مجلة حكمة
حوار: جودث بتلر

حوار: جودث بتلر حول ترمب، والفاشية، وبنية الشعب / ترجمة: سارة اللحيدان

ظهر هذا الحوار ابتداء في صحيفة الميديا بارت، وقام بترجمته للإنجليزية ديفيد برودر – أدار الحوار: كريستيان سالمون 


ماذا يُمثل دونالد ترمب؟ قامت الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر (بروفيسورة في جامعة بيركلي) بنشر كتاب موجز باللغة الفرنسية (الجمهرة) [مذكرات حول النظرية الادائية للحشود] تستعرض فيها تجسيد دونالد ترمب لنمط جديد من الفاشية. كما صاغتها، “العديد من الناس فرحون بمشاهدة هذا الرجل المزعج، عديم الذوق يحوم بالجوار، كما لو كان محور الكون وسلطانه، والفضل يعود لهذه الجمهرة”

لقد قدم العديد من الكتاب والمثقفين في أمريكا وأوروبا وجهة نظرهم حيال ظاهرة ترمب، وكانت تهدف في الغالب إلى إيضاح تخوفهم ورفضهم، وإدانة تجاوزاته اللغوية، أو التعبير عن قلقهم لمقترحاته ببناء جدار على الحدود المكسيكية، وطرد ملايين من المهاجرين غير الشرعيين. لكننا حينما نحاول فهم ما يجري مع “ترمب” – الظاهرة- فعلينا أخذ تحليلات جودث بتلر بالحسبان، والتي عملت عليها منذ التسعينات، من كتابها (الخطاب الانفعالي، سياسة الأداء) إلى آخر كتاب لها (مذكرات حول النظرية الأدائية للحشود)

 

الميديا بارت: هل يمكن القول بأن دونالد ترمب نوعا ما “شخصية على السجاد”، وذلك من خلال تحليلاتك التي قدمتِها خلال العقدين الأخيرين؟ أليس ترمب “موضوع بتلري” بامتياز؟

جودث بتلر: لست متأكدة ما إذا كان ترمب موضوعا جيدا للتحليلات التي قمت بجمعها فعلى سبيل المثال، لا أظن بأن هناك سحرا في شخص ترمب الإنسان، وعندما ننظر لخطاباته، فعلينا أن نأخذ بالحسبان التأثيرات التي تحملها هذه الخطابات على جمع محدد من الشعب الأمريكي. ودعونا لا ننسى بأنه انتخب بما نسبته أقل من ربع السكان، وأنه على وشك أن يصبح رئيسا بفضل وجود مجمع انتخابي قديم.

لذا علينا ألا نتصور بأن ترمب يتمتع بدعم جماهيري واسع. فهناك خيبة أمل عامة بالمجال السياسي، واحتقار علني للحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة. مع هذا، حصدت هيلاري كلينتون تصويتا أعلى من ترمب، فلذلك عندما نُسأل عن دعم ترمب، فعلينا أيضا أن نسأل أنفسنا كيف لأقلية أمريكية أن تمنحه السلطة. وليس علينا النظر في تزايد الدعم الشعبي له، بل في العجز الديمقراطي. يجب إلغاء المجمع الانتخابي حتى تكون انتخاباتنا انعكاسا للإرادة الشعبية. وفي ظني أن أحزابنا السياسية بحاجة لإعادة نظر حتى تزيد من تفاعلها الشعبي في العملية الديمقراطية.

إن الأقلية التي دعمت ترمب، والتي استطاعت منحه الفوز الانتخابي، قد تمكنت من ذلك ليس فقط عبر سخطها على المجال السياسي، بل سخطها أيضا على عدم تصويت ما نسبته خمسون بالمئة من الناخبين المسجلين. ربما علينا أن نتحدث عن انهيار التفاعل الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية.

