مجلة حكمة
تظهر عناصر الباثولوجيا في أعمال سيلفيا بلاث وحياتها عميقة الجذور وقليلة المقاومة فالشخص الذي يقرأ لها لا يأمل بالحصول على المبادئ العامة أو الأصول الأكيدة أو التطبيقات أو الدروس

حول سيلفيا بلاث – إليزابيث هاردويك / ترجمة: سارة السنيدي


تظهر عناصر الباثولوجيا في أعمال سيلفيا بلاث وحياتها عميقة الجذور وقليلة المقاومة فالشخص الذي يقرأ لها لا يأمل بالحصول على المبادئ العامة أو الأصول الأكيدة أو التطبيقات أو الدروس. فيأبى مصيرها الذي آلت إليه أن ينفك عن موضوعاتها فكلاهما يملكان قدرًا من الفظاعة. أعمالها قاسية كحطام قبضة وأحيانًا تكون أعمالها لئيمة المشاعر. إجراء المقارنات على أعمالها ممكن أدبيًا فالمحاكات بين الأدباء تحدث أحيانًا ولكن مع من يجب أن نقارن روحها ومحتواها وطبعها؟

اقترح النقاد بعض الأطر التي تخص طبيعتها التدميرية. فربما كونها أنثى هو جزء من الانزعاج الاستثنائي في طبيعتها، فهي المرأة التي أُلقيت كومة واجباتها على أرض من العبقرية والطموح تحت وطأة حالة عقلية غير مستقرة. أم أنها خمسينات القرن العشرين عندما كانت تدرس الجامعة، أو في سنوات نشأتها— هل يا ترى هنالك شيء من ذلك هاهنا؟ ربما، ولكنني أشعر أنها تفقد أية جذور قومية أو محلية، أشعر بذلك في قصائدها على وجه التحديد، وهذا قد يعود إلى أجدادها الأجانب من كلا الطرفين. أعطاها القدر إياهم وهي بدورها قبلتهم كعبء وليس كهبة; لكن كانوا هنالك يفصلونها بطريقة ما عما لم يكونوا. توفي والدها عندما كانت في الثامنة من عمرها ومن الطبيعي أن تكون وفاته أمرًا جللًا ومحوريًا في حياتها، لكن هذا الجزء الأكثر تشويقًا في تاريخها محترق للغاية بالامتعاض والمرارة، مع أن الحروق الشديدة الخاصة هي وحدها التي تسمح لنا بأن نتخيلها كقطعة من الحب.

بالرغم من كل الدراما التي تحويها سيرة سيلفيا بلاث الذاتية إلا أن هنالك بعدٌ غريب فيها. فمصير مثل هذا التعريف القوي للنفس لا يجعل الشخصية الحقيقة تزداد قربًا بل يميل إلى إظهار الايقونية وتجميد افتراضاتنا واستجاباتنا. يتكلم البعض عنها على أنها “أسطورة” أو “خرافة” ولكن ما الذي يعنيه هذا؟ لقد كانت سيلفيا بلاث موهبةً لامعة دمرت نفسها في سن الثلاثين، ومن المرجح أن تبقى على ما يبدو واحدة من أكثر الشعراء المثيرين للاهتمام في الأدب الأمريكي. ففي أمسية الأدب سنجدها تقف مع “هارت كران” و”سكوت فيتزجيرالد” و “إدغار آلان بو” بدلًا من “إيميلي ديكينزون” أو “ماريان مور” أو “إليزابيث بيشوب.”

معالم طبيعة سيلفيا بلاث الشخصية تبدو غريبة، خاصة فيما يتعلق بقدراتها المستفيضة الميالة للتمرد وشعورها بالبراعة، فالبراعة والاستعداد اللذان ملكتهما بالتواضع والاجتهاد باتا أساس لطموح ساحق. ولدت سيلفيا بلاث في وينثروب الواقعة في ولاية ماساتشوستس. كان والدا أمها من النمسا أما والدها فألماني ولد في بولندا. كان والدها بروفسورًا في البيولوجيا ومن بين العديد من الهوايات التي كان يستمتع بها كان مختصًا في تربية النحل (الخطر الغامض والحلاوة اللذان تتصف بهما خلية النحل ترمز حسب الاعتقادات الوثنية للأبنة). توفي والد سيلفيا بلاث وانتقلت العائلة إلى وليسلي في ولاية ماساتشوستس للعيش مع أجدادهم. أصبحت الأم معلمة، أما سيلفيا بلاث فدرست في مدرسة عامة ثم درست في كلية سميث فيما بعد. حققت سيلفيا بلاث نجاحًا منقطع النظير في دراستها ويبدوا أنها مدفوعة إلى إتقان كل ما تقدمه لها الحياة، سواءً في الدراسة أو الطبخ أو ركوب الخيل أو الكتابة أو الأمومة أو تدبير شؤون المنزل. ويبدو أن صفاتٍ مثل التراجع أو التعاجز أو الرفض لا تعرف لحياتها طريقًا.

