مجلة حكمة

حوار مع طلال أسد: كتاب “جينيالوجيا الدين” بعد عشرين عاما / ترجمة: محمد شهبان

النص التالي هو جزء من حوار أجراه كريغ مارتن مع طلال أسد، وقد نُشر في نشرة دارسة الأديان لعدد فبراير، المجلد 43، رقم 1 (سنة 2014).


كريغ مارتن: في الخريف الماضي، وبعد أن أدركت بأن سنة 2013 تصادف الذكرى العشرين لإصدار طلال أسد “جينيالوجيا الدين: مسار وأسباب القوة في المسيحية والإسلام”، قمت بمحاورة طلال أسد، أستاذ الأنثروبولوجيا المرموق بجامعة نيويورك حول كتابه ومدى تلقيه وتأثيره في المجال. لقد تأثرت بكتاب جينيالوجيا الدين خلال دراساتي العليا، بخاصة الفصل الأول حول “تكوين الدين كفئة أنثروبولوجية”، حيث يقول أسد بأن مفهوم “الدين” تشكل بالأساس في عدد من المفاهيم المعاصرة بناء على افتراضات بروتستانتية.

كان إصدار طلال أسد من بين أول الكتب التي اطلعت عليها، والتي ذكرت بأن هناك عملا معياريا حققه مفهوم “الدين” نفسه، منذ ذلك الحين أخذت كل كتاباتي هذه الفكرة كنقطة بداية مركزية. أتقدم بالشكر لأسد للتكرم بوقته والإجابة عن أسئلتي.

 

كريغ مارتن: هل يمكنك التطرق لما سعيت إلى تحقيقه من خلال جينيالوجيا الأديان؟ هل تعتقد أن الكتاب تم تلقيه على النحو الذي أردته؟

طلال أسد: حسب علمي، فإن أغلب القراء أدركوا أنني كنت أُقارب الدين كممارسة ولغة وحساسية موجودة في علاقات اجتماعية أكثر من كونها أنظمة معاني. في كتابي وفي معظم أعمالي التي تلتهُ، حاولت أن أبني فكري من خلال أجزاء صغيرة من التاريخين المسيحي والإسلامي لتوسيع مداركي حول ماذا وكيف يعيش الناس عندما يستعملون مصطلح “الدين”. بالتأكيد لم أكن لأدعي أن “الدين” كتشكل تاريخي كان يحيل على غياب، مجرد إيديولوجية تعبر عن قوة مسيطرة. لكن الأمر جاء بالتحديد، لأن المفهوم الماركسي التقليدي للإيديولوجية لم يرقني، فركزت اهتمامي على الدين. بدأت أفهم بالتدريج أن السؤال الذي وجب أن أفكر فيه هو كيف أن تعلم طريقة لغة معينة يتمثل في نمط معين للحياة كما يقول فيتغنشتاين. إن عملية تفسير الدين هي جزء من سؤال أوسع للطرق اللامتناهية التي تدخل عبرها اللغة الحياة. أردت الابتعاد عن الحجج التي ترسم أو تعطي تعريفات جوهرية: “الدين هو استجابة لحاجة بشرية”، “قد يكون الدين ملجأ الناس في المحنة لكنه يثبت أشياء غير صحيحة”، “الدين مرتبط أساسا بالمقدس”، “الدين يعطي معنى للحياة”، “الدين والحياة متوافقان/ متنافران”، “الدين مسؤول عن الشر الأعظم”، “على غرار العلم – الدين مصدر الخير الكثير”، “العلم ليس مصدرا للشر عكس الدين في غالب الأحيان، التكنولوجيا والسياسة هما المشكل – الاستعمال الاجتماعي الذي وضع فيه العلم”.

لقد ناقشت تعريف “الدين” بأنه يقتضي تقييد عدد من الأشياء (الأزمنة والأمكنة والقوى والمعارف والمعتقدات والسلوكيات والنصوص والأغاني والصور)، باعتبارها جوهرية بالنسبة إلى “الدين” وباعتبار أشياء أخرى عرضية. هذا العمل التشخيصي لما ينتمي لتفسير محدد لم يأت نتيجة للتجربة ذاتها، فالأشياء نفسها متنوعة والطريقة التي يتفاعل بها الناس معها أو يستعملونها مختلفة تماما. فعلى سبيل المثال: عندما يتم تعريف هذه الأشياء بمفهوم “الدين” فذلك لأنها تعتبر متشابهة إلى حد كبير، وليست أية تجربة بعينها مشتركة مع كل الأشياء التي تنصهر في المفهوم هي ما تجعلها متشابهة (القدسية والألوهية والروحانية والسمو… إلخ). ما يجعلها متشابهة هو التعريف في حد ذاته الذي يقنعنا من خلال ما وصفه فيتغنشتاين بـ”الصورة الآسرة” بأن هناك جوهرا يقوم عليه كل ما سبق ذكره في جميع نماذج “الدين”.

