مجلة حكمة
جماليّة القراءة المغايرة: نحو فلسفة زارادشترا الممكنة - الأخضر بلعيد بنجدو

جماليّة القراءة المغايرة: نحو فلسفة زارادشترا الممكنة – الأخضر بلعيد بنجدو

قراءة في كتاب “ماوراء الخير والشر” لنيتشه


 مداخلة حول: الخطاطة:

افتتاح، أولا ما وراء الأخلاق، أو ضد القيم البالية، ثانيا ما و راء العلوم والتقنية، أو ضد الحقائق الجافة، ثالثا ما وراء السياسة السلطوية، أو ضد القوى والسلط المتغطرسة، الخاتمة،

– المصدر الرئيس: Nietzsche, Par – delà le mal et le bien, Librairie Générale  Française, 1991,2000

استهلال:  

الكتاب الذي يفكر بالنيابة عنك ليس جديرا بالقراءة،

 الجدير هو الكتاب الذي يدفعك الى محنة التفكير”   

                                                                                          جيمس ماكّوش 

 

[1]‘’Par-delà le bien et le mal       “ العنوان لكتاب نيتشوي مُهمّ، هو ذاك الذي نصطلح ” على قوله، بعبارة عربية مركّبة” ما وراء الخير والشر” ، وهو  الذي يحافظ، في اللسان الفرنسي، على صدى الأمر التوجيهي، وكأنّه يقول “ عليك المرور/ أو القفز على/ أو الذهاب أبعد من/ ما وراء الخير والشر”،  والحقّ أن نيتشه يقصد هذا فعليّا، انه يستضيفنا، أوّلا،ً إلى أن نفعل ونحكم على كل الأشياء، من خارج دائرة المطابقة والانسجام مع منظومة القيم الجامدة والكالحة، أن نتمرّد على شفرة الأخلاق وبرنامجها الخالد، وفي مقابل ذلك أن نحكم على الأشياء وأن نقيّم الأفعال طبقا لاختياراتنا الحرّة..وهو يدعونا، ثانيًا، إلى التحرر الفوري من هيمنة الحقائق المتكلّسة مهما كانت، حقائق نجمت، منذ اللحظة التي أنسن فيها قطيع المتوالدين المسمى “إنسان” الكون،  ومنذ أصدر بيان حيازته الأرض باسم أكذوبة ” الحضارة البشرية”..وهو يدعونا، ثالثا، إلى الثورة على أرباب العصر وسدنة المعبد الرأسمالي، على أصحاب السلطة، على حراس القطيع، وعلى كل من يتصدر للقيادة والحكم وهو غير أهل لذلك. فالكتاب في عمومه، هو دعوة للتمرّد على الأقاليم الثلاثة: القيم، الحقائق والسلطة. فكيف نقارب هذا الثالوث المقدس ؟

رأس الأمر إذن، علينا بناء مقاربات متنوعة لذات الإعضالات كما عمل عليها نيتشه: من ذلك صراعه ضد الأخلاق المستمدة من التعاليم المسيحية، وتبنيه للعبث والعدمية التي نجمت عن التقدم والتطور التقني، وأخيرا وضعنا الفيلسوف المفكك والمتعمق في مواجهة مع الرداءة والذحل الذي يشقّ الممارسات السلطوية والسياسية، وهذه المستويات تقابلها مقاربات ثلاث، وهي التي تناولها فيلسوف المطرقة، ويمكن صياغتها  كما يلي:  أولا ما وراء الأخلاق، أو ضد القيم البالية، ثانيا ما و راء العلوم والتقنية، أو ضد الحقائق الجافة،  ثالثا ما وراء السياسة السلطوية، أو ضد القوى والسلط المتغطرسة.

