مجلة حكمة

تطور العين – T.D.لامب


،،

صار لدى العلماء الآن تصور واضححول كيف تطورت عيوننا البالغة التعقيد.

 

 

 

 

 

 

بـاختصـــار ::

 

عينُ الحيوانات الفقارية معقدة لدرجة أن أنصار نظرية الخلق استعملوها لوقت طويل كحجتهم المفضلة على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتقاء الطبيعي. الأنسجة الرخوة نادرا ما تتأحفر، ولكن العلماء تشكل لديهم فهمٌ لمنشأ العين من خلال مقارنة بنى العين وتطورها الجنيني في الأنواع الفقارية. وهذه الأدلة تشير إلى أن جذور عيننا من نمط الكاميرا، ضاربة في القدم بشكل مدهش، وقبل أن تكتسب العناصر الضرورية لتعمل كعضو إبصار، كانت وظيفتها كشف الضوء لتعديل الإيقاعات اليومية عند أسلافنا القدامى.
 

 

 

 

 

 

 

عينُ الإنسان عضو بالغ التعقيد. فهو يعمل مثل كاميرا تـجمع الضوء وتركّزه وتحوّله إلى إشارة كهربائية يترجمها الدماغ إلى صور. ولكن بدلا من فيلم التصوير فإن العين تحوي شبكية عالية التخصص تحسّ بـالضوء وتعالج الإشارات باستخدام عشرات الأنواع المختلفة من العصبونات. ونتيجة لـهذا التعقيد، بقي منشأ العين لفترة طويلة من أشهر الحجج المفضلة لأنصار نظريتي الخلق والتصميم الـذكي(1) الذين يعتبرونه مثالا رئيسا على ما يسمونه بالتعقيد غير القابل للاختزال، أي النظام الذي لا يمكن أن يعمل في غياب أي مكون من مكوناته، ومن ثمّ لا يمكن أن يكون قد تطور طبيعيا من شكل أكثر بدائية. وفعلا، حتى <تشارلز داروين> نفسه اعترف في أصل الأنواع(2) – الـكتاب الصادر في سنة 1859 الذي فصّل فيه نظريته في التطور بالانتقاء الطبيعي – أنه قد يبدو من غير المعقول التفكير في أن العين تطورت بالانتقاء الطبيعي. ولكن <داروين> كان يعتقد قطعيا أن العين تطورت بهذه الطريقة على الرغم من غياب الأدلة حول الأشكال الانتقالية في ذلك الحين.

 

 

وظل من الصعب العثور على أدلة مباشرة. فبينما يستطيع الباحثون الذين يدرسون تطور الهيكل العظمي توثيق استحالاته بسهولة من السجل الأحفوري، إلا أن الأبنية المؤلفة من أنسجة رخوة نادرا ما تتحول إلى أحفورة، وحتى إذا تحولت إلى أحفورة فإن الأحفورة لا تحتفظ بما يكفي من التفاصيل التي تـسمح بتحديد كيفية تطور هذه البنى. ومع ذلك حقق البيولوجيون مؤخرا تقدما مهما في تتبُّع أصل العين، وذلك بدراسة تطور أشكالها في الأجنّة النامية وبمقارنة بنية العين والجينات عبر الأنواع لإعادة بناء أوقات ظهور السمات الرئيسة. وتشير النتائج إلى أن نوع عيوننا، أي النمط الشائع بين الفقاريات، أخذ شكله خلال أقل من مئة مليون سنة متطورا من مجسّ ضوئيlight sensor بسيط لضبط الإيقاعات اليومية circadian rhythms والموسمية منذ نحو 600 مليون سنة إلى عضو متطور بصريا وعصبيا منذ 500 مليون سنة. وبعد مرور أكثر من 150 سنة من نشر <داروين> لنظريته الرائدة تدق هذه النتائج آخر مسمار في تابوت التعقيد غير القابل للاختزال وتدعم أناقة فكرة <داروين>. كما تفسر لماذا يُشاهَد في العين، الـبعيدة كل البعد عن أن تكون آلة مصممة بإتقان، عددا من عيوب التصميم: هذه العيوب هي ندبات التطور. فالانتقاء الطبيعي لا يؤدي إلى الكمال كما قد يعتقد البعض، بل يرتجل ليصنع شيئا من المواد المتوفرة له، فيأتي أحيانا بـنتائج عجيبة.

 

 

 

 

 

 

وكي يفهم المرء كيف ظهرت العين عليه أن يعرف شيئا عما حدث في الحقب الغابرة. فلدينا – نحن البشر – خط لا ينقطع من الأسلاف يمتد إلى الماضي نحو أربعة بلايين سنة حتى بداية الحياة على الأرض. فمنذ ما يقارب بليون سنة تشعّبت الحيوانات البسيطة المتعددة الخلايا إلى مجموعتين: تتصف إحداهما بمخطط الجسم المتناظر شعاعيا (لها جانب علوي وآخر سفلي، ولكن ليس لها أمام أو خلف) والأخرى، التي نشأ عنها أغلب الكائنات التي نعتبرها حيوانات ثنائية التناظر لها جانبان أيمن وأيسر، أحدهما انعكاس مرآة للآخر، ويقع الرأس في أحد طرفيها. ومن ثم تشعّبت ثنائيات التناظر بدورها قبل نحو 600 مليون سنة مضت إلى مجموعتين مهمتين: واحدة نشأت عنها الأغلبية الساحقة من المخلوقات المعاصرة التي ليس لديها عمود فقري (اللافقاريات)، والأخرى تشمل سلالتنا الفقارية. وبعد أن افترقت هاتان السلالتان بقليل ظهر وتكاثر تنوُّع مذهل من مخططات الجسم خلال ما يسمى بالانفجار الكامبريcambrian explosion الذي ترك أثره الشهير في السجل الأحفوري بين ما يقارب 540 إلى 490 مليون سنة خلت. ووضع هذا الانفجار التطوري الأساسَ لظهور عيننا المعقدة.

 

 

 

العين المركبة مقابل العين الكاميرا(**)

 

 

يبين السجل الأحفوري أنه خلال الانفجار الكامبري ظهر شكلان مختلفان أساسا للعين. الشكل الأول على ما يبدو هو العين المركبة(3) من النمط الذي نراه اليوم عند الأفراد البالغين في جميع الحشرات والعناكب والقشريات، التي هي جزء من مجموعة اللافقاريات المعروفة باسم (مفصليات الأرجل)(4). في هذا النمط من العين تقوم منظومة من وحدات تصويرية متماثلة كل واحدة منها عبارة عن عدسة أو عاكس ضوء ببثّ الضوء إلى بضعة عناصر حساسة للضوء تسمى المستقبلات الضوئية. والعين المركبة فعّالة جدا بالنسبة إلى الحيوانات الصغيرة، إذ توفر الرؤية بزاوية واسعة ودقة تفاصيل مكانية معتدلة في الحجم الصغير. وربما وفّرت هذه القدرات الإبصارية (خلال عصر الكامبري للتريلوبيت) وغيرها من مفصليات الأرجل العتيقة ميزات بقاء مقارنة بالكائنات المختلة الإبصار المعاصرة لها. إلاّ أن العين المركبة غير عملية بالنسبة إلى الحيوانات الكبيرة لأن حجم العين المطلوب لتحقيق إبصار ذي دقة تفاصيل عالية سيكون كبيرا جدا. وهكذا، مع زيادة حجم الجسم ازدادت الضغوط الانتقائية التي تفضّل تطور نمط آخر من العين، وهو نوع الكاميرا.

 

وفي العيون على شاكلة الكاميرا تشترك المستقبلات الضوئية جميعها في عدسة وحيدة تركز الضوء، وهي مرتّبة على شكل صفيحة (الشبكية) تبطن السطح الداخلي لجدار العين. ولدى الحبّار والأخطبوط عيون على شكل كاميرا ذات شبه سطحي بعين البشر، ولكن مستقبلاتها الضوئية من النمط نفسه الذي يوجد في عين الحشرة. أما الفقاريات فلديها نمط مختلف من المستقبلات الضوئية، ولهذا النمط نوعان في الفقاريات الفكية(5) (بما فيهم نحن): المخاريط للإبصار في النهار، والعصيّ للإبصار في الليل.

 

ومنذ عدة سنوات شكلتُ فريقا، مع كل من <E .N. پيو جونيور> [الـذي كان يعمل حينها في جامعة پنسيلڤانيا] و<S. كولين> [من جامعة كوينسلاند في أستراليا] لمحاولة فهم السبل المحتملة لتطور هذه الأنماط المختلفة من المستقبلات الضوئية. وما وجدناه تجاوز مجرد الإجابة عن ذلك السؤال وقدم سيناريو مقنعا لأصل عين الفقاريات.

 

 

 

جذور عميقة(***)

 

 

وقد لاحظ هذا الفريق، مثل البيولوجيين الآخرين قبلنا، أن الكثير من السمات المميزة لعين الفقاريات متماثلة عند جميع ممثلي فرع ضخم من شجرة الفقاريات، هو الفقاريات الفكية. ويشير هذا النمط إلى أن الفقاريات الفكية ورثت هذه السمات من سلف مشترك وأن عيننا كانت قد تطورت منذ ما يقارب 420 مليون سنة، عندمـا كانت الفقاريات الفكية الأولى (التي كانت على الأغلب تشبه الأسماك الغضروفية المعاصرة مثل سمك القرش) تجوب البحار. وجادلنا في أن جذور عيننا ذات نمط كاميرا ومستقبلاتها الضوئية يجب أن تكون أعمق، فحوّلنا انتباهنا إلى الفقاريات اللافكية الأكثر بدائية التي نتشارك معها في سلف مشترك منذ نحو 500 مليون سنة.

 

وأردنا أن نفحص تشريحَ واحد من هذه الحيوانات بالتفصيل فقررنا أن نركز على واحد من الحيوانات المعاصرة القليلة من هذه الزمرة، وهو الجلكة lampreyذو فم قمعي مصمم للمصّ وليس للعضّ. وتبين أن لهذه السمكة أيضا عينا من نمط الكاميرا ذات عدسة وقزحية وعضلات. بل إن شبكية الجلكة ذات بنية ثلاثية الطبقات مثل شبكيتنا، وتشبه مستقبلاتها الضوئية شبها كبيرا المخاريط في شبكية الإنسان، مع أنها على ما يبدو لم تطوِّر العصيّ rods الأكثر حساسية. فضلا عن ذلك، فإن الجينات التي تتحكم في الكثير من نواحي كشف الضوء والمعالجة العصبية وتطور العين هي الجينات نفسها التي توجه هذه العمليات في الفقاريات الفكية.

 

هذه التشابهات اللافتة للنظر في عين الفقاريات الفكية كثيرةٌ جدا مما يـستبعد أن تكون قد ظهرت بصورة مستقلة في فروعها، بل يجب أن تكون العين التي تشبه في ملامحها الأساسية عيننا موجودة عند السلف المشترك للفقاريات الفكية واللافكية منذ 500 مليون سنة. عند هذه النقطة تساءلنا ما إذا كنّا نستطيع أن نتتبع منشأ العين ومستقبلاتها الضوئية إلى الماضي الأقدم. وللأسف، لا يوجد ممثلون أحياء للسلالات التي انفصلت عن سلالتنا خلال الخمسين مليون سنة السابقة، وهي الفترة الزمنية المنطقية التالية لهذه الدراسة. ولكننا وجدنا أدلّة في عين حيوان غامض اسمه الجرِّيث hagfish.

 

والجريث، مثل أقاربه من سمك الجلكة، هو سمك عديم الفك يشبه الأنقليس(6)، ويعيش عادة في قعر المحيطات حيث يتغذى بالقشريات وجثث المخلوقات البحرية الأخرى الراسبة. وعندما يشعر الجريث بتهديد يفرز مخاطا لزجا للغاية، ومن هنا لقبه «الأنقليس المخاطي». ومع أن الجريث من الفقاريات، إلاّ أن عينه تختلف اختلافا كبيرا عما هي في الفقاريات؛ فعين الجريث ليس لها قرنية ولا قزحية ولا عدسة ولا عضلات داعمة، وشبكيتها تتألف فقط من طبقتين من الخلايا وليس ثلاث. وإضافة إلى ذلك، فكل عين مطمورة عميقا تحت طبعة شافّة من الجلد. وتشير ملاحظة سلوك الجريث إلى أن هذا الحيوان يكاد يكون أعمى ويستدل على الجيف بواسطة حاسة شمه الحادة.

 

ويشترك الجريث بسلف مشترك مع الجلكة. ومن المفترض أن هذا السلف كان لديه عين من نمط الكاميرا مثل الجلكة. ومن ثمّ، يفترض أن عين الجريث قد تدهورت من شكل أكثر تقدما، وبقاؤها بهذا الشكل المصغّر يخبرنا الكثير. فنحن نعلم من سمك الكهوف الأعمى، مثلا، أن العين يمكن أن تتدهور تدهورا جسيما ويمكن حتى أن تختفي خلال فترة وجيزة لا تتجاوز عشرة آلاف سنة. ولكن عين الجريث بقيت على حالها مئات ملايين السنين. ويشير هذا الاستمرار إلى أن لهذا العضو أهمية ما من أجل البقاء، حتى ولو لم يستطع الحيوان استخدامه للرؤية في الأعماق المعتمة للمحيطات. ويشير هذا الاكتشاف ضمنيا إلى أمور أخرى. فمن المحتمل أن تكون عين الجريث قد وصلت إلى هذه الحالة من الضمور نتيجة فشل في النمو، وبهذا فإن البنية الحالية لعينه قد تمثل مرحلة تطورية أبكر؛ أي إن كيفية عمل عين الجريث يمكن أن تلقي ضوءا على كيفية عمل العين الأولية، أي العين البدئية قبل أن تتطور لتصبح عضو إبصار.