في ظنّي أن ترمب قد أطلق العنان لغضب له أسباب وأهداف عديدة، وربما علينا أن نشكك بهؤلاء الذين ادّعو معرفة السبب الحقيقي، والهدف الوحيد الذي يكمن خلف هذا الغضب. إن حالة الدمار الاقتصادي وخيبة وفقدان الأمل في المستقبل، والتي ولّدت حركة اقتصادية ومالية أهلكت المجتمعات، قد لعبت دورا هاما في هذا الأمر. ولكن تزايد التعقيد الديموغرافي الأمريكي كان له دور أيضا، وكذلك أشكال العنصرية القديمة والجديدة … هناك رغبة “حازمة” بتعزيز السلطة ضد الأجانب والعمال غير الشرعيين، لكن ذلك أيضا يصاحبه رغبة لحرية عظمى من عبء الحكومة، كشعار يخدم الفرد والسوق على حد سواء.

أوضح نقطة للمقارنة بين ترمب والفاشية -إذا كان هناك ما يمكن مقارنته- هو ما يتعلق بالعلاقة بين الزعيم والجماهير التي تتقدمه. إن الزعماء الفاشيين لم يبتكروا هذه الفاشية بالأساس، لكنهم تزعموا السلطة عبر سيناريو معين كانت فيه الطبقة البرجوازية الصغيرة والمتوسطة تعاني من حالة تدني أوضاعها بعد هزيمة وأزمة العشرينات، وعبرت عن استيائها وكراهيتها للبروليتارية. سنحت لي الفرصة مؤخرا بالحصول على نص قديم لتروتسكي، حيث يتحدث فيه عن الزعيم الفاشي. ظننت أنه يقدم وصفا جيدا لظاهرة ترمب يقول: “حيث تكون أفكاره السياسية ثمار خطاباته الصوتية. وهكذا تُختار الشعارات، ويوحّد البرنامج. وبهذه الطريقة يصقل جوهر هذا الزعيم”هل يمكننا قول المثل مع ترمب؟

ربما حانت الفرصة للتمييز بين الأشكال القديمة والجديدة للفاشية. ما وصفته يتعلق بفاشية منتصف القرن العشرين الأوروبية. لكننا مع ترمب نواجه وضعا مختلفا، ولو أنني لازلت أود وصفه بالفاشي. ترمب رجل غني بينما من ناحية أخرى معظم المصوتين له ليسوا كذلك، ومع ذلك تفهم له العمال، فانتفع من النظام ونجح في ذلك.

ربما نأخذ مثالا لمقدرته على استغلال مسألة ديونه من أجل التهرب من دفع الضرائب. كانت هيلاري كلينتون مخطئة في اعتقادها بأن عامة الشعب الذين يدفعون ضرائبهم سيغضبون من هذا الأمر. على النقيض. فقد نال إعجابهم لنجاحه بإيجاد وسائل للتهرب من دفع الضرائب. لقد رغبوا بفعل المثل أيضا! مع هذا، فالجانب الفاشي يظهر عندما يدعي دون مبرر بأنه قادر على طرد ملايين من الناس أو حتى سجن هيلاري بمجرد توليه السلطة (الأمر الذي تراجع عنه لاحقا)، وكسر الاتفاقيات التجارية متى ما شاء له، وإهانة الحكومة الصينية، والمناداة بإعادة تفعيل “الغرق الوهمي” -الاختناق عن طريق الغرق- وغيرها من أشكال التعذيب.

هو يتحدث على هذا النحو، كما لو أن لديه سلطة حصرية لتقرير السياسة الخارجية، وتقرير من يدخل السجن، ومن سينفى من البلاد، وماهي الصفقات التي سيعمل بها، وأي من السياسيات الخارجية ستنتهك، وأي منها سيصادق عليها.

