مجلة حكمة

حدود ومحدودية السجال الإيديولوجي: قراءة في “نقد الفكر اليومي” لمهدي عامل – كمال عبداللطيف

مجلة الجابري – العدد الأول


استهلال

اسمحوا لي في البداية، أن أعبر عن اعتزازي الكبير، بمشاركتي في هذا اللقاء الرمزي، الذي لا أتحرج في أن أطلق عليه، لقاء الاحتفاء بالفكر المستقبلي، في الثقافة العربية المعاصرة(*).

إن قراءة آثار مهدي عامل، في إطار الأوضاع العربية الراهنة، وبمناسبة ذكرى محددة، تشير إلى مرور عقد من الزمان، على امتداد يد الظلام إليه، يبعث في النفس العزة والأمل، والوفاء والتفاؤل، والثقة في التاريخ. وهي كلها قيم كان مهدي عامل يؤمن بها، وقد عمل طيلة حياته القصيرة، على الاسترشاد بها، فيما أنجز من أعمال، وترك من آثار. ونحن نجتمع اليوم لنقرأ آثاره، في ضوء أسئلة حاضرنا بمختلف مستجداته، نشعر بكثير من القرب منه، ومن سيرته الفكرية المكافحة، ومسيرة حياته المناضلة. فقد استطاع المواءمة بين المثقف والمناضل، وقدم من خلال تجربته في الفكر وفي الحياة، نموذجاً فريداً، يحق لنا في مثل هذه المناسبة، أن نراجعه، أن نعيد التفكير فيه، أن ننتقده، أن نستعين به ونحن نواجه معارك الحاضر، ونتطلع إلى المستقبل. إننا بهذا العمل نحتضن شجرته اليانعة والمثمرة، نسقيها بما يهب جذورها مزيداً من الامتداد في الماضي، والاستطالة في الأعالي، ليظل بيننا مهدي، في نص من نصوصنا، وفي سؤال من أسئلتنا، وفي خلاصة أولية يستقر عليها الرأي، ليطالها السؤال بعد حين، فنكشف محدوديتها، ونعيد التفكير فيها، بجدلية لا تتوقف، جدلية قادرة على خلخلة سواكن ثقافتنا وتحريكها، في أفق التغير والتغيير، لبناء فكر مطابق لطموحاتنا التاريخية الكبرى. لنستعر هنا جملة لمهدي عامل يقول فيها:

“فليدخل الفكر المناضل في صراع، يستحث الخطى في طريق الضرورة الضاحكة”.1[1]قلت لنردد معاً هذه الجملة، ونحن نتحدث معه عن الضرورة الضاحكة، أو الضرورة المغتبطة، تعبيراً عن تفاؤلنا التاريخي، واعتزازاً بالأثر الذي بلورته تجربته في النضال، من أجل توطين الماركسية، في الفكر العربي المعاصر.

بعد هذا الاستهلال التحية، أعود إلى الموضوع الذي اقترح علي من طرف اللجنة التحضيرية للندوة، أقصد بذلك قراءة كتاب “نقد الفكر اليومي” لمهدي عامل. رغم تحفظي في البداية، على إنجاز هذا العمل بالذات، ورغبتي بالمشاركة إما بعرض عام حول الماركسية العربية، في وجه من أوجهها المتعددة، وذلك بحكم اهتمامي بالموضوع، ومعاينتي لنصوص بعض ممثلي هذا الفكر، في الثقافة العربية المعاصرة. أو تقديم ورقة حول جهود مهدي عامل، في تجديد الماركسية العربية، من خلال قراءة مصنفاته الأخرى، في مجال البناء النظري. أقصد بذلك مصنفاته: “في التناقض”، “في نمط الإنتاج الكولونيالي”، وفي “المسألة الطائفية”. إلاّ أن إلحاح الأخ كريم مروة باسم اللجنة التحضيرية للندوة على موضوع “نقد الفكر اليومي”، بناء على المخطط العام للندوة، شجعني على قبول المغامرة، فقرأت النص أولاً، وأعدت قراءة فصول من أعماله الأخرى، ثم أعدت قراءة النص ثانية، وأثمرت القراءة هذه المحاولة التي تتجه للامساك بخيط محدد داخل مساحة النقد، في هذا الكتاب. يتعلق الأمر بالسقف النظري للسجال في النص، حدوده ومحدوديته.

النص المبتور، النص المفتوح: نحو إعادة ترتيب محتوى النص

عندما نقسم كتابات مهدي عامل، إلى الكتابات النظرية الرامية إلى المساهمة في تأسيس مجال النظر الماركسي، في الفكر العربي المعاصر، والكتابات السجالية المتجهة لمحاصرة تيارات معينة، في الفكر العربي، بهدف دعم وتعزيز الفلسفة المادية والتاريخية داخل هذا الفكر، ندرج كتاب “في التناقض” و “حول نمط الإنتاج الكولونيالي” و”في المسألة الطائفية” ضمن الخانة الأولى، رغم أشكال الاختلاف والتنوع القائمة بين هذه المصنفات. ونحن نعتبر كتابه “أزمة الحضارة العربية، أم أزمة البرجوازية العربية”، وكتاب “هل القلب للشرق والعقل للغرب، ماركس في استشراق ادوارد سعيد” و”نقد الفكر اليومي” ضمن الخانة الثانية2،[2]وهذا الكتاب الأخير بكل المعايير، هو جزء ثان للنقد الذي بلوره المصنف الذي انتقد فيه الباحث، ندوة الكويت الشهيرة، »أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي«.

