مجلة حكمة
تأملات على أحداث ليتل روك - حنة أرندت السود

تأملات على أحداث ليتل روك – حنة أرندت / ترجمة: وجدان الدغيشم

hannah1
حنة أرندت

ملاحظات مبدئية:

تمت كتابة هذا المقال منذ نحو أكثر من سنة بناءً على مقترح اقترحه أحد كُتّاب التعليق. كان المقال متعلقا بالأحداث الجارية، وأجل نشره لعدة أشهر بسبب طبيعة أفكاري المثيرة للجدل حول قضايا التمييز العنصري والفصل العرقي والتي كانت مخالفةً تمامًا لما كان يعرض على رفوف المجلات. في ذلك الوقت كانت الأمور قد هدأت قليلا، فتملكني الأمل حينها بأن مخاوفي المتعلقة بمدى خطورة الوضع، قد يثبت فعلاً بأنها مخاوف مبالغ فيها، فعدلت عن رغبتي بنشر المقال. إلا أن التطورات الأخيرة جعلتني أدرك أن آمالي تلك لا طائل منها، وأن الترديد المتكرر للكليشيهات ([1])  الليبرالية قد يكون الآن أكثر خطورة مما كان عليه في العام السابق. لذا وافقت بالسماح لمجلة “ديسنت DISSENT ” بنشر المقال بنسخته الأصلية، ليس بدافع اعتقادي أن المقال الذي قد مضى على تاريخ كتابته أكثر من سنة قد يفحم القضية، أو حتى أن ينصف القضايا الشائكة الكثيرة المتعلقة بها، إنما على أمل أن تساعد هذه المحاولة البسيطة في القضاء على العمل الإجرائي الخطير الذي تتم فيه مناقشة هذه القضايا من كلا طرفي السياسة.

       بعد انتهائي من كتابة المقال، استرعى انتباهي مسألتان أود ذكرهما باقتضاب. تتعلق المسألة الأولى حول اعتراضي على قوانين الزواج المطبقة في 29 ولاية من أصل 49 ولاية، والتي تشكل انتهاكًا فادحًا لنص ومضمون الدستور أكثر بكثير مما يشكله قانون الفصل العرقي في المدارس. وحول هذا ذكرت سدني هوك من مجلة “نيو ليدر New Leader” في الثالث عشر من أبريل، أن الأمريكيين من أصل أفريقي “لا يكترثون بتاتًا” بتلك القوانين، فمن منظورهم “يأتي حظر التمييز ضد الزواج من أعراق مختلفة، وحظر التمييز ضد تمازج الأجناس، في أخر قائمة أولوياتهم”. أميل للتشكيك في هذا الرأي، خصوصًا بالنسبة للطبقة المتعلمة منهم، إلا أن ذلك ينطبق تمامًا على الرأي العام وعلى السياسات التي تنتهجها الجمعية الوطنية لتقدم السود (NAACP)، واللذان يقتصر اهتمامهما تقريبًا على قضية التمييز الممارس في العمل والإسكان والتعليم. وهذا منطقي، فلم يُعهد أبدًا أن تكون الأقليات المضطهدة ذات حكم صائب فيما يتعلق بقائمة الأولويات في مثل تلك القضايا، وهناك العديد من الشواهد التي آثروا حينها المطالبة بفرص اجتماعية عوضًا عن المطالبة بحقوق إنسانية أو سياسية أساسية. غير أن هذا لا يضفي الشرعية على قوانين الزواج آنفة الذكر، فهي لاتزال قوانين مُهينة. إن الدستور هو الوحيد المخول بتحديد قائمة الأولويات في مسألة الحقوق ويجب ألا يترك ذلك للرأي العام أو للغالبية.

