديد انه و بإسم آلاتٍ بسيطة نسبيًا وصغيرة يلزم القيام بـ”ثورةٍ ودية” راغبة، ولكن بإسم الابتكار الآلي عينه الذي تقوم المجتمعات الرأسمالية أو الشيوعية بفعلِ السلطة الاقتصادية والسياسية بقمعه[42].

أدركَ أحد كبار فنّاني الآلات الراغبة ، باستر  كيتون، ان يطرح السؤال حول تكيّف آلات جماهير مع الغايات الفردية، للزوجين أو للمجموعات الصغيرة، في رحلة الملاّح La croisière du Navigator، حيث على البطلين أن “يتعاملا مع  ترتيبات منزلية استخدمها ،بشكل عام، المئات (الوسادةُ غابةُ الرافعات، حبال الملابس والخيوط)”[43] . صحيحٌ ان موضوعات إختزال أو تكيّف الآلات لا تكفي بحد ذاتها، وتصدق على شيءٍ آخر، كما تبيّنه مطالبة الكلّ بأن يخدموا وبأن يُتحكّم بهم. ذلك ان الفرق الحقيقيّ بين الآلات الاجتماعية التقنية و الآلات الراغبة لا يكمن، بداهةً،  في الحجم، ولا حتى في الغايات، ولكن في النظام الّذي يحسمُ في الحجم والغايات. انها الآلات نفسها، ولكن ليس النظام عينه. لا يجب ابدًا معارضة نظامٍ حاليّ يُخضِعُ التكنولوجيا للإقتصاد ولسياسات القمع، بنظامٍ يُفترَض فيه ان التكنولوجيا محرَرة ومحرِّرة. تفترضُ التكنولوجيا آلاتٍ اجتماعية وآلاتٍ راغبة، الواحدة في الأخرى، ولا تملك اية سلطةٍ بذاتها كي تحدد  ما سوف يكونه المستوى المؤلِل instance machinisante، رغبةً أو قمعًا للرغبة. في كلّ مرة تدّعي التكنولوجيا انها تشتغل من تلقاء ذاتها، فإنها تأخذ لونًا فاشيًا، كما في البنية-التقنية، لأنها تفيدُ ضمنًا استثماراتٍ ليست فقط اقتصادية وسياسية، بل ايضًا ليبيدية مُدارة بأكملها نحو قمع الرغبة. لا يقود التمييز بين نظامين، كنظاميْ الرغبة واللارغبة، الى التمييز بين الجماعية وبين الفرد، بل الى صنفين من تنظيم الجماهير، حيث الفرد والجماعة لا يدخلان في العلاقة عينها. هناك بينهما الفارق نفسه كما بين الفيزياء الجزيئية وتلك الكتلوية – مع الملاحظة ان المستوى الفيزيائي الجزيئي ليس الإلكترون-الآلة، بل الرغبة المؤلّلة الجزيئية، تمامًا كما ان المستوى الفيزيائي الكتلوي ليس موضوعًا تقنيًا كتلويًا، بل البنية الاجتماعية المكتِّلة molarisante الضد-رغبوية، المضادة للانتاجية، والتي تشترط راهنًا استعمالاً، تحكمًا واستحواذًا على الموضوعات التقنية. في النظام الراهن لمجتمعاتنا، لا تُقبَل الآلة الراغبة إلاّ منحرفةً، اي في هامش الاستعمال الجاد للآلات، وكمكسبٍ ثانويّ مخفيّ للمستعمِلين، للمنتجين أو الضد-منتجين (التمتّع الجنسي الذي يقضي به قاضٍ، أو بيروقراطيّ يُهمِلُ ملفاته..). ولكن نظام الآلة الراغبة ليس انحرافًا معممًا، بل هو بالأحرى العكس، فصامًا عامًا ومنتِجًا، يُصبِح في نهاية المطافِ سعيدًا. لأن، عن الآلة الراغبة، يجب قول ما قاله تينغلي: آلة مبتهجة حقًا، و بالمبتهِجة أعني انها حرّة.