وبالمثل أيضا، عندما يبين أنه سيعاقب ويقتل كل من يعترض طريقه في الحشد، هو بذلك -ولنكن صريحين- يكشف عن رغبة قتل لها صداها بين العديد من البشر. عندما يطبّع الجنس غير التوافقي، أو عندما يصف هيلاري بأنها “امرأة سيئة” فهو بهذا يرسخ لكراهية النساء، وعندما يصف المهاجرين الأمريكيين بأنهم قتلة فهو مرة أخرى يعلي صوت قديما للعنصرية. لقد اتخذ العديد منا غطرسته، نرجسيته، عنصريته، وكراهيته للنساء، إضافة لتهربه من دفع الضرائب سمات لشخصية مدمرة-ذاتيا، ولكنهم في الحقيقة ألهبوا حماس العديد من الناس للتصويت له. ليس من أحد يستطيع التأكيد ما إذا كان ترمب قد قرأ الدستور، أو اهتم بذلك. إن هذه الغطرسة هي ما جذبت الناس إليه، وهذه هي الظاهرة الفاشية. وعندما يحول خطابه إلى أفعال، عندها ستكون لدينا حكومة فاشية.

لم تكن حملة ترمب بشعر أو نثر، كما في القول المأثور لماريو كومو، ولكن مثل جميع الزعماء الفاشيين كانت بلغة عامية. فقد ابتكر لهجة اجتماعية تخصه، وهي خليط من الدعابات، والملامح الساخرة، والتلميحات القذرة، والتذمر، والشعارات واللعنات. تنسجم بلاغته بنوع من “وسم” يقوم على الإقصاء. فتواصله يضعف عبر الخطابات المنظمة مقارنة بتلميحاته ومزيج الشعارات والشتائم التهديدية كسلاح لانتزاع شرعية الأقليات. كيف قمتِ بتحليل شعار دونالد ترمب في برنامج (المتدرب) – “أنت مطرود”؟

مرة أخرى هذه اللغة تفترض أنه هو الوحيد القادر على حرمان الناس من عملهم، منصبهم، أو سلطتهم. لذلك، فإن جزء مما نجح في القيام به هو إيصال معنى القوة التي منحها لذاته. وهذا هو بالضبط ما تفعله اللغة مثلما ذكرت. علينا أيضا أن نأخذ في الحسبان أن الغضب ضد النخب الثقافية يأخذ شكلا من أشكال الغضب ضد الحركة النسوية، الحقوق المدنية، إضافة إلى التنوع الديني والثقافي. وفي ظني أن هذه الأسباب المختلفة تظهر وكأنها قيود “للأنا الأعلى” والتي تلقي بظلالها على مشاعر العنصرية وكراهية المرأة.

إن ما قام به ترمب هو “تحرير” كراهية ضد الحركات الاجتماعية وضد الخطاب العام المناهض للعنصرية. ففي نظره أن كل شخص هو حر في كراهيته. فقد وضع نفسه في موضع استعدادي للوقاية من الإدانة الشعبية له ولعنصريته، وتمييزه الجنسي، ونجح في ذلك. حتى مناصروه يرغبون أيضا بألا يخجلوا من عنصريتهم، بالتالي جاءت الزيادة المفاجئة في معدل جرائم الكراهية في الشوارع وفي وسائل النقل العام فورا بعد انتخابه. فقد شعر الناس بحرية النباح بعنصريتهم وفق ما يناسبهم. وبالنظر لذلك، كيف يمكننا أن نحرر أنفسنا من “المحرر” ترمب؟

إننا حينما نركز بشكل بالغ على الخطاب فقد نخاطر بنسيان البعد الثاني، لـ “ماديته” الصارخة في حضوره في التجمعات والبرامج الحوارية. فليس من أمر يستحق الذكر أكثر من تسريحة شعره و “برتقاليته” وأبعد من هذا طريقته في تحريك يديه وفمه، وتكلف مضحك في إيماءات وجهه، كشكل من التعريض الجسدي المبالغ به للعالم الواقعي. فما التماثيل العارية المنتشرة لترمب في ساحات المدن الأمريكية إلا إقرار بنوع من الهبوط الفني الذي يهدف للبغضاء والاستفزاز المادي.. عندما أرى ذلك يحظرني قول كافكا “أحد أكثر وسائل الإغراء الفعالة التي يمتلكها الشر، هو تحدّ الكفاح ضده” كيف تحللين هذه الشخصية “التلفازية الواقعية” ودخولها للمنصة السياسية؟