ما يميز “نقد الفكر اليومي”، عن نقد المؤلف لندوة الكويت الآنفة الذكر، هو أن كتاب “نقد الفكر اليومي” لم ينشر من طرف المؤلف، ولم يقم مهدي بتحرير مقدمته الكاشفة، ولا بترتيب فصوله، ووضع خلاصاته الجامعة، حيث يعود الفضل في نشره بالصورة التي هو عليها، إلى لجنة نشر تراث مهدي عامل، التي بذلت جهداً يستشعره كل من يقرأ النص بترو، حيث يكتشف العناية الكبيرة بترتيب الموضوعات وتقسيمها وعنونتها، إضافة إلى المقدمة الوافية، التي صاغت فيها اللجنة حيثيات الجمع والتنظيم ثم الترتيب والنشر.

لهذا النص ظاهر معين في فصوله، وفي ترتيبها، ومعين كذلك في عدم اكتمال جزئه الأخير، حيث يدشن الكاتب أسئلة أخرى، ومجالات أخرى للسؤال والمساجلة. وهو مقسم إلى خمسة أقسام، مبوبة بالتتابع الآتي: ملاحظات أولى، في الفكر العدمي، الفكر الظلامي، الفكر البرجوازي المتأسلم، في عدم وجود نمط معَيّن للإنتاج الإسلامي. لكن هذه الفصول، في تتابعها وفي تقسيماتها وتفاصيلها، تندرج ضمن رؤية محددة، في المقاربة والمعالجة، وهي تتخذ نمطاً بعينه في الكتابة، يمكن أن نطلق عليه بناء على توصيفنا الأول لآثار مهدي عامل، النمط السجالي في الكتابة.

نستطيع النظر إلى محتوى الكتاب، خارج التدقيقات التي رَتَّب في إطارها جامعو وناشرو النص، فهو نقد لمختلف تجليات الثقافة العربية المعاصرة غير الماركسية، نقد لبعض مظاهر الفكر الليبرالي والفكر السلفي، وفكر النزعات الإسلامية، وتيارات الإسلام السياسي، وبعض مظاهر وتجليات الثقافة العربية، المنفتحة على آليات القراءة السياسية غير المتحزبة، والقراءات التاريخية لبعض جوانب ومجالات التراث الإسلامي، إلى غير ذلك من النصوص والمقالات والمحاولات والكتب، التي سعى مهدي لمحاصرتها بمبضع التحليل والنقد، واعتماداً على جملة من المبادىء والقواعد والأوليات، المستمدة أولاً وقبل كل شيء، من قراءة محددة للفلسفة الماركسية.

وقد لا نجانب الصواب، إذا ما قلنا إن “نقد الفكر اليومي”، يبلور جهداً ماركسياً في نقد بعض أوجه الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وذلك من خلال نقد عينة من كتابات مثقفي الشام، باعتبار أن أبرز الأسماء المنتقدة، تنتمي بالدرجة الأولى إلى لبنان وسوريا، ومقالاتها منشورة على صفحات الجرائد والمجلات ودور النشر البيروتية. هذا رغم وجود إشارات وأمثلة أخرى، تتعلق بباحثين ومثقفين من الأردن وفلسطين والعراق، لكن العينة المنتقدة في أغلبها لبنانية.3[3]

يبلور “نقد الفكر اليومي”، محاولة بل محاولات في نقد كيفيات مواكبة الثقافة العربية، لقضايا الصراع السياسي والأيديولوجي، في الحاضر العربي، وهو نقد يواجه فيه الكاتب، مختلف مدارس وتيارات الفكر السياسي العربي المعاصر، بِعُدَّةٍ فكرية محددة، بهدف كشف تهافت هذه التيارات، ودحض مواقفها، والدفاع على أسلوب معين في التحليل، يعتقد الكاتب بنجاعته وعلميته وتاريخيته وماديته وصوابه، دون أن يرى أي حرج، في نعت الآخرين بمختلف النعوت، لمصلحة تيار في الفكر وفي الفلسفة، يعلن أنه التيار الأصلح والأبقى والأفضل، لمعرفة الحاضر، ومقاربة التاريخ، وترتيب كيفيات تحقيق المأمول، »الانتقال الثوري إلى الاشتراكية”.4[4]

ليس من السهل مقاربة هذا النص، فهو يخوض في قضايا خلافية متعددة، ينتقد ما يسميه الفكر العدمي في المجال السياسي، ويُشَرِّحُ الأيديولوجيا الظلامية والثقافة البرجوازية، والنزعات الإسلاموية الجديدة والمستجدة. لا يكل ولا يمل، يحلل يستنطق النصوص، يسخر، يُذَكِّر بمقدمات الرؤية المادية، يجتهد لبلورة مقاربة جديدة لتاريخ مجتمعات لا تتوفر بالضرورة، بنياتها الاقتصادية والاجتماعية على معطيات تجعلها قريبة من نمط الإنتاج الرأسمالي، وآلياته في العمل والإنتاج والأيديولوجيا.

ينفي، يقرر، يستنبط، يُعْنَى بالصياغة، كما يعنى بدقة العبارة، يُشَدِّدُ على بعض الجمل والمفاهيم والأدوات المنهجية، يستطرد، يشير إلى مجالات في البحث دون أن يتوقف عندها. لنقل إننا أمام نص يقظ، يفكر فيما ينتقده، ويقوم بدحض أطروحاته مفاهيمه، مقدماته، توجهاته العامة. وإن شئنا الدقة، قلنا إننا أمام “تمارين في الإنشاء”، ليس بالمعنى الانتقادي الذي يوردها به الباحث، أثناء نقده لمقالات موسى وهبة، بل بالمعنى الإيجابي، الذي بلورته الكتابة الفلسفية المعاصرة، حيث أصبحت مسألة الإنشائية، تعد جزءاً من امتياز الكتابة المعاصرة، وحيث تقوم قيمة كثير من النصوص في الفلسفة المعاصرة، على كفاءتها التعبيرية الاستعارية، التي تجعلها تبني بالرصيد اللغوي نصوصاً فاتنة، يتداخل فيها سحر المكتوب بإيحاءات الدلالة المفتوحة.