  1. الآلة والجسد المليء: إستثمارات الآلة

لا شيء أكثر غموضًا، إن اهتمينا بالتفاصيل، من اطروحات ماركس حول القوى المنتِجة وعلاقات الانتاج. بخطٍّ كبير، نفهم ما يلي: من الأدوات وصولاً الى الآلات، تفيد وسائل الانتاج البشرية علاقات انتاجٍ إجتماعية، هي مع ذلك بالنسبة لهذه الوسائل خارجية ولا تشكّل سوى قرينةً indice. ولكن ما معنى “قرينة”؟ لماذا تمّ إسقاط خطٍ تطوّري مجرّد يزعمُ تمثيل العلاقة المعزولة بين الانسان والطبيعة، حيث نعي الآلة انطلاقًا من الأداة، وهذه تبعًا للمتعضيّ وإحتياجاته؟ هكذا، يبدو الأمر قسريًا أن تبدوَ العلاقات الاجتماعية خارجية بالنسبة الى الأداة أو الآلة، وأن تفرض عليها من الخارج خطاطة Schema أخرى بيولوجية عبر كسر الخط التطوريّ بحسب تنظيماتٍ اجتماعية متنافرة[44] (انها بالأخصّ هذه اللعبة بين القوى المنتِجة وعلاقات الانتاج التي تشرح الفكرة الغريبة بأن البرجوازية تصبح ثورية في لحظةٍ ما). يبدو لنا ،وبالعكس، ان الآلة يجب ان يُفَكّر بها مباشرةً بالعلاقة مع جسدٍ إجتماعيٍ، وليس بالعلاقة مع متعضٍ بيولوجيّ بشريّ.  وإن كانت على هذا النحو  لن يمكننا اعتبار الآلة كشدفةٍ جديدة تلي شدفة الأداة، فوق خطٍ يجد نقطة بدايته في الإنسان المجرّد. ذلك ان الإنسان والأداة هما مسبقًا  قطع من الآلة فوق جسدٍ مليءٍ لمجتمعٍ ما. ان الآلة هي بدىء ذي بدء آلة اجتماعية مكوّنة من جسدٍ مليءٍ بمستوى مؤلِّل، ومن البشر و  الأدوات التي هي مؤلَّلة بإعتبارها موزّعة فوق هذا الجسد. هناك مثلاً الجسد المليء للسهب الّذي يؤلِّل الإنسان-الحصان-القوس، الجسد المليء للمصنع الّذي يؤلل البشر والآلات… من خلال التعريفين الّذين يقدّمهما أوري[45] و ماركس، ينسب الأوّل الآلات الى البشر الّذين يراقبونها، والثاني الآلات و البشر، “الأعضاء المياكنيكية و الفكرية”، الى المعمل من حيث هو جسد مليء يؤلّلهم. ولكنه التعريف الثاني الّذي يبدو حرفيًا ومتعيّناً.

ليس مجازيًا و لا  بالإمتداد تُعتبَر الأمكنة، التجهيزات الجماعية، و وسائل التواصل والاجساد الاجتماعية آلاتٍ أو قطعًا من آلات. بالعكس، فبالإختزال وبالاشتقاق لن تعنيَ الآلة بعدُ إلاّ واقعًا تقنيًا، و لكن بالتحديد في الشروط المحددة جدًا لجسدٍ مليء، جسد رأس المال-عملة، من حيث يعطي الأداة شكلَ رأس المال الثابت، اي يوزّع الأدوات فوق مساحةِ ممثِل ميكانيكي مستقلّ، ويعطي الإنسانَ شكل رأس المال الثابت، اي يوزّع البشر فوق ممثِلٍ مجرّد للعملِ بشكلٍ عام. انّ إدغامَ أجسادٍ مليئة ينتمي الى السلسلة عينها:  سلسلة رأس المال، المصنع، المياكنيك… (أو تلك الخاصة بالمدينة اليونانية، بالكتائب، بالترس ذي المقبضين). علينا ان نسأل لا عن كيف تلي الآلة التقنية الأدوات البسيطة، بل عن كيف لآلةٍ اجتماعية، وأي من الألات الاجتماعية، بدل ان تركن الى تأليل البشر والأدوات، تجعل من الممكن والضروري في الوقت عينه انبثاقَ الآلات التقنية. (قبل الرأسمالية كانت هناك بالفعل آلات تقنية، ولكن العقب الآلي لا يمرّ بها، بالتحديد لأنه يقف جوهريًا عند حدود تأليل البشر والأدوات. وبالمثل، توجد في كلّ تشكيلة اجتماعية أدوات لا تكون مؤلَّلة لأن العقب لا يمرّ بها، وتكون كذلك أو تصبح كذلك في تشكيلاتٍ أخرى، مثلاً : الاسلحة الهوبليتية).