 

 

 

 

موجودات :أصداء التطور(****)

 

إن بنية العين وتطورها الجنيني في الجريث والجلكة، وهما كائنان فقاريان يشبهان الأنقليس، يعطيان إشارات إلى كيفية تطور عيننا من نمط الكاميرا وتأديتها لوظيفتها في مراحلها المبكرة. فالجريث لديه عين ضامرة غير قادرة على الإبصار، إنما الغرض منها، على الأغلب، كشف الضوء من أجل تعديل الإيقاعات اليومية (1). ويشبه التطور المبكر لعين الجلكة عين الجريث ذات البنية البسيطة قبل أن تستحيل إلى عين معقدة من نمط الكاميرا (2). وعين الإنسان تشبه عين الجريث خلال تطورها، إذ تمر بمرحلة تتكون الشبكية خلالها من طبقتين فقط قبل أن تظهر الطبقة الثالثة من الخلايا (3). ومن المعروف أن أوجه النمو الجنيني عند الفرد تعكس الأحداث التي مر بها تطور سلالته.

 

 

 

 

 

عين الأسلاف: تشير البينات المتوفرة إلى أن عينا أولية لا بصرية قد تطورت عند سلف الفقاريات منذ نحو 550 مليون إلى 500 مليون سنة (4) وأن وظيفة طليعة العين من نمط الكاميرا كانت كشف الضوء لضبط الساعة الداخلية للسلف.
 

 

 

 

 

 

ويمكن أن نستوحي إشارات خفيفة إلى الدور الذي قد تؤديه عين الجريث من تفحُّص دقيق لشبكية هذا الحيوان. ففي الشبكية المعيارية للفقاريات، الشبكية ذات الثلاث طبقات، تقوم الخلايا في الطبقة المتوسطة، والتي تسمى بالخلايا الثنائية القطب، بمعالجة المعلومات من المستقبلات الضوئية ونقلها إلى عصبونات الإخراج output neurons التي تنتقل إشاراتها إلى الدماغ ليجري تفسيرها. أما شبكية الجريث ذات الطبقتين فتفتقر إلى الخلايا الثنائية القطب المتداخلة، وهذا يعني أن المستقبلات الضوئية تتصل بعصبونات الإخراج مباشرة. ومن هذه الناحية تشبه التوصيلات العصبية لشبكية الجريث إلى حد كبير التوصيلات في ما يسمى بالغدة الصنوبرية(7)، وهي جسم صغير يفرز الهرمونات في دماغ الفقاريات. تتحكّم الغدة الصنوبرية في الإيقاعات اليومية، وفي الفقاريات اللاثديية(8) تحوي هذه الغدة خلايا مستقبلة للضوء تتصل مباشرة بعصبونات الإخراج من دون خلايا وسيطة؛ وفي الثدييات فقدت تلك الخلايا القدرة على الإحساس بالضوء.

 

 

 

دليل : ندبات التطور(*****)

 

 

   تحوي عين الفقاريات، وهي بعيدة تماما عن أن تكون تصميما ذكيا – عيوبا عديدة تشهد على أصلها التطوري ويؤدي بعض هذه العيوب إلى تدني جودة الصورة، ومنها أن الشبكية مقلوبة، لذا يجب على الضوء أن يمر عبر أجسام الخلايا والألياف البصرية قبل أن يصل إلى المستقبلات الضوئية (1)؛ وتلقي الأوعية الدموية التي تمتد عبر السطح الداخلي للشبكية ظلالا على الشبكية (2)؛ أما الألياف العصبية التي تتجمع سوية لتخترق الشبكية عبر فتحة وحيدة لتصبح العصب البصري، فتنشأ عنها البقعة العمياء (3).

 

 

 

 

 

وبناء على هذا التشابه مع الغدة الصنوبرية، اقترحت في عام 2007 مع زملائي أن عين الجريث لا تعمل في الإبصار بل توفر المدخلات إلى ذلك الجزء من دماغ الحيوان الذي ينظم الإيقاعات اليومية الحيوية، إضافة إلى النشاطات الموسمية كالتغذية والتكاثر. ومن ثم من المحتمل أن العين الأولية في الفقاريات الأولية التي عاشت ما بين 550 مليون و500 مليون سنة مضت كانت عضوا لابصريا ولم تطوِّر إلاّ لاحقا القدرة على المعالجة العصبية والمكونات البصرية والحركية اللازمة للإبصار المكاني.

 

 

وتدعم دراسات التطور الجنيني لعين الفقاريات هذه النظرية. فعندما يكون سمك الجلكة في طور اليرقة, يعيش في مجاري الجداول، وهو أعمى مثل الجريث. وفي هذه المرحلة تشبه عينه عين الجريث من حيث بساطة بنيتها وكونها مطمورة تحت الجلد. وعندما تمر اليرقة في مرحلة التحول تنمو عينها الضامرة بشكل ملموس وتتطور فيها شبكية ذات طبقات ثلاث؛ وتتشكل كذلك العدسة والقرنية والعضلات الداعمة جميعها، ثم ينبثق العضو إلى السطح كعين الفقاريات من نمط الكاميرا. وبما أن جوانب كثيرة من تطور الفرد تعكس الحوادث التي جرت خلال تطور أسلافه، نستطيع أن نستخدم تطور عين الجلكة، بشيء من الحذر، في إعادة بناء تاريخ تطور العين.

 

 

إن عين الثدييات خلال تطورها الجنيني تقدم بعض الشواهد التي تشير إلى منشئها التطوري. وقد اكتشف <B .E. ريز> وزملاؤه [بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا] أن توصيلات شبكية الثدييات تكون في البدء مثل توصيلات الجريث إلى حد بعيد، إذ تتصل المستقبلات الضوئية فيها بعصبونات الإخراج مباشرة؛ وبعد ذلك، وخلال بضعة أسابيع، تنضج الخلايا الثنائية القطب وتنغرز بين المستقبلات الضوئية وعصبونات (نورونات) الإخراج. وهذا التتالي هو تماما نمط النمو الذي يمكن أن يتوقعه المرء ليعرف ما إن كانت شبكية الفقاريات قد تطورت من عضو ذي طبقتين لتنظيم الإيقاعات اليومية، وذلك بإضافة قدرة المعالجة ومكونات لتشكيل الصورة. ومن ثمّ يبدو معقولا تماما أن هذه المرحلة البسيطة المبكرة للتطور تمثل أثرا باقيا عن فترة في تاريخ التطور قبل اختراع توصيلات الخلايا الثنائية القطب وقبل اختراع العدسة والقرنية والعضلات الداعمة.

 

 

نشوء المستقلات(******)

 

 

بينما كنا ندرس نمو طبقات الشبكية الثلاث، خطر لنا سؤال آخر متعلق بتطور العين. إذ تنقسم المستقبلات الضوئية في مملكة الحيوان إلى صنفين متميزين: صنف محوري rhabdomeric class وآخر هدبي ciliary. وحتى الماضي القريب، كان أغلب العلماء يعتقد أن اللافقاريات تستخدم صنف المستقبلات المحورية بينما تستخدم الفقاريات الصنف الهدبي ولكن الوضع في الواقع، أكثر تعقيدا. فالمستقبلات الضوئية الهدبية مسؤولة في الأغلبية الساحقة من المتعضيات organisms عن استشعار الضوء للأغراض اللابصرية, مثل تنظيم الإيقاعات اليومية. وعلى العكس من ذلك، فإن المستقبلات المحورية تستشعر الضوء بغرض التمكين من الإبصار تحديدا. وتستعمل الأعين المركبة في مفصليات الأرجل والأعين من نمط الكاميرا في الرخويات، كالأخطبوط – وكلاهما تطور بصورة مستقلة عن العين من نمط الكاميرا عند الفقاريات- مستقبلات ضوئية محورية؛ ولكن عين الفقاريات تستخدم الصنف الهدبي من المستقبلات الضوئية من أجل استشعار الضوء للإبصار.

 

 

وفي عام 2003 نشر <D. آرندت> [من المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في هايدلبرگ، ألمانيا] بينات تشير إلى أن عيننا لا تزال تحافظ على خلايا مشتقة من المستقبلات الضوئية المحورية التي جرت عليها تعديلات عظيمة لتشكل عصبونات (نورونات) الإخراج التي ترسل المعلومات من الشبكية إلى الدماغ. يعني هذا الاكتشاف أن شبكيتنا تحوي أنسال كلا الصنفين من المستقبلات الضوئية: الصنف الهدبي الذي كان مستقبلات ضوئية دائما والصنف المحوري الذي استحال إلى عصبونات الإخراج. وإن استخدام بنية موجودة لغرض جديد هو بالذات طريقة عمل التطور، ولهذا فإن اكتشاف أن للمستقبلات الضوئية الهدبية والمحورية أدوارا مختلفة في عيننا عن تلك في عين الفقاريات يعطي المزيد من القوة للأدلة التي تشير إلى أن عين الفقاريات نشأت من خلال عمليات طبيعية. ولكننا تساءلنا ما هي أشكال الضغوط البيئية التي كان من الممكن أن تدفع تلك الخلايا نحو اتخاذ هذه الأدوار الجديدة.

 

وسعيا إلى فهم أسباب سيادة المستقبلات الضوئية الهدبية كمستشعرات الضوء في شبكية الفقاريات، في حين تطور صنف الخلايا المحورية إلى عصبونات لإرسال الإشارات، أجريتُ تحليلا لمميزات الأصبغة الحساسة للضوء في كل من الصنفين، أو الرودوپسينات، والتي سميت بذلك لدخول جزيء الأوپسين في تركيبها. وفي عام 2004، بيّن <Y. شيتشيد> وزملاؤه [في جامعة كيوتو باليابان] أنه في مرحلة مبكرة من تطور الأصبغة البصرية للفقاريات حدث فيها تغير جعل الشكل المفعّل بالضوء أكثر ثباتا، ومن ثم أكثر نشاطا. وبناء عليه طرحتُ فرضية أن هذا التغير أدى كذلك إلى سدّ السبيل أمام إعادة تحويل الرودوپسين المفعل إلى شكله الخامل مرة أخرى، ويحدث هذا التغير في الرودوپسينات المحورية بامتصاص فوتون ثانٍ من الضوء؛ وهذا يتطلّب بالضرورة ظهور مسار بيوكيميائي لإعادة الجزيء إلى شكله الخامل الذي يسمح له باستشعار الضوء مرة أخرى. وافترضتُ أنه متى اجتمع هذان العنصران أصبح للمستقبلات الضوئية الهدبية أفضلية واضحة على المستقبلات الضوئية المحورية في بيئات ذات مستويات إضاءة ضعيفة، مثل أعماق المحيطات، حيث مستويات الضوء ضعيفة جدا. وكنتيجة لذلك، ربما استطاعت بعض أوائل الحبليات chordates (أسلاف الفقاريات) استيطان موائل إيكولوجية تعذر استيطانها على الحيوانات المعتمدة على المستقبلات الضوئية المحورية – ليس لأن الأوپسين الهدبي المحسَّن يعطي إبصارا أفضل (فالمكونات الأخرى للعين من نمط الكاميرا لم تكن قد تطورت بعد)، بل لأنها قدمت طريقة أفضل لاستشعار الضوء مما سمح بضبط الساعات اليومية والموسمية.

 

ولهذه الحبليات العتيقة التي كانت تسكن في العوالم المظلمة أصبحت المستقبلات الضوئية المحورية ذات الحساسية الأقل عديمة الفائدة تقريبا، لذا صار عندها مجال لتأخذ دورا جديدا: عصبونات تنقل الإشارات إلى الدماغ. (وفي هذه المرحلة لم تعد تحتاج إلى أوپسين، لذا أزاله الانتقاء الطبيعي من هذه الخلايا.)

 

 

ولادة العين(*******)

 

 

بعد أن تكونت عندي وعند زملائي فكرة حول نشأة شبكية الفقاريات، أردنا أن نعرف كيف تطورت العين من عضو مستشعر للضوء، ولكن لابصري، إلى عضو مشكّل للصورة منذ نحو 500 مليون سنة. وهنا أيضا وجدنا أدلة في تطور الأجنة. وفي مراحل النمو المبكرة تبرز على كلا الجانبين البنية العصبية التي تنشأ منها العين فتشكل كيسين أو حويصلتين. وعندئذ تنطوي كل من الحويصلتين على نفسها فتشكل شبكية على هيئة الحرف C تبطّن داخل العين. ومن المحتمل أن التطور سلك طريقا مماثلا إلى حد بعيد. ومن ثم فقد افترضنا أن العين الأولية من هذا النوع، أي عينا أولية ذات شبكية على هيئة الحرف Cبطبقتين تتألف من مستقبلات ضوئية هدبية في الطبقة الخارجية وعصبونات إخراج مشتقة من المستقبلات الضوئية المحورية في الطبقة الداخلية، تشكلت عند أحد أسلاف الفقاريات بين 550 مليون و 500 مليون سنة، لتقوم بوظيفة ضبط ساعتها الداخلية وربما تساعدها على الإحساس بالظلال وتوجيه جسمها بالطريقة المناسبة.