وقد أصبح من الثابت اليوم، أن وعاء النظر يعتبر جزءاً من النظر، وكفاءة التطريز اللغوي، غير المتحذلقة، تعتبر دليلاً على حيوية في الفكر، لا ينبغي الاستهانة بها. ثم إن التمييزات التقليدية بين نص إبداعي ونص فكري أو علمي، لم تعد صحيحة دائماً ولا دقيقة تماماً، في زمن التناص والقراءة والتأويل، وتداخل المناهج، واستعارة المفاهيم، فقد وَلَّدت هذه المعطيات ثورة أخصبت كثيراً من مجالات الفكر المعاصر.

النقد في النص معركة أيديولوجية

يقوم النقد في “نقد الفكر اليومي”، بوظيفة محددة، إنه يتجه لمحاصرة أوجه متعددة من المقالة السياسية والفكرية والتاريخية، المعبرة عن تجليات الجدل القائم، في فضاء الفكر العربي في حركيته اليومية، حيث يقوم الكاتب بكشف خلفياتها النظرية، وأبعادها المعرفية، ليصل إلى إبراز علاقتها بالفكر السائد في المجتمع، موضحاً دورها الوسيط، في لحم الصراعات الطبقية، لمصلحة الطبقة السائدة، سياسياً واقتصادياً، الطبقة التي تجد في النصوص والمحاولات المنتقدة، ما يسند وجودها، بعدم نقض طبقيتها، استغلاليتها وتبعيتها، لمراكز الرأسمالية الإمبريالية العالمية.

لا يحترس الباحث أثناء اختياره للنصوص، لا يفاضل، يخاصم الجميع، يُقَارِع كل أنواع الخصوم، مهما تباعدت واختلفت أساليبهم في النظر، وهو بهذا الموقف لا ينتبه إلى موقع أقدامه، بل لعله لا يراها. يستنفر حاسته النقدية إلى حدودها القصوى، فيندفع في تقطيع النصوص والجمل والأمثلة والإشارات، تستهويه لعبة التمرين الإنشائي الملعونة والممارسة، في الآن عينه، فيقوم بها بكثير من التفاني، فتصبح العبارة المركبة والمحبــوكة، سيـدة المكتوب بامتياز، وخلفها يحتمي الكاتب بمنطق معين لا يحيد عنه.

تسلم نصوص “نقد الفكر اليومي”، باكتشافها لمفتاح سحري جاهز، في أغلب الأوقات، وفي أغلب النصوص المتضمنة في الكتاب، مفتاح قادر على فك المغلقات. يتمثل هذا المفتاح، في مقدمات الفلسفة المادية التاريخية، في نمطيتها النصية (بعض مفاهيم ماركس)، مدعومة ببعض جهود المعاصرين، أمثال شارل بتلهايم، التوسير، بولنتزاس وغيرهم.

يخاصم الكاتب الجميع، استناداً إلى المفتاح المذكور، يستعمل أدواته، مفاهيمه وفرضياته الكبرى، وبعض خلاصاته، لمقارعة مختلف عينات الخصوم، لا يقيم أي تمييز كما قلنا، بين هذا وذاك، فكلهم وبدون استثناء، يمثلون بأساليبهم المختلفة، فكر الطبقة والطبقات المسيطرة، الفكر الذي يتوخى تحييد الوعي، تأمين استسلامه، إلى غير ذلك من الصفات التي يطلقها الكاتب على النصوص المنتقدة وأصحابها.

لكن من أي موقع ينتقد مهدي عامل كل هذه النصوص، وبهذه الثقة والوثوقية؟ يتجه النقد في أغلب المحاولات المنتقدة، وهي في مجملها مُسْتَلَّةٌ من الصفحات الثقافية لجريدتي “السفير” و”النهار” البيروتيتين، لكشف وظيفتها في الصراع الدائر في الراهن العربي اللبناني، حيث تقوم في نظره، بالتشكيك في العقل وفي العلم والتاريخ والسياسة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تهميش الفعالية النظرية الثورية للإنسان، الفعالية التي تقضي بضرورة مواجهته لواقع الصراع الطبقي، في زمن ومرحلة، يطلق عليها الكاتب »مرحلة الضرورة السياسية، في أن تحتل الطبقة العاملة، موقع القيادة الطبقية، في حركة التحرر الوطني”.5[5]

البديل والهدف واحد ووحيد، البديل ليس جبهة ثقافية، ليس اختياراً مفتوحاً على المستقبل، تتضافر جهود متعددة ومختلفة لبنائه وتشكيله. البديل أيديولوجي بالمعنى الذي يستعمله الكاتب للمفهوم، أي بالمعنى الذي يرادفه فيه بالعلم والعلمية، عندما يقول في لغة شعاراتية تبشيرية، »إنه زمن الفكر العلمي، في عصر الثورات الاشتراكية«. سقف النقد يتحدد في ماركسية بعينها، تخاصم الأفكار والأزمنة، وتصنع الأوهام بلغة تنتقد الأوهام، ولا تدري أنها تُعَلِّبُ الأفكار في قالب متحجر، رغم مساعيها وأمانيها الجميلة في إعادة تأسيس بعض المفاهيم، داخل دائرة العقيدة، لا داخل صيرورة تاريخ الفلسفة.

