مجلة حكمة

حوار بابلو نيرودا مع مجلة باريس ريفيو – يناير 1970 / ترجمة: راضي النماصي

pablo_neruda_1963أجرى الحوار: ريتا غويبرت


 “لم أعتقد بأن حياتي ستنقسم يومًا بين الشعر والسياسة.”، بدأ بابلو نيرودا خطاب ترشحه لرئاسة تشيلي عن طريق الحزب الشيوعي بهذه العبارة. “أنا من أبناء هذه البلاد، والذين عرفوا لعقود نجاحات وإخفاقات وصعوبات تواجدنا كوطن واحد، ومن شارك الفرح والألم بنفس القدر مع كل الشعب. أتيت من طبقة عاملة، ولم أحز في يومٍ ما سلطة، وكنت ولاأزال أعتقد بأن واجبي هو خدمة شعب تشيلي بأفعالي وبقصائدي. عشت وأنا أغني لهم، وأدافع عنهم.”

لأنه مصنف يساريًا، سحب نيرودا ترشيحه بعد شهور من المنافسة الصعبة في الحملات الانتخابية، واستقال من أجل دعم مرشح الوحدة الشعبية: سلفادور الليندي. أجريت هذه المقابلة في منزله في إيسلانيغرا خلال شهر يناير سنة 1970 قبل استقالته.

إيسلانيغرا، أو الجزيرة السوداء، ليست بجزيرة وليست سوداء. هي منتجع شاطئي أنيق يبعد أربعين كيلومترًا جنوب فالباريسو، وعلى بعد ساعتين بالسيارة من العاصمة سانتياجو. لاأحد يعلم من أين أتى الاسم. يعتقد نيرودا بأن الاسم أتي من الصخور السوداء، والتي تحمل أشكال جزر. قبل ثلاثين سنة، حينما لم يكن هذا المكان بنفس الفخامة، اشترى نيرودا من عائدات كتبه ستة آلاف متر مربع على ساحل البحر، وتتضمن تلك المساحة بيتًا صغيرًا على أعلى جرفٍ حاد. ” ثم بدأ المنزل بالنمو، كما ينمو البشر، وكما تنمو النباتات.”.

لدى نيرودا منازل أخرى، يملك منزلًا في هضبة سان كريستوبال في العاصمة سانتياجو، ومنزل آخر في فالباريسو. جاب محلات الأنتيكة والخردة لكي يزين منزله بكل الأشياء. يسأل نيرودا “ألا يشبه ستالين؟” وهو يشير إلى صورة لمغامر إنجليزي يدعى مورغان في صالة الطعام بمنزله في إيسلا نيغرا. ثم يستأنف القول: ” لم يرد بائع التحف أن يبيعني هذه الصورة، ولكن حينما أخبرته أني تشيلي، سألني ماإذا كنت أعرف بابلو نيرودا، وهكذا أقنعته ببيعها لي.”.

يسكن نيرودا “ملاح الأرض” بشكل شبه دائم في منزله بإيسلا نيغرا، مع زوجته الثالثة “ماتيلدا”، والتي يسميها “باتوخا”، تلك المعشوقة التي طالما تغزل فيها بقصائد الحب الشهيرة.

طويل القامة، ممتلئ الجسم، ذو بشرة زيتونية، ملامحه المميزة هي أنف حاد وعينان بنيتان واسعتان مع الجفون. تحركه بطيء لكنه ثابت، ويتحدث بوضوح دون غطرسة. عندما يذهب مع أحدهم للمشي، فهو يحمل نوعين من الأطعمة، برفقة عصاه ومعطفه الريفي الطويل.

يسلي نيرودا زواره القادمون باستمرار في إيسلا نيغرا، وهناك دائمًا تلك الطاولة المخصصة لضيوف الدقيقة الأخيرة. يقوم نيرودا بأكثر تساليه في المشرب، والذي يدخل إليه المرء من خلال ممر صغير من شرفة تطل على البحر. على سقف الممر الصغير تتبدى نقوش فيكتورية وجهاز هاتف قديم. توجد على رفوف النافذة مجموعة من الزجاجات، وقد تم تصميم المشرب كصالون سفينة. للغرفة جدران زجاجية على البحر، نحتت على أطرافها كتابات بخط يد نيرودا، وأسماء أصدقائه الموتى.

خلف المشرب تظهر بوضوح علامة “لا ديون هنا”. يأخذ نيرودا دوره كساقي بمنتهى الجدية، ويحب أن يقدم لضيوفه مشروبات مخلوطة، بالرغم من أنه يفضل السكوتش والنبيذ. يتواجد ملصقان ضد نيرودا على الجدار، واحد منهما سبق واشتراه وهو عائد من رحلته الأخيرة إلى كاراكاس. يظهر ذلك الملصق صورة كبيرة لوجهه، مع عبارة أسفل الملصق “نيرودا، عد إلى موطنك”. أما الآخر، فهو غلاف مجلة من الأرجنتين، يحمل صورة له، ومكتوب في الأسفل “لماذا لايقتل نيرودا نفسه؟”.

الوجبات في إيسلا نيغرا تشيلية نموذجية، وقد ذكر نيرودا بعضها في قصائده: شوربة محار، سمك بصلصة الطماطم، وقطع من الجمبري الصغير. النبيذ كله من تشيلي. في الصيف، يُقدم الطعام في شرفة تطل على حديقة تحتوي محرك قطار قديم. يقول نيرودا عنه: ” ياله من محرك قوي وطاحن، مزمجر وذو صفير حاد، ويطلق أصواتًا كالرعود… أحبه لأنه يبدو وكأنه والت ويتمان.”

تم هذا الحوار خلال فترات قصيرة متقطعة. في الصباح، عقدنا الحوار في المكتبة، والتي تعتبر جناحًا جديدًا في المنزل. انتظرته حتى يفرغ من إجابة بريده، ويفرغ من إحدى قصائده في كتابه الجديد. أو يصحح ألواح الطباعة لأجل الطبعة التشيلية الجديدة من ديوانه الأشهر: عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة. حينما يكتب القصيدة، فهو يستعمل الحبر الأخضر في دفتر عادي. يستطيع نيرودا كتابة قصيدة طويلة في وقت قصير نسبيًا، بعدما يصحح قليلًا من الأخطاء. ثم تتم طباعتها على الآلة الكاتبة من قبل سكرتيره وصديقه المقرب لأكثر من خمسين سنة: هوميرو آرسي.

بعد الظهر، حينما يفرغ من قيلولته، كنا نجلس سويًا على مقعد حجري، في الشرفة المطلة على البحر. كان نيرودا يتحدث وهو يمسك بالمذياع الخاص بجهاز التسجيل، والذي كان يسجل صوت تكسر الأمواج، كما لو كان خلفية موسيقية لصوته.