هكذا تُفهَم الآلة وتُعرّف على انها آلة راغبة: مجموع جسدٍ يؤلِّل، وبشرٌ وأدواتٌ مؤلّلة فوقه. ان العديد من النتائج تنشأ على اثر ذلك ولا نستطيع الاشارة اليها إلاّ تحت عنوان برنامجٍ.

في المقام الأول، ان الآلات الراغبة هي نفسها الآلات الاجتماعية والتقنية، ولكنها بمثابة لاوعيها: فهي تُظهِرُ وتُحرِّكُ بالفعل الاستثمارات الليبيدية (استثمارات الرغبة) التي “تنسجم” والاستثمارات الواعية أو ما قبل الواعية (استثمارات المصلحة) للاقتصاد، والسياسة والتقانة في حقلٍ اجتماعيّ محدد. أن تنسجم ليس معناه ابدًا انها تُشابِه: يتعلّق الموضوع بتوزيعٍ آخر، بـ “خريطةٍ” أخرى، لم تعد تتعلق بالمصالح المتكوِنة في مجتمعٍ، ولا بتوزّع الممكن والمستحيل، الإكراهات والحريّات، أي بكلّ ما يكوّن علل مجتمعٍ. ولكن، تحت هذه العلل، هناك الاشكال الفذّة للرغبة التي تستثمر الدفوق بما هي عليه وتستثمر تقطيعات هذه، والتي لا تكفّ عن اعادة انتاج العوامل العشوائية، الصور الأقل ترجيحًا واللقاءات بين السلاسل المستقلة عن قاعدة ذلك المجتمع، والتي تُطلِقُ حبًا “لذاته”، حبًّا لرأس المال من أجل ذاته، حبًّا بالبيروقراطية من اجل ذاتها، حبًّا بالقمع لذاته، وكل اصناف الاشياء الغريبة مثل “ما الّذي، في العمق، يرغب به رأسماليٌ ما؟” و “كيف يمكن للبشر ان يرغبوا بقمعِ ليس فقط الآخرين، بل بقمع انفسهم ايضًا؟”..الخ

