مجلة حكمة

حوار مع إدوارد سعيد: ذكريات القاهرة، تحية كاريوكا، السيرة الذاتية، عبد الناصر – ترجمة: سعيد بوخليط


تقديم : إدوارد سعيد أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، صاحب افتتاحيات في أكبر الجرائد الأمريكية،وكاتب نال جوائز غير ما مرة تثمينا لدراسات ترجمت  على امتداد كل العالم : الاستشراق(1978)،الثقافة والامبريالية(1993)،تأملات حول المنفى(2000)،الإنسانية والنقد الديمقراطي (2004).

يجسد إدوارد سعيد (1935-2003)بامتياز الوجه الغرامشي ل”المثقف العضوي”.ناقد أدبي وموسيقي استمد تكوينه من خلال مصاحبته لمعارف كلاسيكيات النتاج الجمالي الغربي،من جاين أوستن إلى جوزيف كونراد،ومن فلوبير إلى تشيخوف،ثم قارئا لغرامشي وفوكو،بنفس انكبابه على نصوص جيامباتيستا فيكو و إريك أورباخ، فقد اعتُبر إدوارد سعيد بمثابة باعث لنظرية مابعد الكولونيالية، ضمن مجال الدراسات الثقافية .لقد أوضح عمله الاستشراق كيف ”رسم”خطاب الكتاب والعلماء الأوروبيين منذ القرن الثامن عشر الشرق بكيفية دقيقة، من هنا المساهمة في بلورة المشروع الكولونيالي.كتاب شهير، أحدث جدالا صريحا ،لازال يمثل حتى الوقت الراهن مسلكا ضروريا بخصوص كل تأمل في العلاقات بين الشرق والغرب،لكن أيضا حول ميكانيزمات الهيمنة الرمزية.في أعماله حول الأدب والموسيقى،التي لا تنفصل لديه عن السياسة،إلى جانب دراسات سياسية عديدة بالمعنى الدقيقة للكلمة ،لم يتوقف إدوارد سعيد عن تأمل تاريخ ومستقبل العالم العربي الذي ينحدر منه،باعتباره فلسطينيا قضى طفولته بين القدس والقاهرة.فلسطيني في أمريكا،ثم أمريكي في الشرق الأوسط،بروتستاني ومتكلم بالانجليزية،فإن إدوارد سعيد ”خارج المكان ”،حسب  عنوان المذكرات الصادرة سنة 2002 .وقد استعاد فترة شبابه بالقاهرة،تساءل حول وضعية مثقف عربي يعيش في المنفى،”بين عالمين”.

بين فقرات هذا الحوار مع اثنين من طلبته القدامى- ضمن مقابلات ولقاءات أخرى كثيرة أجراها مع صحف ومحطات تليفزيونية في العالم قاطبة –يتحدث إدوارد سعيد من جديد،عن مصر المستعمَرة ومدينة القاهرة،التي غادرها سنة 1951 كي يتابع دراساته في الولايات المتحدة الأمريكية.

إذن،استحضر إدوارد سعيد الكيفية التي سمح له شبابه في القاهرة التفكير في مكان آخر دون أن يحس به كغياب.لأن القاهرة مدينة متعددة تتضاعف ثنائيتها: تقدم المدينة القديمة إلى الغرب الحلم الأركيولوجي الذي يتوق إليه،بينما تكيفت المدينة الحديثة مع الحضور الكولونيالي لكن أيضا من خلال أشكال متعددة مناهضة للاستعمار.تمثل القاهرة كمدينة ضخمة تأبى أن تكتمل،بديلا كبيرا عن حضارة الغرب المدينيَّة.تتعايش جماعات متنافرة جدا داخل نسيج مَدِيني غير مهووس كثيرا بالنظام وكذا التآلف المرئيين كما هو الشأن مع المدينة ذات الطراز الغربي.تقدم هذه الحاضرة شبكة مسارات تاريخية غير مكتملة، دون انشغال بتأسيس درس تاريخي أحادي المعنى،حيث بوسع كل واحد جر خيط إذا استساغ اختلالا (أرشيفات،وآثار،الذاكرة…)يكون في نهاية المطاف محَرِّرا أكثر من كونه مُدَمِّرا.القاهرة ”مدينة تسمح لك بأن تبقى أجنبيا”،أو”خارج المكان “مثلما يفضل إدوارد سعيد تحديدها .