لا يوجد هنالك أية طريقة ممكنة لنعلم عما إذا كانت سيلفيا بلاث هي نفس المخلوق الذي قدمه لنا كاتب سيرتها الذاتية لويس اميز المندفع. اتبع السيد أميز الطريقة الهندية التي تعتمد على ايجاد أكبر عدد من أثار الأقدام في أي مكان كان. فلذلك عرفنا منه أنها ” لعبت التنس، كانت في فريق كرة السلة للفتيات، كانت محررة مشاركة في صحيفة المدرسة…” وما إلى ذلك. أي شخص يكتب عن هذه الحياة فهو يستقبل أية صِدام بحقائق حميمة. فهم يحبون أن يشيروا إلى حقيقة أنها تزوجت تيد هيوز في مايسمى يوم الإزهار(بلومزداي). تميل الرسائل التي تكتبها سيلفيا بلاث، أو على الأقل المقتطفات التي رأيناها حتى الآن، إلى أن تكون ذات مستوى متدني وسطحية ومكبوتة ومجردة، فهي مثال لعدم وجود تقارب حقيقي مع المتلقي أو أي رغبة في الكشف عن نفسها. أما الأديب “الفيرز” فجعلها حية وحقيقية في أعيننا والفصل الذي كتبه عن سيلفيا بلاث في كتابة الذي يتحدث عن الانتحار مؤثر للغاية. بالرغم من أن الفيرز مقيد في كتاباته لكنه استطاع أن يشير إلى العديد من الآلام الخاصة التي تكون حاضرة لحظة الانتحار.

درست سيلفيا بلاث في جامعة كامبردج بمنحة من برنامج فولبرايت للمنح الدراسية. قابلت الشاعر المميز تيد هيوز وتزوجته ثم بعد ما يقارب السنة قضوها في أمريكا عادوا للعيش في إنجلترا. نشر ديوانها الشعري الأول باسم “العملاق” في عام ١٩٦٠ للميلاد وهو العام ذاته الذي ولدت فيه ابنتها الأولى فريدا. ولد ابنها نيكولاس في عام ١٩٦٠ وبعدها أصبحت حياتها أصعب وأكثر مشقة ولكنها بالرغم من ذلك كانت قادرة على كتابة بعض القصائد التي نشرت تحت عنوان “عبور المياه”. انفصلت عن زوجها وعادت إلى لندن مع طفليها الصغيرين محاولةً العيش والعمل والنجاة لوحدها في شقة خالية خلال واحدة من أشد سنوات لندن برودة منذ أكثر من قرن.  نشرت رواية “الناقوس الزجاجي” تحت اسم مستعار قبل وفاتها بوقت قصير في فبرابر ١٩٦٣.

كان الإبداع الأشبه بالهذيان يزورها كثيرًا في الأشهر القارصة الأخيرة من حياتها، فالقصائد المذهلة في ديوان “اريل” والكتاب الذي نشر في المجلات لكنه حجب بعدها كي يأخذ كتاب “عبور المياه” الثمين لكن الأقل روعة حقه من الشهرة. هذا الكتاب الأخير الذي كتبته في نفس وقت كتابة “أريل” سيسمى “أشجار الشتاء” أو نحوه حسب علمي.

لم تكن زيارات الإبداع تلك نسائم من الجنة بل كانت نفحات تهب من جحيم الغضب. الفن الذي يشعر المرء فيه بغبطة متزعزعة حين قراءته لمثل هذه السطور الممزقة للوجدان ذو تأثير قوي جدًا عليه. فموضوعات القصائد تدور حول الموت والغضب والكراهية والدم والجروح والبشاعة ومحاولات الانتحار والقرصات والحمى والعمليات ولا يوجد أي دلائل تشير إلى رغبتها بالتصالح معها. كما أن قصائدها تتحدث عن الأطفال وعن طفليها اللذيّن أحبتهما حبًا جمًا، غير أن كلمة “طفل” و”رضيع” ككلمات مجردة غالبًا ما تصاحبها صور من الألم والموت. وكانت الكثير من قصائدها كالخُطَب تسلب أنفاسك ببلاغتها وبنبرتها العاطفية. بقيت الشاعرة طوال حياتها مذعورة. فلقد جن جنون “أوريستيس” لكن مؤلفه “إسخيلوس” بقي على قيد الحياة حتى السبعين من عمره. أما سيلفيا بلاث فهي البطلة والكاتبة في الوقت ذاته فعندما أسدل الستار كانت جثتها هامدة هناك على المسرح ضحية لحبكتها.

 لا تجسد سيلفيا بلاث نفسها “شخصًا لطيفًا” على الإطلاق في أعمالها على الأقل وهذا أمر نادر. فهي قادرة على فعل أي شيء نعرفه. ويذكرنا الفيرز كيف أن مشهد تزلجها على الجليد بسرعة كبيرة من أعلى المنحدر من غير معرفتها بطريقة التزلج في رواية “الناقوس الزجاجي” هو أمر اعتيادي منها، ويتذكر طريقتها المتهورة عند امتطاء الأحصنة كما أنه أخبر عن تحطيمها المتعمد لسيارتها باندفاع انتحاري قبل محاولتها الناجحة الأخيرة للانتحار.

