مجلة حكمة
حزن أولمبيو - فيكتور هوجو

حزن أولمبيو – فيكتور هوجو


لم تكن الحقول غبراء، ولا السماء كدراء حين أقبل يقضي ذمام هذه الربوع التي سال في ثراها قلبه الجريح المثخن وإنما كان ضوء النهار يتألق في أفق لازوردي غير محدود، ويتدفق على بساط من أديم الأرض ممدود. وكانت النسائم عابقة بالعطور، والمروج حافلة بالخضرة والزهور.

وكان الخريف طلق الجوانب، والسماء مذهبة الحواشي، والربى حانية الخمائل المونقة على السهل وقد ضربت في خضرتها صفرة قليلة. والطيور هاتفة بأغاريدها الشجية القدسية ووجوها إلى الله الذي ينم عليه كل كائن، ويسبح بحمده كل شيء، كأنما كانت تقول له شيئا عن الإنسان!!

أراد الولهان أن يرى كل شيء: يرى الغدير الطامي الذي يصطفق بجانب العين، والطلل البالي الذي استنفد ما في كيسيهما بالصدقة، وسرحة الدردار العتيقة المعوجة وخلوات الحب في أجواف الغاب المترامية، والشجرة التي استغرقا تحتها في القبلات فذهلا عن كل شيء.

بحث عن الحديقة والبيت المنعزل والبستان الحادر، والدرابزون الذي يغيب البصر من خلاله في ممشى منحرف. وكان يمشي متكسر الوجه من الحزن، شاحب اللون كثير الهم فيرى وا أسفاه لدى كل شجرة شبح الأيام الخوالي يقوم منتصبا على وقع خطاه المتئدة الثقيلة!

تجول طول النهار على طول المسيل وقد ملك إعجابه وجه السماء الضاحك، ومرآة البحيرة المصقولة. ثم قيد بصره ما راعه من صور الطبيعة في الحقول، فتأملها مليا ثم ذهب مع أحلامه حتى المساء. تجول طيلة النهار ذاكراً والهفي عليه مخاطره اللذيذة ناظرا من أعالي السوج دون أن يجرؤ على الولوج كأنه صعلوك من صعاليك الهند. فلما آذنت الشمس بالمغيب أحس في صدره وحشة القبر وفي قلبه لوعة الهم، فجأر بالشكوى وهتف بالنجوى يقول:

أيها الألم! لقد أردت أنا المشترك الخاطر المسعور الفؤاد أن أعلم هل الإناء لا يزال محتفظا بالسائل؟ وان أرى ماذا فعل هذا الوادي السعيد بما خلفت فيه من قلبي؟ ما اقدر الزمن اليسير على أن يغير كل شيء! ايه أيتها الطبيعة ذات الوجه الضاحك والجبين الأغر! ما أسرع ما تنسين! وما أشد ما تقطعين العلائق الخفية التي تربط قلوبنا بكثرة استحالاتك وتغير حالاتك! أن غرفنا التي اتخذناها من ورق الشجر الألف قد تهدمت. والشجرة التي حفرنا عليها اسمينا قد ماتت أو تحطمت. وورودنا النابتة في الحظيرة قد عبثت بها أيدي الأطفال الذين يقفزون فوق الحفرة! والعين التي كانت تشرب منها ساعة القيظ وهي هابطة من الغاب قد قام على موردها جدار!! لله ما كان اجمل يدها حين كانت تغترف بها الماء ثم تدعه يتساقط من خلال أصابعها كنثير اللؤلؤ الرطب!!

لقد رصفوا الطريق الغليظ الوعر الذي كنا نسير فيه جنبا إلى جنب فترتسم على رمله النقي قدمانا، ويكون أثر قدمك الرقيقة الأنيقة بجانب قدمي سخرية حسناء، وضحكة استهزاء!! والحاجز الحجري الذي قام على حد الطريق حقبة طويلة ذلك الحاجز الذي كان يحلو لها أن تجلس فوقه في انتظاري قد هد ركنه اصطدام العجلات الموقرة بالأعباء، وهي آيبة تئن في المساء!! والغابة أصبحت حطاما هنا وبسقت أدواحها هناك! ولم يكد يبقى من كل ما حللناه وتقمصناه شيء حي! وأكداس الذكريات تبددها الرياح الأربع ككومة من التراب الخامد البارد قد ألوت بها الريح الدبور!! وا ويلتاه! ألم يعد لنا إذن وجود؟ هل مضت مدتنا وانقضت لذتنا؟ أما يرجعها إلى صرخاتنا الضارعة الضائعة شيء؟

