مجلة حكمة

تشكيل الظاهرة العلمية: شروح على كتاب الابستيمولوجيا البديل لأبويعرب المرزوقي – محمد عبد النور


مدخل:

تعد مرحلة اكتشاف الشكل النهائي “الكتابة” (الرمز التجريدي وربطه بالصوت) في العهد الفينيقي مرحلة فارقة في نقل البشرية من دوامة تكرار تجارب الإنسانية إلى حالة من التطور الدائم والمستمر لتلك التجارب، وذلك بفضل إمكانية “التوثيق” (بتحقيق إمكان حفظ التجارب والوصل بين الأجيال المتباعدة) الذي أتاح إمكان الانتشار الهندسي للمعرفة بفضل تحول صناعة الكتاب الذي من خلاله أصبح نقل التجارب بواسطة “التعليم” (استحالة نقل المعارف إلى وظيفة وتخصص مستقل) بما هي تكوين صفي يسعى لإيصال الأفراد إلى ذروة الحاصل العلمي في كل لحظة تاريخية، وانتهاء إلى “التنظير” (محاولة مطابقة التصور العام مع الواقع بدقة) الذي يبدأ عندما يبلغ طالب العلم النهاية في تحصيل ما بلغ إليه الفكر الإنساني في مجال النظرية التي تتفاعل مع الواقع لتمدّه بالحالة المثالية التي يجب أن تكون عليها الخبرات البشرية توضيحا وتصحيحا.

والتنظير (أو بناء النظرية العلمية) هي الغاية الرئيسة والمطلقة من العلم، ذلك أن عدم بلوغ مرحلة التنظير (تحقيق شروط الاجتهاد الديني والدنيوي) الذي هو توقف عن البلوغ إلى الغاية الطبيعية للعلم، وذلك يحصل إما على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعة الذين قد يكفيهم من الناحية العملية مستوى محدود من العلم، لكن من الناحية الحضارية فإن عدم وصول نخبة من الناس إلى مرحلة الاجتهاد المطلق يعني أن الجماعة مرتهنة إلى جماعة حضارية أخرى، لذلك فإن الحافز الأساسي والضروري لبلوغ تلك المرحلة عند الأفراد هو الشعور بالحاجة إلى الاعتماد على الذات في تحديد متطلبات تلك الجماعة بنفسها إذ النهاية المرتجاة من كل ذلك هو التوقف عن حالة استيراد الأفكار إلى بنائها ذاتيا.

فإذا كانت الأفكار هي مبدأ الموجودات، أعني وكما تقدّم أن العلم يتحوّل في مرحلة تمام نضجه إلى عكس اتجاه المسار من العلم إلى الجماعة بعد أن كان من الجماعة إلى العلم (كما سيتلو ذكره آخرا)، فيصبح هو الذي يحدد مصير الأمم، وما لم تحصل الانعطافة في المسار بقيت الجماعة من مستوى أدنى هو مستوى التبعية، ليس للغير فقط بل كذلك التبعية للغموضات الإنسانية والطبيعية التي يتولى العلم اكتشافها والتحكم فيها (بمعنى التسخير)، وأن هذه الانعطافة تحصل في التاريخ بفعل تراكمي من جهة ومن جهة بشكل نوعي أو انقلابي.

وهذا يعني أن الممارسة العلمية مسألة ذات أهمية وجودية للجماعات، أما لماذا كانت الجماعات تعيش من دون علم قبل اكتشاف الكتابة، وكأن العلم أمر طارئ على حياة البشر، فيمكن الرد عليه بأن العلم كان موجودا في الإنسان كملكة داخلية فتحولت إلى طاقة حقيقية، ومن ثم فإن ترقي درجات العلم واجب تاريخي وديني من جهة، ومن جهة أخرى أن العلم قد غدا وكأنه سجن للإنسان بعد أن اصطبغ الوجود الإنساني به، وأن إنكار أصالة العلم في الوجود هي عودة بالإنسان إلى عصور ما قبل التاريخ، والأديان كلها اتخذت الكتابة وسيلة لها، وأن جل قضايا الإنسان المعاصرة تقوم على الحقيقة العلمية من الكتابة إلى التنظير.