 

وفي المرحلة التالية للتطور الجنيني تتشكل العدسة، بينما تنطوي الشبكية إلى الداخل على نفسها؛ وتنشأ العدسة من تثخن في الوجه الخارجي للجنين الإكتوديرم(9)، يبرز نحو الفراغ المقعر الذي تشكله الشبكية على هيئة الحرف C. وينفصل هذا البروز في النهاية عن سائر الإكتوديرم ويصبح عنصرا يعوم بطلاقة. ويبدو أن تسلسلا مماثلا من الأحداث جرى خلال التطور. لا نعرف تحديدا متى حدث هذا التعديل، ولكن باحثين من جامعة لوند في السويد أثبتوا في سنة 1994 أن المكونات البصرية للعين يمكن أن تكون قد تطورت بسهولة خلال مليون سنة؛ وإذا كان الأمر كذلك، تكون العين المشكلة للصورة قد نشأت من العين اللابصرية البدئية خلال لحظة بالمقاييس الجيولوجية.

 

ومن ثم ازدادت مقدرة العين على جمع المعلومات زيادة عظيمة مع إضافة العدسة لجمع الضوء وتركيز الصورة. فأدت هذه الزيادة إلى ضغوط انتقائيةselective تفضِّل تحسُّن معالجة الإشارة في الشبكية أكثر مما يقدمه الاتصال البسيط بين المستقبلات الضوئية وعصبونات الإخراج. وقد لبى التطور هذه الحاجة بتعديل عملية نضج الخلايا فتحولت بعض الخلايا النامية إلى الخلايا الثنائية القطب للشبكية تنغرز بين طبقة المستقبلات الضوئية وطبقة عصبونات الإخراج بدلا من أن تشكِّل مستقبلات ضوئية هدبية. هذا هو سبب الشبه الكبير بين الخلايا الثنائية القطب للشبكية وبين العصيّ والمخاريط، مع أنها لا تحوي رودوپسيناً وتتلقى الإدخال ليس من الضوء بل من المادة الكيميائية (التي تسمى الناقل العصبي(10) neurotransmitter) التي تنطلق من المستقبلات الضوئية.

 

مع أن العين من نمط الكاميرا تؤمِّن حقلا بصريا واسعا (في الحالة النموذجية نحو 180°)، إلا أن الدماغ عمليا لا يستطيع في الواقع اعتيان(11)سوى جزء يسير من المعلومات المتوفرة في أي وقت من الأوقات بسبب العدد المحدود من الألياف العصبية التي تربط عيننا بدماغنا. ولا شك في أن المراحل المبكرة من تطور العين من نمط الكاميرا تعاني قصورا أشد، فمن المفترض أن عدد الألياف العصبية فيها كان أقل. ومن ثمّ كان هناك ضغط انتقائي ملموس لتطوير العضلات من أجل تحريك العين. وكان من الضروري وجود مثل هذه العضلات قبل 500 مليون سنة؛ لأن ترتيب هذه العضلات في الجلكة – الذي يعود سلالته إلى تلك الفترة – تكاد لا تختلف عن ترتيبها عند الفقاريات الفكية، بما فيها البشر.

 

مع كل المميزات المبتكرة التي بناها التطور في عين الفقاريات، هناك عدد من السمات غير الأنيقة والمتعمدة. نجد مثلا أن الشبكية مقلوبة، وعلى الضوء أن يخترق كامل سمكها، عبر الألياف العصبية المتداخلة وأجسام الخلايا التي تبعثر الضوء وتقلل من جودة الصورة، قبل أن يصل إلى المستقبلات الحساسة للضوء. كذلك تبطن الأوعية الدموية السطح الداخلي للشبكية وتلقي ظلالا غير مرغوبة على طبقة المستقبلات الضوئية. أيضا توجد في الشبكية بقعة عمياء حيث تتجمع الألياف العصبية التي تغطي سطحها قبل أن تخترق الشبكية لتظهر وراءها كالعصب البصري(12). وتطول القائمة.

 

وهذه العيوب ليست صفات لا مفرّ منها لتصميم العين على شكل كاميرا، لأن الأخطبوط والحبار تطور لديها – بشكل مستقل – عين من نمط الكاميرا لا تعاني هذه النقائص. وبالفعل، لو أن مهندسين صمموا عينا فيها النقائص الموجودة في عيننا لطُرِدُوا من عملهم على الأغلب. ودراسة عين الفقاريات ضمن إطار التطور تكشف أن هذه العيوب التي تبدو منافية للعقل ليست إلا نتيجة لتتالي عدد من الخطوات التي قدمت كل خطوة منها منافع لأسلافنا من الفقاريات القدامى حتى قبل أن يستطيعوا الإبصار. إن تصميم عيننا ليس ذكيا، ولكنه يصبح معقولا إذا نظرنا إليه في الضوء الساطع للتطور.

 

 


المؤلــف 

 

   Trevor D. Lamb

<لامب> باحث في قسم العلوم العصبية في كلية جون كورتين للأبحاث الطبية وفي مركز التفوق في علوم الإبصار لمجلس الأبحاث الأسترالي بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا. تركزت أبحاثه على المستقبلات الضوئية من العصيّ والمخاريط في شبكية الفقاريات.


  مراجع للاستزادة

Evolution of the Vetebrate Eye: Opsins, Photoreceptors, Retina and Eye Cup. Trevor D. Lamb et al. in Nature Reviews Neuroscience, Vol. 8, pages 960-975; December 2007.

The Evolution of Eyes. Special issue of Evolution: Education and Outreach, Vol. 1, No. 4, pages 351-516; October 2008

The Evolution of Phototransduction and Eyes. Philosophical Transactions of the Royal Society B, Vol. 364, No. 1531, pages 2789-2967; October 12, 2009


(*)EVOLUTION OF THE EYE

(**)COMPOUND VS. CAMERA

(***)DEEP ROOTS

(****)Echoes of Evolution
(*****)Scars of Evolution

(******)RISE OF THE RECEPTORS

(*******)AN EYE IS BORN


(1) creationists and intelligent design
(2) the origin of species

(3) compound eye

(4) the arthropods

(5) Jawed Vertebrates
(6) hagfish

(7) pineal gland

(8) nonmammalian vertebrates

(9) ectoderm
(10) أو: الناقل النوروني

(11) sample

(12) optic nerve

 
     
     

،،

صار لدى العلماء الآن تصور واضححول كيف تطورت عيوننا البالغة التعقيد.

 

 

 

 

 

 

بـاختصـــار ::

 

عينُ الحيوانات الفقارية معقدة لدرجة أن أنصار نظرية الخلق استعملوها لوقت طويل كحجتهم المفضلة على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتقاء الطبيعي. الأنسجة الرخوة نادرا ما تتأحفر، ولكن العلماء تشكل لديهم فهمٌ لمنشأ العين من خلال مقارنة بنى العين وتطورها الجنيني في الأنواع الفقارية. وهذه الأدلة تشير إلى أن جذور عيننا من نمط الكاميرا، ضاربة في القدم بشكل مدهش، وقبل أن تكتسب العناصر الضرورية لتعمل كعضو إبصار، كانت وظيفتها كشف الضوء لتعديل الإيقاعات اليومية عند أسلافنا القدامى.
 

 

 

 

 

 

 

عينُ الإنسان عضو بالغ التعقيد. فهو يعمل مثل كاميرا تـجمع الضوء وتركّزه وتحوّله إلى إشارة كهربائية يترجمها الدماغ إلى صور. ولكن بدلا من فيلم التصوير فإن العين تحوي شبكية عالية التخصص تحسّ بـالضوء وتعالج الإشارات باستخدام عشرات الأنواع المختلفة من العصبونات. ونتيجة لـهذا التعقيد، بقي منشأ العين لفترة طويلة من أشهر الحجج المفضلة لأنصار نظريتي الخلق والتصميم الـذكي(1) الذين يعتبرونه مثالا رئيسا على ما يسمونه بالتعقيد غير القابل للاختزال، أي النظام الذي لا يمكن أن يعمل في غياب أي مكون من مكوناته، ومن ثمّ لا يمكن أن يكون قد تطور طبيعيا من شكل أكثر بدائية. وفعلا، حتى <تشارلز داروين> نفسه اعترف في أصل الأنواع(2) – الـكتاب الصادر في سنة 1859 الذي فصّل فيه نظريته في التطور بالانتقاء الطبيعي – أنه قد يبدو من غير المعقول التفكير في أن العين تطورت بالانتقاء الطبيعي. ولكن <داروين> كان يعتقد قطعيا أن العين تطورت بهذه الطريقة على الرغم من غياب الأدلة حول الأشكال الانتقالية في ذلك الحين.

 

 

وظل من الصعب العثور على أدلة مباشرة. فبينما يستطيع الباحثون الذين يدرسون تطور الهيكل العظمي توثيق استحالاته بسهولة من السجل الأحفوري، إلا أن الأبنية المؤلفة من أنسجة رخوة نادرا ما تتحول إلى أحفورة، وحتى إذا تحولت إلى أحفورة فإن الأحفورة لا تحتفظ بما يكفي من التفاصيل التي تـسمح بتحديد كيفية تطور هذه البنى. ومع ذلك حقق البيولوجيون مؤخرا تقدما مهما في تتبُّع أصل العين، وذلك بدراسة تطور أشكالها في الأجنّة النامية وبمقارنة بنية العين والجينات عبر الأنواع لإعادة بناء أوقات ظهور السمات الرئيسة. وتشير النتائج إلى أن نوع عيوننا، أي النمط الشائع بين الفقاريات، أخذ شكله خلال أقل من مئة مليون سنة متطورا من مجسّ ضوئيlight sensor بسيط لضبط الإيقاعات اليومية circadian rhythms والموسمية منذ نحو 600 مليون سنة إلى عضو متطور بصريا وعصبيا منذ 500 مليون سنة. وبعد مرور أكثر من 150 سنة من نشر <داروين> لنظريته الرائدة تدق هذه النتائج آخر مسمار في تابوت التعقيد غير القابل للاختزال وتدعم أناقة فكرة <داروين>. كما تفسر لماذا يُشاهَد في العين، الـبعيدة كل البعد عن أن تكون آلة مصممة بإتقان، عددا من عيوب التصميم: هذه العيوب هي ندبات التطور. فالانتقاء الطبيعي لا يؤدي إلى الكمال كما قد يعتقد البعض، بل يرتجل ليصنع شيئا من المواد المتوفرة له، فيأتي أحيانا بـنتائج عجيبة.

 

 

 

 

 

 

وكي يفهم المرء كيف ظهرت العين عليه أن يعرف شيئا عما حدث في الحقب الغابرة. فلدينا – نحن البشر – خط لا ينقطع من الأسلاف يمتد إلى الماضي نحو أربعة بلايين سنة حتى بداية الحياة على الأرض. فمنذ ما يقارب بليون سنة تشعّبت الحيوانات البسيطة المتعددة الخلايا إلى مجموعتين: تتصف إحداهما بمخطط الجسم المتناظر شعاعيا (لها جانب علوي وآخر سفلي، ولكن ليس لها أمام أو خلف) والأخرى، التي نشأ عنها أغلب الكائنات التي نعتبرها حيوانات ثنائية التناظر لها جانبان أيمن وأيسر، أحدهما انعكاس مرآة للآخر، ويقع الرأس في أحد طرفيها. ومن ثم تشعّبت ثنائيات التناظر بدورها قبل نحو 600 مليون سنة مضت إلى مجموعتين مهمتين: واحدة نشأت عنها الأغلبية الساحقة من المخلوقات المعاصرة التي ليس لديها عمود فقري (اللافقاريات)، والأخرى تشمل سلالتنا الفقارية. وبعد أن افترقت هاتان السلالتان بقليل ظهر وتكاثر تنوُّع مذهل من مخططات الجسم خلال ما يسمى بالانفجار الكامبريcambrian explosion الذي ترك أثره الشهير في السجل الأحفوري بين ما يقارب 540 إلى 490 مليون سنة خلت. ووضع هذا الانفجار التطوري الأساسَ لظهور عيننا المعقدة.

 

 

 

العين المركبة مقابل العين الكاميرا(**)

 

 

يبين السجل الأحفوري أنه خلال الانفجار الكامبري ظهر شكلان مختلفان أساسا للعين. الشكل الأول على ما يبدو هو العين المركبة(3) من النمط الذي نراه اليوم عند الأفراد البالغين في جميع الحشرات والعناكب والقشريات، التي هي جزء من مجموعة اللافقاريات المعروفة باسم (مفصليات الأرجل)(4). في هذا النمط من العين تقوم منظومة من وحدات تصويرية متماثلة كل واحدة منها عبارة عن عدسة أو عاكس ضوء ببثّ الضوء إلى بضعة عناصر حساسة للضوء تسمى المستقبلات الضوئية. والعين المركبة فعّالة جدا بالنسبة إلى الحيوانات الصغيرة، إذ توفر الرؤية بزاوية واسعة ودقة تفاصيل مكانية معتدلة في الحجم الصغير. وربما وفّرت هذه القدرات الإبصارية (خلال عصر الكامبري للتريلوبيت) وغيرها من مفصليات الأرجل العتيقة ميزات بقاء مقارنة بالكائنات المختلة الإبصار المعاصرة لها. إلاّ أن العين المركبة غير عملية بالنسبة إلى الحيوانات الكبيرة لأن حجم العين المطلوب لتحقيق إبصار ذي دقة تفاصيل عالية سيكون كبيرا جدا. وهكذا، مع زيادة حجم الجسم ازدادت الضغوط الانتقائية التي تفضّل تطور نمط آخر من العين، وهو نوع الكاميرا.

 

وفي العيون على شاكلة الكاميرا تشترك المستقبلات الضوئية جميعها في عدسة وحيدة تركز الضوء، وهي مرتّبة على شكل صفيحة (الشبكية) تبطن السطح الداخلي لجدار العين. ولدى الحبّار والأخطبوط عيون على شكل كاميرا ذات شبه سطحي بعين البشر، ولكن مستقبلاتها الضوئية من النمط نفسه الذي يوجد في عين الحشرة. أما الفقاريات فلديها نمط مختلف من المستقبلات الضوئية، ولهذا النمط نوعان في الفقاريات الفكية(5) (بما فيهم نحن): المخاريط للإبصار في النهار، والعصيّ للإبصار في الليل.