في المقام الثاني، نفهم الآلات الراغبة بشكل افضل من حيث هي حدّ داخليّ للآلات الاجتماعية التقنية، وإن اعتبرنا ان الجسد المليء للمجتمع، المستوى المؤلِّل، لم يُعطى ابدًا على هذا النحو، ولكن من حيث يجب دائمًا ان يُستدل عليه انطلاقًا من مصطلحات وعلاقات موضوعة موضع الرهان في ذلك المجتمع. ان الجسد المليء لرأس المال كجسدٍ متبرعِم، عملة تولّد عملةً، لا يُعطى ابدًا لذاته؛ انه يتضمن مرورًا الى الحدّ، حيث المصلطحات تُختزَل الى اشكالها البسيطة المأخوذة بالمطلق، والى العلاقات، المستبدلة “إثباتيًا” بغيابِ الرابط. مثلاً، بالنسبة الى الآلة الراغبة الرأسمالية، اللقاء بين رأس المال وقوّة العمل كعاملٍ مُقتلَع اقليميًا، سلسلتان مستقلّتان أو اشكال بسيطة حيث اللقاء العشوائي لا يكفّ عن ان يكون معادًا انتاجه في الرأسمالية. كيف يمكن لغياب الرابط اي يكون اثباتيًا؟ نجد سؤال لوكلير يُعلِنُ عن مفارقةِ الرغبة: كيف يمكن للعناصر ان تتصلّ ببعضها البعض بالتحديد في غياب الرابط؟ بطريقةٍ ما، يمكننا القول ان الديكارتية، مع سبينوزا أو ليبنتز، لم تتوقف عن الاجابة عن هذا السؤال. انها نظرية التمايز الحقيقي من حيث تتضمن منطقًا محددًا. هذا لأنها بالفعل متمايزة، وبالتمام مستقلّة الواحدة عن الاخرى، تنتمي عناصرٌ نهائية أو اشكال بسيطة الى الكائن عينه أو الى نفس الجوهر. بهذا المعني بالفعل لا يشتغل جسدٌ جوهريّ مليء بالمرّة كمتعضٍّ. وليست الآلة الراغبة شيئًا آخرًا: تعددية عناصر متمايزة أو اشكال بسيطة، تترابطُ فوق الجسد المليء للمجتمع، بالتحديد من حيث انها توجد “فوق” هذا الجسد أو من حيث انها حقيقةً متمايزة. الآلة الراغبة كمرور نحو الحدّ:  استنباطُ الجسد المليء، انبثاقُ الاشكال البسيطة، تعيين غيابات الرابط: يسيرُ منهجُ رأس المال عند ماركس في هذا الاتجاه، ولكن الافتراضات المسبقة الجدلية تمنعه من ان يدرك الرغبة بإعتبارها جزءًا من البنية التحتية.

في المقام الثالث، تكون علاقات الانتاج التي تبقى خارج الآلة التقنية، بالعكس، داخلية بالنسبة الى الآلة الراغبة. ليس صحيحًا فقط من ناحية الروابط، بل من ناحية قِطَع الآلة، حيث بعضها هي عناصر الانتاج، والعناصر الاخرى مضادة للانتاج. يذكر ج.ج ليبل[46] رسوم فيلم جنيه[47] مشكّلاً آلة راغبةً للسجن: المعتقلان في خليتين متجاورتين، حيث احدهما ينفث دخانًا في فم الآخر، عبر انبوبة تمر من خلال ثقبٍ صغير في الحائط، بينما يستمني حارسٌ وهو يشاهدهما. الحارس، وهو في الآن عينه عنصرٌ مضادٌ للانتاج وقطعةً من الآلة متلصلصة: وتمر الرغبة عبر كل القِطع. اي ان الآلات الراغبة ليست مسالمة: نجد فيها الهيمنة والإسترقاق، العناصرَ القاتلة، القِطَع السادية والمازوشية بجانب بعضها البعض. تحديدًا وفي الآلة الراغبة ، تأخذ هذه القِطع أو العناصر كما ما عداها أبعادها الجنسية تمامًا. ليس تمامًا، كما يريد التحليل النفسي، ان الجنسانية تُعدّ شيفرةً اوديبية تأتي لكي تضاعف التشكيلات الاجتماعية، أو حتى لكي ترأسَ نشأتها وتنظيمها العقليين (المال والشرجية، الفاشية والسادية..الخ). لا وجود لرمزية جنسية، والجنسانية لا تعني “اقتصادًا” آخرَ، “سياسةً” اخرى، ولكن اللاوعي الليبيدي للاقتصاد السياسي بما هو على هذا النحو. الليبيدو، طاقة الآلة الراغبة، يستثمرُ ما هو جنسيّ كل اختلافٍ اجتماعي، للطبقة، للعرق…الخ من أجل أن يصون في اللاوعي حائط الاختلاف الجنسي، أو بالعكس من أجل ان يقفز فوق هذا الحائط، ان يهدمه في الجنس اللابشري. في عنفها نفسه، تكون الآلة الراغبة اختبارًا لكل الحقل الاجتماعي من خلال الرغبة، اختبارٌ بإمكانه ايضًا ان ينتقل الى انتصار لرغبةٍ تمامًا كما الى قمعها. يتعيّن الإختبار في هذا: كيف يمكن لآلة راغبة معطاة ان تجعل من علاقة انتاجٍ أو من اختلافٍ اجتماعي واحدةً من قِطعها، وما هو موقع هذه القطعة. كرش الملياردير في رسمة غولدبرغ، البستانيّ الّذي يستمني في صورة جنيه؟ ربّ العمل  المحجوز، ألاّ يشكّل قطعةً من آلةٍ راغبة-مصنع، ضربًا من الاستجابة للإختبار؟