 

المقاربة النيتشوية للقيم الأخلاقية

من أين جاء نيتشه بهذا ال ” زاروتوشترا” أو ” زارادشت” وما الهدف من هذا الاستحضار ؟ وهل لأصله الفارسي من دلالة(خاصة وأن لزاروشترا –التاريخي، نظرية وهي متضادة تماما مع ما ألبسه  نيتشه) ؟ وهل لنا أن نستجلي كمّ الغرابة والغموض الذي لفّه به ؟

في حقيقة الأمر، زاراتوشترا هو نبي إيراني/فارسي، وهو يرى البشر قد أُخذوا في صراع أزلي بين الخير والشر . وهو يعتقد أن مجال الصراع هو هذا الكون/العالم الأرضي، الذي وُجِدَ بين شدة  تصادم حدّيْ المبدأين المقدّسين. وعلى عكس هذا، نجد زاراتوشترا نيتشه لا يرى في الأمر قدسيّة ولا تعالي، وإنما، لا يعدو الأمر أن يكون إلا صراعا وهميا بين كثرة من الأحكام المسبقة والقيم الخاطئة والأوهام. يعلمنا زاراتوشترا- نيتشه أن نُساءِل الأُسس، ما دام ‘‘ لا أحد يعلم، والحقّ يقال، إلى اليوم، حقيقة الخيْر ولا حقيقة  الشرّ ’’، لا أحد و لكنه يستثني من يخلقهما. وهو يسخر من المعتقدين في ذلك، والمسلّمين بصدق القيم، بالتساؤل الانكاري، ألستم تعجبون وتستلذ ون متعة عجيبة، حين تقولون في عديد المرات ” أليس هناك أفضل المجرمين وأحسن السارقين ؟“. ونيتشه هنا يعرّي أهل الكنيسة، ويذكّر أنهار الدّم التي سكبوها تحت شعارات دينية مشوهة، في قرون خلت باسم الرب المقدس والصليب، ويندرج في ذلك بحث اليهود وجريهم ولهاثهم عن الذهب، وكل ما فعلوه لتحقيق ذلك من إبادة ومجازر لشعب ” الإنكا” وغيرهم..وهو لا يخلّف الأعمال الهمجية للكبرياء الرأسمالي في القرن التاسع عشر، في حقّ العمّال في الناجم والمعامل والمصانع والحقول، من استغلال مهين واستنزاف واستلاب للذّوات وقهر للحريّة..لهذا نجد زارادشترا يصرخ:‘‘ هيا أكسروا كل هذه المناضد البالية’’، مطلب تلو المطلب يتلوها نيتشه، دعوات متتالية للتحرّر وكسر قيود القيم البالية ولا عنوان لها إلا شرط محرج، يكرره على لسان زارادشترا“” عليكم أن تكونوا أقوياء كالصخر، جلدا وشدة””.

في الجزء الأول من الكتاب، المعنون الأحكام المسبقة للفلاسفة، نجد نيتشه يعلنها صريحة” حرب ضروس، حرب المعول والسكين”[2] ضد الاعتقاد الفلسفي السائد في  النفس الخالدة. ثم يردفها بضرورة، يراها ملحّة وهي لزوم التطهّر من الحكم المخجل القائل بأن انفعال الكره وشعور الغيرة وحب الهيمنة، هي في مجملها رذائل[3]، بل إن نيتشه يدعونا بإلحاح إلى إعادة الاعتبار إلى هذه المشاعر الحيوية وتسميتها بمسمياتها الحق: انفعالات جوهرية وأساسية في الحياة ، وهي أطروحة تتطعّم في الفصل اللاحق المعنون” العقل الحرّ“، حثّ فيه نيتشه على التبرئ من اعتقاد سائد عند العلماء والفلاسفة ورجال الكنيسة، بإقرارهم أنه بإمكانهم إسعاد القطيع وصنع سعادة جمعية، بل وإدعاء القدرة على القضاء على آلام الناس ونزع مآسيهم إلى الأبد، أن تكون حرا في فكرك معناه أن تتحرّر فعليّا من هذه الأحكام المسبقة والمزاعم الواهمة[4].