 

الحوار

غويبرت: لماذا غيرت اسمك؟ ولماذا اخترت بابلو نيرودا؟

نيرودا: في الحقيقة لاأتذكر. كنت وقتها في الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمري. أتذكر أن أبي قد انزعج كثيرًا حينما أفصحت له عن رغبتي بالكتابة. في أكثر أحواله تفاؤلًا، كان يعتقد أن الكتابة ستدمرني وتدمر العائلة. كان يفكر على نطاق محلي، مما لم يجعلني أغضب، ولم أتحمل أي مسؤولية من تلك الأسباب. لذلك كان تغيير اسمي أحد الأسباب الدفاعية.

 

غويبرت: هل اخترت نيرودا تيمنًا بالشاعر التشيكي: جان نيرودا؟

نيرودا: قرأت قصة قصيرة له. لم أقرأ شعره من قبل، لكن كان لديه كتاب اسمه “قصص من مالا سترانا”، وهي يحكي عن أولئك الناس البسطاء، الذين يقطنون حيًا بنفس الاسم في براغ. من المحتمل أن اسمي الجديد قد أتى من هناك. ومع ذلك، فإن التشيكيين يحسبوني واحدًا منهم، واحدًا من أمتهم، وقد تواصلت معهم بشكل جميل أكثر من مرة.

 

غويبرت: في حالة إذا انتُخبت رئيسًا لتشيلي، هل ستستمر بالكتابة؟

نيرودا: الكتابة لدي أشبه بالتنفس. فكما لايمكن أن أعيش بلا تنفس، فإني لاأستطيع العيش بدون الكتابة.

 

غويبرت: هل تعرف شعراء تبوؤا مناصب عالية سياسية ونجحوا؟

نيرودا: فترتنا هي فترة الشعراء الحُكَّام: ماو تسي تونغ و هو شي منه. ماو تسي تونغ يمتاز بصفات أخرى: فهو، كما تعرف، سباح ماهر، وأنا لاأعرف السباحة على الإطلاق. هناك شاعر عظيم آخر، ليوبولد سينغور، رئيس السنغال؛ وآخر يدعى آيم سيزار، شاعر سريالي، وهو أمير الجبهة الفرنسية في المارتينيك. في بلدي، لطالما تورط الشعراء بالسياسة، ولكن لم يحز أحد منهم على رئاسة الجمهورية. على الجانب الآخر، كان هناك رؤساء ممن يكتبون النثر. فعلى سبيل المثال: رومولو غاليغوس، وكان رئيسًا لفنزويلا.

 

غويبرت: كيف أدرت حملتك الرئاسية؟

نيرودا: أعددنا منصة في بادئ الأمر، ومن ثم عزفنا على الدوام أغانٍ فولكلورية. وكان هناك من يُكلف بشرح آفاقنا السياسية الصارمة، والتي تتعلق بحملتنا. بعد ذلك، أصررت على الذهاب إلى القرى كونها أكثر حرية، وأقل تنظيمًا، أي: أكثر شاعرية. كنت دومًا أنتهي بتلاوة الشعر. وإذا لم أفعل ذلك، سيغادر الناس حملتي بخيبة أمل. أردت منهم أن يسمعوا أفكاري السياسية بالطبع، ولكن لم تكن في غالبية حديثي، لأن الناس يحتاجون أيضًا نوعًا مختلفًا من اللغة.

 

غويبرت: كيف يتفاعل الناس معك عندما تتلو قصائدك؟

نيرودا: انهم يحبونني بشكل عاطفي للغاية. في بعض الأحيان لاأستطيع دخول أو الخروج من بعض الأماكن. لدي مرافقون خاصون يحمونني من الحشود، وذلك بسبب إحاطة الصحافيين بي. وهذا يحدث في كل مكان.

 

غويبرت: إذا كان عليك أن تختر بين رئاسة تشيلي وجائزة نوبل، والتي رشحت لها أكثر من مرة، فماذا ستختار؟

نيرودا: لايمكن أن يكون هناك سؤال خيارات بين شيئين مختلفين لهذه الدرجة.

 

غويبرت: وإن وضعنا رئاسة تشيلي و جائزة نوبل هنا على الطاولة؟

نيرودا: في تلك الحالة سأقوم وأذهب إلى طاولة أخرى.

 

غويبرت: هل تعتقد أن تتويج صامويل بيكيت لجائزة نوبل العام الماضي كان عادلًا؟

نيرودا: نعم، أعتقد ذلك. يكتب بيكيت أشياء قصيرة لكنها عظيمة. أينما حلت جائزة نوبل على شخص، فهي بالتأكيد تشريف كبير للأدب. لست من الأشخاص الذين يجادلون حول أحقية شخص ما بالجائزة من عدمها. مايهم في هذه الجائزة – إذا كان لها أي أهمية – هو منح بعض الاحترام لمن توج بها. وهذا مايهم.

 

غويبرت: ماهي أقوى ذكرياتك؟

نيرودا: لاأعلم. لعل أقوى ذكرياتي هي حينما عشت في إسبانيا، في ذلك المجمع العظيم من الشعراء. لم أعرف مجموعة بهذا القدر الأخوي من الشعراء في أمريكا اللاتينية إلا وتملؤها الإشاعات، كما يُقال في بوينس آيرس. بعد فترة من العيش هناك، كان من الفظيع أن نرى جمهورية من الأصدقاء بهذا الحجم تمزقها الحرب الأهلية، مما بين الوجه البشع للتحكم الفاشي. تفرق أصدقائي: منهم من قتل كغارثيا لوركا وميغيل هرنانديز، ومنهم من توفى في المنفى . حياتي بالمجمل غنية بالذكريات، وبالمشاعر العميقة، وكل منهما أثر في حياتي بشكل أو آخر.

 

غويبرت: هل يسمحون لك الآن بدخول إسبانيا؟

نيرودا: لست ممنوعًا بشكل رسمي. دعتني السفارة التشيلية هناك في مناسبة خاصة لأقرأ عليهم بعض القصائد، وكان من المحتمل أن يدعوني أدخل، لكني لم أذهب إلى هناك عن قصد. لم أرد أن تدعي الحكومة الإسبانية في ذلك الوقت أنها ديمقراطية عن طريق إدخال من حاربها بكل قوة في الماضي. لاأعرف. منعت من دخول عدة بلدان، وتوضح لي من أشخاص آخرين أن هذا الموضوع لايؤلم بقدر مايفعل لك في البداية، وهذا بالضبط ماحدث لي.

 

غويبرت: تنبأت قصيدتك الغنائية، والتي كتبتها في غارسيا لوركا، بنهايته المأساوية.

نيرودا: نعم، كانت تلك القصيدة غريبة. غريبة لأنه قد كان شخصًا سعيدًا. بالفعل، كان مخلوقًا مبتهجًا. عرفت القليل من الناس بمثل سجيته، وكان هو تجسيدًا لـ ….. حسنًا، لاأقول للنجاح، ولكن لحب الحياة. لقد استمتع بكل دقيقة من حياته. هو مسرف في سعادته. ولذلك السبب، كانت جريمة إعدامه واحدة من أشنع جرائم الفاشية التي لاتُغتفر.