       أما المسألة الثانية، فقد أشار إليها أحد الأصدقاء حينما لاحظ أن انتقادي لقرار المحكمة العليا لم يأخذ الدور الذي يلعبه -ولطالما لعبه- التعليم في المجال السياسي في هذا البلد بالحسبان. وهي ملاحظة صائبة تمامًا، وددت لو أدرجت في هذا المقال مناقشاتي لذلك الدور لولا أني قد نشرت في نص آخر عدة ملاحظات حول القبول الساحق وغير الناقد الذي لاقاه نموذج روسو في التعليم، وهو مقال كتبته في خريف عام 1958 ونشرته مجلة “بارتيسن ريفيو Partisan Review” بعنوان “الأزمة في التعليم”، وحتى لا أكرر نفسي أبقيت هذا المقال على حاله ولم أناقش فيه دور التعليم.

       أود أخيرًا أن أذّكر القراء أني أكتب من منظور خارجي حيث أني لم يسبق لي العيش في الجنوب وتعمدت أيضًا تجنب الرحلات العرضية المتجهة للولايات الجنوبية تحاشيًا من أن أُقحم في قضية أجدها شخصيًا شاقة. وأسوة بالسواد الأعظم من ذوي الأصول الأوروبية، يصعب علي فهم ممارسات الأمريكيين المجحفة في تلك المنطقة، ناهيك عن أن أسهم فيها. وفي حين أن ما كتبته قد يعده الصالحين صادمًا، وقد يساء توظيفه من أولئك السيئين، فإني أود أن أوضح أن من منطلق كوني يهودية، فإنه من المسلم به أن أحمل تعاطفًا لقضية الأمريكيين من ذوي الأصول الافريقية أسوة بكافة الشعوب المضطهدة والبائسة، وسأكون ممتنة لو فعل القارئ الأمر نفسه.


من سوء الحظ ومن الظلم الذي يصعب تبريره أن تشهد ليتل روك ([2]) أصداء رأي عام هائلة في كافة أنحاء العالم، وأن تكون بمثابة حجر عثرة في طريق السياسة الخارجية الأمريكية. على عكس بقية المشاكل الداخلية التي ما انفكت تحاصر هذا البلد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كالاضطراب الأمني، والطفرة الاقتصادية، والوفرة المفرطة وغير المنطقية التي صاحبت تحول الاقتصاد الى سوق، والتي كادت أن تُطيح بالإنتاجية وبالمقومات الأساسية. وعلى العكس أيضًا من المشكلات ذات المدى الطويل كالثقافة الجماهيرية، ومشاكل التعليم العام، والتي بدورها تعد مشاكل تقليدية في أي مجتمع عصري، فلا تقتصر هذا على المجتمع الأمريكي. إن سلوك هذه البلاد تجاه السكان الأمريكيين من الأصول الافريقية هو سلوك متأصلل بالتقاليد الأمريكية ولا يعدو أن يكون غير ذلك.

       إن خلق مشكلة السود هي أكبر جريمة للتاريخ الأمريكي، والتي يمكن تسويتها فقط ضمن الإطار السياسي والتاريخي لهذه الجمهورية. كما أن هذه المسألة أصبحت فجأة قضية رئيسية تشغل بال الشأن العالمي. وبحسب رأي التاريخ والسياسة الأمريكية، فإن مشكلة السود في العالم السياسي قد نشئت نتيجة للاستعمار والحكم الامبراطوري الذي مارسته الدول الأوروبية، وهي جريمة كبرى لم يكن لأمريكا يد فيها. وتكمن المأساة في أن مشاكل السود التي ماتزال قائمة في الولايات المتحدة قد كلفت الولايات مزايا كان من المفترض أن تنالها باعتبارها قوة عالمية.