 

س-هل يمكنك إدوارد،أن تحدثنا عن القاهرة وأهميتها الثقافية والسياسية بالنسبة لتكوينك ثم أساس فكرك عن المدينة؟

ج-إذا استعدتُ الماضي القريب بدلا عن سنواتي الأولى، بالنسبة لشخص مثلي، قضى أزمنة كثيرة في مدن كبيرة، خاصة نيويورك،لكن أيضا لندن وباريس،فقد بدت لي القاهرة دائما البديل الأكبر.مع ذلك، توجد في الخلفية ،هذه الصورة العملاقة عن ضفة البحر الأبيض المتوسط الشرقية،التي لم أستوعبها تماما و أعتقد بأني أدركتها أولا كنقيض للإسكندرية. كانت الأخيرة، سواء على مستوى الأدب أو حياتي الشخصية،بمثابة المكان الذي حين الذهاب إليه كما لو نحو نافذة تطل على أوروبا،بسبب وجود مجموعات أجنبية،وعدد كبير من اليونانيين ،والفرنسيين، والايطاليين، والأرمينيين، واليهود.ونظرت إليهم مطلقا كأفراد ينتمون إلى الإسكندرية بحيث لازلت غاية اليوم أندهش لتواجد يونانيين في اليونان،وإيطاليين بإيطاليا،إلخ.وبالتأكيد،وفق التعابير الأدبية،تحدث الإسكندرية كثيرا من الأصداء في الغرب مقارنة مع القاهرة.لكني لم أشعر قط بأني مرتاح جدا في تلك المدينة.لم يظهر لي أن لها نفس حيوية وكذا التناسق المادي وغير الرسمي اللذين ميزا القاهرة.لذلك، تملكني هذا الشعور بأن القاهرة أرست أمامي خيارا، خياري.ثم إذا استفضت في تأملي،فالقاهرة تنقسم إلى مدينتين.من جهة،المدينة القديمة،حاضرة أبي الهول،والأهرامات،بكل بعدها الفرعوني الذي انصب عليه اهتمام الغرب الحديث بمصر،خاصة منذ السادات.لقد تعمد الأخير إبراز هذا الجانب بإرساله معرض توت عنخ آمون إلى الولايات المتحدة الأمريكية،فعزل بذلك،إن صح القول،مصر القديمة،ثم حوَّل مصر أيضا،بكيفية جديدة،إلى منتوج للاستهلاك الجماهيري عند الغرب.لكن تقوم كذلك المدينة الأخرى،التي يستحيل الإحاطة بها  كلِّية،فهي غامضة ومفككة بالنسبة للأجانب،لكنها داخل جدران فكري،واضحة جدا،تحتوي تجربة إسلامية، وعربية، وإفريقية، مناهضة للاستعمار.تجربة لم تكن أبدا سهلة المنال حقا بالنسبة للغرب.مع ذلك،يمكننا أن نفصل داخل هذه المدينة نفسها، الفضاء الكولونيالي عن جسمها الأساسي،ثم نميز في إطاره جهة أكثر صغرا وتفردا،شكلت أمكنة، مثل حي الزمالك،”الجزيرة” التي ترعرعت فيها،أرض مقتصرة أساسا على الأوروبيين،حيث عاشت أسرتي إلى جانب عائلات:شرقية، استعمارية ،أقليات، أثرياء.ثم هناك،أحياء أخرى في القاهرة،كجاردن سيتي،حيث توجد السفارات،ضمنها السفارة البريطانية،مركز سلطة اعتبرت موازية للقصر طيلة سنوات الاستعمار البريطاني،سنوات(1952-1880).