وعودا إلى كونية الظاهرة العلمية يعرّج بنا أبويعرب المرزوقي إلى حقيقة تكونها منطلقا من مساءلة المبدأ الحقيقي للعلم، فينتهي إلى أن سبق اليونان سبق شكلي في تاريخ العلم وليس سبقا مضمونيا، بمعنى أن الجديد الذي حمله اليونان هو إعطاء العلم صبغة التجريد النظري الذي بدأه فيثاغورس في الرياضيات، وأن انطلاق العلم اليوناني من التجريد يعني بالضرورة أن مقدّمات حصلت في حضارات الشرق الأدنى في مصر وبلاد ما بين النهرين التي ضمت أقواما عديدة، وأن علماء اليونان كلهم قضوا فترة تكوينية في الاسكندرية قبل الغزو المقدوني لها، ونفس الأمر يقال عما ينسب من ثورة الفلك إلى كوبرنيك وغاليلي وتجاهل المقدّمات الضرورية التي حصلت قبل ذلك عند علماء الفلك المسلمين فضلا عن المقابسات الواضحة التي ظهرت في مؤلفاتهم، فما المقصود بـ الظاهرة العلمية ؟

إن ما يمكن الخلوص إليه بخصوص تعريف الظاهرة العلمية هو أنها ظاهرة حركية تنشأ من صلب الجماعة الإنسانية وتقوم أساسا على مبادئ الأربعة (الكتابة والتوثيق والتعليم والتنظير) تكشفت في التاريخ البشري شيئا فشيئا حتى بلغت مرحلة من النضج يُعكَس فيها اتجاه السهم من العلم إلى الجماعة، فيصبح العلم حَكَما عليها ومتحكما في أسرارها وأسرار الطبيعة، وأن ما بلغنا إليه إلى غاية اللحظة من نمو وتقدّم علمي مدين لجميع الحضارات الإنسانية المتتالية، ذلك أن ما تضيفه أية حضارة إنما تأتي كإضافة منهجية لا تمس طبيعة العلم بما هي عمليات معرفية قائمة في الوجود مستمرة لا تتوقف.

  • مكانة العلم في الوجود الاجتماعي:

ينقسم المجتمع إلى مجالين مستقلّين ومتضايفين في ذات الوقت، هما مجال الممارسة التقنية والرمزية، ومجال تسجيل تلك الممارسات، ومن المجالين الكونين للكيان الاجتماعي تتحدد أربع وظائف لا يخلو منها أي مجتمع وكل منها ينقسم إلى المجالين المتقدّم ذكرهما، وهي الوظيفة السياسية، الوظيفة التربوية، الوظيفة الاقتصادية والوظيفة التعلمية، وهي كلها وظائف متزامنة من حيث وجودها في المجتمع لا أسبقية لواحدة منها على الأخرى، كما أنها شرط لوجود المجتمع وإلا فقد صفته ولم مجتمعا بالمعنى الفعلي.

ويرى المرزوقي أن هذا الفقد يؤدي إلى خلل اجتماعي يجعل من مجموع الأفراد مشتتين يسبحون في فضاء مطلق لا تحدد فيه المهمات والأدوار فيؤدي الأمر إلى انكفاء عن أداء المهمة التاريخية المنوطة به، وفي ذلك تمييز واضح بين المجتمع التاريخي الفاعل حضاريا والمجتمع اللاتاريخي المنسحب من التاريخ، ولعل هذا يعيدنا إلى تأسيسات مالك بن نبي في الموضوع وما سمّاه بـ”فقدان المبررات” بما هو غياب للدوافع الحضارية التي تدفع الأفراد لممارسة الأدوار الاجتماعية بصورة بينة المقصد ضمن الشبكة الاجتماعية وذات فاعلية قصوى تستغل أقل الوسائل لتحقيق أفضل النتائج، وتفصيل تلك الوظائف هو كما يلي:

1- الوظيفة السياسية: تتمثل في إنتاج المؤسسات الاجتماعية بكل أصنافها وعلاقاتها فيما بينها وتحديد دورها، ويحدث ذلك ضمن صيرورة زمانية ومكانية متدرجة تتجسد في قيم تفرض على أفرادها التكيّف معها حتى تصبح طبيعة فيهم، ومن ثم كان إنتاج المجتمع لمؤسساته بمثابة ميلاد ثان للذات الاجتماعية وذلك هو المعنى الأوسع للوظيفة السياسية.