 

من الواضح أن الرئاسة أصبحت ظاهرة إعلامية بشكل متزايد. السؤال هو كم من الناس قد تعاملوا مع التصويت كما يتعاملون مع فيسبوك، أعني عندما يقومون بالضغط على “تفضيل”. تصدر ترمب الشاشة، وأصبح شخصية مُهددة. فقد رأينا ذلك في تهكمه في البرنامج الحواري Saturday Night، عند تساؤله عن تهجم أليك بالدوين على هيلاري كلينتون خلف المنصات. هذا النوع من التهديد هو امتداد لقوته في تحرشاته الجنسية. فهو يمضي إلى ما يريد، ويقول ما يرغب بقوله، ويأخذ ما شاء له أن يأخذه. فحتى لو كان لا يملك كاريزما بمفهومها التقليدي، فإنه يملك قوة شخصية ومكانة عن طريق استحواذه على الشاشة بهذه الصورة.

بهذا المعنى، ينشر ترمب صورة شخص يكسر القواعد، ويفعل ما يريد، غارق بأمواله، يمارس الجنس متى ما شاء ومع من يشاء. فابتذاله يملأ الشاشة، تماما مثلما يمتلئ به العالم. لذلك فرح العديد من الناس برؤية هذا المزعج، عديم الذوق يحوم حولهم كما لو أنه محور الكون وسلطانه والفضل يعود لهم.

بعدما اُتهم بالكذب، دافع ترمب عن نفسه بقوله إنه يمارس ما سماه بـ “غلو الصادقين”، كشكل بريء من المبالغة – ووسيلة فعالة للترويج لنفسه. لقد تزايد استخدام مصطلح “سياسة ما بعد الحقيقة “في وسائل الإعلام الأوروبية، وذلك للدلالة على ضبابية الصواب من الخطأ، والواقع من الخيال” والذي وصفته حنة أرندت بأنه سمة من سمات الشمولية. قامت وسائل الاعلام الاجتماعية، عبر هذا الإطار، بخلق سياق جديد يتميز بظهور فقاعات إخبارية مستقلة، وهو نوع من الأخبار التي تحمل صدى يسمح لأعنف الشائعات ونظريات المؤامرة بالانتشار، إذ يتعذر تمحيصها من قبل وسائل الاعلام الحقيقة. فقد كان ترمب خلال حملته الانتخابية قادرا على التعامل مع التجمعات الصغيرة المستاءة عبر تويتر والفيسبوك، عبر تأطيرهم بـ “موجة” مفرطة الحماس. ما رأيك بهذا المفهوم “سياسة ما بعد الحقيقة”؟

بكل شفافية، لا أظن أن تلك كلمات ترمب. فهي تبدو كمحاولة شخص يطبّع ويهتف لعلاقته المتعجرفة مع الحقيقة. لست متأكدة ما إذا كنا في وضع ما بعد الحقيقة. يبدو لي أن ترمب يهاجم الحقيقة دون خجل من حقيقة أنه لا يُدعّم تصريحاته بدلائل أو أي منطق. إن تصريحاته ليست اعتباطية، وهو مستعد لتغيير موقفه متى ما شاء ذلك، فحينما تكون هناك فرصة تبرز دوافعه أو تأثيره النفعي فسيكون هناك تغيير. على سبيل المثال عندما قال إنه عندما سيصبح رئيسا سـ ” يقوم بسجن هيلاري” كانت تهليلة لمن يكرهون هيلاري وقد ساهم ذلك بزيادة كراهيتها أكثر.