في المقام الرابع، إن كانت الجنسانية، كطاقة للاوعي، هي استثمارٌ لحقلٍ اجتماعي عبر آلات راغبةٍ، فأنه يظهر ان الموقف تجاه الآلات بشكل عام لا يمثلّ ابدًا ايديولوجيا بسيطة، بل موضعَ الرغبة في البنية التحتية بحد ذاتها، وتبدلات الرغبة بفعل التقطيعات والدفوق التي تعبر هذا الحقل. لهذا السبب، لفكرة الآلة محتوى جنسيّ قويّ جدًا، وجدأ صريح. قبيل الحرب العالمية الاولى، تجابهت المواقف الاربعة الكبرى حول الآلة: التمجيد الكتلوي الكبير للمستقبلية الايطالية التي اتكلت على الآلة من أجل تنمية القوى الانتاجية القومية وانتاج انسانٍ قوميّ جديد، من دون النظر الى علاقات الانتاج؛ المستقبلية والبنيانية constructivisme الروسية التي نظرت الى الآلة من حيث علاقات الانتاج الجديدة المعرَّفة  بالاستيلاء الجماعيّ (الآلة-البرج عند تاتلين[48]، أو آلة موهولي-ناجي[49] ، والتي عبّرت على التنظيم الشهير للحزب كمركزية ديمقراطية، التصميم الحلزوني مع القمّة، حزام النقل، والأساس؛ تستمر علاقات الانتاج بأن تبقى خارجية عن الآلة التي تشتغل كـ “قرينة”)؛ الماكينة الجزيئية الدادائية التي تشغّل لنفسها انقلابًا كثورةِ رغبةٍ، لأنها تُخضع علاقات الانتاج لإختبار قِطَع الآلة الراغبة، وتستخرج من هذه حركة فرِحة لإقتلاع اقليمي أبعد من كل أقاليميةٍ لأمةٍ أو لحزب؛ وأخيرًا، الآنتي-آلة الانسانية والتي تريد انقاذ الرغبة الخيالية أو الرمزية، ان تضعها بمواجهة الآلة، وتتركها معلّقة فوق جهازٍ اوديبيّ (السريالية ضد الدادائية، أو بالأحرى شابلن ضد الدادائي باستر كيتون)[50].

وبالتحديد، لأن لا يتعلّق الأمر بأيديولوجيا، ولكن بتأليلٍ يضع موضع الرهان كل لاوعيّ لفترةٍ أو لمجموعةٍ، يكون رابط هذه المواقف مع الحقل الاجتماعي والسياسيّ معقدًا، إن لم يكن غير متعيّنٍ. تطرحُ المستقبلية الايطالية ،بوضوحٍ، شروط وأشكال تنظيم الآلة الراغبة الفاشية، مع كل التباسات “يسارٍ” قوميّ وحربيّ. يحاول المستقبليون الروس ان يمرروا عناصرهم الأنارشية في آلةِ حزبٍ يسحقهم. ليست السياسة حصنَ الدادائيين. تعمل الانسانوية على سحب استثمارات الآلات الراغبة ، والتي لا تستمر بالاشتغال فيها. ولكن حول هذه المواقف تمّ طرح سؤال الرغبة بحد ذاتها، وسؤال موقعها، اي علاقة المحايثة الخاصة بين الآلات الراغبة والآلات الاجتماعية التقنية، بين هذين القطبين القاصييْن حيث الرغبة تستثمر تشكيلات بارانوية فاشية، أو بالعكس دفوقًا ثورية فصميةSchizoïdes  . ان مفارقة الرغبة انها تتطلب دومًا تحليلاً طويلاً، تحليلاً للاوعي، من أجل تحييد الاقطاب واستقاء الاختبارات الثورية لمجموعةٍ ذات آلاتٍ راغبة.