 

ومنذ عدة سنوات شكلتُ فريقا، مع كل من <E .N. پيو جونيور> [الـذي كان يعمل حينها في جامعة پنسيلڤانيا] و<S. كولين> [من جامعة كوينسلاند في أستراليا] لمحاولة فهم السبل المحتملة لتطور هذه الأنماط المختلفة من المستقبلات الضوئية. وما وجدناه تجاوز مجرد الإجابة عن ذلك السؤال وقدم سيناريو مقنعا لأصل عين الفقاريات.

 

 

 

جذور عميقة(***)

 

 

وقد لاحظ هذا الفريق، مثل البيولوجيين الآخرين قبلنا، أن الكثير من السمات المميزة لعين الفقاريات متماثلة عند جميع ممثلي فرع ضخم من شجرة الفقاريات، هو الفقاريات الفكية. ويشير هذا النمط إلى أن الفقاريات الفكية ورثت هذه السمات من سلف مشترك وأن عيننا كانت قد تطورت منذ ما يقارب 420 مليون سنة، عندمـا كانت الفقاريات الفكية الأولى (التي كانت على الأغلب تشبه الأسماك الغضروفية المعاصرة مثل سمك القرش) تجوب البحار. وجادلنا في أن جذور عيننا ذات نمط كاميرا ومستقبلاتها الضوئية يجب أن تكون أعمق، فحوّلنا انتباهنا إلى الفقاريات اللافكية الأكثر بدائية التي نتشارك معها في سلف مشترك منذ نحو 500 مليون سنة.

 

وأردنا أن نفحص تشريحَ واحد من هذه الحيوانات بالتفصيل فقررنا أن نركز على واحد من الحيوانات المعاصرة القليلة من هذه الزمرة، وهو الجلكة lampreyذو فم قمعي مصمم للمصّ وليس للعضّ. وتبين أن لهذه السمكة أيضا عينا من نمط الكاميرا ذات عدسة وقزحية وعضلات. بل إن شبكية الجلكة ذات بنية ثلاثية الطبقات مثل شبكيتنا، وتشبه مستقبلاتها الضوئية شبها كبيرا المخاريط في شبكية الإنسان، مع أنها على ما يبدو لم تطوِّر العصيّ rods الأكثر حساسية. فضلا عن ذلك، فإن الجينات التي تتحكم في الكثير من نواحي كشف الضوء والمعالجة العصبية وتطور العين هي الجينات نفسها التي توجه هذه العمليات في الفقاريات الفكية.

 

هذه التشابهات اللافتة للنظر في عين الفقاريات الفكية كثيرةٌ جدا مما يـستبعد أن تكون قد ظهرت بصورة مستقلة في فروعها، بل يجب أن تكون العين التي تشبه في ملامحها الأساسية عيننا موجودة عند السلف المشترك للفقاريات الفكية واللافكية منذ 500 مليون سنة. عند هذه النقطة تساءلنا ما إذا كنّا نستطيع أن نتتبع منشأ العين ومستقبلاتها الضوئية إلى الماضي الأقدم. وللأسف، لا يوجد ممثلون أحياء للسلالات التي انفصلت عن سلالتنا خلال الخمسين مليون سنة السابقة، وهي الفترة الزمنية المنطقية التالية لهذه الدراسة. ولكننا وجدنا أدلّة في عين حيوان غامض اسمه الجرِّيث hagfish.

 

والجريث، مثل أقاربه من سمك الجلكة، هو سمك عديم الفك يشبه الأنقليس(6)، ويعيش عادة في قعر المحيطات حيث يتغذى بالقشريات وجثث المخلوقات البحرية الأخرى الراسبة. وعندما يشعر الجريث بتهديد يفرز مخاطا لزجا للغاية، ومن هنا لقبه «الأنقليس المخاطي». ومع أن الجريث من الفقاريات، إلاّ أن عينه تختلف اختلافا كبيرا عما هي في الفقاريات؛ فعين الجريث ليس لها قرنية ولا قزحية ولا عدسة ولا عضلات داعمة، وشبكيتها تتألف فقط من طبقتين من الخلايا وليس ثلاث. وإضافة إلى ذلك، فكل عين مطمورة عميقا تحت طبعة شافّة من الجلد. وتشير ملاحظة سلوك الجريث إلى أن هذا الحيوان يكاد يكون أعمى ويستدل على الجيف بواسطة حاسة شمه الحادة.

 

ويشترك الجريث بسلف مشترك مع الجلكة. ومن المفترض أن هذا السلف كان لديه عين من نمط الكاميرا مثل الجلكة. ومن ثمّ، يفترض أن عين الجريث قد تدهورت من شكل أكثر تقدما، وبقاؤها بهذا الشكل المصغّر يخبرنا الكثير. فنحن نعلم من سمك الكهوف الأعمى، مثلا، أن العين يمكن أن تتدهور تدهورا جسيما ويمكن حتى أن تختفي خلال فترة وجيزة لا تتجاوز عشرة آلاف سنة. ولكن عين الجريث بقيت على حالها مئات ملايين السنين. ويشير هذا الاستمرار إلى أن لهذا العضو أهمية ما من أجل البقاء، حتى ولو لم يستطع الحيوان استخدامه للرؤية في الأعماق المعتمة للمحيطات. ويشير هذا الاكتشاف ضمنيا إلى أمور أخرى. فمن المحتمل أن تكون عين الجريث قد وصلت إلى هذه الحالة من الضمور نتيجة فشل في النمو، وبهذا فإن البنية الحالية لعينه قد تمثل مرحلة تطورية أبكر؛ أي إن كيفية عمل عين الجريث يمكن أن تلقي ضوءا على كيفية عمل العين الأولية، أي العين البدئية قبل أن تتطور لتصبح عضو إبصار.

 

 

 

 

موجودات :أصداء التطور(****)

 

إن بنية العين وتطورها الجنيني في الجريث والجلكة، وهما كائنان فقاريان يشبهان الأنقليس، يعطيان إشارات إلى كيفية تطور عيننا من نمط الكاميرا وتأديتها لوظيفتها في مراحلها المبكرة. فالجريث لديه عين ضامرة غير قادرة على الإبصار، إنما الغرض منها، على الأغلب، كشف الضوء من أجل تعديل الإيقاعات اليومية (1). ويشبه التطور المبكر لعين الجلكة عين الجريث ذات البنية البسيطة قبل أن تستحيل إلى عين معقدة من نمط الكاميرا (2). وعين الإنسان تشبه عين الجريث خلال تطورها، إذ تمر بمرحلة تتكون الشبكية خلالها من طبقتين فقط قبل أن تظهر الطبقة الثالثة من الخلايا (3). ومن المعروف أن أوجه النمو الجنيني عند الفرد تعكس الأحداث التي مر بها تطور سلالته.

 

 

 

 

 

عين الأسلاف: تشير البينات المتوفرة إلى أن عينا أولية لا بصرية قد تطورت عند سلف الفقاريات منذ نحو 550 مليون إلى 500 مليون سنة (4) وأن وظيفة طليعة العين من نمط الكاميرا كانت كشف الضوء لضبط الساعة الداخلية للسلف.
 

 

 

 

 

 

ويمكن أن نستوحي إشارات خفيفة إلى الدور الذي قد تؤديه عين الجريث من تفحُّص دقيق لشبكية هذا الحيوان. ففي الشبكية المعيارية للفقاريات، الشبكية ذات الثلاث طبقات، تقوم الخلايا في الطبقة المتوسطة، والتي تسمى بالخلايا الثنائية القطب، بمعالجة المعلومات من المستقبلات الضوئية ونقلها إلى عصبونات الإخراج output neurons التي تنتقل إشاراتها إلى الدماغ ليجري تفسيرها. أما شبكية الجريث ذات الطبقتين فتفتقر إلى الخلايا الثنائية القطب المتداخلة، وهذا يعني أن المستقبلات الضوئية تتصل بعصبونات الإخراج مباشرة. ومن هذه الناحية تشبه التوصيلات العصبية لشبكية الجريث إلى حد كبير التوصيلات في ما يسمى بالغدة الصنوبرية(7)، وهي جسم صغير يفرز الهرمونات في دماغ الفقاريات. تتحكّم الغدة الصنوبرية في الإيقاعات اليومية، وفي الفقاريات اللاثديية(8) تحوي هذه الغدة خلايا مستقبلة للضوء تتصل مباشرة بعصبونات الإخراج من دون خلايا وسيطة؛ وفي الثدييات فقدت تلك الخلايا القدرة على الإحساس بالضوء.

 

 

 

دليل : ندبات التطور(*****)

 

 

   تحوي عين الفقاريات، وهي بعيدة تماما عن أن تكون تصميما ذكيا – عيوبا عديدة تشهد على أصلها التطوري ويؤدي بعض هذه العيوب إلى تدني جودة الصورة، ومنها أن الشبكية مقلوبة، لذا يجب على الضوء أن يمر عبر أجسام الخلايا والألياف البصرية قبل أن يصل إلى المستقبلات الضوئية (1)؛ وتلقي الأوعية الدموية التي تمتد عبر السطح الداخلي للشبكية ظلالا على الشبكية (2)؛ أما الألياف العصبية التي تتجمع سوية لتخترق الشبكية عبر فتحة وحيدة لتصبح العصب البصري، فتنشأ عنها البقعة العمياء (3).

 

 

 

 

 

وبناء على هذا التشابه مع الغدة الصنوبرية، اقترحت في عام 2007 مع زملائي أن عين الجريث لا تعمل في الإبصار بل توفر المدخلات إلى ذلك الجزء من دماغ الحيوان الذي ينظم الإيقاعات اليومية الحيوية، إضافة إلى النشاطات الموسمية كالتغذية والتكاثر. ومن ثم من المحتمل أن العين الأولية في الفقاريات الأولية التي عاشت ما بين 550 مليون و500 مليون سنة مضت كانت عضوا لابصريا ولم تطوِّر إلاّ لاحقا القدرة على المعالجة العصبية والمكونات البصرية والحركية اللازمة للإبصار المكاني.

 

 

وتدعم دراسات التطور الجنيني لعين الفقاريات هذه النظرية. فعندما يكون سمك الجلكة في طور اليرقة, يعيش في مجاري الجداول، وهو أعمى مثل الجريث. وفي هذه المرحلة تشبه عينه عين الجريث من حيث بساطة بنيتها وكونها مطمورة تحت الجلد. وعندما تمر اليرقة في مرحلة التحول تنمو عينها الضامرة بشكل ملموس وتتطور فيها شبكية ذات طبقات ثلاث؛ وتتشكل كذلك العدسة والقرنية والعضلات الداعمة جميعها، ثم ينبثق العضو إلى السطح كعين الفقاريات من نمط الكاميرا. وبما أن جوانب كثيرة من تطور الفرد تعكس الحوادث التي جرت خلال تطور أسلافه، نستطيع أن نستخدم تطور عين الجلكة، بشيء من الحذر، في إعادة بناء تاريخ تطور العين.

 

 

إن عين الثدييات خلال تطورها الجنيني تقدم بعض الشواهد التي تشير إلى منشئها التطوري. وقد اكتشف <B .E. ريز> وزملاؤه [بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا] أن توصيلات شبكية الثدييات تكون في البدء مثل توصيلات الجريث إلى حد بعيد، إذ تتصل المستقبلات الضوئية فيها بعصبونات الإخراج مباشرة؛ وبعد ذلك، وخلال بضعة أسابيع، تنضج الخلايا الثنائية القطب وتنغرز بين المستقبلات الضوئية وعصبونات (نورونات) الإخراج. وهذا التتالي هو تماما نمط النمو الذي يمكن أن يتوقعه المرء ليعرف ما إن كانت شبكية الفقاريات قد تطورت من عضو ذي طبقتين لتنظيم الإيقاعات اليومية، وذلك بإضافة قدرة المعالجة ومكونات لتشكيل الصورة. ومن ثمّ يبدو معقولا تماما أن هذه المرحلة البسيطة المبكرة للتطور تمثل أثرا باقيا عن فترة في تاريخ التطور قبل اختراع توصيلات الخلايا الثنائية القطب وقبل اختراع العدسة والقرنية والعضلات الداعمة.

 

 

نشوء المستقلات(******)

 

 

بينما كنا ندرس نمو طبقات الشبكية الثلاث، خطر لنا سؤال آخر متعلق بتطور العين. إذ تنقسم المستقبلات الضوئية في مملكة الحيوان إلى صنفين متميزين: صنف محوري rhabdomeric class وآخر هدبي ciliary. وحتى الماضي القريب، كان أغلب العلماء يعتقد أن اللافقاريات تستخدم صنف المستقبلات المحورية بينما تستخدم الفقاريات الصنف الهدبي ولكن الوضع في الواقع، أكثر تعقيدا. فالمستقبلات الضوئية الهدبية مسؤولة في الأغلبية الساحقة من المتعضيات organisms عن استشعار الضوء للأغراض اللابصرية, مثل تنظيم الإيقاعات اليومية. وعلى العكس من ذلك، فإن المستقبلات المحورية تستشعر الضوء بغرض التمكين من الإبصار تحديدا. وتستعمل الأعين المركبة في مفصليات الأرجل والأعين من نمط الكاميرا في الرخويات، كالأخطبوط – وكلاهما تطور بصورة مستقلة عن العين من نمط الكاميرا عند الفقاريات- مستقبلات ضوئية محورية؛ ولكن عين الفقاريات تستخدم الصنف الهدبي من المستقبلات الضوئية من أجل استشعار الضوء للإبصار.

