مجلة حكمة
دراسة مسح جيني تميط اللثام عن أوجه جديدة حول نظرية التطور

دراسة مسح جيني تميط اللثام عن أوجه جديدة حول نظرية التطور / ترجمة: محمد بكار


أوجه جديدة حول نظرية التطور

لم يخطر ببال أحد أن فحصا جينيا بسيطا اختُرعَ ليَكشف ما إذا كانت مطاعم السوشي حقا تقدم للناس سمك البلطي بدل سمك التونا الذي يطلبونه، أنه سيقود إلى نتائج مدهشة حول نظرية التطور ، بما في ذلك كيف ظهرت كائنات جديدة على وجه الأرض. ومن كان يظن أن لشخص أن يستقرئ 5 ملايين صورة لهذه الجينات، التي تدعى الشريط الخيطي لحمض الديوكسي ريبونيوكليك، والتي أخذها مئات الباحثين من شتى بقاع العالم من مئة ألف كائن حيواني، ووضعوها في قاعدة بيانات بنك الجينات التابع للحكومة الأمريكية؟ الذي فكر في هذا الأمر هو مارك ستوكل من جامعة روكفيلر بنيويورك، وديفيد ثالر من جامعة باسيل بسويسرا. وقد نشر الباحثان نتائج دراستهما في شهر ماي المنصرم، التي من شأنها أن تضع أفكارا عديدة ثابتة حول كيفية تطور الكائنات على المحك، إن لم تكن ستسقطها.

من الأمور المتعارف عليها اليوم في علم الأحياء، مثلا، أن الكائنات التي تنتشر بأعداد كبيرة حول العالم مثل النمل، والجرذان، والإنسان، تزيد تنوعا مع مضي الزمن. ولكن هل هذا صحيح حقا؟ يجيبنا ستوكل، الذي أشرف على الدراسة التي نشرتها مجلة التطور البشري، بأن ذلك ليس بصحيح البتة. فقد أثبتت الدراسة، حسب ما صرح به ستوكل لوكالة الأنباء الفرنسية، أن التنوع الجيني يكاد يستوي فيه البشر الذين يصل عددهم اليوم إلى 7.6 مليار نسمة، وطائر الدوري الشائع الذي يصل عدده إلى 500 مليون اليوم، وطائر الطيطوى الذي يوجد منه حولي 100 ألف على قيد الحياة.

ولكن النتيجة التي حلت كالصاعقة على ثالر هي أن 90 في المئة من الكائنات الموجودة على الأرض اليوم، بما فيها الإنسان، ظهرت في فترة واحدة قبل ما بين 100 ألف إلى 200 ألف سنة. ولذلك، قال ثالر في تصريحة لوكالة الأنباء نفسها: ‘إن هذه الخلاصة فاجأتني كثيرا، وقد حاولت جاهدا أن أردها دونما جدوى’. ومن الطبيعي أن تكون ردة فعله هكذا، إذ كيف لشخص أن يفسر للناس تساوي أعمار تسع أعشار الحياة الحيوانية جينيا؟  هل يكون السبب حدثا كارثيا وقع منذ 200 ألف سنة مسح الأرض مما عليها كلية؟

حتى نتمكن من فهم الجواب على هذه القضية، ينبغي علينا بدءا أن نفهم معنى الشريط الخيطي لحمض الديوكسي ريبونيوكليك. تمتلك الحيوانات نوعين من الحمض، أحدهما يصطلح عليه بحمض الديوكسي ريبونيوكليك، الذي ينتقل عبر السلالة الحيوانية من الذكر والأنثى إلى أولادهما، والذي يعد بمثابة خريطة جينية لكل فرد.

وأما الجينوم (مجموع الجينات في الكائن)، المكون من حمض الديوكسي ريبونيوكليك فيشمل أربعة أنواع من الجزيئات الثنائية. ويوجد في الجسد البشري ثلاثة مليارات من هذه الجزيئات الثنائية التي تنقسم إلى 20 ألف جين وراثي. وتمتلك جميع الحيوانات حمض الديوكسي ريبونيكليك في مصوراتها الحيوية (ميتوكوندريات)، وهي البنيات الدقيقة الموجودة في كل خلية من الخلايا، التي تعمل على تحويل الطاقة المشتقة من الغذاء إلى شيء يجعل الخلايا قادرة على استعمالها. وتحوي كل مصورة حيوية 37 جينا وراثيا يعرف أحدها باسم ‘مؤكسد وُحيدة سيتوكروم  رقم 1’، ويستعمل من أجل الحصول على الشريط الخيطي لحمض الديوكسي ريبونيوكليك. ويسمح هذا النوع من الحمض الموجود بالمصورات الحيوية بإجراء مقارنة بين جميع الكائنات الحيوانية، لأنها تشترك، جميعها، في هذا الحمض. وهذا لا ينطبق على حمض الديوكسي ريبونيوكليك النووي الذي يختلف باختلاف الكائنات. كما أن عزل الحمض النووي الموجود بالمصورات الحيوية أسهل وأقل تكلفة. وكان عالم الأحياء الكندي بول هوبرت، المختص في دراسة الجزيئات، قد ابتكر مصطلح الشريط الخيطي لحمض الديوكسي ريبونيوكليك في خضم سعيه إلى طريقة تحديد نوع الكائن بتحليل ذلك الجين الوراثي الموجود بالمصورات الحيوية الذي يوجد به هذا النوع الخاص من الحمض.