مقدمات وخلاصات

يتخذ ظاهر النص، ومنطوقه المباشر، وطريقته في النقد، شكلاً سجالياً محدداً، فهو يتجه كما بينا لنقد نصوص ومواقف وآراء، كمايحاول محاكمة طريقة وأسلوب في الفهم والعرض والتفكير، ولا يخفي تحفظه من لغة ومفاهيم وأطروحات ظاهرة أو مضمرة ومتضمنة في النصوص والمقالات المنتقدة، إضافة إلى قدرته على سبر خلفيات وموجهات هذه النصوص النظرية، والفلسفات الضمنية أو العفوية التي تتمركز خلفها، بوعي أو بدون وعي. إلا أن هذا الظاهر، قد لا يسمح للدارس باستيعاب مرمى الكاتب، وغاية النص. من هنا أهمية تجاوز تسلسله الظاهري، وفصوله المرتبة بناء على معايير التماسك والتكامل، التي ارتضتها اللجنة الجامعة والناشرة للنص، وتلمس الطريق في اتجاه إعادة صياغة المقدمات التي ينطلق منها النص.

إن قراءة كاشفة لطبيعة النقد في النص، مطالبة بالإصغاء أيضاً إلى خلاصاته، التي لا تتوفر بشكل جاهز في النص، رغم استوائها بين تناياه. ومطالبة في الوقت نفسه، بالوقوف على البدائل التي يصوغها أو يحيل إليها، أو يلمح إلى جوانب منها، في عبارة سريعة، أو جملة ختامية، أو كلمة تصدر في بداية النقد، أو تغيب بين تلافيف الجمل والفقرات والكلمات.

يظهر النص معطيات، ويخفي ما يعادلها أو يفوقها، ذلك أننا نفترض أن بعض أجزائه ربما كتبت أثناء أو قبل بعض كتب المؤلف الأخرى، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إمكانية النظر إلى بعض أعمال الكاتب باعتبارها مقدمات أو خلاصات ونتائج لهذا النص، لا لأنه يُذَكِّر بها، في سياق نقده، أو في هوامشه، أو يستعيد بعض جملها وموضوعاتها أثناء تحليله ونقده، بل لأن الكتاب خصص لقضية محددة، قضية نقد التيارات الأيديولوجية، التي تؤكد حضورها اليومي، في الصحف اليومية السيارة وملاحقها الثقافية، بهدف ترسيخ اختيارات في الفكر وفي السياسة، في الاقتصاد وفي التاريخ، خدمة لمصالح طبقة محددة، رغم إعلاناتها المتكررة، بكونها تفكر في استقلال عن السياسة والتاريخ، وهو الأمر الذي لا يقبله مهدي عامل تماماً، لأنه لا يستطيع قبول مبدأ مجانية الفكر أو الأيديولوجيا، في حلبة الصراع التاريخي.

انطلاقاً من كل ما سبق، بدا لنا أن مراجعة جدية لمحتوى الكتاب، تتطلب تعيين الموقع الذي اتخذه صاحبه أثناء كتابته، فبدون تعيين هذا الموقع، قد لا ننجح في استدراج النص للبوح بكل ما فيه. وهنا يمكن القول إن مهدي عامل، أنجز نصوص هذا الكتاب مستعينا ببعض معطيات الفلسفة المعاصرة والفلسفة الماركسية بالذات. ومن جهة ثانية فإن الرصيد المعرفي الماركسي، المُؤَطِّر والمُوَجِّه لمقالات الكتاب، مهووس أيضاً بحس المناضل السياسي الشيوعي، المنخرط في ممارسة حزبية محددة، ومشروطة بجملة من الشروط، ضمن سياق تاريخ معين يمثله رصيد الحزب الشيوعي اللبناني وتحدد بعض جوانبه طبيعة الممارسة السياسية الحزبية في لبنان. لا يمكن في نظرنا أن نقرأ هذا النص، خارج هذين المحددين، بمختلف لويناتهما الدقيقة، رغم صعوبة تقدير مساحة حضور الموقعين المذكورين في النص، وذلك بطغيان الواحد منهما على الآخر، داخل النص الواحد، وعند المقارنة بين نص ونص.

عندما نسلم بهذا، تزداد صعوبة النص، لكننا عندما نقوم باختزال أهم وأبرز مقدماته، ثم أهم خلاصاته ونتائجه، نتمكن من الإحاطة به، فيسهل علينا إذ ذاك تعيين حدوده، لننظر بعد ذلك، في الجهد النظري الأيديولوجي المبذول فيه، ونقف على محدوديته، التي تتجاوز مهدي عامل كشخص وكنص، وتتجاوز الحزب المناضل، الذي كان ينتمي إليها، لتعكس خصوصية حقبة تاريخية، في النظر وفي الممارسة الماركسية، في الوطن العربي، وربما في العالم، وهو ما يجعل النص ينفتح على قضايا، قد لا نكون مؤهلين للخوض فيها، بحكم تكويننا وتجربتنا.

لعل أبرز مقدمة في النص، تتمثل في المبدأ الماركسي، الذي صاغته الألتوسيرية بدقة، وذلك عندما تحدث التوسير عن الفلسفة، باعتبارها صراعاً طبقياً في مستوى النظرية. تقف هذه المقدمة، خلف مختلف النماذج النصية المستعرضة والمشرحة في الكتاب، فمقالات المثقف العدمي، ومحاولات المثقف “المتأسلم”، ونصوص المثقف الوسطي، المتأرجح بين الأفكار والمناهج والاختيارات، والذي يختار في النهاية، في نظر الباحث، الموقع الذي يخدم مصالح الطبقة السائدة.