هو بالطبع لايملك سلطة لرمي هيلاري في السجن، وحتى لو كان رئيسا فليس له سلطة لفعل ذلك دون وجود إجراء جنائي وحكم قضائي. لكن في تلك اللحظة ذاتها، كان فوق كل إجراء قانوني، يمارس إرادته كما يريد، و ينمّط لشكل الاستبداد الذي لا يُعنى بالتشكيك بما لو كانت هيلاري قد اقترفت جناية أم لا، وكل الدلائل تشير إلى أن الحال ليس كما يبدو عليه الآن. ليس هناك ما يدعم مزاعمه بأن هيلاري كلينتون قد حازت على تأييد شعبي بسبب الملايين من المصوتين “غير الشرعيين”، فهو يسعى إلى نزع شرعية التصويت الشعبي في نفس الوقت الذي تجرح فيه نرجسيته.

في الوقت نفسه، يستبعد تماما فكرة أن التصويت له ربما يكون غير شرعي، بمعنى أنه ليس بالأهمية الكبرى حينما يناقض نفسه أو حينما برفض بوضوح الاستنتاجات التي تقلل من سلطته وشعبيته، فكلها معا تحدّ وجرح له. هذه النرجسية واللامبالاة بتقديم دلائل منطقية هي ما رفعت من شعبيته أكثر. ترمب يعيش فوق القانون، وهكذا يود أن يعيش مناصروه.

في (الخطاب الانفعالي) قمت بتحليل العنف اللفظي لخطاب الخوف من المثليين، التمييز الجنسي، أو العنصري الذي يهدف إلى كسر وإقصاء الناس المعنيين بالخطاب. وقمت أيضا بإبراز أن هدف العنف اللفظي يرمي لإعادة رسم حدود البشر وهذا يعني عملية خطابية لإقصاء، وملاحقة، ووضع حدود، ويعني أيضا تشكيل تجانس بشري، أحادي اللون، متباين الجنس لشكل من الشعوب المتخيلة. ومع هذا، ذكرت أن هذا الأداء يمكن أن ينقلب ضد نفسه، فاتحا المجال لصراع سياسي وتدمير هوياتي. مالذي يمكن أن يُبرز كل ذلك برأيك؟

ربما سنرى كراهية للأجانب كوسيلة على تأكيد هوية “الشعب”. كان هناك دعم لترمب بين أولئك المحرومين اقتصاديا، وبين أولئك الذين يظنون أنهم خسروا امتيازهم العرقي الأبيض. لكن العديد من الهانئين صوتوا أيضا لترمب، وذلك بعد اقناعهم بفتح مزيد من الأسواق، الأمر الذي سيمنحهم فرصة للثراء لاحقا. بإمكاننا أن نركز على خطابه، وهو مهم بكل تأكيد، لكنه ليس الشيء الوحيد الذي جذب الناس إليه.

على أي حال، أظن أن سيناتور ماساتشوستس إليزابيث وارين كانت محقة بردها على تعليقه الممتهن لهيلاري كلينتون، “إنها امرأة سيئة” فكان ردها “إليك يا دونالد، المرأة السيئة قوية، ذكية، وتملك صوتها، في الثامن من نوفمبر، نحن معشر النساء السيئات سنخرج ونسير بأقدامنا السيئة للإدلاء بأصواتنا السيئة وإقصائك من حياتنا إلى الأبد “من دون شك، كانت لحظة مثيرة للنسوية، لكنها لم تكن كافية.

منذ عام 2011 شهدنا نشوء تجمعات دولية مثل الاحتلال، الغضب، نصب الظلام، الربيع العربي.. في آخر كتبك قمت بتحليل الأوضاع لظهور هذه الحركات، وتضميناتها السياسية، وقمتِ بشمل الأداء السياسي في تحليلاتك. وكتبتِ بأن احتشاد الجموع يأخذ شكلا سياسيا لا يختزل إلى مطالب تلك القوى الفاعلة أو الخطاب المقدم. أي قوى يمكنها أن تمنع تلك الحشود الجماعية؟ ماذا يمكن أن يكون طابعها الديمقراطي؟