كانت السفارة البريطانية،الرمز الكبير محليا يمثلها اللورد كرومر.ثم جل هؤلاء الأفراد المعارضين للحركة الوطنية المصرية.وبالتأكيد،وجدت أيضا القاهرة الإسلامية العربية،بثراء ثقافتها الشعبية،مع أحياء الجمالية، شوبرا، بولاق، أطابا، أو باب اللوق. شيء ثان،لم أقف عليه سوى حديثا،تقريبا منذ خمسة عشر سنة تقريبا،حينما انتبهت إلى أن الحركة الفكرية المؤثرة، المتمركزة في القاهرة، هي من طرح سؤال  الهوية الثقافية المصرية المنتقلة عبر التاريخ.أشير بخصوص هذا الموضوع إلى أدب لم أكتشفه أيضا إلا منذ فترة قليلة.إحدى الوجوه المهمة لهذا الخطاب، يبرز حسين فوزي،باحث جغرافي، أظنه صار فيما بعد رئيسا لجامعة الإسكندرية.وقد استثمره بكيفية ماهرة جدا، أنور عبد المالك في كتابه :المجتمع المصري والجيش.أيضا صادفت منذ أيام كتابا لبرلماني مصري يدعى ميلاد حنا،الذي تطرق كذلك إلى فكرة شخصية وثقافة مصريتين مختلفتين عن مصر كما تعرف في الغرب،وعن ارتقاء مسار هادئ لفكر طيلة قرون.تصور سيعطي أهمية بالدرجة الأولى إلى تجرد وكذا تفرد الثقافة المصرية بل ومصر نفسها،ثم عزلهما عن المحيط العربي.تعكس جزئيا تلك اللغة المنمقة حصيلة ردة فعل تكره الأجانب وضد عروبة الحقبة مع جمال عبد الناصر،فقد كان الحاكم الذي جعل مصر النقطة المركزية في العالم العربي.لقد تجلى رفض لهذا التوجه من خلال الأدب الذي أشرت إليه، ولازال الموضوع ينطوي على الكثير.إجمالا،بالعودة إلى السنوات الأولى،لاكتشافي القاهرة :كبرت هناك،وقضيت ردحا كبيرا من فترة شبابي،لكن المفارقة العجيبة،لم أشعر قط بكوني مصريا.شعور يندرج ضمن سيئات هذه المدينة التي تسمح لك بأن تبقى أجنبيا دون أن تلمس أي شكل من أشكال التمييز،ثم دون تحسِّسك لما قد يشكل عداء لهوية ثقافية تكره الأجانب، متوارية ومطمورة في العمق. لم أشعر أبدا بهذا، لكن في ذات الآن،أحسست باستمرار أني لا أنتمي إلى هنا.ليس لأن الحالة كذلك،لكن القاهرة تشعرك بحضور نظام ثقافي شعبي معقد جدا،وهي الدلالة المتداولة عبر كلمات”القاهرة” و”مصر”.لم أكن أبدا في  إطار ذلك،مع أني بقيت ملتصقا به ولازلت دائما.المسألة دقيقة جدا.توخيت دائما معرفة كيف يندرج هذا النظام في اللغة،مع نسخة القاهرة عن العامية المصرية. لقد اقتحمت تعبيريا مجالات السينما،ثم بعد ذلك،عبر بوابة الأفلام التليفزيونية،والمذياع،والمقالات الصحفية،وحتى مع الأدب الشعبي المحلي،فأضحت مع مرور السنوات،مألوفة لدي.