 

غويبرت: كثيرًا ماكنت تذكره في قصائدك، وكذلك كنت تذكر ميغيل هرنانديز.

نيرودا: كان هرنانديز بمثابة ابن لي. كشاعر، كنت أعتبره أقرب لتلميذي، وتقريبًا عاش جزءًا كبيرًا من حياته في بيتي. اقتيد إلى السجن ومات هناك فقط لأنه كذب الرواية الرسمية لموت غارسيا لوركا. إذا كانت روايتهم صحيحة، فلماذا أبقوه الفاشيون حتى الموت في السجن؟ لماذا رفضوا نقله إلى المستشفى حينما كان يحتضر، كما طلبت السفارة التشيلية؟ كانت وفاة هرنانديز اغتيالًا أيضًا.

 

غويبرت: ماالذي تتذكره من السنين التي أمضيتها في الهند؟

نيرودا: كان بقائي هناك حدثًا عارضًا، ولم أكن مستعدًا له. غمرتني روعة تلك القارة، وشعرت برغم ذلك باليأس. لأن حياتي وعزلتي هناك قد طالت. في بعض الأحيان، كنت أشعر بأني محتجز في فيلم صوري، فيلم رائع ولكن لايمكنني مغادرته. لم أشعر بالتصوف الذي ألهم العديد من الأمريكيين الجنوبيين والأجانب في الهند. كل من يذهب إلى الهند، في محاولةٍ منه لإجابة دينية حول أسئلة تؤرقه، يرى الأشياء بطريقة مختلفة. أما بالنسبة لي، فقد تأثرت بالظروف الاجتماعية التي تعصف بذلك البلد. تلك الأمة المعزولة عن السلاح كانت ضعيفة للغاية، ومقيدة إلى نير الإمبريالية. حتى الثقافة الإنكليزية، والتي كان لدي ميل كبير تجاهها، أشعرتني بالبغض كونها صارت أداة تقييد فكري للعديد من الهندوس في ذلك الزمان. اختلطت بالعديد من الشباب المحتجين هناك خلال بعثتي الدبلوماسية، ومن خلال منصبي استطعت التعرف على كل أولئك الثوار، والذين شكلوا تلك الحركة العظيمة، التي أدت في النهاية للاستقلال.

 

غويبرت: هل كتبت ديوانك “المقام على الأرض” في الهند؟

نيرودا: نعم، بالرغم من الهند لم يكن لها ذلك التأثير الفكري على قصائدي.

 

غويبرت: كتبت كل رسائلك المؤثرة إلى الكاتب الأرجتيني هيكتور أياندي من رانغون، صحيح؟

نيرودا: نعم. كانت تلك الرسائل مهمة في حياتي. لأني لم أعرفه ككاتب. لكنه أخذ على عاتقه، باعتباره شخصًا صالحًا، أن يرسل لي الأخبار والمجلات الدورية باستمرار، كي يساعدني في عزلتي. كنت خائفًا من أن أفقد قدرتي على التواصل بلغتي الأم، لأني ولسنوات لم أستطع التحدث مع أحدهم بالإسبانية. طلبت في إحدى رسائلي من رافائيل ألبيرتي قاموسًا إسبانيًا. عُينت في منصب قنصل، ولكنه كان منصبًا منخفضًا ولايمتاز بمكافأة. عشت في فقر مدقع وعزلة أكثر بؤسًا. لم أستطع رؤية إنسان آخر لأسابيع.

 

غويبرت: كانت هناك علاقة حب شهيرة بينك وجوزي بليس، والتي كنت تذكرها دومًا في قصائدك.

نيرودا: نعم. كانت امرأة تركت بصمة عميقة في شعري. لطالما تذكرتها، حتى في أحدث كتبي.

 

غويبرت: إذًا شعرك يرتبط بشكل قريب من مجرى حياتك؟

نيرودا: هذا أمر طبيعي. يجب أن تنعكس حياة الشاعر على قصائده. هذا قانون فن، وقانون حياة.

 

غويبرت: يمكن تقسيم شعرك إلى مراحل، أليس كذلك؟

نيرودا: لدي أفكار مربكة حول ذلك الموضوع. أنا لاأمتلك مراحل؛ النقاد يكتشفونها. إذا أمكن لي قول أي شيء، فيمكنني القول بأن قصائدي تملك امتيازات عضو بشري: رضيع حينما كنت صغيرًا، طفولي حينما كنت شابًا، يائس حينما كنت أعاني، ومقاتل حينما انخرطت في النضال الاجتماعي. يحضر خليط من هذه الحالات في قصائدي الحالية. لطالما كتبت بدافع من داخلي، وأعتقد بأن هذا الأمر يحدث لجميع الكتاب، الشعراء خصوصًا.

 

غويبرت: رأيتك ذات مرة وأنت تكتب داخل السيارة.

نيرودا: أكتب أينما أستطيع ومتى أستطيع، أنا أكتب بشكل دائم.

 

غويبرت: هل تكتب كل شيء بيدك؟ أم تكتب بالآلة الكاتبة؟

نيرودا: منذ أن حصل لي حادث وكسرت اصبعي قبل عدة أشهر، لم أستطع استخدام الآلة الكاتبة. عدت إلى عادات الشباب وصرت أكتب بيدي. اكتشفت لاحقًا أنني حينما أكتب قصائدي بيدي، فإنها تغدو أكثر حساسية، وقابلة للتشكيل أكثر. يقول روبرت غريفز في مقابلة أنه لكي نفكر فيجب علينا أن نحيط أنفسنا بأشياء أقل مما لم يصنع باليد. كان بوسعه أن يضيف بأن الشعر يجب أن يكون مكتوبًا باليد. فصلت الآلة الكاتبة تلك العلاقة الحميمة لي مع الشعر، وأعادتني يدي إلى تلك العلاقة أقرب من قبل.

 

غويبرت: ماهي ساعات عملك؟

نيرودا: لاألتزم بجدول معين، ولكن أفضل الكتابة في الصباح. مايعني أنه لولا تواجدك اليوم وإضاعة وقتي ووقتك، لكنت الآن أكتب. لاأقرأ أشياء كثيرة خلال اليوم، بل أفضل الكتابة طوال اليوم، ولكن بقمة انشغالي الفكري، أو في قمة شعوري بتجربة، أو أثناء احساسي بشيء ما وهو يخرج مني بشكل صاخب – دعنا نسميه الإلهام – يتركني راضيًا، أو مرهقًا، أو هادئًا، أو فارغًا، إلى أن أصل لحالةٍ لاأستطيع معها الاستمرار في الكتابة. بعيدًا عن ذلك، أود لو أعيش طوال اليوم جالسًا قرب مكتب. أود لو أضع نفسي في معترك الحياة، في منزلي، أن أخوض السياسة، أن أبقى في الطبيعة. أن أبقى في تجوال لاينتهي. ولكني أكتب بشكل مكثف أينما استطعت وكيفما استطعت. لايزعجني الأمر حينما أكون كثير من الأصدقاء حولي وأنا أكتب.