 

 

وفي عام 2003 نشر <D. آرندت> [من المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في هايدلبرگ، ألمانيا] بينات تشير إلى أن عيننا لا تزال تحافظ على خلايا مشتقة من المستقبلات الضوئية المحورية التي جرت عليها تعديلات عظيمة لتشكل عصبونات (نورونات) الإخراج التي ترسل المعلومات من الشبكية إلى الدماغ. يعني هذا الاكتشاف أن شبكيتنا تحوي أنسال كلا الصنفين من المستقبلات الضوئية: الصنف الهدبي الذي كان مستقبلات ضوئية دائما والصنف المحوري الذي استحال إلى عصبونات الإخراج. وإن استخدام بنية موجودة لغرض جديد هو بالذات طريقة عمل التطور، ولهذا فإن اكتشاف أن للمستقبلات الضوئية الهدبية والمحورية أدوارا مختلفة في عيننا عن تلك في عين الفقاريات يعطي المزيد من القوة للأدلة التي تشير إلى أن عين الفقاريات نشأت من خلال عمليات طبيعية. ولكننا تساءلنا ما هي أشكال الضغوط البيئية التي كان من الممكن أن تدفع تلك الخلايا نحو اتخاذ هذه الأدوار الجديدة.

 

وسعيا إلى فهم أسباب سيادة المستقبلات الضوئية الهدبية كمستشعرات الضوء في شبكية الفقاريات، في حين تطور صنف الخلايا المحورية إلى عصبونات لإرسال الإشارات، أجريتُ تحليلا لمميزات الأصبغة الحساسة للضوء في كل من الصنفين، أو الرودوپسينات، والتي سميت بذلك لدخول جزيء الأوپسين في تركيبها. وفي عام 2004، بيّن <Y. شيتشيد> وزملاؤه [في جامعة كيوتو باليابان] أنه في مرحلة مبكرة من تطور الأصبغة البصرية للفقاريات حدث فيها تغير جعل الشكل المفعّل بالضوء أكثر ثباتا، ومن ثم أكثر نشاطا. وبناء عليه طرحتُ فرضية أن هذا التغير أدى كذلك إلى سدّ السبيل أمام إعادة تحويل الرودوپسين المفعل إلى شكله الخامل مرة أخرى، ويحدث هذا التغير في الرودوپسينات المحورية بامتصاص فوتون ثانٍ من الضوء؛ وهذا يتطلّب بالضرورة ظهور مسار بيوكيميائي لإعادة الجزيء إلى شكله الخامل الذي يسمح له باستشعار الضوء مرة أخرى. وافترضتُ أنه متى اجتمع هذان العنصران أصبح للمستقبلات الضوئية الهدبية أفضلية واضحة على المستقبلات الضوئية المحورية في بيئات ذات مستويات إضاءة ضعيفة، مثل أعماق المحيطات، حيث مستويات الضوء ضعيفة جدا. وكنتيجة لذلك، ربما استطاعت بعض أوائل الحبليات chordates (أسلاف الفقاريات) استيطان موائل إيكولوجية تعذر استيطانها على الحيوانات المعتمدة على المستقبلات الضوئية المحورية – ليس لأن الأوپسين الهدبي المحسَّن يعطي إبصارا أفضل (فالمكونات الأخرى للعين من نمط الكاميرا لم تكن قد تطورت بعد)، بل لأنها قدمت طريقة أفضل لاستشعار الضوء مما سمح بضبط الساعات اليومية والموسمية.

 

ولهذه الحبليات العتيقة التي كانت تسكن في العوالم المظلمة أصبحت المستقبلات الضوئية المحورية ذات الحساسية الأقل عديمة الفائدة تقريبا، لذا صار عندها مجال لتأخذ دورا جديدا: عصبونات تنقل الإشارات إلى الدماغ. (وفي هذه المرحلة لم تعد تحتاج إلى أوپسين، لذا أزاله الانتقاء الطبيعي من هذه الخلايا.)

 

 

ولادة العين(*******)

 

 

بعد أن تكونت عندي وعند زملائي فكرة حول نشأة شبكية الفقاريات، أردنا أن نعرف كيف تطورت العين من عضو مستشعر للضوء، ولكن لابصري، إلى عضو مشكّل للصورة منذ نحو 500 مليون سنة. وهنا أيضا وجدنا أدلة في تطور الأجنة. وفي مراحل النمو المبكرة تبرز على كلا الجانبين البنية العصبية التي تنشأ منها العين فتشكل كيسين أو حويصلتين. وعندئذ تنطوي كل من الحويصلتين على نفسها فتشكل شبكية على هيئة الحرف C تبطّن داخل العين. ومن المحتمل أن التطور سلك طريقا مماثلا إلى حد بعيد. ومن ثم فقد افترضنا أن العين الأولية من هذا النوع، أي عينا أولية ذات شبكية على هيئة الحرف Cبطبقتين تتألف من مستقبلات ضوئية هدبية في الطبقة الخارجية وعصبونات إخراج مشتقة من المستقبلات الضوئية المحورية في الطبقة الداخلية، تشكلت عند أحد أسلاف الفقاريات بين 550 مليون و 500 مليون سنة، لتقوم بوظيفة ضبط ساعتها الداخلية وربما تساعدها على الإحساس بالظلال وتوجيه جسمها بالطريقة المناسبة.

 

وفي المرحلة التالية للتطور الجنيني تتشكل العدسة، بينما تنطوي الشبكية إلى الداخل على نفسها؛ وتنشأ العدسة من تثخن في الوجه الخارجي للجنين الإكتوديرم(9)، يبرز نحو الفراغ المقعر الذي تشكله الشبكية على هيئة الحرف C. وينفصل هذا البروز في النهاية عن سائر الإكتوديرم ويصبح عنصرا يعوم بطلاقة. ويبدو أن تسلسلا مماثلا من الأحداث جرى خلال التطور. لا نعرف تحديدا متى حدث هذا التعديل، ولكن باحثين من جامعة لوند في السويد أثبتوا في سنة 1994 أن المكونات البصرية للعين يمكن أن تكون قد تطورت بسهولة خلال مليون سنة؛ وإذا كان الأمر كذلك، تكون العين المشكلة للصورة قد نشأت من العين اللابصرية البدئية خلال لحظة بالمقاييس الجيولوجية.

 

ومن ثم ازدادت مقدرة العين على جمع المعلومات زيادة عظيمة مع إضافة العدسة لجمع الضوء وتركيز الصورة. فأدت هذه الزيادة إلى ضغوط انتقائيةselective تفضِّل تحسُّن معالجة الإشارة في الشبكية أكثر مما يقدمه الاتصال البسيط بين المستقبلات الضوئية وعصبونات الإخراج. وقد لبى التطور هذه الحاجة بتعديل عملية نضج الخلايا فتحولت بعض الخلايا النامية إلى الخلايا الثنائية القطب للشبكية تنغرز بين طبقة المستقبلات الضوئية وطبقة عصبونات الإخراج بدلا من أن تشكِّل مستقبلات ضوئية هدبية. هذا هو سبب الشبه الكبير بين الخلايا الثنائية القطب للشبكية وبين العصيّ والمخاريط، مع أنها لا تحوي رودوپسيناً وتتلقى الإدخال ليس من الضوء بل من المادة الكيميائية (التي تسمى الناقل العصبي(10) neurotransmitter) التي تنطلق من المستقبلات الضوئية.

 

مع أن العين من نمط الكاميرا تؤمِّن حقلا بصريا واسعا (في الحالة النموذجية نحو 180°)، إلا أن الدماغ عمليا لا يستطيع في الواقع اعتيان(11)سوى جزء يسير من المعلومات المتوفرة في أي وقت من الأوقات بسبب العدد المحدود من الألياف العصبية التي تربط عيننا بدماغنا. ولا شك في أن المراحل المبكرة من تطور العين من نمط الكاميرا تعاني قصورا أشد، فمن المفترض أن عدد الألياف العصبية فيها كان أقل. ومن ثمّ كان هناك ضغط انتقائي ملموس لتطوير العضلات من أجل تحريك العين. وكان من الضروري وجود مثل هذه العضلات قبل 500 مليون سنة؛ لأن ترتيب هذه العضلات في الجلكة – الذي يعود سلالته إلى تلك الفترة – تكاد لا تختلف عن ترتيبها عند الفقاريات الفكية، بما فيها البشر.

 

مع كل المميزات المبتكرة التي بناها التطور في عين الفقاريات، هناك عدد من السمات غير الأنيقة والمتعمدة. نجد مثلا أن الشبكية مقلوبة، وعلى الضوء أن يخترق كامل سمكها، عبر الألياف العصبية المتداخلة وأجسام الخلايا التي تبعثر الضوء وتقلل من جودة الصورة، قبل أن يصل إلى المستقبلات الحساسة للضوء. كذلك تبطن الأوعية الدموية السطح الداخلي للشبكية وتلقي ظلالا غير مرغوبة على طبقة المستقبلات الضوئية. أيضا توجد في الشبكية بقعة عمياء حيث تتجمع الألياف العصبية التي تغطي سطحها قبل أن تخترق الشبكية لتظهر وراءها كالعصب البصري(12). وتطول القائمة.

 

وهذه العيوب ليست صفات لا مفرّ منها لتصميم العين على شكل كاميرا، لأن الأخطبوط والحبار تطور لديها – بشكل مستقل – عين من نمط الكاميرا لا تعاني هذه النقائص. وبالفعل، لو أن مهندسين صمموا عينا فيها النقائص الموجودة في عيننا لطُرِدُوا من عملهم على الأغلب. ودراسة عين الفقاريات ضمن إطار التطور تكشف أن هذه العيوب التي تبدو منافية للعقل ليست إلا نتيجة لتتالي عدد من الخطوات التي قدمت كل خطوة منها منافع لأسلافنا من الفقاريات القدامى حتى قبل أن يستطيعوا الإبصار. إن تصميم عيننا ليس ذكيا، ولكنه يصبح معقولا إذا نظرنا إليه في الضوء الساطع للتطور.

 

 


المؤلــف 

 

   Trevor D. Lamb

<لامب> باحث في قسم العلوم العصبية في كلية جون كورتين للأبحاث الطبية وفي مركز التفوق في علوم الإبصار لمجلس الأبحاث الأسترالي بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا. تركزت أبحاثه على المستقبلات الضوئية من العصيّ والمخاريط في شبكية الفقاريات.


  مراجع للاستزادة

Evolution of the Vetebrate Eye: Opsins, Photoreceptors, Retina and Eye Cup. Trevor D. Lamb et al. in Nature Reviews Neuroscience, Vol. 8, pages 960-975; December 2007.

The Evolution of Eyes. Special issue of Evolution: Education and Outreach, Vol. 1, No. 4, pages 351-516; October 2008

The Evolution of Phototransduction and Eyes. Philosophical Transactions of the Royal Society B, Vol. 364, No. 1531, pages 2789-2967; October 12, 2009


(*)EVOLUTION OF THE EYE

(**)COMPOUND VS. CAMERA

(***)DEEP ROOTS

(****)Echoes of Evolution
(*****)Scars of Evolution

(******)RISE OF THE RECEPTORS

(*******)AN EYE IS BORN


(1) creationists and intelligent design
(2) the origin of species

(3) compound eye

(4) the arthropods

(5) Jawed Vertebrates
(6) hagfish

(7) pineal gland

(8) nonmammalian vertebrates

(9) ectoderm
(10) أو: الناقل النوروني

(11) sample

(12) optic nerve

بـاختصـــار ::

 

عينُ الحيوانات الفقارية معقدة لدرجة أن أنصار نظرية الخلق استعملوها لوقت طويل كحجتهم المفضلة على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتقاء الطبيعي. الأنسجة الرخوة نادرا ما تتأحفر، ولكن العلماء تشكل لديهم فهمٌ لمنشأ العين من خلال مقارنة بنى العين وتطورها الجنيني في الأنواع الفقارية. وهذه الأدلة تشير إلى أن جذور عيننا من نمط الكاميرا، ضاربة في القدم بشكل مدهش، وقبل أن تكتسب العناصر الضرورية لتعمل كعضو إبصار، كانت وظيفتها كشف الضوء لتعديل الإيقاعات اليومية عند أسلافنا القدامى.
 

 

موجودات :أصداء التطور(****)

إن بنية العين وتطورها الجنيني في الجريث والجلكة، وهما كائنان فقاريان يشبهان الأنقليس، يعطيان إشارات إلى كيفية تطور عيننا من نمط الكاميرا وتأديتها لوظيفتها في مراحلها المبكرة. فالجريث لديه عين ضامرة غير قادرة على الإبصار، إنما الغرض منها، على الأغلب، كشف الضوء من أجل تعديل الإيقاعات اليومية (1). ويشبه التطور المبكر لعين الجلكة عين الجريث ذات البنية البسيطة قبل أن تستحيل إلى عين معقدة من نمط الكاميرا (2). وعين الإنسان تشبه عين الجريث خلال تطورها، إذ تمر بمرحلة تتكون الشبكية خلالها من طبقتين فقط قبل أن تظهر الطبقة الثالثة من الخلايا (3). ومن المعروف أن أوجه النمو الجنيني عند الفرد تعكس الأحداث التي مر بها تطور سلالته.

 

 

 

 

 

عين الأسلاف: تشير البينات المتوفرة إلى أن عينا أولية لا بصرية قد تطورت عند سلف الفقاريات منذ نحو 550 مليون إلى 500 مليون سنة (4) وأن وظيفة طليعة العين من نمط الكاميرا كانت كشف الضوء لضبط الساعة الداخلية للسلف.
 