ما أريد الإفصاح عنه،يكمن في التناقض الغريب لهذه المدينة : أولا هي حاضرة عملاقة ، وبديل كبير،عن حضارة الغرب المدينيَّة وثراءاتها،وعن الإسكندرية أيضا،الحاضرة الشرقية بامتياز،مع ذلك، يدهش جدا،أن القاهرة مدينة لا تمنح أبدا هذا الإحساس بكلِّيانية تامة.بمفاهيم أخرى،هناك نوع من الليونة في القاهرة – على الأقل بالكيفية التي استوعبتها– تسمح لمختلف أنواع الهويات بالتعايش الهادئ داخل مجموع .إنها فكرة مبهمة،لكن حقا هذا ما نشعر به.تتلاقى وتتعايش مختلف المسارات التاريخية،والحكايا والأوضاع على نحو أصفه ب”الطبيعي”.بالنسبة إلي،هذا ما يحدد المتعة الحضرية،وليست مشابهة لباريس،تلك المدينة المصممة بمتانة لأنها مركز إمبراطورية، ولا لندن،ذات المعالم المرتبة بدقة :القاهرة بالأحرى مدينة توفر شبكة من العلاقات السلمية ضمن مسارات تاريخية غير تامة،جزئيا مفقودة ،متبارية، متنازعة، ومع ذلك تعيش بطريقة أراها مذهلة.صارت القاهرة ترمز أمام نظري صيغة أكثر جذبا من رؤية التاريخ :إنها ليست معطى قد نصنفه بعناية إلى أنواع،ثم نديره بأنظمة تكامل وكذا سياقات شمولية،بل القاهرة بالأحرى مثل جَرْد بوسعه التشكل ثانية.تلتمس هذه المدينة مجهودا معينا بهدف إعادة البناء.سأقدم لكم مثالا، في هذا الإطار . مؤخرا، كنت في القاهرة، من أجل إنجاز موضوع حول تحية كاريوكا، الراقصة الشهيرة .لذلك احتجت لصياغة المقالة إلى توثيق،وصور. أين العثور عليهما؟.تحية كاريوكا،موضوع بحثي هذا،انفصلت لحظتها عن زوجها،البالغ من العمر أربع وثلاثين سنة،ويصغرها بفارق عمري واضح.لقد تخلى عنها،وفي غضون ذلك،أخذ معه كل ما تملك.النتيجة،لم يعد في حوزتها أي شيء.توجهت إلى مركز الأرشيفات السينمائية المتواجد جنوب القاهرة،مع صديقة لبنانية سينمائية،تنجز أفلاما وثائقية.التجربة التي سأرويها لا يمكنها الحدوث سوى في القاهرة.ذهبنا إذن معا.وصلنا إلى المحل المتوخى، الكائن داخل عمارة متواجدة في أحياء جنوب القاهرة قريبة من مكاتب سابقة لأبي، ثم قلت بأني أبحث عن وثائق تهم أفلاما لتحية كاريوكا،وأعلم بأن منجزها قارب مائة وتسعين فيلما – رقم كبير!- لكني سأكتشف فعليا،عدم الاحتفاظ بأي شيء،من ثمة انعدام كل منفذ.قبل ذلك،اتصلت هاتفيا، قصد الاستفسار عن الأرشيفات المتاحة، بيد أن السيدة التي هيأت لي بعض المعطيات ووضعتها جانبا رهن إشارتي،غادرت كي تزور صديقة لها في المستشفى،مما أبقى الملف محتجزا داخل درج،بالتالي لا يمكنني الوصول إليه.لذلك قلت :