الأشياء التي يُنظر إليها على أنها تسير وفقا لمفهوم واحد للدين تأتي مجتمعة بشكل مختلف في مفهوم آخر. لهذا دائما ما تشكل ترجمة مفهوم “ديني” إلى مفهوم آخر إشكالية، لكن الجينيالوجيا لا تقول بأن تفسير الدين هو فقط تمثل لساني. فاللغة الدينية، مثل كل لغة، تمتزج مع الحياة نفسها.

 وعليه، فإن تفسير “الدين” إلى حد ما هو محاولة وإدراك كلية لا تدرك. ولم أقل في أية مناسبة بأن هذه التعريفات مقترحات تجريدية، بل إني أؤكد أن تعريفات الدين موجودة في الحوارات والأنشطة والعلاقات الإنسانية والمؤسسات التي تم حفظها بعناية أو بشكل عرضي أو التي تمت خيانتها أو التي تم التفريط فيها بسهولة، حيث تتصارع فيما بينها وتدخل في جدال من خلال قانون الدولة الموثوق.

إن تعريفات الدين ليست أفعالا منفردة وكاملة، حيث إنها تتمدد مع الوقت وتتمرن عبر الممارسات كما أنها تعدل وتطور مع الاستعمال المتواصل. وبما أن تعريف الدين هو فعل ديني، سواء تكفل بذلك “مؤمنون” أو “غير مؤمنين”، فإنه يمكن أن يكون محاولة لمهاجمة أو فرض تقليد ديني موجود من خلال إصلاحه أو التمهيد لآخر جديد.

إن مشكلتي مع “التعريفات الكونية للدين” كانت التركيز على جوهر كوني بأنها حولتنا عن طرح الأسئلة حول التعريف الذي تتضمنه وما تستبعده، كيف؟ ومن قِبل من؟ ولأية غاية؟ وعن أي سياق اجتماع/ لساني تعطي معنى جيدا لاقتراح تعريف معين ومتى لا تفعل كذلك؟

محاولة تشكيل جينيالوجيا المفاهيم هو من بين الطرق الموصلة إلى أسئلة مماثلة، بالنسبة إلي فإن الشغل الشاغل في كل كتاباتي كان “ما هو السؤال المناسب في هذا الصدد؟” في جينيالوجيا الدين، لم أحاول تقديم تعريف أفضل عن الدين دون تقويض المفهوم المتداول لـ”الدين”؛ فقد كنت أبحث عن طرق صياغة الأسئلة المثمرة المتعلقة بالكيفية التي يسن بها الناس الأشياء أو يلتزمون بها أو يتنكرون لها حينما يتحدثون عن “الدين”. لهذا في الفصل الرابع، وفي سبري لرصيد هوف أوف سانت فكتور حول القرابين المقدسة وعظات برنارد من كليرفو الرهبانية، حاولت أن أبتعد عن المفاهيم من قبل “الترسيخ” الذي هو تلقٍ سلبي للقوة المتحكمة والتوجه لما هو أكثر تعقيدا. على هذا الأساس كتبت، “برنارد لا يتلاعب بالرغبات (من حيث إن رهبانه لم يكونوا على علم بما يحصل لهم)، بل أوجدوا عوض ذلك مساحة أخلاقية لعملية تحفيز متميز”. ما أثار اهتمامي هو أنه كيف لعمليات ذاتية متعلقة بالتجسيد والانضباط أو بمعنى آخر، كيف للظروف الموضوعية التي تجد فيها الأشياء نفسها قادرة على إقرار ما يجب أن يفكر فيه الشخص وكيف للإنسان أن يعيش وكيف بمقدور الشخص العيش؟ كان هذا المشروع الذي كنت منخرطا فيه عندما كتبت مقالات تنشئ الجينيالوجيا، وهذا الذي لا زلت منخرطا فيه، حيث لا أفكر في ذلك الكتاب بمعزل عن أعمال أخرى.

كثيرون أدركوا ما كنت أحاول فعله، وتعاطفوا ولو بتحفظ مع مجهودي وآخرون لم يفعلوا، بل تفاجأت بزعم هذه الفئة الأخيرة بأنني أكن العداء ل”الدين” خصوصا للديانة المسيحية وبأنني طورت عدائي خلال فترة طفولتي، عندما افترضوا أنني تعرضت “للإهانة” في المدرسة الداخلية التي كانت تديرها البعثات التبشيرية (في الهند) بعد أن أشرت لتلك المرحلة من أول أيام دراستي على أنها كانت وقتا تعلمت فيه أن أجادل وأكون “مدافعا شرسا” رفقة زملائي المسيحيين. لم أتعرض أبدا “للإهانة” من قبل البعثات المسيحية ولم أقل يوما هذا. الأهم أن كل من يقرأ جينيالوجيا الدين بقليل من الاهتمام لن يستسيغ ذلك الزعم. فقد تعلمت في الحقيقة الكثير عن تعقيد “الدين” من خلال قراءة أعمال كتاب مسيحيين ينتمون لحقب زمنية مختلفة، ولا أعتقد بكل تأكيد بأن الناس عندما يستعملون معجما دينيا يتكلمون عن مجرد بنيات، عن تكوينات إيديولوجية دورها إعطاء تفسير للسيطرة الاجتماعية.