أما المقدمة الثانية6،[6]فتتمثل في قناعة الكاتب، بأن زمننا هو “زمن الفكر العلمي في عصر الثورات الاشتراكية”7،[7]ويعكس هذا المبدأ، تفاؤل الكاتب من جهة، التفاؤل الذي يغذي حساسيته السياسية، وإقدامه على الانخراط النضالي، في صفوف تيار سياسي محدد، كما يعكس من جهة ثانية، فهماً معيناً للمشروع الاشتراكي.

وتتمثل المقدمة الثالثة، في نظرته المختزلة لوظيفة الفكر في التاريخ، الوظيفة التي تحصر مهام النظر الإنساني، في العمليات الفكرية الأيديولوجية، المواكبة والمصاحبة للانخراط السياسي المتخرب، لمصلحة تطور في التاريخ، مرسومة ملامحه العامة سلفاً.

وهذه المقدمة، تستشف من نقده للنصوص، التي عمل على تحليل وتقويض مرجعيتها ومقدماتها، وهي مستمدة من قراءة محددة للماركسية، قراءة تراوح الخطو بين جهد في الإبداع، يغامر بتمثل روح الماركسية، ويعود في الآن نفسه إلى شواهدها، دون أن يتمكن من مغادرة الحصون، المحكومة بمتغير التاريخ، والتي تقتضي عند الوفاء لمنطقها الداخلي، استئناف الإبداع، بناء على قواعدها، لاكتشاف منطق التاريخ، وآليات الصراع، وأدواته، ثم تعميم الروح الفلسفية المادية والتاريخية، على قاعدة أن العلم يُتَجَاوَزُ في التاريخ، وأن المكاسب المعرفية المرحلية، لحظات في سجل المغامرة المبدعة، لإنسانية ما تفتأ تكافح، من أجل تَمَلُّكِ القدرة على صناعة مصائرها، وفق مشيئتها، وبناء على ما ترسم من خطط، وتصوغ من برامج.

إن انطلاق مهدي من هذه المقدمة، يعكس نصيته ووثوقيته بكثير من الجلاء، رغم خلو نصه من الشواهد النصية المباشرة، واكتفائه باستعادة المبادىء العامة، دون نقل للرسوم والشواهد. ينطلق النص، من مقدمة رابعة، تسلم بمنظور معين للعلم وللحقيقة والتاريخ، منظور يستمد كثيراً من عناصره، من الفلسفة الماركسية، مقروءة تحت تأثير هواجس نضالية، يحضر فيها السقف العقائدي، أكثر ما يحضر الهاجس المعرفي المفتوح والمنفتح، والمسنود بالنظرة النسبية للفكر وللتاريخ. بل لنقل يحضر فيه المثقف المتحزب، أكثرمن مثقف “في التناقض”، الراغب في المساهمة في التأسيس النظري. يغيب فيها المثقف الساعي إلى بناء تصور تاريخي مُحَدِّد لنمط في الإنتاج، يرسم ملامح الصراع، في المجتمعات المستعمَرَة سابقاً، انطلاقاً من المعطيات والمعارف، التي بلورتها العلوم الإنسانية، في مجال الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، دون سقف نصي، محكوم بزمن لم تكن معطياته تسمح بتولــيد وبــناء معــرفة منــاسبة، لــزمن آخر يتوفر على معطيات أكثر وأوفر، وخبرات تاريخية أوسع.

توجه المقدمات الآنفة الذكر، آلية النقد والبرهنة والاستدلال في النص، لهذا يتجه النقد، لكشف منطق المثقف العدمي، منطق التماثل، ومنطق التجريد. والتجريد في نصوص هذا المثقف، كما يوضح ذلك مهدي عامل، يلغي الطابع الطبقي والطابع التاريخي للصراع، انهما معاً (التجريد والتماثل) يلغيان الاختلاف والتناقض8.[8] أما المثقف العدمي، فإنه في نهاية التحليل، يخدم المصالح الطبقية القائمة، وذلك باستقالته عن العمل السياسي. إضافة إلى أنه يشكك في جدوى العقل، ومعنى التاريخ، ولعله يمارس السياسة خفية، دون أن يدري، »فمن عادة أيديولوجيات الطبقات المسيطرة جميعاً، أن تقول السياسة مواربة”9.[9]يلتقي المثقف العدمي بالمتأسلم الظلامي، بممثلي الفكر الغيبي، وغيرهم، دون تدقيق في التسميات، ولا ضبط لمحتوى المُسَمَّيَات، حيث، تترادف الظلامية بالتأسلم، ويُرادِف المثقف الغيبي، المثقف العدمي، في عمليات توصيف سريعة، لا تُكلف نفسها عناء التوقف، لتدقيق دلالات التسميات والمصطلحات، رغم عنايتها المفرطة باللفظ، ونسيج العبارة، وتسلسل الفقرات.

تلتقي أصناف المثقفين الذين ذكرنا، في بؤرة محددة، إنها تحدد في نظر مهدي عامل ملامح الهجوم الأيديولوجي البرجوازي، الذي تبلوره الفئات الوسطية الساعية، لطمس ملامح الصراع الطبقي، لمصلحة طبقة محددة سائدة10.[10] يرفض الكاتب جملة من المفاهيم، ويحاول استبدالها بالمفاهيم الأكثر دقة وتعييناً، إنه يرفض مفهوم الحضارة والخصوصية، كما يرفض الزوجين المفهوميين، الذات والآخر، والشرق والغرب، ويرى أن ضبابية هذه المفاهيم، تخفي حقيقة أسمائها الفعلية، فالذات الشخصية الخصوصية قناع يخفي ملامح البرجوازية الكولونيالية، والآخر اسم يشير إلى واقع البرجوازية الامبريالية. لا ينتبه مهدي عامل إلى أن الاختزال المجرد والتركيبي، الذي يتضمنه مفهوم الذات، بمختلف حمولاته الدلالية المحددة لمجالات معرفية متعددة، يشير إلى فضاء أرحب من المحدِّد الاقتصادي، حيث يحيل إلى مجال يسمح بمقاربة الثقافات والهويات والنفسيات، في أبعادها غير المادية، التي لا تحيل كما أشرنا إلى البعد الاقتصادي وحده، بل تتعين عبر التاريخ، عن طريق وسائط لا حصر لها، وقد يكون نمط الانتاج الرأسمالي، قد حدد ملمحها الاقتصادي، دون أن يعتني بملامحها الأخرى اللامحدودة.