  • يلزم هذه الوثائق أن تصدر فعلا عن ملف أضخم !

اقترح علي الشخص المتواجد في عين المكان زيارة المكتبة.سلكنا الوجهة المحددة.كانت تقريبا في حجم خزانتي بالولايات المتحدة الأمريكية.تدخل مرشدي قائلا :

  • هاهي الكتب.

  • كيف العمل حتى نعثر على الأفلام التي صورتها كاريوكا؟

  • ماذا تقصدون بذلك؟أتودون قائمة؟

  • لا، قائمة مع فيلموغرافيا.

لم يكن يدري شيئا.لذلك وجهني نحو سيدة يظهر بأنها أمينة المكتبة.سألتها :

  • هل لديكم لائحة بالأفلام؟

  • أفلام عن ماذا ؟

  • مثلا ،فيلم كاريوكا الشهير، ”لعبة الست”.

  • لا، لا،إننا لا نشتغل بهذه الطريقة.

  • طيب، كيف يتم الأمر لديكم؟

  • لدينا لائحة بأفلام أنجزت في مصر.

  • جيد!هل يمكننا الحصول عليها ؟

  • سنعود فقط غاية 1927 .

أعطتني المجلد.وثيقة صُنِّف بطريقة مرتجلة كليا.التفت نحو الرجل(الذي استقبلني)، يبدو أنه اكتشف هويتي.

– ماهي وظيفتك؟

-أنا ناقد سينمائي وأشتغل هنا.

– هل تتوفرون على بعض الصور؟

-نعم،أعتقد لدي صورة لكاريوكا.

أخبرني بأنه هيأ دراسة حول الاقتباس السينمائي لروايات نجيب محفوظ.أسرع نحو مكتبه ثم أخرج رزمة تحتوي ما يقارب ستين صورة،شرعنا في تقليبها، ثم عثرنا أخيرا على واحدة.كما يبدو ،صورت كاريوكا فيلما مقتبسا من إحدى نصوص حقبة نضج الكتابة الروائية عند محفوظ،وقد وضعنا الأيادي على صورة توثق لذلك مخبأة في درجه.

 

س- ماهو عنوان الفيلم؟

ج- لم يكن يدري. قَلَّب الصورة.كتبت بعض الملاحظات خلفها – وضمنها بلا شك عنوان الفيلم – لكنه عجز على أن  يقرأ ثانية مادوَّنه سابقا،مؤكدا لي أنه سيبحث ثانية.

 

س- في أي سنة صدر الفيلم؟

ج-لكنه لا يدري أي معلومة بهذا الصدد.ما أدركته، يشير إلى تسيد نوع من الرتابة المضطربة وحالة لامبالاة تامة.كيف يحدث أنه لا يعلم شيئا بخصوص ما طلبته منه؟ نفس الوضعية التي تحكم مصير الأفراد،هنا.إذا أردنا إحياء وإعادة صياغة وبناء تاريخ القاهرة، فالمسألة بدون تأكيد ممكنة.الدليل أن السيدة اللبنانية التي تصاحبني،وكانت مستاءة جدا بسبب عدم حصولي على ما تطلعت إليه، ستعود بسرعة إلى الأرشيفات وقضت يوما تشتغل لصالحي، بكثير من اللطف، فاستخلصت لائحة تحوي ثمانين أو تسعين فيلما لتحية كاريوكا،ثم قدمتها إلي. كٌتِب العمل يدويا، فلم يكن هناك حاسوب. إذن صارت تقريبا كل المعطيات ماثلة أمامي،مما يخلق شعورا كما لو أن كاريوكا حاضرة هنا.إذن القضية،تكمن في تجميع مختلف ذلك ثانية،وهو بحث فردي تقريبا، مادم المشروع المجتمعي والجماعي الذي ينبغي الاشتغال عليه، أو لنقول التاريخ الرسمي للسينما المصرية – التي جسدت مع ذلك حتى عهد قريب، التجربة السينمائية المحورية لكل العالم العربي – منعدم بكل بساطة.وضع يستحيل تصوره.انعدام أي بنية تحتية أو هيكلة.فقط مبادرات فردية موصولة ببعضها البعض،محاولات ناتجة عن دوافع عدة لكن حول قاعدة الاهتمامات المشتركة.

 

س-نوع من القصور الحركي دون إدراك فعلي للتقهقر.

ج-دون إدراك فعلي للتقهقر،نعم.شعرت بذلك لأني أتيت من الولايات المتحدة الأمريكية ولدي آجال ينبغي احترامها وأشياء من هذا القبيل،أما بالنسبة إلى تدبير المدينة،فلا ينبغي أن تسير الأمور وفق هذا المنحى.