 

غويبرت: هل تعزل نفسك عما يحيط بك أثناء الكتابة؟

نيرودا: نعم. ولكن الهدوء التام يستفزني ويزعجني.

 

غويبرت: لم تلق في يوم بالًا نحو النثر.

نيرودا: النثر…. طوال عمري، لم أشعر بضرورة التعبير عن نفسي إلا بالشعر. لم يهمني يومًا أن أعبر من خلال النثر. أكتب النثر حينما يجتاحني شعور معين، أو في مناسبة معينة تستدعي السرد. الحقيقة أنه يمكنني أن أستغني عن كتابة النثر للأبد، ولكنني أكتبه بشكل مؤقت.

 

غويبرت: إذا كان عليك أن تنقذ أحد أعمالك من حريقٍ ما، فأي أعمالك تختار؟

نيرودا: لاشيء منها. وماحاجتي لها؟ أفضل أن أنقذ فتاة، أو أن أنقذ مجموعة جيدة من القصص البوليسية، فهي تجلب اهتمامي أكثر من أعمالي الخاصة.

 

غويبرت: أي نقادك فهم قصائدك بشكل أفضل من غيره؟

نيرودا: أوه، نقادي! لطالما مزقوني إربًا إلى شرائح، بكل الحب أو بكل الكره المتوفر في هذا العالم! في الحياة، وكما في الفن، لايمكن لشخص أن يرضي الجميع، هذا أمر يحدث معنا كلنا. دائمًا مانتلقى القبلات والصفعات، المداعبات والركلات، وهذه حياة الشاعر. مايزعجني هو التشويه الحاصل في تفسير الشعر في أكثر من مناسبة في حياة المرء. على سبيل المثال، في مؤتمر الكتاب العالمي في نيويورك، والذي جلب أناسًا من مختلف أصقاع الأرض، قرأت قصائدي الاجتماعية. وأكثر منها في كاليفورنيا، قرأت قصائدي التي كتبتها في كوبا دعمًا للثورة الكوبية. ولكن الكتاب في كوبا بدلًا من أن يساندوني، قاموا بتوقيع عريضة وزع منها ملايين النسخ، يعتبرونني فيها شخصًا محميًا من الأمريكيين الشماليين، حتى أنهم اعتبروا دخولي إلى الولايات المتحدة نوعًا من منحة! هذا تفسير غبي، إن لم يكن افتراءًا. لأن هناك العديد من الكتاب يسكنون البلدان الشيوعية قد حضروا المؤتمر، وقد تمت دعوة بعض الكتاب من كوبا. نحن لم نفقد شخصياتنا كمناهضين للإمبريالية بمجرد ذهابنا إلى هناك. على كل حال، فقد صدر ذلك الادعاء، إما بحسن نية أو مجرد حسد من الكوبيين. مايحدث الآن كوني مرشحًا من حزبي لرئاسة الجمهورية يؤكد كوني صاحب تاريخ ثوري. من الصعب أن نجد ممن وقعوا تلك العريضة من يوازي تاريخه الثوري واحدًا بالمائة مما قمت به وقاتلت لأجله.

 

غويبرت: كنت قد تعرضت لانتقادات بسبب طريقة عيشك، وحالتك الاقتصادية.

نيرودا: بشكل عام، كل هذه أكذوبة. بمعنى آخر، تلقينا إرثًا سيئًا من إسبانيا، والتي لم تسمح يومًا لشعبها بالتميز في أي أمر. لقد حسبوا كريستوفر كولومبوس حال عودته. ولم يتسبب بذلك الإرث سوى البورجوازي الحسود، الذي يفكر فيما يملكه الناس ومالايملكونه. في حالتي الخاصة، كرست نفسي لتعويض الشعب. ومايوجد في منزلي، كتبي على سبيل المثال، فهي أعمالي. لم أستغل أحدًا في حياتي، وهذا أمر غريب. لايأتي مثل هذا اللوم لمن يكتب وفي فمه ملعقة من ذهب! بدلًا عن ذلك، يوجهون أصابع اللوم نحوي، أنا الذي عملت لخمسين سنة. يقولون دائمًا: “انظروا، انظروا إليه كيف يعيش. لديه منزل جيد، ويشرب نبيذًا جيدًا”. ماهذا المنطق؟ قبل كل شيء، من الصعب أن تشرب نبيذًا سيئًا في تشيلي، لأن كل النبيذ هنا جيد. إنها مشكلة تعكس بشكل ما التخلف الموجود في بلادنا، والرداءة التي نعيش بها. أنت بنفسك أخبرتني يومًا حول نورمان ميلر، وكيف تلقى مبلغًا يوازي تسعين ألف دولار أمريكي لمجرد أنه نشر ثلاث مقالات في مجلة بأمريكا الشمالية. هنا، لو تلقى كاتب لاتيني مثل ذلك المبلغ، لأطلق الكتاب الآخرون احتجاجاتهم: “ياله من إسراف! ياله من أمر فظيع! متى سيتوقف؟!”، بدلًا من أن يبتهجوا لأن كاتبًا يستطيع جني مثل تلك المبالغ. حسنًا، كما قلت لك، هذه هي المصائب التي نجنيها من وراء تخلفنا الثقافي.

 

غويبرت: لعل أغلب الانتقادات التي واجهتك، صدرت بسبب كونك شيوعيًا.

نيرودا: بالفعل. قيل أكثر من مرة بأن الذي لايملك شيئًا لن يخسر شيئًا عدا قيوده. أنا أخاطر في كل مرة بحياتي، وبشخصي، وبكل ماأملك: كتبي، ومنزلي. احترق منزلي من قبل، وقد تم اضطهادي، وتم اعتقالي أكثر من مرة، تم نفيي من البلاد، ووضعت تحت الإقامة الجبرية. رآني أفراد الشرطة أكثر من مرة بشكل صريح. أنا لست مرتاحًا مع ماأملكه، ولكن هذا كل مالدي. سخرت نفسي لأجل نضال الشعب، وهذا النضال كان منزلي لأكثر من عشرين سنة تحت مظلة الحزب الشيوعي، والذي يضعني العامة الآن على رأسه. أنا أعيش في هذا المنزل الآن بكرم من قبل حزبي. حسنًا، لندع أولئك الذين حسدوني يقاسون ماقاسيته، وليدعوا على الأقل أحذيتهم في أي مكان ليستعملها أحد آخر!