       ولأسباب تاريخية وأخرى غير تاريخية، اعتدنا ربط مسألة الأمريكيين من ذوي الأصول الافريقية بجنوب البلاد، غير أن المشاكل الحالية التي يواجهها الأمريكيين من أصول أفريقية ممن يعيشون بيننا، تؤرق بطبيعة الحال البلاد برمتها وليس الجنوب فقط. وكبقية المسائل العرقية، يوليها الرعاع اهتمامًا خاصًا، لاسيما وهي ملائمة تمامًا وبإمكان الأيديولوجيات والمؤسسات الغوغائية بلورتها. وقد يتأجج يومًا هذا الجانب في النواحي الجنوبية الكبيرة والمتمدنة بشكل أكبر من النواحي المتمسكة بالتقاليد خصوصًا إذا ما استمر أعداد السكان الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية ممن يقطنون في الجنوب في الانخفاض، في حين يتزايد بنفس المعدل عدد السكان الأمريكيين من ذوي الأصول الافريقية في المدن غير الجنوبية في السنوات الاخيرة. إن المفهوم الأوروبي لا يعتبر، ولم يعتبر أبدًا، الولايات المتحدة دولة قومية. ولطالما كان الهيكل السياسي الأمريكي قائمًا على مبدأ تحقيق الاستقلال لأمة متجانسة يجمعها ماضي مشترك. وهذا إلى حد ما لا ينطبق تمامًا على الجنوب، والذي يعد سكانه أكثر تجانسًا وتأصلاً بالماضي من بقية السكان في أي جزء آخر من البلاد. مثلما أعلن ويليام فوكنر ([3])  بأنه في حالة الخلاف بين واشنطن والجنوب، فإنه سيتصرف في نهاية الأمر كمواطن من ولاية مسيسيبي، فبدى كشخص ينتمي لأحدى الدول القومية الأوربية أكثر من كونه مواطن ينتمي لهذه الجمهورية. وبالرغم من أن هذا الاختلاف ما بين الشمال والجنوب لايزال واضحًا، إلا أنه في طريقه للزوال بفضل التطور الصناعي الذي تشهده الولايات الجنوبية، كما أنه ليس لتلك الاختلافات تأثير في بعض الولايات اليوم. إن الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية هم من برزوا من دون بقية السكان في أجزاء البلاد الشرقية والشمالية، والتي يعيش فيها الأغلبية من مختلف الجنسيات وهم ليسوا بأقل تجانسًا من سكان الجنوب، ويعود ذلك إلى “قابلية ملاحظتهم”. فهم لا يشكلون الأقلية الوحيدة البارزة، لكنهم الأقلية الأكثر بروزا. وهم بهذا يتشابهون قليلاً مع المهاجرين الجدد، والذين دائمًا ما يمثلون أكثر أقلية مسموعة، ولذا فمن المتوقع دائمًا أن تُستثار تجاههم مشاعر تعاديهم لكونهم أجانب. وفي حين أن “المسموعية” ظاهرة مؤقتة ويعد انتقالها للجيل التالي أمرًا نادر الحدوث، تعد قابلية ملاحظة الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية ظاهرة ثابتة ودائمة. وهذه ليست مسألة تافهة، ففي المجال الجماهيري لا يعول على الشيء مالم يكن ظاهرًا ومسموعًا، فالظهور والمسموعية لهما أهمية جوهرية. إن القول بأن الأمريكيين من الأصول الأفريقية هم أشخاص ذوي مظهر خارجي مختلف فحسب، هو قول يفسر الماء بالماء. لأن المظاهر تحديدًا هي ما “تظهر” للعيان، بينما الخصائص الوجدانية وتُسيس ملكات القلب والعقل فقط بالقدر الذي تدفعهم فيه بالقدر التي يريد صاحبها كشفها في العلن بهدف أن يسلط الاقتصاد الضوء عليهم.