يرسم الكاتب، في القسم الأخير من كتابه، خلاصات فقيرة حول تاريخ الإسلام، وتاريخ السياسي في الإسلام، في سياق نقده لكتاب أدونيس “الثابت والمتغير”، وقد كشفت صفحات هذا القسم، عن محدودية دراية الكاتب بالتاريخ الإسلامي، وتاريخ الصراع الأيديولوجي في الإسلام11.[11] إنه لم يستطع تجاوز النتائج العامة، التي بلورتها دراسة أدونيس، بما لها وما عليها، وقد تجاوزتها اليوم كما نعرف، دراسات جديدة في مجال نقد العقل الإسلامي12.[12] فقد ظل يردد جملة من المبادئ العامة13،[13]غير المُؤَسَّسَة بناء على معطيات تاريخية عينية، بحكم غياب هذه المعطيات، فمفهوم الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، في تاريخ الإسلام، يختزل التاريخ بكثير من العنف النظري، ذلك أن الثنائية القطبية الحادة، في هذين المفهومين (طبقة حاكمة وأخرى محكومة)، مستعارة من التوصيف الماركسي العام لطبقية الصراع، في أنماط الإنتاج المتعاقبة في التاريخ، والمجسدة بدقة أكبر في نمط الإنتاج الرأسمالي، لكن هل تصح كما هي، على تاريخ مغاير، للتاريخ الذي تبلورت من خلاله هذه المعطيات؟ لا تحضر المرجعية التاريخية المؤسسة للنقد، في تحليلات مهدي، أثناء نقده لبعض الدراسات التراثية، فكيف يمكن قراءة تاريخ الإسلام بصورة تاريخية ومادية، في غياب تحقيب وتوصيف دقيق لهذا التاريخ؟

رهان التموقع السياسي في النص ومخلفاته

أوجزنا فيما سلف أهم مقدمات النص، كما حاولنا تقديم عينة من أبرز خلاصاته، مصحوبة بملاحظات انتقادية، وذلك بهدف رسم جوانب من أبعاده وحدوده. ونريد قبل الحديث عن محدودية النص، بعد تقديمنا لحدوده أثناء صياغتنا لمقدماته وخلاصاته العامة، أن نشير إلى بعض الملاحظات الجزئية التي نشأت، نتيجة للروح السجالية المنفعلة البادية في النص، وعكست بالدرجة الأولى آثار التموقع السياسي للكاتب.

لا يكلف مهدي عامل نفسه في هذا الكتاب وفي الأغلب الأعم، عناء توضيح طبيعة المفاهيم المستعملة في نصوصه، فهو لم يتحدث عن تيارات الفكر السياسي المعروفة، في الأيديولوجيا العربية المعاصرة، الليبرالية والسلفية والاشتراكية والتوفيقية، ونزعات الإسلام السياسي، بل أطلق تسميات أخرى، ومن حقه ذلك، لكن من حق القراء عليه، أن يوضح طبيعة تسمياته، أو يحيل إلى المراجع التي تحددها، فلا يمكن أن نرادف الظلامية بالعدمية14[14] بالتأسلم بالحيادية بالغيبية »بالفكر الأحمق« في كتابة غير متساهلة15.[15]

يستغرب قارئ “نقد الفكر اليومي”، من قدرة الكاتب على الجمع بين نخبة من مثقفي لبنان والمشرق العربي، في خانات واحدة، بل يستغرب أحياناً، كيف لا يشعر مهدي عامل أن خلافه مع بعض من اختلف مهم، يعود أولاً وقبل كل شيء إلى زاوية النظر، لا إلى عدميتهم وماديته.

تغفل مقاربته أحياناً، عدم إدراكه لأهمية تقريب الشقة بين النصوص القريبة في روحها، من فهم معين للتاريخ ولوظيفة الفكر في إطاره. وعلى سبيل المثال، نحن نستغرب لماذا لم يقبل أسئلة سهيل القش، في النص الذي انتقده له، رغم أنها أسئلة احترازية منهجية مفيدة، في مجال البحث16،[16]ثم هل يعقل أن ندرج نصوص الباحث المذكور، في خانة الفكر البرجوازي المتأسلم، لكونه يدافع عن الممانعة؟

يستعمل الكاتب أثناء نقده، كثيراً من أشكال السخرية الظاهرة والمباشرة أحياناً، والمبطنة أخرى، وتتضمن سخريته كثيراً من العنف اللغوي، كثيراً من الحدة، إنه يتحصن باختيار فلسفي محدد، واختيار سياسي بعينه، ويخاصم الجميع، لكن الرد عليه سهل، فالتحصن بسقف العقائد، في مجال السجال الأيديولوجي، يمكن الخصوم في الأغلب الأعم، من كشف ثغراته، وفضح ثقوب السقف الذي يحتمي به17.[17]ثم انه لم يفكر في سجاله مع من اعتبرهم الممثلين الطبقيين للطبقات السائدة، في أهمية التمييز بين الجبهة الثقافية التاريخية النقدية المفتوحة، ومقتضيات الصراع السياسي، التي تتطلب في لحظات معينة، التخندق والتموقع الحربي، فالجبهة الثقافية، تمتلك من الخصوصيات ما يجعل منها إطاراً للتوافق المرحلي والمؤقت والتعاقدي، بخلاف رهانات الجبهة السياسية، التي تتطلب منطقاً آخر في التعامل والنقد والمواجهة.