في الجزء الثالث من الكتاب ، يستهدف نيتشه المسيحية وأفكارها وممارسات سدنتها، من ذلك استنزافها لضعف المساكين وألم المرضى وعجز المعوقين ومأساة المقعدين، وذلك لمدة ألفي سنة وأكثر، و إلهاؤهم  بعدم قدرتهم على مجاراة لعبة الحياة ولا مسايرة التحولات، وتنويمهم بوعود جنة أرضية لن توجد أبدا، وفي كلمة يتهمها نيتشه بجناية كبرى وهي نشر قيم العجز والنقص، إلى حدّ ‘‘ القضاء على الجنس الأوروبي تماما’’[5]. المهم أن الفيلسوف يستعيد هجومه على القيم البالية مرّة أخرى في الجزء التاسع والأخير بطرح تساؤلات من مثل ” ما القيم النبيل؟”، لنجده لا يترك جهدا إلا ّ بذله لكشف العلاقة الخفية بين الحياة الحق،  الجديرة أن تُعاش، وإمكان العنف و الهيمنة والاستغلال ، معتبرا ذلك من صميمها..( فقرة 259).. ويستخلص في الأخير ضرورة تأسيس قانون، يكون بمثابة الاتفاق العام، ويكون نصه صريحا ” قانون ضد المسيحية”.

 

الحفر في الحقائق البالية

بالعودة الى بدايات فيلسوفنا نجد نيتشه قارئا نهما لشوبنهاور، خاصة في الكتابات الخاصة بالمطلق وما هو ديني، مما أوجد عنده فقدان توازن لأنه كان يرى في نفسه الاها، وقد كان هذا المنحى هو السبب الخفي لكل تلك العوارض المرضية التي ستلاحقه فيما بعد، ولعل التقائه بفاغنر كان هو المخرج الذي وهبه بعض التوازن، وهذا خاصة في المعزوفة المسماة ” اللّحن الخالد” لفاغنر، وقد اتضح هذا التوازن أكثر من خلال كتابه ” إنساني مفرط في إنسانيته”. كتاب آخر يكشف عن انضمام نيتشه إلى قتلة الآلهة وكل حرّاس معبدها، وربما يعود هذا إلى تبدل زاوية النظر إلى اتجاه علمي جديد.

الحق أن هناك إعادة نسخ للكتاب” إنساني مفرط في إنسانيته” في الكتاب الذي بين أيدينا ” ماوراء الخير والشر” والسبب بحسب المدققين هو صراع نشب بين نيتشه ودار النشر لصاحبها”شمايتزنور” الذي كان يحاول الاستيلاء على حقوق النشر ويطلب مبالغ طائلة مفابل تسليم التخلي لفائدة ناشر جديد وهو الأمر الذي فرض على فيلسوفنا إعادة الصياغة وتغيير العنوان، بحسب رسالة بعثها الفيلسوف إلى أوفرباك، وقال فيها صراحة:‘‘..لقد كان كل شيء جاهزا ولكن الآن ينتظرني عمل في صيف كامل ’’ [6]. ويشير نيتشه أنه اذا كان التخلص من سدنة معبد الآلهة قد تم ّ، فإن المهمّة الأصعب هي في التخلّص من ظلّ الآلهة الجديدة : العلم الحديث والعقل المقدس منذ الأنوار..لأجل هذا نجد زارادشترا يظهر من جديد ليكشف أن المقدس أو الإلاه الجديد هو من نسل الإنسان، لقد إنبعث من تحت الأنقاض، في صورة الحقيقة العلمية الواضحة والمتميزة، أوهام الحداثة،  في شكل ما أنجزه ” منجمو الما وراء” وعلماء العصر الجديد، سدنة المعبد من وراء الحساب الفلكي والفيزيائي.

يقول زارادشترا عن نفسه:” أنا أيضا كنت، في ما مضى، أنفث أوهامي في ما وراء الإنسان”( ج1، ص45). فالحقيقة الجديدة التي يبشر بها نيتشه هي التي تجعل المسلمات التي يقدسها الإنسان متناقضة ومترهلة، وفي المقابل تجعله يُقبِل على العدم بكل شجاعة ليراه ويفهم مأتاه، الوعي الحديث يحتاج إلى توجيه جديد وأن يُحوّر بوصلته على نحو مغاير لما تعارف عليه.