وينتج عن ذلك كله مفهوم الدولة بما هي أكبر مؤسسة لها إشراف مباشر على المؤسسات الصغرى الباقية، حتى أن المؤسسات الأخرى تعتبر في الحالات الراقية للوجود الاجتماعي هي مضمون العمران والدولة هي صورته حسب ابن خلدون، بمعنى أن الدولة كيان معنوي يتشكل آليا بعد إنتاج المجتمع لمؤسساته، بحيث يكون قد حقق كل شروط الحياة الإنسانية، ولا تأت الدولة كمؤسسة بعد ذلك إلا تتويجا معنويا يشرف (مجرد إشراف) على جملة العمران، بآليات القانون والأمن خصوصا، أعني أن القانون (النص التنظيمي) والأمن (المادة التنظيمية) لا يوضعان رغم كونهما حقيقة فعلية إلا لإضفاء الهيبة التي لابد منها في نفوس الناس مواطنين أهليين أو أجانب منعا لهم من التعدّي على الحدود القانونية داخليا والسيادية خارجيا.

وغاية الوظيفة السياسية بالمعنى المخصوص أنها تنتهي إلى مهمتين الأولى إيجابية والثانية سلبية، فأما الأولى فهي ما تحققه من شروط قيامها من السلم والاستقرار والأمن وانتهاء إلى ضمانها لوحدة مجال تبادل المنافع المادية والمعنوية، وأما الثانية فهي ما يحصل لدى الدولة من إمكان إعاقة الوظائف الأخرى بما تضع أمامها من معوقات وعقبات، وذلك ما يشمل الوظيفة التعليمية إذ تسعى الدولة بالضرورة لإخضاع العلم لأهدافها الظرفية، وهي لا تشجعه إلا على أساس أنه يخدمها في ما تسعى إليه من استفراد بالحكم بوصفها طبيعة ملازمة له، ولا يكون الاختلاف إلا في شكل الاستفراد بالحكم عنيفا أو ناعما، ولا اعتراض على إقرار الحقيقة إذا علمنا التعارض بين طبيعة البشر المتفلّتة عفويا برغباتها وفورانها الدائم وطبيعة الدولة التي تحتم على أفرادها الانضباط، والسؤال إذن هو عن الكيفية التي بها تفرض السلطة الحاكمة سلطانها على المواطنين بوصفه السؤال الرئيس والمركزي في بناء منظومة الحكم، (النظام المركزي والنظام الفدرالي مثلا).

2- الوظيفة التربوية: هي إنتاج الإنسان بوصفه جملة من العلاقات والأدوار ذات الدلالة، ولها ثلاث أقسام: أ-الولادة: أي تجدد النوع، ب-الرعاية الجسدية: حاجة الإنسان للعناية (كانط: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتاج للرعاية)، ج-بناء الشخصية المتوازنة، وطرق الاتصال اللغوي مع الآخر: القدرة على الترميز، هي كلها وظائف صغرى تحقق الغاية التي تسعى إليها الدولة، بما يجعل من الأسرة والمدرسة مؤسسات وسيطة ضرورية للدولة بما تحققه من البناء السليم والمتكامل للفرد وبما ينجر على ذلك من نسيج اجتماعي مترابط ذي علاقة بالبناء القرابي والأنساب وكذا الموالاة كذلك فضلا عن المصالح، وهي الأنواع الأربع للنسيج الاجتماعي التي تفرز في النهاية ضروبا من القيم والتحيزات تكون إما عاملا مساعدا للدولة أو معيقا لها.

ومن ثم فإن العلاقة بين الفرد والدولة لا تحصل إلا بعد ردح كدحي “الكسب” يحققه الفرد من خلال أفعاله التي يجازى عليها سلبا أو إيجابا، ومن ثم فإن الأسرة تربي على أهداف الدولة فهي أداة بيدها، لذلك فإن تطاول العهد يؤدي بالخطة التربوية إلى جملة من التقاليد التي توافق الدولة أو تنازعها.