 

 

دليل : ندبات التطور(*****)

 

 

   تحوي عين الفقاريات، وهي بعيدة تماما عن أن تكون تصميما ذكيا – عيوبا عديدة تشهد على أصلها التطوري ويؤدي بعض هذه العيوب إلى تدني جودة الصورة، ومنها أن الشبكية مقلوبة، لذا يجب على الضوء أن يمر عبر أجسام الخلايا والألياف البصرية قبل أن يصل إلى المستقبلات الضوئية (1)؛ وتلقي الأوعية الدموية التي تمتد عبر السطح الداخلي للشبكية ظلالا على الشبكية (2)؛ أما الألياف العصبية التي تتجمع سوية لتخترق الشبكية عبر فتحة وحيدة لتصبح العصب البصري، فتنشأ عنها البقعة العمياء (3).

 

 

 

   Trevor D. Lamb

<لامب> باحث في قسم العلوم العصبية في كلية جون كورتين للأبحاث الطبية وفي مركز التفوق في علوم الإبصار لمجلس الأبحاث الأسترالي بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا. تركزت أبحاثه على المستقبلات الضوئية من العصيّ والمخاريط في شبكية الفقاريات.

       

،،

صار لدى العلماء الآن تصور واضححول كيف تطورت عيوننا البالغة التعقيد.

 

 

 

 

 

 

بـاختصـــار ::

 

عينُ الحيوانات الفقارية معقدة لدرجة أن أنصار نظرية الخلق استعملوها لوقت طويل كحجتهم المفضلة على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتقاء الطبيعي. الأنسجة الرخوة نادرا ما تتأحفر، ولكن العلماء تشكل لديهم فهمٌ لمنشأ العين من خلال مقارنة بنى العين وتطورها الجنيني في الأنواع الفقارية. وهذه الأدلة تشير إلى أن جذور عيننا من نمط الكاميرا، ضاربة في القدم بشكل مدهش، وقبل أن تكتسب العناصر الضرورية لتعمل كعضو إبصار، كانت وظيفتها كشف الضوء لتعديل الإيقاعات اليومية عند أسلافنا القدامى.
 

 

 

 

 

 

 

عينُ الإنسان عضو بالغ التعقيد. فهو يعمل مثل كاميرا تـجمع الضوء وتركّزه وتحوّله إلى إشارة كهربائية يترجمها الدماغ إلى صور. ولكن بدلا من فيلم التصوير فإن العين تحوي شبكية عالية التخصص تحسّ بـالضوء وتعالج الإشارات باستخدام عشرات الأنواع المختلفة من العصبونات. ونتيجة لـهذا التعقيد، بقي منشأ العين لفترة طويلة من أشهر الحجج المفضلة لأنصار نظريتي الخلق والتصميم الـذكي(1) الذين يعتبرونه مثالا رئيسا على ما يسمونه بالتعقيد غير القابل للاختزال، أي النظام الذي لا يمكن أن يعمل في غياب أي مكون من مكوناته، ومن ثمّ لا يمكن أن يكون قد تطور طبيعيا من شكل أكثر بدائية. وفعلا، حتى <تشارلز داروين> نفسه اعترف في أصل الأنواع(2) – الـكتاب الصادر في سنة 1859 الذي فصّل فيه نظريته في التطور بالانتقاء الطبيعي – أنه قد يبدو من غير المعقول التفكير في أن العين تطورت بالانتقاء الطبيعي. ولكن <داروين> كان يعتقد قطعيا أن العين تطورت بهذه الطريقة على الرغم من غياب الأدلة حول الأشكال الانتقالية في ذلك الحين.

 

 

وظل من الصعب العثور على أدلة مباشرة. فبينما يستطيع الباحثون الذين يدرسون تطور الهيكل العظمي توثيق استحالاته بسهولة من السجل الأحفوري، إلا أن الأبنية المؤلفة من أنسجة رخوة نادرا ما تتحول إلى أحفورة، وحتى إذا تحولت إلى أحفورة فإن الأحفورة لا تحتفظ بما يكفي من التفاصيل التي تـسمح بتحديد كيفية تطور هذه البنى. ومع ذلك حقق البيولوجيون مؤخرا تقدما مهما في تتبُّع أصل العين، وذلك بدراسة تطور أشكالها في الأجنّة النامية وبمقارنة بنية العين والجينات عبر الأنواع لإعادة بناء أوقات ظهور السمات الرئيسة. وتشير النتائج إلى أن نوع عيوننا، أي النمط الشائع بين الفقاريات، أخذ شكله خلال أقل من مئة مليون سنة متطورا من مجسّ ضوئيlight sensor بسيط لضبط الإيقاعات اليومية circadian rhythms والموسمية منذ نحو 600 مليون سنة إلى عضو متطور بصريا وعصبيا منذ 500 مليون سنة. وبعد مرور أكثر من 150 سنة من نشر <داروين> لنظريته الرائدة تدق هذه النتائج آخر مسمار في تابوت التعقيد غير القابل للاختزال وتدعم أناقة فكرة <داروين>. كما تفسر لماذا يُشاهَد في العين، الـبعيدة كل البعد عن أن تكون آلة مصممة بإتقان، عددا من عيوب التصميم: هذه العيوب هي ندبات التطور. فالانتقاء الطبيعي لا يؤدي إلى الكمال كما قد يعتقد البعض، بل يرتجل ليصنع شيئا من المواد المتوفرة له، فيأتي أحيانا بـنتائج عجيبة.

 

 

 

 

 

 

وكي يفهم المرء كيف ظهرت العين عليه أن يعرف شيئا عما حدث في الحقب الغابرة. فلدينا – نحن البشر – خط لا ينقطع من الأسلاف يمتد إلى الماضي نحو أربعة بلايين سنة حتى بداية الحياة على الأرض. فمنذ ما يقارب بليون سنة تشعّبت الحيوانات البسيطة المتعددة الخلايا إلى مجموعتين: تتصف إحداهما بمخطط الجسم المتناظر شعاعيا (لها جانب علوي وآخر سفلي، ولكن ليس لها أمام أو خلف) والأخرى، التي نشأ عنها أغلب الكائنات التي نعتبرها حيوانات ثنائية التناظر لها جانبان أيمن وأيسر، أحدهما انعكاس مرآة للآخر، ويقع الرأس في أحد طرفيها. ومن ثم تشعّبت ثنائيات التناظر بدورها قبل نحو 600 مليون سنة مضت إلى مجموعتين مهمتين: واحدة نشأت عنها الأغلبية الساحقة من المخلوقات المعاصرة التي ليس لديها عمود فقري (اللافقاريات)، والأخرى تشمل سلالتنا الفقارية. وبعد أن افترقت هاتان السلالتان بقليل ظهر وتكاثر تنوُّع مذهل من مخططات الجسم خلال ما يسمى بالانفجار الكامبريcambrian explosion الذي ترك أثره الشهير في السجل الأحفوري بين ما يقارب 540 إلى 490 مليون سنة خلت. ووضع هذا الانفجار التطوري الأساسَ لظهور عيننا المعقدة.

 

 

 

العين المركبة مقابل العين الكاميرا(**)

 

 

يبين السجل الأحفوري أنه خلال الانفجار الكامبري ظهر شكلان مختلفان أساسا للعين. الشكل الأول على ما يبدو هو العين المركبة(3) من النمط الذي نراه اليوم عند الأفراد البالغين في جميع الحشرات والعناكب والقشريات، التي هي جزء من مجموعة اللافقاريات المعروفة باسم (مفصليات الأرجل)(4). في هذا النمط من العين تقوم منظومة من وحدات تصويرية متماثلة كل واحدة منها عبارة عن عدسة أو عاكس ضوء ببثّ الضوء إلى بضعة عناصر حساسة للضوء تسمى المستقبلات الضوئية. والعين المركبة فعّالة جدا بالنسبة إلى الحيوانات الصغيرة، إذ توفر الرؤية بزاوية واسعة ودقة تفاصيل مكانية معتدلة في الحجم الصغير. وربما وفّرت هذه القدرات الإبصارية (خلال عصر الكامبري للتريلوبيت) وغيرها من مفصليات الأرجل العتيقة ميزات بقاء مقارنة بالكائنات المختلة الإبصار المعاصرة لها. إلاّ أن العين المركبة غير عملية بالنسبة إلى الحيوانات الكبيرة لأن حجم العين المطلوب لتحقيق إبصار ذي دقة تفاصيل عالية سيكون كبيرا جدا. وهكذا، مع زيادة حجم الجسم ازدادت الضغوط الانتقائية التي تفضّل تطور نمط آخر من العين، وهو نوع الكاميرا.

 

وفي العيون على شاكلة الكاميرا تشترك المستقبلات الضوئية جميعها في عدسة وحيدة تركز الضوء، وهي مرتّبة على شكل صفيحة (الشبكية) تبطن السطح الداخلي لجدار العين. ولدى الحبّار والأخطبوط عيون على شكل كاميرا ذات شبه سطحي بعين البشر، ولكن مستقبلاتها الضوئية من النمط نفسه الذي يوجد في عين الحشرة. أما الفقاريات فلديها نمط مختلف من المستقبلات الضوئية، ولهذا النمط نوعان في الفقاريات الفكية(5) (بما فيهم نحن): المخاريط للإبصار في النهار، والعصيّ للإبصار في الليل.

 

ومنذ عدة سنوات شكلتُ فريقا، مع كل من <E .N. پيو جونيور> [الـذي كان يعمل حينها في جامعة پنسيلڤانيا] و<S. كولين> [من جامعة كوينسلاند في أستراليا] لمحاولة فهم السبل المحتملة لتطور هذه الأنماط المختلفة من المستقبلات الضوئية. وما وجدناه تجاوز مجرد الإجابة عن ذلك السؤال وقدم سيناريو مقنعا لأصل عين الفقاريات.

 

 

 

جذور عميقة(***)

 

 

وقد لاحظ هذا الفريق، مثل البيولوجيين الآخرين قبلنا، أن الكثير من السمات المميزة لعين الفقاريات متماثلة عند جميع ممثلي فرع ضخم من شجرة الفقاريات، هو الفقاريات الفكية. ويشير هذا النمط إلى أن الفقاريات الفكية ورثت هذه السمات من سلف مشترك وأن عيننا كانت قد تطورت منذ ما يقارب 420 مليون سنة، عندمـا كانت الفقاريات الفكية الأولى (التي كانت على الأغلب تشبه الأسماك الغضروفية المعاصرة مثل سمك القرش) تجوب البحار. وجادلنا في أن جذور عيننا ذات نمط كاميرا ومستقبلاتها الضوئية يجب أن تكون أعمق، فحوّلنا انتباهنا إلى الفقاريات اللافكية الأكثر بدائية التي نتشارك معها في سلف مشترك منذ نحو 500 مليون سنة.

 

وأردنا أن نفحص تشريحَ واحد من هذه الحيوانات بالتفصيل فقررنا أن نركز على واحد من الحيوانات المعاصرة القليلة من هذه الزمرة، وهو الجلكة lampreyذو فم قمعي مصمم للمصّ وليس للعضّ. وتبين أن لهذه السمكة أيضا عينا من نمط الكاميرا ذات عدسة وقزحية وعضلات. بل إن شبكية الجلكة ذات بنية ثلاثية الطبقات مثل شبكيتنا، وتشبه مستقبلاتها الضوئية شبها كبيرا المخاريط في شبكية الإنسان، مع أنها على ما يبدو لم تطوِّر العصيّ rods الأكثر حساسية. فضلا عن ذلك، فإن الجينات التي تتحكم في الكثير من نواحي كشف الضوء والمعالجة العصبية وتطور العين هي الجينات نفسها التي توجه هذه العمليات في الفقاريات الفكية.

 

هذه التشابهات اللافتة للنظر في عين الفقاريات الفكية كثيرةٌ جدا مما يـستبعد أن تكون قد ظهرت بصورة مستقلة في فروعها، بل يجب أن تكون العين التي تشبه في ملامحها الأساسية عيننا موجودة عند السلف المشترك للفقاريات الفكية واللافكية منذ 500 مليون سنة. عند هذه النقطة تساءلنا ما إذا كنّا نستطيع أن نتتبع منشأ العين ومستقبلاتها الضوئية إلى الماضي الأقدم. وللأسف، لا يوجد ممثلون أحياء للسلالات التي انفصلت عن سلالتنا خلال الخمسين مليون سنة السابقة، وهي الفترة الزمنية المنطقية التالية لهذه الدراسة. ولكننا وجدنا أدلّة في عين حيوان غامض اسمه الجرِّيث hagfish.

 

والجريث، مثل أقاربه من سمك الجلكة، هو سمك عديم الفك يشبه الأنقليس(6)، ويعيش عادة في قعر المحيطات حيث يتغذى بالقشريات وجثث المخلوقات البحرية الأخرى الراسبة. وعندما يشعر الجريث بتهديد يفرز مخاطا لزجا للغاية، ومن هنا لقبه «الأنقليس المخاطي». ومع أن الجريث من الفقاريات، إلاّ أن عينه تختلف اختلافا كبيرا عما هي في الفقاريات؛ فعين الجريث ليس لها قرنية ولا قزحية ولا عدسة ولا عضلات داعمة، وشبكيتها تتألف فقط من طبقتين من الخلايا وليس ثلاث. وإضافة إلى ذلك، فكل عين مطمورة عميقا تحت طبعة شافّة من الجلد. وتشير ملاحظة سلوك الجريث إلى أن هذا الحيوان يكاد يكون أعمى ويستدل على الجيف بواسطة حاسة شمه الحادة.