محدودية السجال الأيديولوجي في “نقد الفكر اليومي”
إن قصور السجال المتضمن في النص، يرجع إلى محدودية السقف المرجعي المُعتمَد، والمُتبنَّى كمقدمات وموجهات، والمتضمن كذلك في الخلاصات والنتائج، التي كان يتوقف عندها الباحث، ليعلن تصفيته لحسابات غير دقيقة، وغير محسوبة بعناية نظرية وتاريخية. وإذا كنا قد أشرنا إشارات عامة، إلى الجهد التنظيري لمهدي عامل، المتمثل أساساً في نتائج وآفاق كتبه الأخرى، فإن هذا الجهد يكاد يغيب من نص “نقد الفكر اليومي”. فهو عندما ينتقد مثلاً النزعة الاقتصادية، في التحليل المادي للتاريخ، أي النزعة التي تتحدث عن الحتمية الاقتصادية، وترى في الاقتصاد المُحَدِّد الأول والنهائي لمجرى الصراع التاريخي، لا يستطيع تجاوز هذه النزعة18.[18]كما أنه عندما ينفي الخصوصيات التاريخية، رغم وجودها الفعلي في التاريخ، لا يستطيع إثبات ذلك، بل يظل سجين سقف مفاهيمي محدد19،[19]إنـه يســتــعيد نـفس فرضية النزعة المذكورة، بتوسط مفاهيم لا تلغيها، بقدر ما تؤكدها20.[20] يصبح السجال منيعاً وفاعلاً عندما يتخلى عن الوظيفة السياسية والأيديولوجية للفكر، في أفق الانتصار لاستقلاليته النسبية، الاستقلالية التي تمنح الفكر جدارة الفعل التاريخي المادي، لا مجرد تبعيته لشروط مادية، وتوسطه للقيام بوظائف ومهام، تُوَكلُ إليه من جهات وجبهات ومواقع أخرى.

محدودية السجال الذي تغنى به مهدي في “نقد الفكر اليومي”، تتمثل في عدم قدرته -بحكم انخراطه النضالي، وتموقعه السياسي، ضمن تصور معين للسياسة وللحزب وللنضال-، على تجاوز منظور محدد للعلم وللحقيقة وللتاريخ، تصور يستمد عناصره كما وضحنا، من قراءة محددة للماركسية لا يتجاوزها، ولا يحيد عنها. قد يعود السبب في ذلك، إلى اعتقاده بعلمية الماركسية، أي لاعتقاده بأن فلسفة ماركس بلورت في تاريخ تطور الفكر الفلسفي، وتطور علم الاقتصاد، المفاتيح النهائية لمعالجة مختلف قضايا الصراع التاريخي للإنسان. وهذا أمر واضح في كثير من استطراداته وخلاصاته، فهو في بعض الأحيان يقرن الحزب بالطبقة بالعقيدة بالحقيقة21،[21]وهو بحكم انخراطه السياسي، لم يستطع التخلص من صنمية المفهوم والنص والقانون والمبدأ، كما تبلورت في جهود شراح الماركسية، رغم معاينته واستفادته من جهود الالتوسيرية، وهي تعيد قراءة نص رأس المال، وتفكر في النظرية الفلسفية الماركسية، واستفادته أيضاً من جهود من عاصر من المجتهدين والمساهمين، في تطوير الرؤية الاشتراكية.

لم يفكر مهدي عامل، وهو يطارد كل من لم يكتب بلغته، ومن لم يستعمل مفاهيمه، أن لغته في حاجة إلى لغة أخرى، تهبها أولاً القدرة على التمييز بين مفاهيم محددة ومحدودة، وتاريخ ينفتح على بعدين زمانيين لا حدود لمسارهما، حيث تتناسل الإشكالات والأحداث، وتتوالد الأزمنة داخل الأزمنة، بصورة لا يمكن أن تسعف فيها الخطاطات العامة، والمبادىء الأولية والمفاهيم الجاهزة، برفع ولا حل كل أشكال الالتباس والاختلاط والتداخل22.[22] فقد ظل مهدي يفكر بوثوقية السياسي، وهو يجادل مثقفين يجربون لغات ومفاهيم أخرى، داخل جدلية الصراع التاريخي، حيث لا يمكن مخاصمتهم جميعا، بمبضع أغلب أدواته تنتمي إلى القرن 19، والذي ينتمي منها إلى القرن العشرين، يظل في حاجة إلى جهد في التقريب والتبيئة والملاءمة، جهد في إعادة الإبداع، لا إلى الترديد والقول على القول على القول إن تأرجح مهدي عامل، بين الباحث والمناضل، انتهى في هذا النص بالذات، إلى انتصار المناضل على الباحث، فاختلف مع كل الذين ساجلهم، دون أن يترك لهم إمكانية اللقاء والتواصل معه، في لحظة من اللحظات، لأنه وحده يملك الحقيقة، مفتاح التاريخ. ويمتلك الكلمة الفصل، في فهم الماضي والحاضر والمسقبل، خاصة وأننا كما كان يتصور ويؤكد »في زمن الفكر العلمي، وعصر الثورات الاشتراكية”23.[23]

ورغم أن مهدي عامل، عاصر جهود ماركسيين آخرين، وربما اطلع على كيفيات تعاملهم مع المنظومة الفلسفية والجهاز المفاهيمي التاريخي الذي بلورته، إلا أنه لم يستفد منها كثيراً. فنحن على سبيل المثال، نستطيع ملاحظة كيف يشتغل بعض الماركسيين في مجال مقاربتهم للظواهر، التي لم تعالجها الماركسية مباشرةلأسباب متعددة، ومنها خطاطة أنماط الإنتاج التاريخية، ومفهوم الصراع الطبقي، داخل صيرورة تطور أنماط الإنتاج التاريخي، وكذا تاريخ المجتمعات التي لم تكن واردة بصورة عينية، في منظومة الإنتاج النظري الماركسي.