النسيم يداعب الغصون وأنا أبكي! ومنزلي ينظر إلى ولا يعرفني! والآن سيمر غيرنا من حيث مررنا، وسيرد آخرون هذا المورد الذي عنه صدرنا، والحلم الذي بدأناه سيواصلون رؤياه، ولكنهم مثلنا لا يستطيعون أن يبلغوا مداه! وذلك لأن الناس في هذه الحياة لا ينعمون ولا يكملون، سواء في ذلك الخبيثون والطيبون. وسيستيقظون جميعا في مكان واحد من الحلم، إذ كلهم يبدءون في هذا العالم ثم يتممون في غيره. أجل ستأتي نوبة آخرين، فينعمون في ظلال هذا الكون الساكن الآمن الفاتن بما وهبت الطبيعة للحب من خيال وجلال ولذة! وسيرث غيرنا حقولنا وطرقاتنا وخلواتنا، ويستولي من لا تعرفين على غابتك يا حبيبتي! ويقبل بعض النسوة الهوج إلى هذا الماء يبتردن فيه فيكدرن غمره الذي لمسته قدماك العاريتان فتقدس!

يا الله! إذن ذهب الحب الذي أحببناه في هذا المكان باطلا! ولم يبق لنا شيء من هذه الربوات المزهرة التي امتزج فيها لهبانا فانصهر بهما جسمانا واتحد قلبانا. هيهات قد استرجعته الطبيعة التي لا ترحم ولا تتألم! بالله! نبئنني أيتها المسايل الممرعة، والجداول المترعة، والعرائش الموقرة بالعناقيد، والأغصان المثقلة بالأعشاش والأغاريد! وخبرنني أيتها المغائر والآجام والأدغال! هل تطربن قلباً غير قلبنا بهذه الأغاني، وتناغين حباً غير حبنا بهذه الأناشيد؟ لقد كنا ندرك مرامي كلامك، ونجعل مشاعرنا كلها أصداء لرجع أنغامك، ونرهف أسماعنا لالتقاط ما يبدر أحياناً من بليغ شعرك، دون أن نميط الحجاب عن خبيئة سرك!

أيتها الطبيعة المجلوة في هذا الخلاء الجميل! متى رقدت أنا وهي تحت صفائح القبر فهل تظلين جامدة أمام موتنا وموت حبنا، توالين حفلاتك وأعيادك، وتواصلين بسماتك وإنشادك؟ ألا تقولين لطيفنا إذا ما رأيتهما يجولان بين رباك وخلواتك، وفيما ألفا من جبالك وغاباتك، ما يقوله جميع الأصدقاء لإخوانهم القدماء من سرائر القلب ونجاوى الضمير؟ هل تستطيعين أن تري دون أن يلوعك الحزن ويرمضك الأسى شبحينا يطوفان بمواقع خطواتنا، ومواضع خلواتنا، وأن تريها تقودني في عناق مكتئب إلى ينبوع منتحب يئن في خفوت وهمس؟ وإذا ما لجأ عاشقان إلى جوارك، واختفيا عن العواذل تحت ستارك، وخبآ سرورهما بين أزهارك، فهل تسرين إليهما هذه الكلمة:

(أيها الراتعان في رياض الحياة! اذكرا من طوح بهما الدهر في قفار الموت!)

لعمرك ما هذه المروج والعيون والغابات والسماوات والبحيرات والسهول والحزون إلا عادة مستردة! يعيرنا الله إياها لحظة من الزمن لنضع فيها قلوبنا وأحلامنا وغرامنا ثم يستردها. ثم يطفئ بعد ذلك سراجنا ويدفن في حلك الليل شعاعنا. ثم يوحي إلى الوادي الذي انطبعت فيه صورنا ونفوسنا أن يطمس آثارنا، ويمحو أسماءنا وأخبارنا.

لا بأس!! أنسينا أيتها الدار! وانكرينا أيتها الحديقة! ولا تذكرينا يا ظلال! واحتل عتبتنا يا عشب! وغط آثار قدمينا يا عوسج! وغردي أيتها الطيور! وتدفقي أيتها الجداول. وتكاثري أيتها الأوراق. فان الذين طويتم صحيفة ذكرهما لا ينسيان! وكيف ننسى وانتم خيال الحب نفسه! أنتم الواحة التي يلاقيها المسافر في وقدة الصحراء، والخلوة العظمى التي بكينا بها أحرّ بكاء، وكل منا يده في يد الآخر! كل الأهواء تمضي مع العمر. بعضها يحمل نقابه وبعضها يحمل مديته كدبر النحل يسافر جذلان شاديا وجماعته تضمحل وتقل وراء الأكمة.

إلا إياك أيها الحب فلا شيء يمحوك! أنت السحر وأنت الفتنة! وسواء أكنت مشعالا بدويا أم مصباحا حضريا فأنت الذي تشرق في العيون وبين الضلوع، وتستولي علينا بالبسمات وخاصة بالدموع! أن الناس في الشباب يلعنونك، ولكنهم في المشيب يعبدونك!


المصدر: حزن أولمبيو لـفيكتور هوجو، ترجمة: ابن عبد الملك – (الرسالة 1933م)