      تقوم الجمهورية الأمريكية على مبدأ تحقيق المساواة لجميع المواطنين وفي حين أصبحت المساواة أمام القانون مبدأ لا يمكن التنازل عنه وتكفله جميع الحكومات الدستورية الحديثة، فهي بذلك تشكل أهمية بالغة في الحياة السياسية للجمهورية أكثر من أهميتها في أي مجال حكومي آخر. إن المسألة على المحك، لذا لا يقتصر الأمر على مصلحة السكان الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية، بل يتعداه ليشمل المحافظة على بقاء الجمهورية على الأقل في المدى البعيد. لقد لاحظ توكفيل([4]) قبل قرن مضى أن تكافؤ الفرص  وتحقيق المساواة بين الطبقات الاجتماعية، بالإضافة الى مساواة الحقوق،  تشكل جميعها الحجر الأساس في قانون الديموقراطية الأمريكية. وقد تنبأ بأن الإشكاليات التي يتضمنها مبدأ المساواة والضبابية التي تحيطه، قد تصبح في أحد الأيام أخطر تحدي في حياة الأمريكيين. تمتلك المساواة بشكل عام -غالبًا بنموذجها الأمريكي- قوةً هائلةً وقادرة على أن تحقق المساواة بين الأشياء المختلفة بأصلها وطبيعتها، وبفضل تلك القوة فقط استطاعت البلاد الاحتفاظ بهويتها الأساسية أمام موجات المهاجرين التي لطالما غمرت شواطئها. لكن مبدأ المساواة -حتى بنموذجه الأمريكي- لا يحظى بسلطة مطلقة، فهو لا يستطيع أن يحقق المساواة في السمات الجسدية الطبيعية. يمكن بلوغ هذا الحد فقط حين يتم حل مشكلة التفاوت في الحالة الاقتصادية والتعلمية، لكن في حال بلوغ تلك المرحلة، فإنه سيلوح في الأفق نقطة خطر، وهي نقطة يدركها تمامًا من درس التاريخ، فكلما تساووا الناس في مختلف الأصعدة وتغللت المساواة أكثر في كامل النسيج الاجتماعي، كلما ازداد الاستياء من الاختلافات، وازداد بروز الأشخاص الذين يختلفون بالفطرة اختلافًا جليًا عن الآخرين.

       لذا فمن المرجح أن تحقيق مساواة اجتماعية واقتصادية وتعليمية للأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية قد يزيد من حدة مشاكل السود في هذه البلاد عوضًا عن تخفيف وطئها. وبطبيعة الحال ليس بالضرورة حدوث ذلك، لكن حدوثه سيعد أمرًا طبيعيًا، وعدمه سيكون مفاجئًا. لم نصل بعد لنقطة الخطر، لكننا سنصل إليها في المستقبل القريب، وقد حدثت بالفعل عددا من التطورات التي تشير بوضوح نحو اقترابنا من تلك النقطة. إن الوعي بالصعوبات المستقبلية لا يستلزم المناداة بمجابهة التيار القائم منذ خمسة عشر عامًا، والذي عاد على الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية بمنفعة عظيمة. لكنها تستدعي المطالبة بأن يُقاد التدخل الحكومي بحذر واعتدال، لا بطيش وسوء تدبير. لقد شهد الوضع العام في الجنوب تدهورًا منذ قرار المحكمة العليا بفرض إلغاء التمييز في المدارس الحكومية. وفي حين تشير الأحداث الأخيرة إلى أنه من غير الممكن تجنب الفرض الفيدرالي للحقوق المدنية للأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية في الولايات الجنوبية بأسرها، فإن الظروف تقضي بأن يقتصر هذا التدخل في الحالات القليلة التي يكون فيها قانون البلاد ومبادئ الجمهورية عرضةً للخطر. وبالتالي، يكون السؤال هل ستطبق هذه القوانين في جميع المجالات أم أنها تقتصر على التعليم بصفة خاصة.