بطبيعة الحال، هناك شيء مبني ومعاد البناء، لكن هذا التكوين ليس غائياً (تشكل وأُكمل لهدف معين) كما أنه لا يوصف بشكل أمثل كونه اجتماعيا بالأساس. هذا النوع من الوظائفية هو بالتحديد ما أردت أن أبقى بعيدا عنه في الجنيالوجيا.

 

كريغ مارتن: هل يمكنك التعليق على مختلف ردود الفعل على عملك من طرف تخصصات أو شعب أخرى؟ إذ إنني على دراية بالكيفية التي تفاعل بها الباحثون في الدراسات الدينية مع عملك، لكن هل تشعر أن عملك كان له ذلك التأثير الذي أردت أن يكون مثلا في الأنثروبولوجيا أو العلوم السياسية أو علم الاجتماع والمجالات المتعددة في الدراسات الدينية؟

طلال أسد: لا علم لدي عن التأثير الذي أحدثته الجينيالوجيا في العلوم الاجتماعية بشكل عام، ما أعرفه هو أن عددا من الأنثروبولوجيين الشباب الموهوبين تبنوا فكرة التجسيدات والحساسيات والتقليد والأخلاق الفضيلة في إثنوغرافياتهم الوصفية للإسلام. وقد تم انتقادهم مؤخراً من قبل البعض لمبالغتهم في إيلاء الأهمية ل “التدين الرسمي” على حساب “المعتقدات الروحانية الاعتيادية”، وقد عوتبتُ كوني أسست لهذا الاتجاه السيء ثم نقلته نحو رأي “رجعي” للعلمانية. المكان ليس مناسبا للانجراف وراء شكواهم خصوصا وأنهم يهتمون بأنثروبولوجيا الإسلام؛ وعليه فهم يركزون بشكل أكبر على مقال سابق لي وعلى كتابي “تكونات العلماني”. وقد أُجمع على أن عددا كبيرا من المتخصصين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيين الذين يقومون بدراسات حول المهاجرين المسلمين بأوروبا يشعرون بأن عملي معياري بشكل معاكس، وبأنه يتجاهل بشكل متعمد حقيقة التجربة الاجتماعية للمسلمين وتجاوبهم الديني، ويغفل مأزقهم المعاصر في الدول العلمانية الليبرالية، هذا جانب من التجاوب مع عملي حسب ما أظن. لكنني فضولي كونهم يشعرون بشكل كبير بأن عملي يهدد حقيقتهم. عندما كنت طالب أنثروبولوجيا كنا نطلق نكثا عن الإثنوغرافيين الذين يكبروننا سنا، والذين تفاعلوا مع الحجج النظرية في الندوات بالمقاطعة قائلين: “لكن في قبيلتي يؤمن الناس ….” هذا النوع من المذهب التجريبي لا زال للأسف يحضرنا. وعديد من الإثنوغرافيين يعتقدون بأن لديهم فهما خاصا بتجربة رواتهم (وكذلك الأمر بالنسبة إلى اعتقادهم أو عدم اعتقادهم في الدين) بحكم أنهم قضوا معهم وقتا (محدودا) في نمط حياتهم الخاص كما لو أن تجربة من روى لهم متجانسة ومكتملة ومتسقة، وكما لو أن نمط حياتهم (التي تطرق لها الإثنوغرافي بإيجاز) قد يتم اختصارها في تمثيل يعكس حقيقة لا تقبل الجدل ولم يكن في حد ذاته تأويلا داخليا مبهما، وكما لو أن لغتهم المألوفة كانت خالصة أكثر من لغة كتاباتهم اللاهوتية.

على أي حال، كان هناك اهتمام من قبل الباحثين السياسيين بالتكونات أكثر من جينيالوجيا الدين، رغم أنني أرى أن الكتاب السابق كان مرتبطا بشكل كبير بلاحقه، وكانت مواضيعه حول العلمانية أكثر تطورا من تلك التي جاءت في الجينيالوجيا، في اعتقادي الاهتمام مرده لأسئلة الألم والعنف والمعاناة التي أشاركها مع بعضهم؛ فهم يعرفون من قبل بأن الأشياء ليست بتلك البساطة التي تزعمها بعض إصدارات الإيديولوجية الليبرالية.