3- الوظيفة الاقتصادية: تقوم على سد حاجات الأفراد ضم المحيط الطبيعي ابتداء من البيولوجي المادي إلى الثقافي الرمزي، بوصفها وظيفة التعويض عن الجهد والطاقة المستنفذين في تقديم الخدمة، وهي وظيفة تخدم الوظيفتين المتقدمتين عليه في الحالة السوية إلا إذا انقلبت الوسيلة إلى غاية فتصبح النخبة الاقتصادية متسيدة على الأخريين، ففي الحالة السوية تقوم بدور الأداة التي تحقق أغراض الدولة خاصة ما تعلق بوسائل الدفاع والأمن والثروة وجميع الوسائل، باعتبارها أيضا مصدرا رئيسا للخبرات الحرفية، وانتهاء إلى تحكمها في منزلة المحترفين في العمل والأموال والبضائع والخدمات والعمل والعملة داخل الدولة، ومن هنا يأتي إمكان سيطرت أصحاب المنشأة الاقتصادية على الدولة فيخضعون بقية بقية الدولة والأسرة لتكون في خدمتهم.

4- الوظيفة التعليمية: مهمتها إنتاج الرموز والمعارف وتحديد وظيفتها وأدوارها لغرض إخضاع الوظائف المتقدمة الثلاث بالإضافة إلى إخضاعها لنفسها إلى عملية انعكاسية تتيحه لها طبيعتها، أي تعلم السياسية وتعليمها، تعلم التربية وتعليمها، تعلم الاقتصاد وتعليمه، وتعليم التعليم وتعلميه، إذ غايتها تحقيق العلم بكيفيات اشتغالها كمجالات ومن ثم التوصل إلى أكثر السبل فاعلية في أداء أدوارها ووظائفها، لذلك فهي الميلاد الأسمى للمجتمع، لكونها عملية وعي للوظائف المتقدمة عليه بذاتها علم العلم وتعليم التعليم.

وإذا كانت المهمة الأساسية للوظيفة التعليمية هي إدراك قوانين الأشياء وأسرارها، فإن فلسفتها تكمن في الحيازة الرمزية لطبائع الأشياء بما فيها الإنسان نفسيا وحيويا، ذلك ما يجعل من من المنشآت الثلاث الأخرى بحاجة دائمة إلى العلم واستخدامه، ومن ثم فإن تموقع رجال العلم في مواقع صنع القرار يخول لهم سلطة رمزية-فعلية على جميع المنشآت الأخرى.

وهنا لابد من التنبيه إلى أنه ليس المقصود برجال العلم “الخبراء” الذين تلقوا تكوينا علميا في مجال تخصصهم ولو كان تكوينا متينا، بل هم في الواقع فقهاء العلم، أعني الذين لهم دراية بكيفيات تأثير العلم على الواقع وهو ما عرفناه مقدّما بأنه بلوغ مرحلة الاجتهاد في تخصصاتهم ممن لهم دراية بما يحصل في مجال تخصصهم تصل إلى حد القدرة على الإضافة النوعية فيه، ومن ثم فالفارق بين الخبير والعالم، هو أن الأول صاحب وظيفة داخل المنظومة الاجتماعية وهو مطلوب في مجاله، لكنه ليس مطلوبا في تولي مسؤولية الإشراف على الجماعية الاجتماعية التي يجب أن توكل للعالم ليس بوصفه صاحب حصيلة علمية مثله مثل الخبير أو يزيد عليه، وإنما بوصفه فقيها للعلم ذو قدرة على تمييز العرضي من الجوهري وكفاءة في تركيب الأجزاء ضمن إطارها الكلي.

ويتصور أبويعرب المرزوقي أن الوظيفة الرابعة هي الأهم بقوله: “إذا الوظيفة التعليمية وإن كانت أقل الوظائف كثافة وجودية ووقعا ماديا، فهي تمثل بما هي هذا التعيين، الدليل الحساس الذي بتجمده تتجمد كل الوظائف فيصبح المجتمع باردا فاقدا الوعي بذاته” (ص49)، وبه فإنه وإضافة إلى ما تقدّم من أن تشتت الكيان الاجتماعي بفعل فقدان الوظائف الاجتماعية، نستكشف أن أصل فاعلية تلك الوظائف يعود رأسا إلى الوظيفة التعليمية بوصفها الوظيفة المخولة بإحداث انعطافة الوعي من الغُفلية إلى الإدراك في جميع الوظائف، فهي بمثابة المدد الذي يمنح الطاقة الدافعة لجميع الجسد الاجتماعي.