ليس التهور الذي يجعل سيلفيا بلاث مُنفرة بهذا القدر بل هي القوة التدميرية التي تملكها تجاه نفسها والآخرين. وتظن والدتها بأن روايتها “الناقوس الزجاجي” تمثل أدنى درجات الجحود ولا يمكننا إلا أن نتساءل عن براءتها في توقع غير ذلك. بالنسبة للفتاة التي في الرواية، واعتمادًا على أن الأحداث حقيقة على حد علمنا، فإن الذات لديها محطمة والانخناق بالغ الشدة الذي تحس به جعل من الموت أو العلاج بالصدمة الكهربائية بعد أن أخفقت محاولاتها بالانتحار وحدهما القادران على أن يجلبا لها أي نوع من أنواع الراحة.  لا يُلقي الأشخاص الذين يعانون مثل هذه المعاناة بالًا لحزن الآخرين أو قلقهم ولكن يبدو أن الكثير منهم يتمكنون من النجاة فيما بعد بمحو أي نوع من أنواع الانعزال عن الآخرين. ولكن حتى في الذكرى- ورواية الناقوس الزجاجي التي كتبت بعد عقد من الأحداث- فإن سيلفيا بلاث لا تسأل عن الثمن.

هنالك سلسلة من علامات جنون الارتياب في روايتها وفي أشعارها كذلك. فالمرء الذي يمر خلال هذه العلامات يكون بلا رحمة ومهدد ومحاصر بصور عنيفة.  لم تشعر سيلفيا بلاث بالأسى على نفسها ولم تلجأ إلى انتقاد نفسها أو حتى تحليل ذاتها كما لاحظ الكثيرون. هذا العالم نتن، فما هو إلا انسياق لهواء رطب من الانتقام. يبدو أن رواية الناقوس الزجاجي هي تسجيل واقعي لمحاولة الانتحار التي قدمت على فعلها في الصيف قبل سنتها الأخيرة في كلية سميث. ولكن الرواية تحكي عن الجنون كذلك وهذا ما يميزها عن أشعارها. فالموت في أشعارها هو فعل واحتمالية وإشارة فهو كامل بحد ذاته من دون دوافع ومن غير مراجعة.

افتتحت سيلفيا بلاث رواية الناقوس الزجاجي كما يلي: “كان صيفًا غريبًا خانقًا، الصيف الذي صعقوا فيه أهالي نوزينبرج ” لا يوجد أي ذكر لأهالي روزنبرج فيما بعد في الرواية فلقد كان ذكرهم في أولها عبقريًا، في تساؤل عما إذا كانت المعاناة الفردية ذات أهمية عامة. بالإضافة إلى إدراكها الغريب للعلاقات من كل الأنواع مثل الأصوات والأحاسيس وترتيبها الشعري للمواد، فذكرها لصعق أهالي روزنبيرج في البداية والعلاج بالصعق الكهربائي في النهاية يحمل علاقة مجازية إذا لم تكن واقعية. في النهاية أهالي روزنبيرج عنوا الموت فقط لسيلفيا بلاث. “لا يمكنني إلا أن أتساءل كيف سيكون إحساسك وأنت تحرق حيًا، على طول أعصابك.”

رجعت الفتاة إلى ماساتشوستس بعد صيف قضته في نيويورك فبدأ الجنون يحيطها.” لم أنم لمدة ٢١ ليلة. أحس أن أجمل الأشياء في العالم ماهي إلا ظلال، الملايين من الأشكال المتحركة وطريق لا ينتهي من الظلال. هنالك ظلال في أدراج المكتب وفي الخزائن وفي الحقائب، وهنالك ظلال تحت المنازل والأشجار والأحجار، وهنالك ظلال خلف أعين الناس وخلف ابتساماتهم وأميال أميال من الظلال في الجزء المظلم من الأرض.”

الإقدام على الانتحار عادةً ما يكون نتيجة لليأس وطلبًا للراحة، ولكن في أعمال سيلفيا بلاث لا يمكننا تجاهل الطريقة التي أظهرت فيها الانتحار على أنه السعادة والنصر. ففي رواية الناقوس الزجاجي كانت تفكر بقطع معصمها في الحوض وتتخيل لون الماء “مبهرج كزهرة الخشخاش” وهنالك صور مثل هذه في أشعارها الأخيرة. فعندما لا تستطيع الأقدام على الانتحار فإنها لاتزال ترغب “بسكب بعض الدماء” للتدريب. “بعدها أحسست برعشة صغيرة عميقة في داخلي، تدفق شقٌ أحمر زاهي على حافة القطع. تجمع الدم بغموض كما فاكهة ثم انهمر على كاحلي إلى قعر حذائي الجلدي الأسود.” تظهر مثل هذا المقطع وغيرها الكثير من المقاطع الأكثر براعة في أشعارها أن عقلها في حالة من الألم النفسي تبحث عن الألم بقدر الموت، فتفكر بوضوح مروع بتشويه الروح والجسد. ففي قصيده “أبي” تقول:

كل امرأة تعبد فاشيًا

الحذاء في الوجه، غاشم

قلبٌ غاشم لغاشمٍ مثلك (١)

 

السعي للألم عند سيلفيا بلاث نشط وعنيف وجاد فهو ليس مثل الأسلوب السوينبورني (نسبة إلى الشاعرألغيرنون تشارلز سوينبورن) مطلقًا في الإهانة بالضرب والمضايقة. فخلف كل حالة مزاجيه هنالك غضب لسبب لا نعلمه ولم يتضح لنا السبب وراء هذا الغضب حتى في روايتها حيث أن المشاهد مفتوحة وصريحة. توجه سيلفيا بلاث غضبها في بعض القصائد بصراحة إلى والدها وفي قصائد أخرى توجه غضبها لزوجها بشكل غير مباشر ولكن أكثر حدة.