المصدر:

Deleuze, Gilles, et Guattari, Felix, Capitalisme et schizophrénie 1 : L’Anti-Œdipe, Collection Critique, Nouvelle édition augmentée, 1973, Appendice : Bilan-programme pour machine désirantes, P 463 – 487.


[1]  عرض سنوي فرنسي بدأ منذ العام 1901، يحتضن ويعرض كل الإختراعات الجديدة التي يقدمّها عادةً الهواة.

[2]  مان راي Man Ray  هو ايمانويل رادنتسكي (1890-1976) ممثّل الدادائية ثمّ السوريالية في نيو يورك. مصوّر، رسّام، ومعدّ سينمائي أميركي.

[3]  أو الارجونوميكا أو الهندسة البشرية وهو تطبيق العلوم البيولوجية للإنسان والعلوم الهندسية على العامل وبيئة العمل المحيطة به من أجل رفع الإنتاجية. ويمثل محيط العمل الظروف التي يعيشها الفرد وما يستخدمه من مكائن ومعدات ومواد في مواقع العمل.

 [4]  جيزا روهيم Roheim (1891-1953) محلل نفسي وأنتروبولوجي هنغاري.

[5] Geza Roheim, Psychoanalysis and Anthropology, International Universities Press

(1968).

[6]  بيير أوجيه (1899-1993) فيزيائي فرنسي.

[7] Pierre Auger, L’Homme microscopique, Paris: Flammarion (195 1), p. 1 38.

 [8]  نسبة الى فرق المشاة الاغريقية المقاتلة.

[9]  محلل نفسي فرنسي معاصر.

 [10]  ميشيل دو موزان Michel de M’Uzan (1921-) طبيب عقلي ومحلل نفسي فرنسي.

[11] Michel de M’Uzan, in La Sexualite perverse. Paris: Payot ( 1 972), pp. 34-37. Translated in the “Polysexuality” issue of Semiotext(e}. Vol. IV, no 1, 1 981, Francois Peraldi, ed.

[12]  فرانسيس بيكابيا (1879-1953) كاتب ورسّام فرنسي انتمى الى الدادائية والسوريالية.

[13]  باستر كيتون (1895-1966) ممثل، مخرج، كاتب وسيناريست أميركي اشتهر بشخصية الرجل الهادىء والصامت في السينما الاميركية الصامتة أوائل القرن الماضي.

[14] نسبة الى الإلاهة الاغريقية

[15]  رينيه جيرار (1923-2015) فيلسوف وأنتروبولوجي فرنسي.

[16] فيكتور براونر Brauner (1903-1966) رسام و نحات روماني-فرنسي سوريالي.

[17] مارسيل دوشامبْ Duchamp (1887-1968) رسام، نحات ، كاتب ولاعب شطرنج فرنسي اميركي، ارتبطت اعمله بالدادائية و النعكيبية.

[18]  فرناند ليجي (1881-1955) رسام، نحات وصانع افلام فرنسي .

[19]  نسبة الى المستقبلية و هي حركة فنية اجتماعية بدأت في ايطاليا في بدابات القرن العشرين، حفّزت السرعة التقنية ، الشباب، العنق، و المدينة الحديثة.

[20] الروائي الفرنسي الشهير

[21] مارسيل موري (1887-1969) كاتب فرنسي متخصص بالروائي جول فيرن.

[22] Marcel More, Le tres curieux Jules Verne. Paris, Gallimard, 1 960; and Nouvelles

explorations de Jules Verne. Paris, Gallimard, 1 963.

[23] روجيه دادون Dadoun (1928-) فيلسوف ، محلل نفسي و ناقد فني فرنسي.

[24] Roger Dadoun, “Les ombilics du reve,” in L’espace du reve. Paris: folio essais,

Gallimard ( 1 972).

[25] غراسيم لوكا Gherasim Luca (1913-1994) شاعر و منظّر سوريالي روماني كتب و نشر بالفرنسية.

[26] دولفي تروست  Dolphi Trost   (1916 – 1966) شاعر روماني سوريالي تعاون مع غراسيم لوكا على اصدار كتاب جدل الجدل.

