مجلة حكمة

ثلاثون سنة من البيوإتيقا – هيبر دوسييه / ترجمة: محمد جديدي

 لماذا اختيرت نهاية سنوات التسعينات للاحتفاء بثلاثين سنة من البيوإتيقا ؟ ولماذا لا يحتفل بمرور سنواتها الخمسين عبر التذكير بنشر قانون نورمبرغ Code de Nuremberg (1949) والذي، تبعا للفظاعة النازية، مثّل لحظة حاسمة ضمن مسار مسؤولية الباحثين إزاء الذوات البشرية ؟ هكذا جاءت الحاجة للموافقة وتولت هيئة أجنبية عن العالم الطبي وضع قواعد الممارسة. أو كذلك، الا يكون أكثر عدلا الاحتفال بسنواتها الخمسة والأربعين بما أن جوزيف فليتشر Joseph Fletcher نشر فيها العمل البيوإتيقي الأول ؟ بالفعل، ففي سنة 1954 عندما ظهر أخلاق وطب Morals and Medicine [ كتاب فلتشر]، بدا مسعى ثوريا في ذلك الوقت، لأنه عمل تأسس على استقلالية المريض بدلا من مبادئ الأخلاق الطبية الكلاسيكية. وهي الفترة نفسها التي عرفت اكتشاف جهاز التنفس الاصطناعي، وهو ما قاد طبيب نمساوي أن يكتب إلى البابا بيوس الثاني عشر Pape Pie XII [1876 ـ 1958] يطلب منه نصيحة بسبب القضايا الصعبة التي أثارها هذا الاكتشاف. حسب ستانلي رايزر Stanley Reiser، فإن البابا أجابه بالتأكيد على جدية هذه القضايا وتأسف لعدم استطاعته على عدم الرد بوضوح. يضيف رايزر Reiser: هذا الحدث الذي يعترف فيه كل من الطبيب والبابا بأنه يتجاوزهما ربما هو أيضا لحظة جيدة وأفضل من غيرها لتحديد بداية الحركة البيوإتيقية.

      أخيرا، لماذا لم يتم الاحتفاظ ببداية سنوات الستينات ؟ هكذا في سياتل Seattle، كان هناك لجنة مكونة من احترافيين وغير احترافيين تنتقي المرضى الذين سيجرون عمليات تصفية الدم.

     كان هدف هذا المسعى الأخذ بالحسبان جميع العناصر الضرورية في اتخاذ قرار مستنير. فيما يخص ألبرت جونسن Albert Jonsen، رأى في هذا ميلاد البيوإتيقا.

     من دون إنكار أهمية هذه الأحداث المختلفة، نهاية سنوات 1960 وبداية سنوات 1970 كونها تشكل مرحلة ثرية للغاية بحلقات متنوعة والتي تلتقي نحو حركة بيوإتيقية وأدت إلى نشأة المفهوم ذاته. ضمن حركة من هذا القبيل، فإن الاحتفاظ بحدث بعينه لن ينصف مع ديناميكيتها؛ بل إنه مجموع الحركات من يعطي معنى لما سيحمل اسم البيوإتيقا. ابتداء من 1966 بالخصوص، ستتابع سلسلة من الأحداث التي ستحول حقل البيوطبbiomédecine  من خلال الوعي بين مهنيين الصحة، باحثين، جامعيين، سياسيين والجمهور الذين اعتبروا أن تناقضا عميقا يسكن الطب الحديث: فالخيرية الطبية لم تعد تحترم شخص المريض. تريد البيوإتيقا الاستجابة للتحدي المطروح من طرف تطور الطب العلمي والتقني.

     منذ ذلك الوقت، عرفت البيوإتيقا تطورا استثنائيا إن في الولايات المتحدة، موطنها الأصلي، أو في بلدان أخرى. لقد أصبحت وفقا للبعض، صناعة مزدهرة بشكل مذهل. مهما تكن الانتقادات التي توجه إليها، يجب الاعتراف بأنها تحتل مكانة بارزة على الساحة الفكرية لبلداننا. وبتكريس عدد من الثيولوجيات لسنواتها الثلاثين، فإن الهدف لم يكن هو استئناف المسعى التاريخي ولا تقديم الأحداث المؤثرة التي ميزت تطوّره. إن الانشغال كان شيئا آخرا. هذه الحركة كان يحركها، في بدايتها، اهتمام احترام الآخر، وبشكل أخص الذات الهشة، هل أمكنها ثلاثون سنة فيما بعد، أن تصمد؟ إن المسعى المقترح هنا إذن ذو طبيعة نقدية.