إذ وانطلاقا من التسليم بأن للوظائف الأربعة قيام رمزي في الأذهان، أي إمكان رسم تلك الوظائف وإعطاءها صور عقلية، ومن ثم إمكان تحول تلك الوظائف إلى مواد للتنظير العلمي، بما هو تنسيق ذهني لتلك التصورات الممكنة وتحديدها تحديدا هندسيا انطلاقا من ملكة التمثل (الفاهمة والمخيلة)، وتلك هي مهمة العلم بما هو وعي انعكاسي على الذات والعالم والعودة إليها نظريا، ففي حال تمكنه من تحصيل معرفة دقيقة بالحقيقة الخارجية أولا وتوقع ما يمكن أن يطرأ عليها ثانيا وتخيل ما هو خفي بحكم التشاكل بين الرموز والوقائع ثالثا يصير علما كافيا؛ وهنا لابد إذن من التأكيد بأن الوعي الانعكاسي ذات الأساسين الهندسي والتمثلي يفارق تماما الوعي النفسي الانطباعي بالذات وبالعالم والقائم على الخاطرات.

  • خاتمة

إن نشأة العلم مرتبطة بنشأة الكيان الاجتماعي وهي غير ممكنة بدونه، وهذا الأمر يجعل الظاهرات الإنسانية خاضعة لحتميتين متقابلتين، هما حتمية إشراف الجماعة الإنسانية على العلم، وحتمية إشراف الجماعة العلمية على المجتمع، فالحتمية الأولى تحصل بفعل الحاجة إلى العلم، وهو وإن كان سعيا إراديا من المجتمع لاستغلال العلم فإنه في الجوهر وعي غُفل لا يصل إلى إدراك المعاني التفصيلية للموضوع، فليس بيد المجتمع عامة أن يدرك كيفيات الأثر الحتمي للعلم على المجتمع،  أما الحتمية الثانية فهي تنطلق من الشعور بالمسؤولية على المجتمع انطلاقا من إرادة واعية تفقه كيفيات الوصل بين الدولة والجماعة الإنسانية، إذ تصبح هنا وسيطا بينهما، والحاصل أن الوجود الاجتماعي أسبق من الوجود العلمي زمنيا ومن غير الممكن قلب العلاقة، إذ يستحيل تقدّم العلم على الوجود من حيث الأسبقية الزمنية.

هكذا فإن العلاقة بين الدولة والعلم أشبه بتاريخ تكون الحياة، ومثال ذلك الظاهرات الاجتماعية التي تنشأ غفليا ثم يحصل إدراكها شيئا فشيئا، فلحظة العلم بالشيء تالية دائما للحظة وجوده، وكذلك الظاهرة العلمية تنشأ في بدايتها غير مدرَكة ولا مدرِكة ثم يحصل تعقّلها بعد ذلك على أنها فعلا علم وهذا يصدق على المستويين الاجتماعي والفرد، فلا يعلم الفرد أن ما يدركه علم إلا في مرحلة تالية لتعلمه وكذلك المجتمع لا يدرك أن ما يحصل في أحشائه علم إلا بعد أن تتبين ملامحه، وما مهمة العلم إذن إلا التيقظ والانتباه لقياس مدى حضور العلم في المجتمع بعيدا عن كل مظاهر طافية وظرفية.

والمحصّلة أن الاجتماع الإنساني الذي ينشأ عفويا يحقق في أحد مراحلة انعطافة على نفسه ليعيها بفضل العلم الذي ينشأ هو الآخر عفويا ولا يدرك أنه كذلك إلا بعد انعطافته على نفسه أيضا، ومن ثم فإن مبدأ الوجود ومبدأ العلم هو واحد: العفوية واللامعقولية التي تستمر حتى بعد انعطافة الوعي من جهتين، جهة القصور العقلي حيث الإدراك البشري دائم النقصان، وجهة أن تدفق التاريخ يكشف للإنسان دائما أنه كان قاصرا في اللحظة السابقة…