 

ويشترك الجريث بسلف مشترك مع الجلكة. ومن المفترض أن هذا السلف كان لديه عين من نمط الكاميرا مثل الجلكة. ومن ثمّ، يفترض أن عين الجريث قد تدهورت من شكل أكثر تقدما، وبقاؤها بهذا الشكل المصغّر يخبرنا الكثير. فنحن نعلم من سمك الكهوف الأعمى، مثلا، أن العين يمكن أن تتدهور تدهورا جسيما ويمكن حتى أن تختفي خلال فترة وجيزة لا تتجاوز عشرة آلاف سنة. ولكن عين الجريث بقيت على حالها مئات ملايين السنين. ويشير هذا الاستمرار إلى أن لهذا العضو أهمية ما من أجل البقاء، حتى ولو لم يستطع الحيوان استخدامه للرؤية في الأعماق المعتمة للمحيطات. ويشير هذا الاكتشاف ضمنيا إلى أمور أخرى. فمن المحتمل أن تكون عين الجريث قد وصلت إلى هذه الحالة من الضمور نتيجة فشل في النمو، وبهذا فإن البنية الحالية لعينه قد تمثل مرحلة تطورية أبكر؛ أي إن كيفية عمل عين الجريث يمكن أن تلقي ضوءا على كيفية عمل العين الأولية، أي العين البدئية قبل أن تتطور لتصبح عضو إبصار.

 

 

 

 

موجودات :أصداء التطور(****)

 

إن بنية العين وتطورها الجنيني في الجريث والجلكة، وهما كائنان فقاريان يشبهان الأنقليس، يعطيان إشارات إلى كيفية تطور عيننا من نمط الكاميرا وتأديتها لوظيفتها في مراحلها المبكرة. فالجريث لديه عين ضامرة غير قادرة على الإبصار، إنما الغرض منها، على الأغلب، كشف الضوء من أجل تعديل الإيقاعات اليومية (1). ويشبه التطور المبكر لعين الجلكة عين الجريث ذات البنية البسيطة قبل أن تستحيل إلى عين معقدة من نمط الكاميرا (2). وعين الإنسان تشبه عين الجريث خلال تطورها، إذ تمر بمرحلة تتكون الشبكية خلالها من طبقتين فقط قبل أن تظهر الطبقة الثالثة من الخلايا (3). ومن المعروف أن أوجه النمو الجنيني عند الفرد تعكس الأحداث التي مر بها تطور سلالته.

 

 

 

 

 

عين الأسلاف: تشير البينات المتوفرة إلى أن عينا أولية لا بصرية قد تطورت عند سلف الفقاريات منذ نحو 550 مليون إلى 500 مليون سنة (4) وأن وظيفة طليعة العين من نمط الكاميرا كانت كشف الضوء لضبط الساعة الداخلية للسلف.
 

 

 

 

 

 

ويمكن أن نستوحي إشارات خفيفة إلى الدور الذي قد تؤديه عين الجريث من تفحُّص دقيق لشبكية هذا الحيوان. ففي الشبكية المعيارية للفقاريات، الشبكية ذات الثلاث طبقات، تقوم الخلايا في الطبقة المتوسطة، والتي تسمى بالخلايا الثنائية القطب، بمعالجة المعلومات من المستقبلات الضوئية ونقلها إلى عصبونات الإخراج output neurons التي تنتقل إشاراتها إلى الدماغ ليجري تفسيرها. أما شبكية الجريث ذات الطبقتين فتفتقر إلى الخلايا الثنائية القطب المتداخلة، وهذا يعني أن المستقبلات الضوئية تتصل بعصبونات الإخراج مباشرة. ومن هذه الناحية تشبه التوصيلات العصبية لشبكية الجريث إلى حد كبير التوصيلات في ما يسمى بالغدة الصنوبرية(7)، وهي جسم صغير يفرز الهرمونات في دماغ الفقاريات. تتحكّم الغدة الصنوبرية في الإيقاعات اليومية، وفي الفقاريات اللاثديية(8) تحوي هذه الغدة خلايا مستقبلة للضوء تتصل مباشرة بعصبونات الإخراج من دون خلايا وسيطة؛ وفي الثدييات فقدت تلك الخلايا القدرة على الإحساس بالضوء.

 

 

 

دليل : ندبات التطور(*****)

 

 

   تحوي عين الفقاريات، وهي بعيدة تماما عن أن تكون تصميما ذكيا – عيوبا عديدة تشهد على أصلها التطوري ويؤدي بعض هذه العيوب إلى تدني جودة الصورة، ومنها أن الشبكية مقلوبة، لذا يجب على الضوء أن يمر عبر أجسام الخلايا والألياف البصرية قبل أن يصل إلى المستقبلات الضوئية (1)؛ وتلقي الأوعية الدموية التي تمتد عبر السطح الداخلي للشبكية ظلالا على الشبكية (2)؛ أما الألياف العصبية التي تتجمع سوية لتخترق الشبكية عبر فتحة وحيدة لتصبح العصب البصري، فتنشأ عنها البقعة العمياء (3).

 

 

 

 

 

وبناء على هذا التشابه مع الغدة الصنوبرية، اقترحت في عام 2007 مع زملائي أن عين الجريث لا تعمل في الإبصار بل توفر المدخلات إلى ذلك الجزء من دماغ الحيوان الذي ينظم الإيقاعات اليومية الحيوية، إضافة إلى النشاطات الموسمية كالتغذية والتكاثر. ومن ثم من المحتمل أن العين الأولية في الفقاريات الأولية التي عاشت ما بين 550 مليون و500 مليون سنة مضت كانت عضوا لابصريا ولم تطوِّر إلاّ لاحقا القدرة على المعالجة العصبية والمكونات البصرية والحركية اللازمة للإبصار المكاني.

 

 

وتدعم دراسات التطور الجنيني لعين الفقاريات هذه النظرية. فعندما يكون سمك الجلكة في طور اليرقة, يعيش في مجاري الجداول، وهو أعمى مثل الجريث. وفي هذه المرحلة تشبه عينه عين الجريث من حيث بساطة بنيتها وكونها مطمورة تحت الجلد. وعندما تمر اليرقة في مرحلة التحول تنمو عينها الضامرة بشكل ملموس وتتطور فيها شبكية ذات طبقات ثلاث؛ وتتشكل كذلك العدسة والقرنية والعضلات الداعمة جميعها، ثم ينبثق العضو إلى السطح كعين الفقاريات من نمط الكاميرا. وبما أن جوانب كثيرة من تطور الفرد تعكس الحوادث التي جرت خلال تطور أسلافه، نستطيع أن نستخدم تطور عين الجلكة، بشيء من الحذر، في إعادة بناء تاريخ تطور العين.

 

 

إن عين الثدييات خلال تطورها الجنيني تقدم بعض الشواهد التي تشير إلى منشئها التطوري. وقد اكتشف <B .E. ريز> وزملاؤه [بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا] أن توصيلات شبكية الثدييات تكون في البدء مثل توصيلات الجريث إلى حد بعيد، إذ تتصل المستقبلات الضوئية فيها بعصبونات الإخراج مباشرة؛ وبعد ذلك، وخلال بضعة أسابيع، تنضج الخلايا الثنائية القطب وتنغرز بين المستقبلات الضوئية وعصبونات (نورونات) الإخراج. وهذا التتالي هو تماما نمط النمو الذي يمكن أن يتوقعه المرء ليعرف ما إن كانت شبكية الفقاريات قد تطورت من عضو ذي طبقتين لتنظيم الإيقاعات اليومية، وذلك بإضافة قدرة المعالجة ومكونات لتشكيل الصورة. ومن ثمّ يبدو معقولا تماما أن هذه المرحلة البسيطة المبكرة للتطور تمثل أثرا باقيا عن فترة في تاريخ التطور قبل اختراع توصيلات الخلايا الثنائية القطب وقبل اختراع العدسة والقرنية والعضلات الداعمة.

 

 

نشوء المستقلات(******)

 

 

بينما كنا ندرس نمو طبقات الشبكية الثلاث، خطر لنا سؤال آخر متعلق بتطور العين. إذ تنقسم المستقبلات الضوئية في مملكة الحيوان إلى صنفين متميزين: صنف محوري rhabdomeric class وآخر هدبي ciliary. وحتى الماضي القريب، كان أغلب العلماء يعتقد أن اللافقاريات تستخدم صنف المستقبلات المحورية بينما تستخدم الفقاريات الصنف الهدبي ولكن الوضع في الواقع، أكثر تعقيدا. فالمستقبلات الضوئية الهدبية مسؤولة في الأغلبية الساحقة من المتعضيات organisms عن استشعار الضوء للأغراض اللابصرية, مثل تنظيم الإيقاعات اليومية. وعلى العكس من ذلك، فإن المستقبلات المحورية تستشعر الضوء بغرض التمكين من الإبصار تحديدا. وتستعمل الأعين المركبة في مفصليات الأرجل والأعين من نمط الكاميرا في الرخويات، كالأخطبوط – وكلاهما تطور بصورة مستقلة عن العين من نمط الكاميرا عند الفقاريات- مستقبلات ضوئية محورية؛ ولكن عين الفقاريات تستخدم الصنف الهدبي من المستقبلات الضوئية من أجل استشعار الضوء للإبصار.

 

 

وفي عام 2003 نشر <D. آرندت> [من المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في هايدلبرگ، ألمانيا] بينات تشير إلى أن عيننا لا تزال تحافظ على خلايا مشتقة من المستقبلات الضوئية المحورية التي جرت عليها تعديلات عظيمة لتشكل عصبونات (نورونات) الإخراج التي ترسل المعلومات من الشبكية إلى الدماغ. يعني هذا الاكتشاف أن شبكيتنا تحوي أنسال كلا الصنفين من المستقبلات الضوئية: الصنف الهدبي الذي كان مستقبلات ضوئية دائما والصنف المحوري الذي استحال إلى عصبونات الإخراج. وإن استخدام بنية موجودة لغرض جديد هو بالذات طريقة عمل التطور، ولهذا فإن اكتشاف أن للمستقبلات الضوئية الهدبية والمحورية أدوارا مختلفة في عيننا عن تلك في عين الفقاريات يعطي المزيد من القوة للأدلة التي تشير إلى أن عين الفقاريات نشأت من خلال عمليات طبيعية. ولكننا تساءلنا ما هي أشكال الضغوط البيئية التي كان من الممكن أن تدفع تلك الخلايا نحو اتخاذ هذه الأدوار الجديدة.

 

وسعيا إلى فهم أسباب سيادة المستقبلات الضوئية الهدبية كمستشعرات الضوء في شبكية الفقاريات، في حين تطور صنف الخلايا المحورية إلى عصبونات لإرسال الإشارات، أجريتُ تحليلا لمميزات الأصبغة الحساسة للضوء في كل من الصنفين، أو الرودوپسينات، والتي سميت بذلك لدخول جزيء الأوپسين في تركيبها. وفي عام 2004، بيّن <Y. شيتشيد> وزملاؤه [في جامعة كيوتو باليابان] أنه في مرحلة مبكرة من تطور الأصبغة البصرية للفقاريات حدث فيها تغير جعل الشكل المفعّل بالضوء أكثر ثباتا، ومن ثم أكثر نشاطا. وبناء عليه طرحتُ فرضية أن هذا التغير أدى كذلك إلى سدّ السبيل أمام إعادة تحويل الرودوپسين المفعل إلى شكله الخامل مرة أخرى، ويحدث هذا التغير في الرودوپسينات المحورية بامتصاص فوتون ثانٍ من الضوء؛ وهذا يتطلّب بالضرورة ظهور مسار بيوكيميائي لإعادة الجزيء إلى شكله الخامل الذي يسمح له باستشعار الضوء مرة أخرى. وافترضتُ أنه متى اجتمع هذان العنصران أصبح للمستقبلات الضوئية الهدبية أفضلية واضحة على المستقبلات الضوئية المحورية في بيئات ذات مستويات إضاءة ضعيفة، مثل أعماق المحيطات، حيث مستويات الضوء ضعيفة جدا. وكنتيجة لذلك، ربما استطاعت بعض أوائل الحبليات chordates (أسلاف الفقاريات) استيطان موائل إيكولوجية تعذر استيطانها على الحيوانات المعتمدة على المستقبلات الضوئية المحورية – ليس لأن الأوپسين الهدبي المحسَّن يعطي إبصارا أفضل (فالمكونات الأخرى للعين من نمط الكاميرا لم تكن قد تطورت بعد)، بل لأنها قدمت طريقة أفضل لاستشعار الضوء مما سمح بضبط الساعات اليومية والموسمية.

 

ولهذه الحبليات العتيقة التي كانت تسكن في العوالم المظلمة أصبحت المستقبلات الضوئية المحورية ذات الحساسية الأقل عديمة الفائدة تقريبا، لذا صار عندها مجال لتأخذ دورا جديدا: عصبونات تنقل الإشارات إلى الدماغ. (وفي هذه المرحلة لم تعد تحتاج إلى أوپسين، لذا أزاله الانتقاء الطبيعي من هذه الخلايا.)