محاولة الانتحار الفعلية التي أُنقذت منها سيلفيا بلاث بالحظ ومحظ الصدفة كانت مأساوية للغاية بتفاصيلها. تنزل الفتاة إلى زاوية قبو بارد ورطب ومليء بخيوط العناكب، وهنالك تختبئ خلف قطعة قديمة من الخشب لتقوم بتناول ٥٠ حبة منومة. متذوقة الشعور بالدونية والظلام والعتمة وبرد وعفن لا يطاق لما يحمله من البشاعة والعذاب. “كان يجب عليهم أن ينادوا وينادوا\ ويلتقطوا الدود من على جسدي كلآلئ لزجة” (السيدة لازوروس)

كانت الشرطة تبحث عنها وعناوين الصحف تتحدث عن اختفائها وحينما اكتشفت علبة الدواء الفارغة؛ كان مشهدًا دراماتيكيًا لا ينسى. عُثر على سيلفيا بلاث ونقلت إلى المستشفى وتلقت العلاج بالصدمة الكهربائية، و”الناقوس الزجاجي” الذي كان يخنقها رفع عنها أخيرًا. لا تماثل روايتها “الناقوس الزجاجي” أشعارها ولكنها تخلو من العيوب الجسيمة والمواقف المحرجة. ربما أن اللمسات الأخيرة لم تكتمل بعد ولكنها محدودة أكثر في نواياها من أدائها. يحوي الكتاب على سخرية باردة وغير ودية ومثيرة للاهتمام. نتعاطف مع البطلة بسبب معاناتها ومواجهتها لكل تلك المصاعب، كانت المعاناة توصف بأقل أو أكثر بديهية كما لو أن المعاناة أمر طبيعي، والشفقة تتدفق إليك جزئيًا لأنها بذاتها قاسية وجامدة فيما يتعلق بحياتها.

كتبت سيرتها الذاتية هذه بأسلوب الخمسينات من القرن العشرين بأسلوب مجرد أو بالأحرى جامعي، ولكن السلوك والبعد واللامبالاة المُرة يلونها مزاج عميق من عدم التأثر. تبدو السعادة ومشاعر الشباب والرغبة بأن تدعى إلى حفل تخرج “يال” وتخسر عذريتها هي على الأغلب غير حقيقية في سيناريو من الانحلال والغضب والحب المنحرف للفظاعة. تصف البطلة اغواء استير غرين وود بأنه بشع بشاعة لا تنسى وكئيب كآبة ملائمة. وأدى هذا إلى نزيف خطير غير طبيعي طالت مدته. تدفق الدم، المهووسة به المؤلفة، تدفقًا قويًا مما اضطر بالفتاة للذهاب إلى المستشفى لتلقي المساعدة اللازمة. وطالبت الشاب بدفع تكاليف المستشفى كما لو أنها تنتقم لعمل هي بنفسها تشاركت به بحثًا عن التجربة.

المواضيع الفظيعة والانطواء على النفس والألم والدماء والحنق والافتتان بالبشاعة كل هذا ستجده في “الناقوس الزجاجي”. ولكن بإحساس هادئ متردد. تعتبر القصائد في ديوان “اريل” عنيفة أكثر من غيرها بكثير. وأما القصيدة الشهيرة “أبي” فهي من أكثر القصائد التي ممكن أن تجدها في الأدب لئمًا.

محاولات الانتحار مألوفة بما فيه الكفاية، لكن حب الموت وتلك البهجة المؤلمة هي مشاعر نادرًا ما يشعر بها إنسان. أقدم الكثيرين من الأدباء على الانتحار مثل هارت كران وفيرجينيا وولف. ويعتقد البعض أن حتى الشاعرة صافو قد ألقت بنفسها من على صخرة نحو البحر. نتصور أن أفعال التدمير الذاتي هذه مفاجئة بدرجة كبيرة أو قليلة أو كذروة لاكتئاب لا يطاق، اكتئاب يجلب معه شعور بفقدان الأمل والقيمة، يأس لا يمكن تصور الشفاء منه.

تحتوي في بعض يوميات فيرجينيا وولف التي كتبتها قبل موتها بأيام على الازدراء المتألق في أشعار سيلفيا بلاث مثل قصيدة “المثليات”

خبث في المطبخ!

البطاطا تهمس.

هوليوود كلها بلا نوافذ.

وتكمل:

 أبقيتَ قططها خارج نافذتك

عالقة بما يشبه أنبوع أسمنت

حيث تتغوط وتتقيأ وتبكي ولا يمكنها سماعها

كُتبت هذه القصيدة في الأسابيع الأخيرة من حياة سيلفيا بلاث، ولا أملك أية دليل عما إذا كان هذا مشهدًا فعليًا. يبدوا هذا العنف الشديد والملفت للنظر الذي تحمله اللغة يستمد قوته من عقل يتسارع نحو الجنون ولكنه رغم ذلك قادر على التحكم الخارق باللغة والصوت والإيقاع والمجاز وهذا كله يعتبر عكس الجنون تمامًا.