[27] وليام بوروز الثاني William Seward Burroughs II (1914-1997) كاتب و روائي ما بعدحداثي اميركي، من ابرز وجه حركة جيل الضربة Beat Generation ، كان ذا تأثيرٍ بالغٍ على الثقافة الشعبية والادبية الاميركية.

[28] Dolfi Trost, Vision Mns Ie cristal Bucharest: Les Editions de l’Oubli (1945). Visible

et invisible. Editions Arcanes ( 1 953) . Librement mecanique. Le Minotaure (1955).

Gherasim Luca, Le Vampire passij’. Bucharest: Les Editions de l’Oubli (1945).

[29] حركة تحرير النساء: حركة نسوية لامركزية فرنسية

[30]  سيرج لوكلير Serge Leclaire (1924-1994) طبيب و محلل نفسي لاكاني.

[31] Serge Leclaire, “La realite du desir,” in Sexualiti humaine. Aubier (1971).

[32] روبن غولدبرغ  Reuben Garrett Lucius Goldberg (1883-1970) رسام كرتوني، نحات، مؤلف و خترع اميركي.

[33] آلة قذف طابات صنعها تينغلي.

[34] ريتشارد ستانكيفتز Richard Stankiewicz (1922-1983) نحات اميركي.

[35]  كورت شفيترز Schwitters (1887-1948) فنان الماني متعدد المواهب و المجالات الفنية.

[36]  جوزف فندرايس (1875-1960) لغوي فرنسي متخصص في السلتية.

[37]  الحركة العشوائية الدائمة الناشئة عن رجم جسيمات دقيقة معلقة في سائل أو غاز من قبل جزيئات السائل أو الغاز. و يعود الفضل في دراسة هذه الحركة إلى عالم النبات الاسكتلندي روبرت براون عام 1827.

[38]  Vie et probabilite, Paris: Albin Michel (1945); La probabilite en histoire, Paris: Albin Michel (1 952), and Determinisme et autonomie,

Paris: Armand Colin ( 1 956). Regarding a “prowl machine” of the Brownoid type,

  1. Guy Hocquenghem, Le Desir homosexuel. Ed. Universitaires ( 1 972).

[39]  ملاّح الفولغا batelier de la Volga لوحة للفنان الروسي ايليا ربين Ilya Repin (1944-1930).

[40]  غي هوكنغهم Guy Hocquenghem (1946-1988) منظّر ومناضل مثلي فرنسي.

[41]  ايفان ايلتش Ivan Illich  (1926-2002) كاهن و فيلسوف نمساوي كرواتي ناقد لمؤسسات الثقافة الغربية المعاصرة.

[42]  Ivan Illich, “Retooling Society,” Le Nouvel Ohservateur, Sept. 1 1, 1 972 (regarding

largeness and smallness in the machine, cf. Gilbert Simondon, Du mode d’existence

des objets techniques, Meot (1 958), pp. 1 32 1 33).

[43] David Robinson, “Buster Keaton,” Revue du Cinema (this book contains a study

of Keaton’s machines).

[44] With regard to this other biological schema based on the types of organization, cf. ”Afterword” to the Second German Edition of Capital (International Publishers, pp. 17-19).

[45]  اندرو اوري Andrew Ure (1778-1857) فيزيائي اسكتلندي.

[46]  جان جاك لوبل Jean-Jacques Lebel (1936-..) فنان، شاعر، ناشر، وناشط سياسي فرنسي.

[47] جان جينيه Jean Genet (1910-1986) روائي، كاتب مسرحي، شاعر وناشط سياسي فرنسي.

[48]  فلاديمير تاتلين Vladimir Tatlin (1885-1935) رسام ومهندس روسي سوفياتي، من رواد الحركة البنائية.

[49]  لازلو مهوملي نانجي László Moholy-Nagy (1895-1946) رسام ومصوّر هنغاري.

[50]  Noemi Blumenkranz, LEsthetique de la machine (Societe d’ esthetique), “La Spirale” (Revue d’esthetique, 1 971).