       يشمل برنامج إدارة الحقوق المدنية مسألتين متناقضتين تمامًا. فهو يؤكد على حق السكان الأمريكيين من ذوي الأصول الافريقية في الانتخاب، وهي مسألة تشكل أهمية بالغة بالنسبة للشمال، لكنها ليست بذات الأهمية في الجنوب. كما يولي البرنامج اهتمامًا بقضية الفصل العرقي وهي ما تمثل واقعًا في كل البلاد عدا الولايات الجنوبية، حيث تعتبر تشريعات تمييزية. إن المقاومة الحالية الهائلة والقائمة في كل أنحاء الجنوب هي نتيجة لفرض إلغاء التمييز، وليس نتيجة الفرض القانوني لحق الأمريكيين من الأصول الافريقية بالتصويت. أظهرت نتائج استفتاء الرأي العام التي أجريت في فيرجينيا ([5]) أن 92% من السكان كانوا معارضين تمامًا لقرار دمج المدارس، و65% كانوا على استعداد لترك التعليم الحكومي في هذه الحالة، و79% يرفضون الالتزام بقبول قرار المحكمة العليا كقرار مُلزم، ويُظهر هذا مدى خطورة الوضع. إن المخيف هنا ليسوا المعارضين لقرار دمج المدارس والذين بلغت نسبتهم 92%، فالحد الفاصل في الجنوب لم يكن أبدًا بين مؤيدي ومعارضي فصل المدارس -ومن الناحية العملية لم تكن هناك معارضة من هذا النوع، لكن المخيف هو نسبة الأشخاص الذين فضلوا الامتثال للنظام الغوغائي على الامتثال للقانون، وهو ما يعتبر واجب على المواطن. إن من يُسمون بالليبراليين والوسطيين هم ببساطة من امتثلوا للقانون وقد تضاءلوا ليشكلوا أقلية بلغت نسبتها 21%.

        لم تكن هناك حاجة لإجراء استفتاء رأي عام لإظهار هذه المعلومة، فالأحداث التي تشهدها مدينة ليتل روك كانت كافية تمامًا لتوضيحها. وعلى من يرغبون إلقاء مسؤولية الاضطرابات فقط على سوء التصرف الغريب الذي بدر من المحافظ فابيوس، فبإمكانهم وضع أنفسهم بمكان المستمع  لجزالة  صمت اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الليبراليين في اركانساس ([6]). لقد كانت الحقيقة المؤسفة هي أن سكان المدينة الذين امتثلوا للقانون تركوا الشارع للرعاع، فلا السكان البيض ولا السود شعروا أن من واجبهم رؤية الأطفال الأمريكيين من أصول إفريقية يذهبون للمدرسة بأمان.  وقبل وصول القوات الفيدرالية، قد رأى الجنوبيون الذين امتثلوا للقانون أن فرض القانون ضد حكم الرعاع وحماية الأطفال من غوغائية الكبار ليست من شأنهم. وبمعنى آخر لم يغير وصول القوات الكثير بل زاد الطين بلّة.

      قد قيل بأن فرض الدمج في المدارس ليس بأقل سوءًا من فرض الفصل، وهذا صحيح تمامًا وأعتقد أن السيد فوكنر أيضًا من ذكر ذلك. فقد كان السبب الوحيد الذي خول للمحكمة العليا التدخل في قضية إلغاء التمييز منذ البداية هو أن العزل في المدارس أصبح قانونيًا ولم يعد شأنًا اجتماعيًا يعود أمره لأي جيل من الأجيال التي تعيش في الجنوب. ومن المهم هنا ذكر أن الفرض القانوني لفصل المدارس هو ما يعد غير دستوريا، وليست العادات الاجتماعية. إن لإلغاء هذه التشريعات أهمية عظيمة وجلية، ففي قضية قانون الحقوق المدنية المتعلق بحق التصويت، لم تقدم أي ولاية من الولايات الجنوبية على معارضة ذلك بشكل جدي. وفيما يتعلق بالتشريعات غير القانونية، ففي الواقع لم يحقق قانون الحقوق المدنية الكثير لأنه لم يتطرق لأكثر القوانين ظلمًا، والذي تسنه الولايات الجنوبية، وهو القانون الذي يعتبر الزواج من العرق الأخر تهمة جنائية. يُعد الحق في أن يتزوج المرء ممن يرغب حقا إنسانيَا أساسيًا مقارنة مع حق الدراسة في مدرسة تدمج بين العرقين، وحق جلوس المرء في المكان الذي يرغبه في الحافلة، وحق الذهاب لأي فندق أو منطقة استجمام أو مكان ترفيهي بغض النظر عن بشرة الشخص أو لونه أو عرقه، لأنها في الواقع حقوق ثانوية. وحتى الحقوق السياسية مثل حق التصويت، وتقريبًا جميع الحقوق التي تضمنها الدستور، هي حقوق ثانوية بالمقارنة مع الحقوق الإنسانية الثابتة وهي “الحياة والحرية والسعي خلف السعادة” والتي أذيعت في إعلان الاستقلال، ويُدرج حق السكن والزواج قطعًا من ضمنها. كان من الأولى لو عُرضت تلك الانتهاكات على المحكمة العليا حيث لو قضت بأن القوانين المعارضة لتمازج الأجناس غير قانونية، لكان من المستبعد أن تشعر بضرورة تشجيع الزواج من العرق الآخر ناهيك عن أن تشرعه.