كان هنالك في بداية يوميات فيرجينيا وولف نفاذ صبر مشابه لما لدى سيلفيا بلاث. فكانت تقول: “يرشون ويرسمون تلك الكعكات الصغيرة المبتذلة….. عند “الفيولر” تجلس امرأة سمينة وذكية ترتدي قبعة صيد حمراء ولألئ وتنورة بقماش ذو ترابيع وتأكل الكعك الدسم بشراهة، وكذلك يفعل العالة الرث الذي بصحبتها… يا ترى من أين يأتي المال لإطعام هذه الرخويات البيضاء السمينة؟”

الكثير من مشاعر الغضب والازدراء ولكن عندما أتى ذلك اليوم لفرجينيا وولف فإن ألم المرض بدا محتملًا وأصبحت لا تشعر بغير مشاعر الأسف والعرفان والكآبة. تقول في رسالتها لزوجها: “عزيزي، أنا متأكدة من أنني سوف أجن مرة أخرى فأنا أشعر بذلك، ولا أعتقد أنه بإمكاننا المرور بمثل تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى…. لا أستطيع المقاومة لوقت أطول. أعلم أنني أفسد حياتك فبدوني ستكون قادرًا على العمل.”   وهكذا غمرت تنورتها المياه وأغرقت جسدها بمياه النهر.

بالنسبة لانتحار سيلفيا بلاث فهو بلا شك كان أداءً، وصفته” السيدة لازوروس” بكبرياء ثائر وواثق. لا يوجد في أدائها أسف أو خوف. فالانتحار بالنسبة لها هو تأكيد لقوة الشخصية وشدتها، ليس لضعفها. فهي ليست مخلوق ضعيف يستسلم ليهرب بعيدًا، بل هي مخلوق قوي ومخيف وخطير.

ها قد فعلتها مجددًا.

سنة في كل عشرٍ

أنجح (٢)

“السيدة لازوروس”

وأحيانًا هذا الأداء يغدو هادئًا كما في قصيدة “الحافة”:

أدركت المرأة كمالها أخيرًا.

جسدها الميت

يحمل ابتسامة التحقق.

وهم قدر إغريقي (٢)

 

 

وفي بعض الأحيان فإن الألفة والفناء تجتمعان معًا كما في نهاية قصيدة “الكلمات الأخيرة”:

عندما تبدأ مواطئ أقدامي تبرد،

فإن العين الزرقاء في حجر الفيروز سوف تريحني.

دعوني أأخذ أواني طبخي النحاسية، دعوا أوانيَّ الحمراء

تزهر فيني كزهور الليل، برائحتها الزكية.

سوف يلفونني بالأقمشة، وسوف يخزنون قلبي

في صرة أنيقة تحت أقدامي…

استحواذ فكرة الجسد في لحظة الموت على تفكير سيلفيا بلاث، يذكرني بالكاتب يوكو ميشيما، بالرغم من أن ما يشغلها لا يطابق كما هو ظاهر ما يشغله هو ولكنه ببساطة الإحساس بالجثة. يصرح هذا الفعل في كلا هاتين المحاولتين للانتحار على أنه قيمة وتعريف بالذات وقفزة نقية. وحتى يعتقد أنه جميل في بعض الأحيان “نقي وطاهر كما صرخة طفل.”

قادت ظروف انتحار سيلفيا بلاث في لندن اليفارز إلى أن يخمن أن سيلفيا بلاث لم ترغب بقتل نفسها رغبة كاملة، فتوقعاتها أن المربية التي تساعدها مع الأطفال سوف تأتي باكرًا ومعرفتها بأن الرجل في الشقة التي في الأسفل يستيقظ باكرًا والملاحظة التي كتبت فيها أسم الدكتور ورقمة. فيعتقد اليفارز أنها جازفت بنفسها نحو الموت ولكنها خسرت.

نعرف من وجهة النظر تلك أن الانتحار ما هو إلا نداء لطلب المساعدة، نداء لا يمكن للمرء الإفصاح عنه بالطرق الاعتيادية. كانت الحقيقة المطلقة له ذروة مأساوية ولكنه ليس الموت بل هوسها به هو مالا يمكن تفسيره. تظهر التعذيب والتشويه والتدمير كمشاعر مثيرة بحد ذاتها وبدون أي إشارة إلى كونها “مشكلة”. حاول ميشيما أن يزين وفاته بأفكار السياسة الوطنية والتي كانت أوهام سخيفة بكل تأكيد. تبدو سيلفيا بلاث دومًا بأنها تصف تدميرها لذاتها على أنه تصرف مبهج من العصيان.

تبدوا قصيدة آن سيكستون والنثر الذي كتبته عن موت سيلفيا بلاث مرحًا وعفويًا ومتعجلًا بطريقة ما، فكأنها شخص يحكي حكاية ويخاف من أن يقاطع. تسمي نفسها هي وسيلفيا بلاث “بمروجات الموت” وتحكي بحماسة كبيرة عن حديثهما حول موتهما في بار الرتز في بوسطن وتقول: “لقد تحدثنا عن الموت بحدة حارقة، فكلانا منجذبات إليه كما ينجذب العث لمصباح كهربائي ويمتص منه!” حتى لو طرأ هذا المشهد على الذاكرة لوهلة فإنه يعطي شعورًا فضيعًا. تحاول آن سيكستون في إحدى قصائدها شرح دافع الانتحار:

مثل النجارين يرغبون بمعرفة أي أداة يستخدمونها

ولم يسألوا قط لماذا نبني.