     إن إطلالة سريعة على عناوين مختلف المقالات المنشورة في هذا العدد، ربما ستفاجئ الملاحظ الذي لن يعثر على أي نص ذو طبيعة تاريخية ولا مقال مخصص مباشرة للتيولوجيا وصلتها بالبيوإتيقا. إذن ما الهدف ربما من التيولوجيات لتكريس عدد للبيوإتيقا ؟ هل هو تأثير الموضة ؟ أم هو علامة على أن التيولوجيا ليس لها شيء محدد تساهم به في هذا الميدان مع استمرارها في الاستفادة من شعبيتها ؟ فبفتحها لصفحاتها لمختلف الكتاب الذين جمعوا هنا بالمناسبة، أسهمت التيولوجيات مساهمة أساسية: تحفيز التفكير النقدي حول ما أصبح عليه هذا الشكل من الإتيقا. جميع الدراسات التاريخية حول تاريخ البيوإتيقا تشهد على المكانة المركزية للتيولوجيا في السنوات الأولى للحركة. فمع التيولوجيين حيث أقام الباحثون والأطباء المهتمون بأنسنة البيوطب حوارا. خلال السنوات العشر الأولى للمشروع، احتل التيولوجيون موقعا بارزا. وابتداء من سنوات 1980، اختفت التيولوجيا بسبب ما صارت إليه البيوإتيقا وعدم قدرة التيولوجيا على التعريف بخصوصيتها. فقد تحول التيولوجيون إلى إتيقيين. واليوم فقد أضحى تجديد الاهتمام بالتيولوجيا أمرا جليا. إن الانهمام الذي يسكنه، الأسئلة التي يطرحها، التأكيدات التي هي له ذات أهمية، في ربط الاتصال مع انشغالات الأولى والأساسية للمنشأ.

     بإعطاء الكلمة إلى سوزان شروين  Susan Sherwinالتي تفكر حول البيوإتيقا بالصيغة النسوية، فإن الثيولوجيات  Théologiques تفتح فصلا لتاريخ البيوإتيقا مجهول تقريبا من جمهور اللغة الفرنسية. كيف للبيوإتيقا، والتي كان أساسها الانهمام بالآخر والعدالة، أدمجت تفكير النساء حول وضعيتهن الخاصة التي تطورت تقريبا في الوقت نفسه ؟ لأن البيوإتيقا تتمثل في مقاربة جديدة ضمن حقل الأخلاق، وقد تجنب الفكر النسوي مساءلة طريقتها في تناول المسائل الأخلاقية. كلتا الحركتين كانتا، نوعا ما، متفقتين لأنهما فتيتين واحتجتا على الأفكار المسبقة. منذ بضع سنوات، بعض الكاتبات النسويات، وكذا بعض المفكرين ممثلين لتيارات أخرى، صار لديهم وعي بنمط التفكير الذي فرض في البيوإتيقا والذي يتناقض مع احترام النساء ووضعهن التاريخي والاجتماعي الحقيقي. وهنا نص أول يريد إحراج البيوإتيقا التي تمأسست.

     يبعث النص الثاني أيضا على القلق. مصدر فكره هو بشكل مباشر تيولوجي جدا لأن قراءة البيوإتيقا التي يقترحها مبنية على لاهوت التحرير. إذا كانت شهادة ميلاد البيوإتيقا غير منفصلة عن مطالب العدالة للأشخاص الضعفاء وحماية  السكان الأسرى، فإن هذا الهاجس قد توقف عند أبواب أمريكا الشمالية والبلدان الصناعية. يطرق مارسيو فابري دوس أنخوس Marcio Fabri dos Anjos  قضية اللامساواة الاجتماعية انطلاقا من وضعية البرازيل ودول أمريكا اللاتينية. إن المنشورات الفرنسية لم تكرس تقريبا فضاء لهذا النوع من القضية. وفي اللغة الإنغليزية، ظهرت مؤخرا بعض النصوص. ابتداء من الخيار التفضيلي بالنسبة للفقراء، يراجع مارسيو فابري دوس أنخوس Marcio Fabri dos Anjos البيوإتيقا كما تطورت خلال الثلاثين سنة الأخيرة. إن الإتيقا القائمة على المبادئ الكونية والتي هي الاستقلالية، الخيرية والعدالة قد أقصت من خطابها الأخلاق الجزء الأعظم من الإنسانية.