 

غويبرت: تبرعت أكثر من مرة بمكتبات مختلفة. ألست تشارك الآن في مشروع “مستعمرة الكتاب” في إيسلانيغرا؟

نيرودا: لقد تبرعت بأكثر من مكتبة إلى الجامعة الوحيدة في بلادي. أنا أعيش على دخل كتبي، وليست لدي أي مدخرات. ليس لدي ماأتخلص منه، إلا ماأدفع كل شهر من نتاج كتبي. بذلك الدخل، أمكن لي جمع مبلغٍ معين لشراء قطعة أرضٍ على الساحل، لكي يستطيع الكتاب إمضاء الصيف هنا، وكتابة أعمالهم الإبداعية في مناخ جميل بشكل استثنائي. سيؤسس المكان مؤسسة كانتالاو، وسيديره بشكل مشترك كل من الجامعة الكاثوليكية، جامعة تشيلي، ومجتمع الكتاب.

 

غويبرت: ديوان عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة هو أحد دواوينك المبكرة، ولايزال يقرأ حتى الآن عن طريق الآلاف من المعجبين منذ طباعته أول مرة.

نيرودا: كتبت في مقدمة الطبعة الجديدة، والتي تحتفي بصدور مليون نسخة من ذلك الكتاب – بالمناسبة، سيبلغ عدد النسخ مليونان قريبًا – بأني لاأفهم لماذا يحدث كل هذا الاحتفاء. لماذا لايزال الناس يقرأون الكتاب الذي يحتوي حزن الحب، ووجعه، خصوصًا من قِبل الشباب. بكل صراحة، لاأستطيع فهم ذلك. ربما يمثل طرحًا شابًا للعديد من الألغاز، وربما يجاوب عليها. هو كتاب حزين، ولكن جاذبيته لاتهدأ.

 

غويبرت: أنت من أكثر الشعراء ترجمة، نحو ثلاثين لغة. ماهي اللغة التي قدمت أفضل ترجمة لشعرك.

نيرودا: ربما الإيطالية، للتشابه بين اللغتين. بالنسبة للإنجليزية والفرنسية، وهي لغتان أعرفهما غير الإيطالية، فهما لايرتبطان بالإسبانية، لا نطقًا، ولا في مكان الكلمات، ولا حتى في وزن الكلمات ولونها. الأمر لايتعلق بقدر الترجمة. المنطق يؤكد بأن على قدر الترجمة، يصل الشعر. بينما في الواقع، أمانة الترجمة، ونقل المعنى، قد يدمر القصيدة. في العديد من الترجمات إلى الفرنسية – ولاأقول كلها -، أجد أن شعري يهرب، ولاشيء يبقى. لا أحد يستطيع التظاهر بسبب أن الكتابة المترجمة تطابق الأصل، لكن من الواضح أنني لو كتبت الشعر بالفرنسية، فلن يبدو النصان متشابهان، وذلك لاختلاف قيمة الكلمات. كنت سأكتب شيئًا مختلفًا تمامًا.

 

غويبرت: قلت بأنك قارئ جيد للقصص البوليسية، من هو مؤلفك المفضل؟

نيرودا: هناك عمل عظيم ينتمي لهذا النوع من الكتابة، وهو يدعى نعش لأجل ديميتريوس للكاتب إريك أمبلير. قرأت كل أعمال أمبلير التي تلته، ولكن لم يوجد عمل يحاكي جمال أساسات ذلك العمل، ودسائسه الاستثنائية، وجوه الغامض. جورج سيمينون أيضًا مهم، ولكن لايوجد أحد يكتب القصة البوليسية بغموضها، وبكل الرعب الذي تحتويه مثل تلك القصص، كما يكتب جايمس هادلي تشايس. روايته التي بعنوان لا زهور للآنسة بلاندش تعتبر رواية قديمة، لكنها تبقى أحد تحف القصص البوليسية الخالدة. هناك تشابه غريب بين تلك الرواية، ورواية الملاذ لويليام فولكنر، ذلك الكتاب الهام. لكني لم أستطع معرفة أي منهما صدر أولًا. بالطبع، حينما يتحدث أحدهم عن القصة البوليسية، يتبادر إلى ذهني داشيل هاميت. هو الشخص الذي أنشأ مايعرف بالتوهيم ماخلف الروائي، ومنحه أساسات قوية. هو المبتكر العظيم، ومن خلفه المئات من الروائيين. لايفوتني جون ماكدونالد، كونه أحد ألمع الأسماء. كلهم كتاب عظماء ويعملون بمشقة على كتبهم. وربما كل من يتبع تلك المدرسة من الروائيين، مدرسة الأدب البوليسي في أمريكا الشمالية، يُعتبر ناقدًا لمجتمع أمريكا الشمالية الرأسمالي المتداعي. ليس هناك ماهو أكبر من الشجب الذي يظهر في تلك الروايات حول فشل وفساد السياسيين والشرطة، وتأثير المال في المدن الكبرى، والفساد الذي يطفح كل مرة في أجزاء أمريكا الشمالية، والذي يعتري “الطريقة الأمريكية في الحياة”. ذلك الأدب هو الشهادة الأكثر درامية على ذلك العصر. وحتى الآن، لايزال النقاد يعتبرونه أكثر أنواع الرواية سطحية، بما أنهم لم يتناولوها بعين الاعتبار.

 