فقد سلَّم هؤلاء الباحثون بثغرات الماركسية منطلقين من اعتبار أنها ليست عنواناً لحقيقة نهائية فاصلة، إنها جهد في البحث الإنساني، الموصول بفضاء الصراع السياسي، وطوبى الإنسان، في بناء مجتمع وتاريخ جديد، ثم إن جهدها مشروط بسقف الزمان، السقف الذي حدد مرجعيتها، وحدد فضاء حدوسها النظرية، كما عين أحلامها وآمالها. فعندما نقول الزمن الذي حدد مرجعيتها، نشير إلى أن المجتمعات البشرية تطورت خلال القرن العشرين، بصورة لم تتمكن مختلف طوباويات الأزمنة المنفرطة، من الحلم بما تحقق وأُنْجِز وحصل، وما ينتظر أن يحصل. نريد أن نضع اليد هنا على مبدأ أساسي تعلمناه من الماركسية، التي تعلمته بدورها من تطور المعارف العلمية، منذ عصر النهضة الأوروبية، وما تلاها من ثورات علمية وسياسية واقتصادية، نقصد بذلك إضفاء الطابع النسبي على المعرفة والحقيقة، حتى عندما يتعلق الأمر بالفلسفات والنظريات التي نسلم بنجاعتها التاريخية.

وبناء عليه، فإن المشروع الماركسي يتضمن كثيراً من المواقف والآراء غير المؤسسة، وغير التامة، وكثيراً من المبادئ غير القابلة للتعميم كما هي، فلا يعقل أن يختزل ماركسي تاريخ الإسلام، في الخطاطة الاستعجالية التي كتبها مهدي، وهو يطارد الفكر اليومي “متسلياً”.24[24] ومسلحاً وحده، بما يسمح له بالسخرية من الجميع وبدون استثناء. نقول هذا لأننا نحبه، ولأن الماركسية أفق في الفكر لا نستطيع التخلي عن مكتسباته، فقد علمنا جون بيير فرنان على سبيل المثال، أثناء محاولته إعادة بناء بعض المعطيات الماركسية في موضوع نمط الانتاج العبودي، أن المفاهيم الماركسية ليست “جواهر خالدة”25،[25]وليست مفاتيح تامة وكاملة. إن نمط الإنتاج العبودي الذي يشير في جمل ماركس التوصيفية العامة المتضمنة في بعض مؤلفاته إلى التاريخ اليوناني القديم، لا ينطبق عليه تماماً، فقد أبرزت جهود المؤرخين والانتربولوجيين ممن نعاصر اليوم، وممن تُقَدِّم مادتهم جهداً جديداً متطوراً في مقاربة التاريخ القديم، أن نمط الإنتاج اليوناني القديم، لم يكن متجانساً خلال حقب تطور المجتمعات القديمة، اليونانية والرومانية على وجه الخصوص.

ثم إن مبدأ الصراع الطبقي، لا يمكن اعتباره، بناء على نمط الإنتاج الرأسمالي، بمثابة مبدأ عام، ففي اليونان القديمة، وكما يبرز ذلك قرنان، نستطيع الحديث عن صراع سياسي لا عن صراع طبقي، حيث لا يمكن تعيين ملامح الصراع الطبقي، بلغة التناقض السائدة في الرأسمالية. فهل نستطيع تمثل مثل هذه الجهود الماركسية غير الوثوقية، في مقاربة تاريخ عصورنا الوسطى، أو تاريخ حاضرنا، الذي تختلط فيه الأزمنة والأنماط الإنتاجية، باختلاط الأيديولوجيات والعقائد، وبعضها يعود اليوم من أزمنة بعيدة، كما أن بعضها الآخر، يرحل إلينا من أزمنة أخرى، أبعد في اتجاه المستقبل؟

إن ما دعاني إلى استحضار هذا المثال، هو فقر الصفحات التي تحدث فيها مهدي عن ثنائية الصراع في تاريخ الإسلام، مسفهاً الذين احترسوا أو تساءلوا وهم يفكرون في تاريخ لم نتمكن بعد من كتابته، وتصفية مختلف الحسابات التي بيننا وبينه، فكيف نُجَوْهِرُ المفاهيم، ونحن نستند إلى فلسفة تجلت مأثرتها النظرية الكبرى، في دفاعها عن النسبي والتاريخي؟

وبعد،
أحلم بصدور طبعة ثانية لكتاب “نقد الفكر اليومي”، يقوم فيها مهدي عامل بنقد كتابه، بطريقة ينحاز فيها للإمكانيات التي توفرها جبهة ثقافية موسعة، منفتحة على مناهج ومعارف لا حصر لها، جبهة قادرة على ترسيخ قيم التاريخ والإنسان، ومشرعة على آمال وطموحاتٍ بعضها يتحقق، وكثير منها يظل أملاً يغذي الآمال، يغذيها اليوم وغداً، ويعلي من قيمة النظر في حياة الإنسان.