     إذا كان كل من النص الأول والثاني يتناولان مسائل مجهولة عادة، فإن النص الثالث، وقد كتبه ميشال برجرون Michel Bergeron، يعالج موضوعا محينا ويكتسي أهمية بالغة في الدوائر البيوإتيقية. في 1998، قدمت كندا وكيبك بنصوص معيارية جديدة على مستوى إتيقا البحث تتضمن ذوات بشرية. وبدت السلطات المسؤولة مطالبة أكثر فأكثر الباحثين والمؤسسات المحلية التي يمارسون بها باحترامها. إن أنواع البحوث المتبعة الآن، والنسق النيوليبرالي الذي يضع الباحثين في ظروف تنافسية بشكل متزايد، والفضائح التي تحدث أحيانا هي ما يمكن أن تفسر التوجه لمزيد من رقابة الباحثين. فبعد لجان الإتيقا المسؤولة عن تقييم مشاريع الباحثين، ها هي اللجان نفسها تعهد لها مسؤولية المراقبة المستمرة لهذه المشاريع. فهل ستصبح هذه اللجان هي شرطة البحث ؟ انطلاقا من مشكلة ملموسة ودقيقة، يتيح لنا ميشال برجرون فهم الحدود التي تجابه اليوم المثال البيوإتيقي لنهاية سنوات 1960.

     النص الرابع للكتاب معنون بـ «بؤس وعظمة البيوإتيقا». كتبه غي ديران Guy Durand. منذ عشرين، كان هذا الأخير منشط البيوإتيقا بجامعة مونريال. وإذا كان في البداية أستاذا للتيولوجيا الأخلاقية بكلية التيولوجيا، فإن البيوإتيقا أصبحت حقل خبرته. من خلال دعوته ليكون أستاذ الأخلاق الطبية بكلية الطب وعضوا بعديد اللجان الأخلاقية في المستشفيات الجامعية، فقد وضع برامج مختلفة للبيوإتيقا موجهة ومقدمة حاليا للجامعة. إن الكاتب بعد عمله الميداني وعلى أرض الواقع، ضمن سياق كيبكي[نسبة إلى كيبك Québec إحدى المقاطعات الكبرى بكندا]، يوجد في وضع جيد لإلقاء الضوء على ماضي وحاضر البيوإتيقا. بعد كل هذه السنوات، فما الحكم الذي يحمله ؟

     بقراءة هذه النصوص، آمل بأن القارئة أو القارئ الذي لم يألف البيوإتيقا سيكتشف حقلا، بسبب أهمية القضايا التي يدرسها والتوقعات التي يثيرها، يستحق أن يحمل على محمل الجد وأن يخضع، لنجاح مهمته الخاصة، لنقد متواصل. أما فيما يتصل بالمختصين، فلعلهم واجدون الفرصة لتوسيع حقل اهتماماتهم من خلال انخراطهم في حوار مع أنماط من المساءلة التي لا تمنحهم اقتضاءات اليومي دوما فرصة تناولها. إذا كان هذا العدد من تيولوجيات حفز على توسيع منظورات (وجهات نظر) ومواصلة الحوار، فإنه يكون قد حقق إلى حد كبير هدفه .


*نشر هذا المقال بمجلة تيولوجيات Théologiques ، المجلد ، العدد ، سنة 1999 صص.  3 ـ وهو متاح على الرابطhttp://id.erudit.org/iderudit/016618ar

** باحث كندي، يشغل منصب أستاذ جامعي بكلية اللاهوت والدراسات الدينية بجامعة مونتريال. حاصل على الدكتوراه في الدراسات الدينية من جامعة مارك بلوش بستراسبورغ.

***باحث وأكاديمي جزائري، أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة 2، الجزائر. مهتم بالفلسفة المعاصرة، خاصة الأمريكية، البراغماتية، الحداثة وما بعد الحداثة، الفلسفة التطبيقية (البيوإيتيقا) الترجمة وفلسفتها. له عدة كتب تأليف وترجمة آخرها ترجمة لكتاب غي ديران، البيوإتيقا عن دار جداول، بيروت (2015).