غويبرت: ماالذي تقرؤه من الكتب الأخرى؟

نيرودا: أنا قارئ للتاريخ، خصوصًا تلك الكتب الأثرية، والتي تتحدث عن تاريخ بلادي. لدى تشيلي تاريخ متفرد. ليس بالطبع بسبب منمنمات الآثار القديمة، والتي لاتوجد هنا، بل لأن شاعرًا ابتكر هذه البلاد، وهو العظيم ألونسو دي إيرثيلا زونيغا، والذي عاش في زمان كارلوس الخامس. كان أرستقراطيًا باسكيًا ممن وصل مع الغزاة الأوائل لإسبانيا، وهذا أمر غريب بما أن أغلب من أرسل إلى تشيلي يكون من المحاربين. كان ذلك المكان هو أسوأ مكان يعيش فيه المرء. جرت الحرب بين الأراكونيين والإسبان هنا لعدة قرون، وكانت أطول حربٍ أهلية في تاريخ البشرية. قاتلت تلك القبائل نصف الهمجية لأجل حريتها ضد الإسبان مدة ثلاثمائة سنة. قدم زونيغا، ذلك الشاب الإنساني، مع أولئك القادة الذين أرادوا أن يحكموا كل القارة، ونجحوا في ذلك، باستثناء هذا الشريط الضيق والمسمى تشيلي. كتب ألونسو ملحمة تدعى لا أراوكانا، وهي أطول ملحمة في الأدب القشتالي، وقد شرف فيها قبائل أراوكانيا المجهولة. أولئك الأبطال المجهولين، والذي منحهم ألونسو أول اسم لهم، قد مدحهم ألونسو أكثر من بني جلدته، المقاتلين القشتاليين. نشرت لا أراكونيا في القرن السادس عشر، وترجمت عن القشتالية، وانتشرت كالهشيم في أنحاء أوروبا. يالها من ملحمة رائعة لشاعر عظيم. حازت تشيلي ذلك التاريخ العظيم والبطولي منذ نشأتها. لم ننحدر نحن التشيليون، كما انحدر عدة أقوام مهجنة من الاسبان والهنود الأمريكيين، من جنود إسبانيين عن طريق الاغتصاب والتنكيل، ولكن عن طريق زواج طوعي أو قسري للأراكونيين مع سبايا إسبانيات خلال سنين الحرب الطويلة. نحن استثناء. بالطبع، يلي ذلك مرحلة استقلالنا الدموي منذ 1810. تاريخ مليء بالمآسي، وبالمعارضات، والنضال تحت أسماء مثل سان مارتين، بوليفار، خوسيه ميغيل كاريرا وأوهيجنس، من خلال صفحات طويلة من النجاحات والإخفاقات. كل ذلك يجعلني قارئًا لتلك الكتب التي أنفض عنها الغبار، والتي تثيرني وتلهمني إلى أقصى حد. تجعلني تلك الكتب نائيًا عن الجميع، أعاني البرد هناك، ضمن خطوط عرض بلادي وصحرائها. سبخاتها في الشمال، وساحلها المزهر، وجبال الانديز الثلجية. هذه بلادي، تشيلي. أنا ممن ينتمون لهذه البلد حتى الفناء، والذي لايمكن أن أتركها للأبد، مهما عوملت بالحسنى في بلاد أخرى. أحببت مدن أوروبا الكبرى، وأقدر وادي آرنو، وشوارع معينة في كوبنهاجن وستوكهولم، وبالطبع باريس، باريس، باريس، ومع ذلك سأبقى مشتاقًا للعودة إلى تشيلي.

 

غويبرت: في مقال بعنوان “معاصريّ”، ينتقد إرنستو مونتينيغرو الناقد الأورغواياني رودريغيز مونيغال، كونه صرح بأنه يتمنى لو يدرس الكتاب المعاصرون في أوروبا وأمريكا الشمالية الأدب اللاتيني ومن يكتبون فيه، إن أرادوا أن يحسنوا أدبهم. شبه مونتينيغرو بتهكم ماقاله مونيغال، كأن نملة تقول لفيل: “هيا، اصعد على ظهري”. ثم اقتبس من بورخيس: “على النقيض من الولايات المتحدة الهمجية، لم تنتج هذه البلاد ( هذه القارة ) أي كاتب ذو مقروئية عالمية، مثل ويتمان أو إيميرسون أو بو. كما لم تنتج كاتبًا عميقًا، مثل هنري جيمس أو ميلفيل.”

نيرودا: لماذا يهم إن كنا نملك أسماء مثل ويتمان أو كافكا أو بودلير في قارتنا أم لا؟ تاريخ إبداعنا الأدبي كبير بحجم الإنسانية كلها. لايستطيع أحد في أمريكا الشمالية برغم أعداد المثقفين الهائل فيها، أو أوروبا برغم تاريخها العريق، أن يقارن نفسه بتنوعنا الثقافي في أمريكا اللاتينية دون كتب، أو يقارن معانيها بمعانينا في التعبير عن الذات. من السذاجة أن يرمي أحدهم أحجارًا في بركة الآخر، وتمر حياته وهو يأمل أن يتجاوز تلك القارة أو الأخرى. بجانب أن هذا الأمر كله لايعدو كونه رأيًا شخصيًا.

 

غويبرت: هل لك أن تعلق على الشؤون الأدبية في أمريكا اللاتينية؟

نيرودا: أي مجلة تصدر من هندوراس أو نيويورك، أو مونتيفيديو أو غواياكيل، تكتشف أنها كلها تقدم نفس الكاتالوج الأنيق لأدب مستلهم من إليوت أو كافكا. هذا مثال للاستعمار الثقافي. نحن لانزال مغمورين بالاتيكيت الأوروبي. هنا في تشيلي، على سبيل المثال، سترى سيدة المنزل وهي تريك أي شيء – أطباق صينية مثلًا – وتقول لك بابتسامة راضية: “إنها مستوردة”. معظم السلع الفظيعة في البيوت التشيلية هذه الأيام مستوردة، وهي من أسوأ الأنواع. تنتج من مصانع في ألمانيا وفرنسا. تلك القطع التي لامعنى لها تُعتببر الأفضل هنا فقط لأنها مستوردة.

 

غويبرت: هل السبب هو الخوف من عدم المطابقة؟

نيرودا: بالطبع كنا كلنا نخاف من الأفكار الثورية أثناء الأيام الخوالي، وخصوصًا معشر الكتاب. في هذا العقد، خصوصًا بعد الثورة الكوبية، أصبح الموقف على العكس تمامًا. يعيش الكتاب تحت رعب عدم تصنيفهم كيساريين متشددين، لذلك تجد بعضهم أشبه برجال العصابات. هناك من يكتب فقط نصوصًا تجعلك تظن أنهم في الجبهة الأولى ضد الإمبريالية. نحن، ممن خضنا هذه الحرب، نستمتع حينما نرى الأدب ينحاز إلى جانب الشعب؛ ولكن، نخاف في نفس الوقت من أن يتحول إلى مجرد موضة، وأن يصير الكاتب من عديمي المقروئية، والتصنيف كيساري متشدد، لأنه لن يمضي في الطريق بذات الثورية. في النهاية، كل أنواع الحيوانات يمكن تواجدها في غابة أدبية. في إحدى المرات، حينما تمت إهانتي لعدة سنوات من قبل أشرار لاهم لهم إلا مهاجمة حياتي وشعري، قلت: “لنتركهم وشأنهم، فالغابة تسع الجميع. إذا استطاعت الفيلة أخذ مساحة مناسبة، وهي تأخذ الكثير من المساحات في أفريقيا وسيلان، فمن المؤكد أن هناك مساحة لجميع الشعراء.”.

 

غويبرت: يتهمك بعض الناس بالعدائية تجاه خورخي لويس بورخيس.

نيرودا: ربما يتخذ ذلك العداء منحى ثقافيًا أو فكريًا نظرًا لتوجهاتنا المختلفة. يستطيع الواحد منا أن يحارب بهدوء، لكن لدي أعداء آخرون عدا الكتاب. بالنسبة لي، فعدوي هو الإمبريالية، وأعدائي هم الرأسماليون ومن ألقوا بقذائف النابالم على فيتنام. لكن بورخيس ليس عدوي.