 

سبخصوص ماهو جماعي،هل المقصود مثلا،جماعية السياسي؟

ج-كل أشكال الجماعية والتي هي متفاعلة، مترابطة، وأحيانا أتخيلها متضاربة.بالتأكيد، يعتمد أغلبها على النقابات.عموما، مصرعصرية، والقاهرة مدينة عصرية جدا على مستويات عدة،وأكثر تطورا من أي مكان آخر في العالم العربي.يتجلى بالتأكيد وعي لدى جماعات ومصالح نقابية : أشخاص السينما،جماعات الكتاب،المحامون،وهكذا دواليك انتهاء عند مختلف الهيئات المهنية والحرفية،بعضها يجر خلفه تاريخا يمتد لعشرات القرون.ثم سنقف من جانب آخر،إلى عهد قريب جدا مع الجماعات الإسلامية،التي تمتلك بنيتها التحتية الخاصة،واقتصادها الخاص،ثم تنظيماتها الاجتماعية والسياسية والتربوية الخاصة بها،إلخ.أيضا،نشير إلى  هياكل الدولة،المؤسسات الرسمية،عالم السلطة،ومجلس النواب ثم الحزب الماسك بزمام الحكم ومؤتمره.أتخيل بأنه لديكم أيضا،على المستوى المحلي،جماعات داخل أحياء القاهرة متماثلة أحيانا منذ سنوات عدة،كما الحال في خان الخليلي.أعرف اليوم جيدا في مصر،روائيا شابا اسمه جمال الغيطاني،من تلامذة محفوظ.يصف بين طيات صفحات عشرات المؤلفات،كما الشأن مع روايته الزيني بركات،مقتفيا خطى محفوظ،حيّ الجمالية في القاهرة.نعاين أدبا قائما بذاته وكذا وعيا بالحي الذي يمثل نفسه هيئة جماعية – المقاهي، الاسكافي، مُبيِّض النحاس – وائتلافا مهنيا للحرفيين.كل ذلك موجود ويعمل.لكن لا فكرة لدي، بخصوص كيفية تمفصل هذه التجمعات،بيد أنها تعمل،ويمكننا ملاحظة موقعها بالنسبة لاقتصاد المدينة.بالتأكيد،إذا توخينا الإحاطة بكل المشهد،لا يمكننا فقط تسليط الانتباه على الأزهر ومسجد سيدنا الحسين، بل أيضا تقوم لامتغيرات أخرى، مثل علاقة خضوع الدولة لسفارات القوى الغربية، ثم التبعية الامبريالية، ولديكم كذلك تلك الشبكة الضخمة والمتداخلة من الصلات التي تسود القاهرة محليا وإقليميا. وأخيرا، على نحو أفقي، نجد الإسلاميين مع فرق المعارضة،إلى جانب شتى أنواع الأخويات الصوفية.من المدهش ملاحظة ذلك.الأصعب قليلا بالنسبة إلي، يتمثل في اللغة العربية، لاسيما المُتَكَلَّم بها- ربما اعتُبِر تحريفا من جانبي، لأني سمعت أولا اللغة قبل معرفة قراءتها- لغة القاهرة،وهي لهجة محلية، مميزة لهذه المدينة.إنها بليغة للغاية، جد مختصرة، واضحة.مختلفة تماما عن أي لهجة عربية أخرى.ومع بعض الدلالات،تمثل حسب معنى معين لغة تواصل مشتركة،لأن المذياع،اللغة المتداولة للبرامج الحوارية،التلفيزيون،وخاصة السينما،التي اقتحمت كل العالم العربي،جعلت الجميع يتكلم تلك اللغة.هذا يذكرني بنوع من العملة المشتركة،تصل بين اللغة الكهنوتية للقرآن والإسلام،دين الدولة.لهجة القاهرة المحلية،مرتبطة كذلك بالتاريخ الأدبي العربي،لاسيما التراث المصري الذي له تقليده الأدبي،وكتابه الكبار، ونماذجه،خاصة إبان الحقبة الحديثة.يمثل حصول محفوظ على جائزة نوبل،بالنسبة إلي حدثا في غاية الأهمية،على المستوى النفسي. إنه أحد قمم هذا التشكل المَدِينيّ المركَّب المعروف باسم القاهرة والذي لعب دورا أساسيا،ليس فقط داخل العالم العربي،لكن بالنسبة لاكتشافاتي الساعية إلى سبر أغوار الثقافة الحديثة.