الانتحار ما هو إلا واحدٌ من العديد من الموضوعات الكئيبة في أعمال سيلفيا بلاث. تنجذب سيلفيا بلاث لكل ما هو مؤذي ومضر ومغيض، فهي ترى وتروي الأحداث بفظاظة حادة وبقسوة. ففي مشهد من المشاهد على متن سفينة كان هنالك رجل أعمى على الطاولة يتلمس طعامه وتصفه هي: “بدت أصابعه كأنوف ابن عرس. لم أستطع التوقف عن النظر.” وحتى زهور الخشخاش والتوليب ذات اللون الأحمر الزاهي تصبح دموية وخطيرة. والهدايا لا تقبل بسهولة. وجرح إصبعها في المطبخ ماهي إلا هي فرصة لجرح نفسها بدقة مذهلة.

يا للحماسة

بدلًا من بصلة إبهامي.

أعلاه انقطع تقريبًا

عدى طبقة رقيقة

من الجلد،

طرف متدلي كقبعة

أبيض كلون الأموات

ثم يظهر ذلك الأحمر المخملي

وكدمة رسمت على نفس المنوال في قصيدة “رضه”

تدفق اللون إلى البقعة، بنفسجي باهت.

تحول بقية الجسد لشحوبٍ كامل

أصبح ذا لونٍ لؤلؤي

وفي قصيدة “أبي” هل يمكن أن نراها كنوع من طرد الأرواح الشريرة، حوار دراماتيكي كبير من صراخ معذب لحب مفقود؟

لم تنجز، لم تنجز

المزيد، حذاء أسود

عشت فيه كالقدم

ثلاثين عامًا، تعيسة بيضاء

بالكاد أجرؤ أن أتنفس أو أعطس (١)

 

توفي والدها بسبب مرض مزمن ولكنها لا تبدي أية شفقة على فقد حياته. عوضًا عن ذلك فهو ليس الميت بل القاتل:

قاطرة، قاطرة

تُهجِرني كيهودي

يهودي إلى داخاو، أوشفيتز، بيلسن

بدأت أتكلم كيهودي

أظن أنني سأكون يهودية (١)

 

أطلق جورج ستاينر على علاقة آلام سيلفيا بلاث بآلام اليهود في أوروبا أسم “الانتحال البارع” وهي بالفعل تسمية جيدة. لم يقتل والدها أحدًا أما ذكرها “القلب الأسود الشحيم” فما هو بالحقيقة إلا قلبها. وكيف أن يكون الحزن ممكنًا لمدة تجاوزت العشرين سنة على شخص شرير وقاسي كما تصفه هي؟ في أسس علم النفس يمكن لكل نقيض أن يأخذ مكانًا مناسبًا، القطعة المشكلة تشكيلًا غريبًا ماهي في الحقيقة إلا جزء من صور طبيعية إذا تمكنت فقط من إيجاد ذلك المكان حيث أن اختصاراتها تتسرب إلى السماء الزرقاء.  فيمكن أن يحل مكان هذه الأسرة المتشددة أي نقيض، أي منطقيًا كما هي بالحقيقة. ولكن حتى الغرباء والبلدة أخذوا نصيبهم من ملامة والدها وهذه الفكرة هي الأكثر بغضًا:

ثمة وتد في قلبك الأسود الشحيم

 لم يعجب القرويون قط فيك.

فهم يرقصون ويطؤون عليك

كانوا يعرفون دائمًا أنك هو.

أبي، أبي أيها النذل أنا وصلت (١)

تصر سيلفيا بلاث على أنها هي الضحية عند قولها: “بائسة وبيضاء”، “يهودية” و “بقلبي الأحمر المليح”. لكنها ضحية خطيرة تحمل رغبة بالانتقام عندما قالت: “يا سيدي الرب يا سيدي إبليس، حذار، حذار.” تعتبر قصيدة “أبي” بإيقاعها المنوم وبقسوتها المشينة واحدة من بين أكثر أعمال سيلفيا بلاث شهرة وشعبية. لا يمكنك قراءتها بدون أن ترتجف، فلقد انتهت إلى الكمال والتمام، لتصل موسيقاها الشريرة الغير متسامحة إلى الكراهية التي تكمن في قلوبنا ــــ ملكة الليل.

 

ماذا عن حبها لأطفالها؟ أليس لطيفًا؟ فهنالك دفء وحتى متعة في حبها لهما. وتقول عن الفتاة والولد أنهما “وردتان” وبسمة الطفل “ثروة” والأطفال” القطعة الصلبة التي يتكئ عليها الفراغ” والرضيع ” أيها المستيقظ الباكي يا رغيفي”.

كما يظهر الأطفال في صور التدمير. وفي “الحافة” فالمراءة التي اكتملت بالموت أخذت أطفالها الموتى معها.

طوتْهما من جديد داخل جسمها

مثلما تضمّ وردة بتلاتها

عندما يغزو الخدر الحديقة

وتنزف العطور من حَلْق زهرة الليل العذبة العميقة. (٢)

 

بسمة الطفل على حد قولها أنها” شرك “. هنالك قصيدة تتحدث عن التشوهات الناجمة عن الثاليدوميد. في “الموت وشركاه”:

يخبرني عن مدى لطافة

منظر الرضع في المستشفى

ثلاجة، كشكشة بسيطة

على العنق

ثم طوفان أيوناتهم

ألبسة الموت

ثم قدمان صغيرتان

 

ما الذي يمكننا فعله بشاعرة تملك قدرًا عاليًا من الطموح والانتقام، متألقة جدًا وبالرغم من ذلك سهل جرحها؟ كيف يمكننا أن نحكم على مثل هذا الإحساس بالخيانة الشخصية، لمثل هذا الغضب ولمثل هذه المشاعر المشوهة؟ تغمر هذه المشاعر أعمالها ولا يمكننا مقاومتها.  ففيها الجرأة والمهارة والحدة. صدماتها وإثارتها. لقد سمّت آخر انفجار شعري لها بالعبارة المخيفة “نافورة الدم.”