ربما كلمة “الظهور-apparition” ليست الكلمة المناسبة لـ “appearance” بالإنجليزية. لكننا مرغمين على العيش مع أشباح اللغة. رغم أن المظاهرات والتجمعات غير كافية في الغالب لإحداث تغيير جذري، إلا أنها تقوم بتغيير مفهومنا لماهية “الشعب”، وتؤكد الحريات الأساسية المتعلقة بالتعددية الجسدية. قد تغيب الديمقراطية دون حرية التجمع، ولا يمكن أن يكون هناك تجمع دون حرية تحرك واجتماع، فالقدرات التنقلية والجسدية هي افتراضات لتلك الحرية. والمظاهرات الشعبية ضد التقشف وانعدام الاستقرار في الشوارع، وتحت أعين العامة، وأجساد الأفراد الذين عانوا من خسارة طبقية وشعور بالتدهور المدني، هي توكيد للعمل الجماعي عن طريق تجمعهم بطريقتهم الخاصة. لذلك عندما نستحضر التجمعات البرلمانية كجزء من الديمقراطية، فإن بإمكاننا أيضا أن ندرك قوة التجمعات اللا برلمانية لتغيير الوعي العام حول ماهية الشعوب. خاصة عندما يبرز من كان غير معني بإبرازه، لنرى أن “ميدان الظهور” والقوى المسيطرة على حدودها وانقساماتها هي افتراضات لأي نقاش حول ماهية “الشعب”. وأتفق مع جاك رانسير في هذا الشأن.

قام مشيل فوكو بتحليل الديمقراطية اليونانية للقرن الرابع والخامس الميلادي، كمشكلة خطابية، المفارقة بأن “قول الحقيقة” في الديمقراطية (خطاب محرف) وبعد تنحية “الطور” السياسي من “آغورا” إلى “إقليسيا”، أعني من مدينة المواطنين إلى المحكمة السيادية. هل يمكننا أن نعتبر نمو هذه الأطوار الديمقراطية التي ظهرت منذ 2011 انتقام آغورا من إقليسيا؟

إن سلطة قول الحق ليست جهدا فرديا بالأساس. قول الحقيقة للسلطة يعني تولي سلطة عن طريق هذا القول. ويعني أيضا أن بناء السلطة يمكن أن يعاد استخدامه وانتشاره كنوع من خدمة “استجابية” وعلى هذا، يمكن أن نعتبر المتحدث الخاضع، هو متحدث فردي، وهذا الوضع مجهول ومتغير يحتمل أن يضم عددا معينا من الناس. وقبل السؤال عما يعنيه قول الحقيقة للسلطة، علينا أن نسأل عمن باستطاعته الحديث.

أحيانا، مجرد وجود أولئك الذين يفترض بهم أن يصمتوا الخطاب الشعبي يمّكنهم ذلك من كسر بناءه. فعند تجمع المهاجرين غير الشرعيين، عند اجتماع ضحايا التهجير، عند اجتماع من يعانون البطالة أو انخفاض جذري في معاشاتهم التقاعدية، هم بذلك يخلدون أنفسهم في الصورة والخطاب التمثيلي لماهية الشعب وما ينبغي له أن يكون. بكل تأكيد لهم مطالب محددة، ولكن التجمع هو وسيلتهم بجعل الطلب كالجسد الواحد، وهو مطلب مادي في فضاء العامة، وطلب شعبي للسلطات السياسية.

وعلى هذا النحو، علينا في البداية أن “نقتحم وندخل” داخل الخطاب قبل أن نتمكن من قول الحقيقة للسلطة. وعلينا أن نكسر قيود التمثيلات السياسية من أجل عرض عنفها ومعارضة إقصائيتها. ومادام “الأمن” يواصل تبرير حظر وتفريق المحتجين، والمتظاهرين، والمعسكرات، فهو يساهم بإهلاك الحقوق الديمقراطية والديمقراطية نفسها. إن التحركات واسعة النطاق هي وحدها التي ستنجح في هزيمة كراهية الأجانب القومية، ومختلف الأعذار التي تهدد ديمقراطية اليوم، وهي وحدها التي يصحّ تسميتها بشكل من أشكال التجسد ما وراء القومي.

 

المصدر