 

 

ولادة العين(*******)

 

 

بعد أن تكونت عندي وعند زملائي فكرة حول نشأة شبكية الفقاريات، أردنا أن نعرف كيف تطورت العين من عضو مستشعر للضوء، ولكن لابصري، إلى عضو مشكّل للصورة منذ نحو 500 مليون سنة. وهنا أيضا وجدنا أدلة في تطور الأجنة. وفي مراحل النمو المبكرة تبرز على كلا الجانبين البنية العصبية التي تنشأ منها العين فتشكل كيسين أو حويصلتين. وعندئذ تنطوي كل من الحويصلتين على نفسها فتشكل شبكية على هيئة الحرف C تبطّن داخل العين. ومن المحتمل أن التطور سلك طريقا مماثلا إلى حد بعيد. ومن ثم فقد افترضنا أن العين الأولية من هذا النوع، أي عينا أولية ذات شبكية على هيئة الحرف Cبطبقتين تتألف من مستقبلات ضوئية هدبية في الطبقة الخارجية وعصبونات إخراج مشتقة من المستقبلات الضوئية المحورية في الطبقة الداخلية، تشكلت عند أحد أسلاف الفقاريات بين 550 مليون و 500 مليون سنة، لتقوم بوظيفة ضبط ساعتها الداخلية وربما تساعدها على الإحساس بالظلال وتوجيه جسمها بالطريقة المناسبة.

 

وفي المرحلة التالية للتطور الجنيني تتشكل العدسة، بينما تنطوي الشبكية إلى الداخل على نفسها؛ وتنشأ العدسة من تثخن في الوجه الخارجي للجنين الإكتوديرم(9)، يبرز نحو الفراغ المقعر الذي تشكله الشبكية على هيئة الحرف C. وينفصل هذا البروز في النهاية عن سائر الإكتوديرم ويصبح عنصرا يعوم بطلاقة. ويبدو أن تسلسلا مماثلا من الأحداث جرى خلال التطور. لا نعرف تحديدا متى حدث هذا التعديل، ولكن باحثين من جامعة لوند في السويد أثبتوا في سنة 1994 أن المكونات البصرية للعين يمكن أن تكون قد تطورت بسهولة خلال مليون سنة؛ وإذا كان الأمر كذلك، تكون العين المشكلة للصورة قد نشأت من العين اللابصرية البدئية خلال لحظة بالمقاييس الجيولوجية.

 

ومن ثم ازدادت مقدرة العين على جمع المعلومات زيادة عظيمة مع إضافة العدسة لجمع الضوء وتركيز الصورة. فأدت هذه الزيادة إلى ضغوط انتقائيةselective تفضِّل تحسُّن معالجة الإشارة في الشبكية أكثر مما يقدمه الاتصال البسيط بين المستقبلات الضوئية وعصبونات الإخراج. وقد لبى التطور هذه الحاجة بتعديل عملية نضج الخلايا فتحولت بعض الخلايا النامية إلى الخلايا الثنائية القطب للشبكية تنغرز بين طبقة المستقبلات الضوئية وطبقة عصبونات الإخراج بدلا من أن تشكِّل مستقبلات ضوئية هدبية. هذا هو سبب الشبه الكبير بين الخلايا الثنائية القطب للشبكية وبين العصيّ والمخاريط، مع أنها لا تحوي رودوپسيناً وتتلقى الإدخال ليس من الضوء بل من المادة الكيميائية (التي تسمى الناقل العصبي(10) neurotransmitter) التي تنطلق من المستقبلات الضوئية.

 

مع أن العين من نمط الكاميرا تؤمِّن حقلا بصريا واسعا (في الحالة النموذجية نحو 180°)، إلا أن الدماغ عمليا لا يستطيع في الواقع اعتيان(11)سوى جزء يسير من المعلومات المتوفرة في أي وقت من الأوقات بسبب العدد المحدود من الألياف العصبية التي تربط عيننا بدماغنا. ولا شك في أن المراحل المبكرة من تطور العين من نمط الكاميرا تعاني قصورا أشد، فمن المفترض أن عدد الألياف العصبية فيها كان أقل. ومن ثمّ كان هناك ضغط انتقائي ملموس لتطوير العضلات من أجل تحريك العين. وكان من الضروري وجود مثل هذه العضلات قبل 500 مليون سنة؛ لأن ترتيب هذه العضلات في الجلكة – الذي يعود سلالته إلى تلك الفترة – تكاد لا تختلف عن ترتيبها عند الفقاريات الفكية، بما فيها البشر.

 

مع كل المميزات المبتكرة التي بناها التطور في عين الفقاريات، هناك عدد من السمات غير الأنيقة والمتعمدة. نجد مثلا أن الشبكية مقلوبة، وعلى الضوء أن يخترق كامل سمكها، عبر الألياف العصبية المتداخلة وأجسام الخلايا التي تبعثر الضوء وتقلل من جودة الصورة، قبل أن يصل إلى المستقبلات الحساسة للضوء. كذلك تبطن الأوعية الدموية السطح الداخلي للشبكية وتلقي ظلالا غير مرغوبة على طبقة المستقبلات الضوئية. أيضا توجد في الشبكية بقعة عمياء حيث تتجمع الألياف العصبية التي تغطي سطحها قبل أن تخترق الشبكية لتظهر وراءها كالعصب البصري(12). وتطول القائمة.

 

وهذه العيوب ليست صفات لا مفرّ منها لتصميم العين على شكل كاميرا، لأن الأخطبوط والحبار تطور لديها – بشكل مستقل – عين من نمط الكاميرا لا تعاني هذه النقائص. وبالفعل، لو أن مهندسين صمموا عينا فيها النقائص الموجودة في عيننا لطُرِدُوا من عملهم على الأغلب. ودراسة عين الفقاريات ضمن إطار التطور تكشف أن هذه العيوب التي تبدو منافية للعقل ليست إلا نتيجة لتتالي عدد من الخطوات التي قدمت كل خطوة منها منافع لأسلافنا من الفقاريات القدامى حتى قبل أن يستطيعوا الإبصار. إن تصميم عيننا ليس ذكيا، ولكنه يصبح معقولا إذا نظرنا إليه في الضوء الساطع للتطور.

 

 


المؤلــف 

 

   Trevor D. Lamb

<لامب> باحث في قسم العلوم العصبية في كلية جون كورتين للأبحاث الطبية وفي مركز التفوق في علوم الإبصار لمجلس الأبحاث الأسترالي بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا. تركزت أبحاثه على المستقبلات الضوئية من العصيّ والمخاريط في شبكية الفقاريات.


  مراجع للاستزادة

Evolution of the Vetebrate Eye: Opsins, Photoreceptors, Retina and Eye Cup. Trevor D. Lamb et al. in Nature Reviews Neuroscience, Vol. 8, pages 960-975; December 2007.

The Evolution of Eyes. Special issue of Evolution: Education and Outreach, Vol. 1, No. 4, pages 351-516; October 2008

The Evolution of Phototransduction and Eyes. Philosophical Transactions of the Royal Society B, Vol. 364, No. 1531, pages 2789-2967; October 12, 2009


(*)EVOLUTION OF THE EYE

(**)COMPOUND VS. CAMERA

(***)DEEP ROOTS

(****)Echoes of Evolution
(*****)Scars of Evolution

(******)RISE OF THE RECEPTORS

(*******)AN EYE IS BORN


(1) creationists and intelligent design
(2) the origin of species

(3) compound eye

(4) the arthropods

(5) Jawed Vertebrates
(6) hagfish

(7) pineal gland

(8) nonmammalian vertebrates

(9) ectoderm
(10) أو: الناقل النوروني

(11) sample

(12) optic nerve

بـاختصـــار ::

 

عينُ الحيوانات الفقارية معقدة لدرجة أن أنصار نظرية الخلق استعملوها لوقت طويل كحجتهم المفضلة على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتقاء الطبيعي. الأنسجة الرخوة نادرا ما تتأحفر، ولكن العلماء تشكل لديهم فهمٌ لمنشأ العين من خلال مقارنة بنى العين وتطورها الجنيني في الأنواع الفقارية. وهذه الأدلة تشير إلى أن جذور عيننا من نمط الكاميرا، ضاربة في القدم بشكل مدهش، وقبل أن تكتسب العناصر الضرورية لتعمل كعضو إبصار، كانت وظيفتها كشف الضوء لتعديل الإيقاعات اليومية عند أسلافنا القدامى.
 

 

موجودات :أصداء التطور(****)

إن بنية العين وتطورها الجنيني في الجريث والجلكة، وهما كائنان فقاريان يشبهان الأنقليس، يعطيان إشارات إلى كيفية تطور عيننا من نمط الكاميرا وتأديتها لوظيفتها في مراحلها المبكرة. فالجريث لديه عين ضامرة غير قادرة على الإبصار، إنما الغرض منها، على الأغلب، كشف الضوء من أجل تعديل الإيقاعات اليومية (1). ويشبه التطور المبكر لعين الجلكة عين الجريث ذات البنية البسيطة قبل أن تستحيل إلى عين معقدة من نمط الكاميرا (2). وعين الإنسان تشبه عين الجريث خلال تطورها، إذ تمر بمرحلة تتكون الشبكية خلالها من طبقتين فقط قبل أن تظهر الطبقة الثالثة من الخلايا (3). ومن المعروف أن أوجه النمو الجنيني عند الفرد تعكس الأحداث التي مر بها تطور سلالته.

 

 

 

 

 

عين الأسلاف: تشير البينات المتوفرة إلى أن عينا أولية لا بصرية قد تطورت عند سلف الفقاريات منذ نحو 550 مليون إلى 500 مليون سنة (4) وأن وظيفة طليعة العين من نمط الكاميرا كانت كشف الضوء لضبط الساعة الداخلية للسلف.
 

 

 

دليل : ندبات التطور(*****)

 

 

   تحوي عين الفقاريات، وهي بعيدة تماما عن أن تكون تصميما ذكيا – عيوبا عديدة تشهد على أصلها التطوري ويؤدي بعض هذه العيوب إلى تدني جودة الصورة، ومنها أن الشبكية مقلوبة، لذا يجب على الضوء أن يمر عبر أجسام الخلايا والألياف البصرية قبل أن يصل إلى المستقبلات الضوئية (1)؛ وتلقي الأوعية الدموية التي تمتد عبر السطح الداخلي للشبكية ظلالا على الشبكية (2)؛ أما الألياف العصبية التي تتجمع سوية لتخترق الشبكية عبر فتحة وحيدة لتصبح العصب البصري، فتنشأ عنها البقعة العمياء (3).

 

 

 

   Trevor D. Lamb

<لامب> باحث في قسم العلوم العصبية في كلية جون كورتين للأبحاث الطبية وفي مركز التفوق في علوم الإبصار لمجلس الأبحاث الأسترالي بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا. تركزت أبحاثه على المستقبلات الضوئية من العصيّ والمخاريط في شبكية الفقاريات.

 

بـاختصـــار ::

 

عينُ الحيوانات الفقارية معقدة لدرجة أن أنصار نظرية الخلق استعملوها لوقت طويل كحجتهم المفضلة على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتقاء الطبيعي. الأنسجة الرخوة نادرا ما تتأحفر، ولكن العلماء تشكل لديهم فهمٌ لمنشأ العين من خلال مقارنة بنى العين وتطورها الجنيني في الأنواع الفقارية. وهذه الأدلة تشير إلى أن جذور عيننا من نمط الكاميرا، ضاربة في القدم بشكل مدهش، وقبل أن تكتسب العناصر الضرورية لتعمل كعضو إبصار، كانت وظيفتها كشف الضوء لتعديل الإيقاعات اليومية عند أسلافنا القدامى.
 

 

موجودات :أصداء التطور(****)

إن بنية العين وتطورها الجنيني في الجريث والجلكة، وهما كائنان فقاريان يشبهان الأنقليس، يعطيان إشارات إلى كيفية تطور عيننا من نمط الكاميرا وتأديتها لوظيفتها في مراحلها المبكرة. فالجريث لديه عين ضامرة غير قادرة على الإبصار، إنما الغرض منها، على الأغلب، كشف الضوء من أجل تعديل الإيقاعات اليومية (1). ويشبه التطور المبكر لعين الجلكة عين الجريث ذات البنية البسيطة قبل أن تستحيل إلى عين معقدة من نمط الكاميرا (2). وعين الإنسان تشبه عين الجريث خلال تطورها، إذ تمر بمرحلة تتكون الشبكية خلالها من طبقتين فقط قبل أن تظهر الطبقة الثالثة من الخلايا (3). ومن المعروف أن أوجه النمو الجنيني عند الفرد تعكس الأحداث التي مر بها تطور سلالته.

 

 

 

 

 

عين الأسلاف: تشير البينات المتوفرة إلى أن عينا أولية لا بصرية قد تطورت عند سلف الفقاريات منذ نحو 550 مليون إلى 500 مليون سنة (4) وأن وظيفة طليعة العين من نمط الكاميرا كانت كشف الضوء لضبط الساعة الداخلية للسلف.
 

 

 

دليل : ندبات التطور(*****)

 

 

   تحوي عين الفقاريات، وهي بعيدة تماما عن أن تكون تصميما ذكيا – عيوبا عديدة تشهد على أصلها التطوري ويؤدي بعض هذه العيوب إلى تدني جودة الصورة، ومنها أن الشبكية مقلوبة، لذا يجب على الضوء أن يمر عبر أجسام الخلايا والألياف البصرية قبل أن يصل إلى المستقبلات الضوئية (1)؛ وتلقي الأوعية الدموية التي تمتد عبر السطح الداخلي للشبكية ظلالا على الشبكية (2)؛ أما الألياف العصبية التي تتجمع سوية لتخترق الشبكية عبر فتحة وحيدة لتصبح العصب البصري، فتنشأ عنها البقعة العمياء (3).

 

 

 

   Trevor D. Lamb

<لامب> باحث في قسم العلوم العصبية في كلية جون كورتين للأبحاث الطبية وفي مركز التفوق في علوم الإبصار لمجلس الأبحاث الأسترالي بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا. تركزت أبحاثه على المستقبلات الضوئية من العصيّ والمخاريط في شبكية الفقاريات.