 

استحقت ما حصلت عليه عندما حان الوقت لذلك، ففي كل أعمالها الأولى كانت تكتب ببطء وبحذر مدفوعة بذلك الطموح الطويل المتقد تنتظر بتعلمها وبدرجاتها العالية وبمجتمع الفاي بيتا كابا وباندفاعها نحو الكمال وبعجرفتها وبجنونها الذي تتحكم به لدرجة كافية. والوحدة التي تتحفظ عليها السيدة لازوروس، تكتب بشراسة في تلك الشقة المتجمدة ذات نوافذ لا تغطيها ستائر خلال ساعات الصباح الأولى الباردة برودة الثلج تكتب قبل أن يبكي الأطفال وقبل أن تنساق” الموسيقى الزجاجية” التي تصاحب رجل الحليب إلى مسامعها، زوجها في أحضان شخص آخر، بين ذلك كله هنالك “مثل عصري” إذا كان هنالك واحد بالأساس.

المسألة في هذه الأسابيع الأخيرة ليست مسألة صراع في حياة امرأة بين المزاعم الأنثوية وبين العمل الفني المعذب. فكل فنان إما أن يكون رجل أو امرأة والصعوبات التي يواجهونها هي نفسها تقريبًا عند كليهما. كل عمل غير طائفي، إن صح التعبير، صنع في المنزل. كانت سيلفيا بلاث مغتاظة وكتبت السيدة لازوروس:

 

أشك في إمكانية أن تجد نفسها وحيدة مرة أخرى الآن، مع ذلك فإن كل العذاب الذي مرت به عند موت والدها عاودها مجددًا مؤقتًا وطواعية: عدا عن نفسها فإنها أحست بأنها مهجورة ومجروحة ساخطة وثكلى، إحساس نقي كما لو أنها عادت إلى طفولتها قبل عشرين عامًا.

لم يجعلها الإحساس بالخيانة أو حتى بالكراهية ضعيفة وكثيرة الشكوى بل جعلها مصرة وطموحة. يملئ الغضب الطَموح “اريل” والقصائد الأخرى التي كتبتها في الوقت نفسه والتي بدأت تنشر في المجلات الآن. تتحدث القصيدة المُرة “المتقدم” عن دور المرأة في الزواج. أما في قصيدة “ابن بلا أب” فتتحدث للطفل عن غياب الأب الذي سينمو في بالتدريج في وعي الطفل كالشجرة:

شجرة موت، باهت لونها، شجرة صمغ استرالية

صلعاء، حفر البرق عليها وهم

وسماء كخلفي خنزير، كليًا بلا اهتمام 

 وهكذا كانت حياتها في النهاية بالفعل زوج وأب” كليًا بلا اهتمام.”

 

أرى في الشهور الأخيرة المملوءة بالطاقة المتفجرة من حياتها تصميمًا على “الفوز.”  وأحس بالفعل من الأدلة التي حملتها أعمالها بأن اعتقاد أن ولادتها أطفالها أطلقت قواها الشعرية الكامنة ليس إلا سخافات. لماذا يجب أن يكون كما يعتقدون؟ بل أعتقد أن ولادة الأطفال تجعل الطاقة تنصب على توفير العناية بهم وحبهم. ولست وحيدة في ذلك فهنالك اعتقاد شائع ذو أساس متين بأن المرء يجب أن يكون مستعدًا على ترك أية أعمال أخرى غير تربية الأطفال لبعض السنوات. من المؤكد أن التعميم حماقة لكن العمل نفسه بالصعوبة التنافسية التي تظهر في كل منعطف هو المحدد الرئيس. عندما ماتت سيلفيا بلاث كانت وحيدة ومرهقة من الكتابة وبائسة ولكنها منتصرة أيضًا ومنجزة ومحددة وجريئة.

لا أرى أن الموت ضرورة لبيان عظمة العمل، بل على العكس. إنما هي الأحاسيس لا الأفعال التي تهاجم حواسنا، قد يعطيها الفعل رعشة بسيطة لا أكثر. لو كان هنالك أي شيء يمنع سيلفيا من الموت فستتغير حياتها وستحظى بثروة كبيرة لتحيا ولتكون في نفس مكانتها اليوم. لقد فازت سيلفيا بلاث بالرداء الأخضر الذي يتمناه كل كاتب أكثر من أي شيء. كانت ستملك أموال طائلة وقوة على تكييف مسار حياتها وشهرة وهذا كله حصدته بجهودها الشخصية. وأعتقد أن التفكير بالشفقة والسخرية مبالغ فيه بالنسبة للوضع الآن. لويس آميز الذي تعرفه سيلفيا بلاث عن قرب يكتب سيرتها الذاتية و كتبها تنشر بالقطارة و تهدد كل قطعة من “مادموزيل” ونثر مجلة الكلية، طبيعتها الشحيحة وغضبها الذي لا يهدئ عاطفي جدًا.