 

في ما وراء الغطرسة السلطوية والسياسية:

لقد تتلمذ زارادشترا في جباله البعيدة على يدي “الحكمة الأم”، هناك حيث تعلّم أن الإنسان الأرقى آت لا محالة، مهما طال الأمد، وما على الشعوب إلاّ أن تبتدع شيئا يتجاوزها ولا يشبهها، حتى يمكنها أن تكون وتتواجد بالمعنى الفعلي. لقد تبين له المرض العام الذي عمّ الشعوب، كان بفعل أكذوبة السعادة الجماعية والوعد الهلامي بالتعاون والتضحية من أجل الآخرين، وهي في الحقيقة مجرد تعلّات واهية لإخفاء الاستغلال والاستلاب، الذي يمارسه أرباب السياسة الاستبدادية ضد قطيع ضائع وهائم، دون أن يدرك ما يحاك له وما يخطط لمقبله وثرواته وحقوقه.

لقد تبين لنيتشه أن التطور الحديث حوّل الناس إلى خراف والجمع إلى قطيع، فالإناث تتبع الذكور والرعاة يسيرون الجميع من الخلف، صورة فنيّة تلك التي تظهر زارادشترا عائدا إلى كهفه حيث حيواناته في انتظاره.

          في استعادة للمقول الذي صاغه أدام سميث، ينتقد نيتشه هذا التوجيه القذر في “ثروة الأمم”، للأمم و للشعوب بداعي التخلّص من السلطة، ولكنه للأسف إخضاع لسلط أخرى هي أشبه ما تكون بالطبيعة الذريّة والمجهريّة، المخفيّة هنا وهناك..ولا خلاص إلا بنكران السلطة والسياسات القمعية والملحفة بالإخضاع والعبودية.

 

الخاتمة

  لابد من التخلص من كل أشكال الاستعباد والقهر للأفراد وللشعوب، ولن يتسنّى ذلك بحسب مقاربة زارادشترا إلا بالإجهاز على التصورات مسيحية والعدمية العلمية والسياسات القمعية باسم القيم والأخلاق العبودية، وقد كان مشروع نيتشه الأضخم في كتابه هذا “ماوراء الخير والشر”، وليس وراءهما حقا إلا مقاصد لإستغباء الناس واستبلاههم بفنون الكذب والتشويه. ورغم أن المقاربة الجمالية لزارادشترا لا تبدو إلا معبرة عن جمالية القبح بعبارة أدورنو، فإنه يجوز لنا حقا، نعتها بالجمالية، من حيث اشتغالها على الإمكان والإنفتاح على المغايرة والحرية للأفراد وللشعوب: وهل للجمالية مطلبا غير هذا؟؟

منزل بوزيان في: 12/10/2017.


1) نشير أن هذا الكتاب قد أحدث بلبلة كبرى قبل نشره، حيث رفض كثيرون نشره، وبعده بسبب شدته ووقعه المزلزل على المتلقي الذي تعود الاستمساك بقيم معتادة ومتجمدة، قال عنه نيتشه، في رسالة إلى بيتر غاست في 21 أفريل 1886:” ..هو كتاب رهيب، لقد انتزعته من صميم روحي”.                                                                                                              Nietzsche, Par – delà le mal et le bien, Librairie Générale Française, 1991,2000.

 

)[2] ) Nietzsche, Par – delà le mal et le bien, Librairie Générale Française, 1991,2000, parg 12.

[3] ) ibid. prg 23.

[4] ) ibid. prg 44 .

[5] ) ibid. prg 62.

6) ورد هذا في مقدمة الكتاب ( النسخة الفرنسية المذكورة سابقا)، في المقدمة ص 18-19. ويظهر أن هناك فصول أخذت مكان أخرى من ذلك مثلا – الفكر الحر مكان المشاعر الأخلاقية….الخ –