 

سلكي نبقى مع موضوع القاهرة،هل يمكنك أن تحدثنا عن الرواية السيرذاتية التي تكتبها عن فترة شبابك؟

ج-توجه تفكيري نحوها كمذكرة سيرية، وقد وقعت بهذا الخصوص منذ فترة قليلة عقدا. بالتالي، ليس في مقدوري الكشف عن الصيغة النهائية لهذا العمل. نص يقوم حاليا كمجرد ورش أشتغل عليه،ولم يدرك بعد مرحلة تسمح لي أن أصفه بسرعة.لكنه سيكون بلا شك تجربة،تتوخى العثور ثانية،على أصداء الخيالي وكذا الوهمي. ينبثق الكثير،في هذا العمل،مستندا على مختلف المبررات العائدة إلى سنوات الدراسة،والأسرة، والقيود، وشعوري بالانتماء، ثم مواقف معينة. لقد اتسم القسط الوافر لفترة طفولتي من جانب معين،بعنصر ضمني،ونوع من المشاركة اللاواعية،قادتني إلى المسالك الكولونيالية، ثم اقتادتني أخيرا نحو هذا البلد(الولايات المتحدة الأمريكية).كان هناك ترقيق مستمر للنظام الانجليزي ضمن الحقل الثقافي الغربي.ما أحاول القيام به حاليا،يكمن في العودة جزئيا،إلى الماضي ومحاولة رفع الحجاب عن أشياء لا أعرفها أبدا ،كي أرى مدى إمكانية ذلك،ولا يمكنني الرهان على هذا الأمر سوى عبر افتراضات، ومجهودات للذاكرة والخيال.المظهر المهم لهذا العمل، يحيل على طبيعة النظام الذي ألزمت به نفسي من أجل كتابته :لا أريده أن يكون نصا يعثر أصلا من جديد في تلك السنوات السالفة عن نضج أو برنامج سياسيين مثلما أنا اليوم،هل فهمتما ما أود قوله.لاأبحث عن ذلك،بل أريد الكلام بصيغة تسبق ماهو سياسي عن محور القاهرة/القدس/بيروت،حيث ترعرعت،الذي انطوى أصلا بصيغة مجازية أو مضمرة على مختلف الحقائق السياسية التي ظلت معلقة والفاعلة حاليا.

 