عدا ذلك الإيقاع الشعري والأصوات الفاتنة والتدفق الإبداعي لصور لا تمحى وتلك الحدة في أعمالها، ما الذي أوصلته سيلفيا بلاث لقرائها؟ هل هو تقدير بسيط للجرأة بالمضي على طول الطريق؟ جلبت سيلفيا بلاث بافتتانها بالموت والألم الإحساس بالغلبة والقوة الوحشية وهذا يعتبر أسلوبًا جديدًا بين الكاتبات النساء. هل هي ضعيفة؟ نعم هي كذلك فيما يخص أباها وزوجها ولكن هذه ليست النهاية على الإطلاق. أعتقد أنا شخصيًا بأن أعمالها لم تخرج من رحم الحرب الباردة أو مخيمات الإبادة أو سنوات الاكتئاب المشوشة في ايسنهوير. تبدو سيلفيا وكأنها سبقت عهدها فكأنما مرت بما مررنا به نحن خلال هذه السنوات الأخيرة. مشاعرها الغير مألوفة وعصيانها المدمر لعائلتها والخيبات في زواجها والغضب المنجرف بلا سبب والتشرد الغريب والافتتان بإحساس وعقار الموت والإصرار على تجربة كل شيء مع العلم بأنه في الحقيقة لن يوقف هذه المعاناة، لا يوجد أحد ذهب لما ذهبت إليه في هذا كله.

لا تربطها أي علاقة بالجذور الاجتماعية، فهي تحوم في وسط جو مشحون ومتصدع وتفهم بالخصوص كل ما يتعلق بالتدمير والسلبية. أما الأمر الذي لم تشاركه مع شباب الحاضر هو فنها الحاد والمتقن وإيمانها به. استمدت الدين الذي يبدو انها تعتنقه من ذكريات جذور بروسية قديمة تحث على العمل بجد والصرامة وقيادة الذات. سيلفيا بلاث غريبة وكأنها لا تنتمي للعامة. بغض النظر عن تصويرها للبحر، هذه الصور ليست محلية بالتحديد بل نفسية، فهي من الصعب أن تنتمي لماساشيتوس وبريطانيا الجديدة. ولا يوجد ما هو “يانكي” فيها. فبالنسبة لها “عبور المياه” كان سهلًا، فهي غريبة على الشعور بالحنين والعاطفة كما هي غريبة على البلد نفسه. فلعبت هجرة أساسية ورئيسة دورها.

بعد مدة من قراءتي لأعمالها وجدت تسجيلًا لبعض قصائدها التي ألفتها في بريطانيا قبل وفاتها بفترة وجيزة. لم أتعلم قط أي شيء من قراءة القصائد، عدا عن الألبسة أو العصافير أو الفتيات أو عن حالات الشاعر الجيدة أو السيئة التي يمر بها، وهذا إذا اعتبرنا أن مثل هذه المعلومات هو نوع من أنواع المعرفة.  لكنني اندهشت عند قراءتي لأعمال سيلفيا بلاث، فلم تكن أعمالها مثل أي شيء كنت قد تخيلته. لا أثر لتواضع أو لتراجع أو لفكاهة مدينة وورسستر في ولاية ماساتشوسيتس التي ولدت فيها إليزابيث بيشوب، ولا الازدراء الصريح لبنسلفانيا وشاعرتها مارين مور. عوضًا عن ذلك فلقد كانت بعض القصائد المرة مثل قصيدة “أبي” و “السيدة لازوروس” و “المتقدم” و “حمى ١٠٣°” قراءة جميلة معروضة بجرأة ومكتنزة بأسلوب إنجليزي بمنتهى الكمال والإيقاعات الفاتنة، جميعها متسلسلة وخاطفة، متباطئة ومتباعدة. ومحيت منها ماساتشوستس المسكينة المتراجعة.   فتحدق سيلفيا بلاث في عينيك بكل وضوح وكمال وتقول: ” فعلتها مجددًا!” بدت وكأنها تقف على مأدبة كمأدبة تيمون الأثيني وتصرخ “والآن أكشفوا الأغطية أيها الأوغاد والعقوا الصحون كالكلاب!”

إنما حياة سيلفيا بلاث لقصة مأساوية وأصلية بالكامل وغير متوقعة المشاهد أو الموضوعات.

 ألف زوجها تيد هيوز قصيدة عن الزوجات يقول فيها:

ملخص قضيتهن

أُرسل إلى السماء مباشرة ولم يُسمع عنه أكثر من ذلك.

لم يكن هذا صحيحًا بالنسبة لسيلفيا بلاث، وفي حين أننا لا نملك خيار أخر فلا حاجة للتفكير والتساؤل عما إذا كان “ملخص قضيتها الأسود الفظيع” يستحق هذا كله.

 

 

 


المقالة الأصلية: http://www.nybooks.com/articles/1971/08/12/on-sylvia-plath/

  • قصيدة أبي ترجمة: محمد عيد إبراهيم، https://www.youtube.com/watch?v=koyaRDSMTbY
  • قصيدة الحافة ومقتطفات من السيدة لعازر ترجمة: جمانة حداد، http://www.jehat.com/Jehaat/ar/Antolojya/Moktarat/silveya.htm