 لقد صرح ثالر أن الدراسة: ‘أثبتت إمكانية تطبيق نتائج المصورات الحيوية في مقاربتنا التي تشمل كل الكائنات الحيوانية بفضل التوازن الموجود بين خاصيتين متباينتين في الشريط الخيطي لحمض الديوكسي ريبونيوكليك.’ فمن جهة، يوجد شبه كبير بين الجين الوراثي بالمصورات الحيوية لجميع الحيوانات، مما يسهل عمليتي الاختيار والمقارنة. ومن جهة أخرى، تختلف المقاطع المأخوذة من هذه المصورات الحيوية بما يكفي للتمييز بين كل هذه الكائنات. وقد قال ثالر: ‘إن هذه الفروقات الجينية التي وجدناها مماثلة لما يقوله الخبراء المتخصصون حول خصائص كل كائن على حدة.’

وقد اكتشف الباحثان بتحليلهما للشريط الخيطي لمئة ألف كائن ما يفيد أن كل تلك الحيوانات، تقريبا، ظهرت في الوجود مع ظهور الإنسان. والمقصود ب ‘ما يفيد’ أنهما لاحظا عدم وجود أي تنوع فيما يصطلح عليه بالطفرات المحايدة، والتي تمثل التغيرات الدقيقة في حمض الديوكسي ريبونيوكليك، والتي تحدث بين جيل وآخر، أي أنه ليس من شأنها أن تزيد من حظوظ ذلك الكائن في البقاء أو تحد منها. وبعبارة بسيطة، لا توجد أية علاقة البتة بين هذه الطفرات المحايدة التي درسها الباحثان وبين المحفزات الطبيعية أو الجنسية للتطور.

سواء تشابهت أو اختلفت هذه الطفرات المحايدة فيما بينها، فإنها تبقى مثل الدوائر الموجودة في جذع الشجرة، فهي تعطينا العمر التقريبي للكائن. وهذا يعيدنا إلى سؤالنا الأول: لماذا ظهرت الأغلبية الغالبة لهذه الكائنات في الوجود في نفس الوقت تقريبا؟ يمكن لكارثة بيئية أن تكون السبب كما قال جيس أوزبيل، مدير برنامج البيئة البشرية بجامعة روكرفيلر. فقد صرح لوكالة الأنباء الفرنسية معلقا على هذه الدراسة بقوله: ‘تعد الفيروسات، وعصور الجليد، والمنافسون الجدد الناجحون، وفقدان الفريسة، أمورا من شأنها أن تسبب فترات ينخفض فيها عدد جنس حيواني انخفاضا حادا’. كما قال: ‘في مثل تلك الفترات، يسهل على ابتكار جيني أن يمسح الأرض مما عليها ويسهم في ظهور كائنات جديدة.’ ولكن الأمر الذي يقدح في هذا الطرح هو أن آخر انقراض كبير على الأرض حدث قبل 65.5 مليون سنة، حيث يفترض أن كويكبا صدم الأرض، وتسبب في مسح الأرض مما عليها من الديناصورات ونصف الكائنات التي كانت عليها. وهذا يعني أن تفسير عنق الزجاجة لا يكاد يصمد أمام هذه الحقيقة. وأما ستوكل فقال: ‘إن أبسط تأويل هو أن الحياة في تطور دائم’، وإنه ‘من المحتمل، أنه في جميع حالات التطور، أن تكون جل الحيوانات الحية قد ظهرت حديثا نسبيا’.  وهذا يعني أن كل نوع من الكائنات يبقى لمدة من الزمن قبل أن يتطور إلى كائن جديد أو ينقرض.

ومن الأمور المفاجئة الأخرى التي خلصت إليها الدراسة أن الكائنات تمتلك حدودا جينية واضحة جدا، وأنه لا وجود لمراحل تطورية بينها. وقد قال ثالر في محاولة لتوضيح هذا الأمر: ‘إذا كان الأفراد نجوما، فإن الكائنات مجرات’. ‘هم كتلة متراصة في شساعة الكون المتسلسل الفارغ.’ كما أردف أن عدم وجود مراحل تطورية للكائنات الأرضية الموجودة من الأمور التي حيرت داروين نفسه.

المصدر