 

غويبرت: مارأيك بكتابات بورخيس؟

نيرودا: إنه كاتب عظيم. وكل من يتكلم الإسبانية يفخر بتواجد شخص مثله على رأس هرم أمريكا اللاتينية. كان لدينا القليل من الكتاب الذين يمكن مقارنتهم بالأوربيين قبل بورخيس، ولكن لم يكن لدينا كاتب بهذه المقروئية العالمية قبله. لاأستطيع أن أقول بأنه الأعظم، وأرجو أن يتجاوزه الكثير، ولكنه بطريقة ما فتح الطريق وجذب اهتمام أوروبا الأدبي نحو بلداننا. لكن بالنسبة لي، فلن أستعدي بورخيس لمجرد أن الآخرين يودون ذلك. إذا كان يفكر كديناصور، حسنًا، فإنه لن يتعارض مع تفكيري. هو لايفهم شيئًا مما يجري في العالم المعاصر، وهو يعتقد بأني لاأفهم شيئًا كذلك. إذًا، نحن على وفاق.

 

غويبرت: في يوم الأحد، رأينا بعض الشباب من الأرجنتين يعزفون ويغنون قصائد لبورخيس، ألم يبهجك ذلك المنظر؟

نيرودا: تسرني تلك القصيدة كثيرًا، فهي تظهر لي كم أن بورخيس شاعر محْكم – ولنستخدم ذلك المسمى- وذكي ومعقد يمكن له أن يتحول إلى مثل ذلك الشكل الشعبي، وبتلك اللمسة الشاعرية. أحببت قصيدته كثيرًا، ويجب على الشعراء اللاتينيين تقليدها.

 

غويبرت: هل كتبت أي أغانٍ تشيلية فولكلورية؟

نيرودا: كتبت بعض الأغاني المشهورة في هذا البلد.

 

غويبرت: من هم الشعراء الروسيون الذين تفضلهم؟

نيرودا: لعل الرمز المهيمن على الشعر الروسي هو ماياكوفسكي، مثل بثورته لروسيا مامثله والت ويتمان في أمريكا الشمالية. لقد تشرب الشعر حد أن كل قصائده استمرت كونها ماياكوفسكية، وتستطيع أن تعرف ذلك من أول قراءة.

 

غويبرت: مارأيك بالكتاب الروس الذين غادروا روسيا؟

نيرودا: من يرغب في مغادرة مكان فيجب عليه أن يفعل ذلك. هذه مشكلة شخصية تمامًا. ربما يشعر بعض الكتاب السوفييتيين بالامتعاض من علاقتهم بالمنظمات الأدبية، أو من حالتهم المادية والاجتماعية. ولكني لم أر علاقة لاتشوبها الخلافات بين الدولة والأدباء أكثر من البلدان السوفييتية. غالبية الكتاب هناك يفخرون باشتراكيتهم، وبحرب تحررهم ضد النازيين، وبالنسيج الاجتماعي الذي صنعته الاشتراكية. إذا كان هناك استثناءات، فهو أمر شخصي بحت، ويحتاج الاستقصاء وراء كل حالةٍ لوحدها.

 

غويبرت: ولكن العمل الأدبي هناك لايمكن أن يكون حرًا، يجب أن يعكس خط الدولة الفكري.

نيرودا: هذه مبالغة في القول. عرفت الكثير من الكتاب والرسامين هناك ممن لايحابون شخصًا أو آخر في الدولة، وأي شيء يحكى هناك حول هذا الموضوع فهو من قبيل المؤامرة، ولكن الحقيقة عكس ذلك. بالطبع، فكل ثورة تحتاج لحشد قواتها، والثورة لايمكن أن تستمر بدون تنمية. الضجة الناجمة عن التغيير من الرأسمالية إلى الاشتراكية لايمكن أن تستمر دون تحقق مطالب الثورة، وبكل قوات الدولة والمجتمع، وذلك يشمل الكتاب، والمفكرين، والفنانين. فكر بالثورة الأمريكية، أو حربنا لأجل الاستقلال ضد إسبانيا. ماالذي كان سيحدث لو أن أحد الكتاب أو الفنانين وقف بصف المستعمر ؟ لو حدث ذلك، لكنا قد سقطنا وتم اضطهادهم. هذا من أكبر المبررات للثورة لكي تبني مجتمعًا من الصفر (في النهاية، لم يجرب أحد نقل مجتمع من الرأسمالية والخصوصية إلى الشيوعية) أن تحشد طاقات مفكريها. ربما تتعارض الرغبات في مثل تلك البرامج، وعمومًا لايحدث ذلك إلا في السياسة والإنسان. لكن آمل بأنه مع الوقت والاستقرار ستتمكن المجتمعات الاشتراكية من التخفيف على كتابها لأجل التفكير في المشاكل الاجتماعية، ويكون الكتاب قادرين على ابتكار مايرغبونه.

 

غويبرت: ماالنصيحة التي تسديها للشعراء الشباب؟

نيرودا: أوه، لاتوجد نصيحة للشعراء الشباب! يجب عليهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم؛ يجب عليهم أن يواجهوا العقبات لكي يعبروا عن أنفسهم بشكل صحيح ويتغلبوا عليها. مالن أنصحهم به أبدًا هو أن يبدأ الواحد منهم بالشعر السياسي. الشعر السياسي أعمق في مشاعره من أي نوع – على الأقل بقدر حب الشعر – ولايمكن كتابته وأنت مجبر، لأنه سيخرج بشكل مبتذل وغير مقبول. يجب عليك أن تبدع في كل ألوان الشعر وأغراضه لكي تكتب شعرًا سياسيًا. ويجب عليه أن يتلقى الانتقادات بصدرٍ رحب حول خيانته للأدب أو خيانته للشعر. وأيضًا، يجب أن يتسلح الشعر السياسي بالمحتوى والعناصر، وبالثراء الفكري والعاطفي، من أجل أن يتخلى عن نوع آخر من الشعر. وهذا نادرًا مايتحقق.

 

غويبرت: دائمًا ماتقول أنك لاتؤمن بالأصالة.

نيرودا: أن تبحث عن الأصالة في كل القيم هو شرط حداثي. في أيامنا، كان الشاعر يريد أن يجلب الاهتمام لنفسه، وهذا الانشغال السطحي يقضي على خصائصه العصية. كل شخص يحاول أن يجد طريقًا يبرز فيه، لا من أجل العمق أو الاكتشاف، ولكن لأجل التنوع. أكثر الفنانين أصالة ستجده يغير مراحل عمله لكي يجاري الزمان والحقبة التي يعيش فيها. أكبر مثال على ذلك هو بيكاسو، الذي بدأ بإنشاء فنه عن طريق النحت والرسم في أفريقيا أو الفنون البدائية، ثم وجد طريقه الخاص وتحول بقوة جعلت الآن أحد المعالم الثقافية لهذا العالم.

 

غويبرت: ماهي التأثيرات الأدبية على بابلو نيرودا؟

نيرودا: يتبدل الكتاب في دواخلهم بطريقة ما، كما أن الهواء الذي نتنفسه لاينبع من مكان واحد. تنقل الكاتب الداخلي أشبه بتنقله من منزل لآخر: يجب عليه أن يغير الأثاث. يرتاح بعض الشعراء مع ذلك. أذكر فيدريكو غارسيا لوركا حينما كان يسألني دومًا أن أقرأ سطوري وقصائدي، كان يطلب مني التوقف دومًا في منتصف قراءتي وهو يقول:” توقف، توقف! لاتكمل، كي لاتؤثر علي.”