س- هل بوسعك أن تحدثنا عن تصورك للناصرية حينما كنت شابا؟إلى أي حد كانت واضحة؟

ج-بشكل متأخر نسبيا اهتممت بالناصرية كما هي.لقد وصل عبد الناصر إلى سدة الحكم بعد مغادرتي مصر قاصدا مدرسة داخلية في الولايات المتحدة الأمريكية.بالتالي، نظرت دائما إلى الناصرية وفق رؤية شخص ظل بعيدا عن عين المكان.حقا بقيت أسرتي في مصر بعد 1952، لكن حينما وقعت الثورة،تواجدتُ وقتها في أمريكا،لذلك أدركت دائما عبد الناصر من خلال خطبه ومنجزاته كما يرويها الإعلام الغربي.بهذا الخصوص،كان الرجل مٌدَانا على الصعيد الدولي،يشتكون منه.يمكن القول،بأن تجربتي مع الناصرية،غير مباشرة وحافظتُ قليلا على مسافة نحو إيديولوجية سياسية،استلهمتْ عبد الناصر،وفق دلالة معينة، أي ما أشاعه عبد الناصر ليس فقط بالنسبة لحياة الشعوب في الشرق الأوسط،لكن أيضا ما تعلق بحياتي الشخصية.عندما أعيد النظر إلى الخلف، أشعر بانبهار وأنا أفكر في علاقتي بالسنوات الأولى للناصرية، بين سنوات(1960-1953)،والتي شكلت آخر أعوام أسفاري إلى مصر،لأنه بعد ذلك،وطيلة خمسة عشر سنة(1960-1975) ،توقفت تماما عن زيارتها.خلال الحقبة الممتدة بين(1955-1960) ،دفع عبد الناصر نحو التصويت على قوانين التأميم،التي انعكست مباشرة على مصالح أسرتي.ذلك أن إحدى الأهداف المعلنة ل”الاشتراكية العربية”لدى عبد الناصر ركزت على طبقة التجار الأجانب التي ينتمي إليها أبي بل كان أحد أعمدتها الأساسيين.هكذا أحدث عبد الناصر نوعا من القلق والخوف، لمستهما ببساطة نتيجة قربي من والدي،بحيث انتابه فزع شديد جراء التوجهات الجديدة التي استهدفت تقييد التبادلات،التجارة، الأنشطة المالية،وكل المجالات التي ارتبط بها كثيرا.وأنا تساميت بهذه الأزمة بكيفية عاطفية جدا ومموِّهة،كي أسقطها على المجتمع برمته.لكن إحدى المعطيات المهمة التي برزت طيلة ثلاثين سنة الأخيرة- تحديدا منذ نهاية السبعينات،وبوضوح شديد إبان عودتي إلى مصر خلال السنتين الأخيرتين- تكمن في نجاحي تدريجيا كي أتخلص من هذه الفكرة المصطنعة عن مجتمع يعيش أزمة والنظر بكيفية ثانية إلى ما يربط عبد الناصر بمصر.لقد تراكم أدب قائم بذاته في مصر حول البوليس السري لعبد الناصر،أعتبره متوعدا لي شخصيا،مما يجعلني أشعر بجرح داخلي. أدركُ وضعي كما لو أني ضحية مجهولة ومعزولة، وموضوعا للقمع الناصري.لم أتبين بعد عدد معارفي الذين ألقي بهم في السجن.أحد أعز أصدقائي،وقد أهديت له كتابي :القضية الفلسطينية، قُتل بين سنتي(1960-1961).كان عضوا في صفوف الحزب الشيوعي،ثم سقط ميتا جراء التعذيب داخل الأقبية السرية لعبد الناصر.إذن فترة عبد الناصر،نسجتُ علاقة معقدة جدا مع القاهرة باعتبارها مركزا لمصر،عبر أسفار عديدة تتراوح بين الذهاب والإياب.كانت معلوماتي ضعيفة نسبيا بخصوص ما يجري وقتئذ. لذلك تبلور أساسا تصوري حول عبد الناصر- بغض النظر عن إعجابي به كقائد عربي كبير – على ماعانته مصالح أسرتي من تضييق،بحيث أستوعب حاليا بالفعل خضوع ذلك الموقف لنوع من العُصاب النفسي لم أعرف كيفية تدبره.فبقدر خشيتي على مصير عائلتي،بقدر ما حولت عبد الناصر إلى رمزا للإنسان الأعلى،وصورة عن القومية العربية في إطار تحديها للغرب والامبريالية.لكن بالتأكيد،لاشيء من ذلك،كان صائبا مطلقا.الحقيقة أن عبد الناصر ظل في توتر مع مجتمعه،سياق لم أدركه إلا متأخرا جدا.

 

 

 

 

    Le Caire. Entretien avec Edward Said , Écrire l’histoire [En ligne], 2011, mis en ligne le 01 octobre 2014.