 

غويبرت: لنتحدث حول نورمان ميلر. كنت من أوائل الكتاب الذين تحدثوا عنه.

نيرودا: بعدما صدرت رواية ميلر بفترة وجيزة، والمسماة بـ”العاري والميت”، وجدتها في مكتبة بالمكسيك. لم يعلم أحد بأمرها، وحتى صاحب المكتبة لم يعلم شيئًا عنها، كان دافعي الوحيد لشرائها هو أنني على وشك رحلة، وأود قراءة رواية أمريكية جديدة. ظننت بأن الرواية الأمريكية ماتت بعد العظام الذين بدأوها، الذين بدأوا بدرايزر، وانتهوا بهيمنغواي وشتاينبك وفولكنر. لكني اكتشفت كاتبًا عظيمًا آخر، بألفاظ عنيفة، ومشتبكة بدقة مع قدرة عظيمة على الوصف. لطالما أعجبت بشعر باسترناك، ولكن روايته دكتور زيفاجو تعد مملة إذا ماقارناها بالعاري والميت، ماعدا وصفه الشاعري للطبيعة. أتذكر في ذلك الوقت أنني كتبت قصيدة بعنوان “لتستيقظ فواصل السكك الحديدية”، وتلك القصيدة التي استدعيت فيها شخص لينكولن، كانت مخصصة للسلام العالمي. كتبت فيها عن أوكيناوا والحرب في اليابان، وذكرت أيضًا نورمان ميلر. وصلت قصيدتي إلى أوروبا وتمت ترجمتها، وأتذكر بأن المترجم قال لي بأنه عانى كثيرًا ليعرف من يكون نورمان ميلر هذا. لم يعرفه أحد في الواقع، ولا أزال أشعر بالفخر كوني من أوائل الكتاب الذين اكتشفوه.

 

غويبرت: هل يمكنك التعليق على تأثرك العميق بالطبيعة؟

نيرودا: منذ طفولتي، حافظت على مشاعري العميقة تجاه الطيور والأصداف والغابات والنباتات. ذهبت لأماكن عديدة من أجل أن أرى أصدافًا بحرية، وقد جمعت الكثير منها. كتبت كتابًا بعنوان “فن الطيور”، كتبت عن الحيوانات المنقرضة، الزلازل البحرية، وحتى “زهرة العشّاب”. لاأستطيع العيش بعيدًا عن الطبيعة، ربما أحب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، ولكني أسعد حينما أتواجد بين الأشجار في الغابات، أو على الرمال، أو أثناء الإبحار، وحينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، والهواء.

 

غويبرت: هناك رموز تتكرر دائمًا في قصائدك، وهي تأخذ على الدوام شكل البحر والأسماك والطيور….

نيرودا: لاأؤمن بالرموز. إنها بكل بساطة أشياء كما هي. حينما أقول البحر مثلًا فأنا أعنيه دون أي معنى آخر. ظهور بعض الثيمات في قصائدي هو ظهور مادي لاأكثر.

 

غويبرت: مادلالات كل من الحمامة والغيتار في شعرك.

نيرودا: الحمامة تدل على الحمامة، والغيتار يدل على آلة موسيقية تدعى غيتار.

 

غويبرت: إذًا، فأنت تعني أن من يحاول تفسير تلك الأشياء بغير ماهي ….

نيرودا: عندما أرى حمامة، فإني أسميها حمامة. الحمامة، سواء كانت موجودة أم لا، لديها شكل بالنسبة لي، سواء بذاتها أو شكل موضوعي، ولكنها لاتتجاوز كونها حمامة.

 

غويبرت: قلت عن ديوانك “اقامة على الأرض” مرة بأنه “لايساعد المرء على الحياة، بل يساعده على الموت.”

نيرودا: مثل ذلك الديوان لحظة مظلمة وخطيرة في حياتي. تلك اللحظة كانت الشعر من دون مخرج. كنت أحتاج إلى أن أولد من جديد فقط لكي أتجاوز تلك المرحلة. تم إنقاذي من ذلك اليأس الذي لازلت أجهل عمقه، والذي خلفته الحرب الأهلية الإسبانية، وعدة مناسباتٍ أخرى جعلتني أتأمل. قلت مرة بأنه لو كانت لدي السلطة والقوة، لمنعت انتشار ذلك الكتاب، ولخططت لعدم طبعه مرة أخرى. إنه يضخم الشعور بالحياة كعبء مؤلم، وكشعور قاتل. ولكني أعرف بأنه من أفضل كتبي، وذلك لأنه يعكس حالتي الذهنية. مع ذلك، حينما يكتب الواحد منا – ولاأعلم إن كان ذلك ينطبق على بقية الكتاب – فهو يفكر ماإذا كانت كلماته ستحط على الأرض. كتب روبرت فروست في إحدى مقالاته بأن الألم هو وجهة الشعر الوحيدة: “دعوا الألم وحده مع الشعر”. لكني لاأعلم ماسيفكر به لو رأى شابًا منتحرًا ودمائه تنزف على أحد كتبه. حدث هذا الأمر لي: انتحر شاب بجانب أحد كتبي، وكان مليئًا بالحياة حسب مايقال عنه. لا أشعر حقيقة بالذنب لمقتله، ولكن مرأى تلك الصفحة الملطخة بالدماء لاتجعل ذلك الشاعر يفكر، بل كل الشعراء… بالطبع، سعد أعدائي بهذا الأمر – كما يفعلون دومًا معي – واستفادوا سياسيًا جراء لومي في بلادي، مما أشغل رغبة في لكتابة شعر متفائل وسعيد. هم لم يعرفوا بذلك الأمر، ولم يسبق لي أن تخليت عن شعوري بالوحدة والألم والسوداوية بسبب ذلك الحادث. لكنني أحببت تغيير نبرة قصائدي، أحب أن أجد كل الأصوات، وأطارد جميع الألوان، وأبحث عن قوى الحياة أينما كانت، سواء بناءة أو مدمرة.

مر شعري بجميع المراحل التي مرت بها حياتي؛ منذ الطفولة الوحيدة وحتى العزلة في البلاد النائية البعيدة، عزمت على أن أجعل من نفسي جزءًا من هذه الإنسانية العظيمة. نضجت حياتي، وهذا كل مافي الأمر. كل من نمط الشعراء في القرن الماضي أن يكونوا سوداويين معَذبين، ولكن من الممكن أن يتواجد شعراء ممن يعرفون الحياة ومشاكلها، ومن ينجو من تلك المشاكل بالتعايش مع الحاضر. ومن يهرب من الحزن إلى السعادة الوافرة.