      على أية حال، كان الجانب الصادم من كل تلك القضية، هو قرار الاتحاد بالبدء في تطبيق قرار الدمج في المدارس الحكومية أولاً دون بقية الأماكن. وبالطبع هذا لن يستغرق الكثير من التفكير لإدراك أنهم بذلك سيحمّلون كلاً من الأطفال السود والبيض مسؤولية حل مشكلة أقر الكبار أنهم غير قادرين على حلها على مدى اجيال. أعتقد من الصعب على أي أحد نسيان الصورة التي نشرتها الصحف والمجلات في جميع أنحاء البلاد، والتي أظهرت صورة فتاة أمريكية من أصول أفريقية عائدة من المدرسة برفقة صديق أبيها، وهو رجل من العرق الأبيض، وعلى مقربة منها يسير خلفها شبان همجيون يضايقونها بالسخرية وقسمات الازدراء تعلو وجوههم. ومن الواضح أنه قد طُلب من الفتاة أن تتحلى بالشجاعة، وهو شيء لم يجرب أبيها ولا ممثلو “الجمعية الوطنية لتقدم السود” أن يطلب منهما فعله، وتركاها وحيدة ولم يكونوا برفقتها. سيجد الشبان من ذوي العرق الأبيض –أو على الأقل أولئك الذين حولهم ممن نُمي فيهم هذه الوحشية-  صعوبة في نسيان الفضيحة التي خلفتها هذه الصورة والتي أظهرت قسوة جنوح الأحداث. بدت لي تلك الصورة كرسم كاريكاتير يسخر ببراعة من التربية التقدمية التي تلغي سلطة الكبار، وتنفي ضمنيًا مسؤوليهم تجاه هذا العالم الذي حملوا إليه أبنائهم، وترفض الاعتراف بواجبهم في توجيه أبنائهم في هذا العالم. هل وصلنا الآن للمرحلة التي يُطلب فيها من الأطفال القيام بالتغيير أو بتحسين العالم؟ وهل ننوي أن يقتصر خوضنا للمعارك السياسية في ساحات المدارس؟

       يُعد الفصل في المدارس تمييزًا عنصريًا فرضه القانون، ودمج المدارس سيلغي القانون الذي فرض الفصل لا أكثر، فليس باستطاعته القضاء على التمييز العنصري وفرض المساواة في المجتمع. لكن بمقدوره –وهو ما يجب عليه فعلاً- فرض المساواة في الهيكل السياسي. إن مصدر المساواة لا يقتصر على الهيكل السياسي فحسب، بل تنحصر شرعيتها بوضوح في المجال السياسي، حيث يكون الجميع هناك فقط سواسية. في ظل الظروف الحديثة، تجسدت الأهمية البالغة لهذه المساواة في حق التصويت، فوفقًا لهذه المساواة أصبح حكم ورأي النخبة من المواطنين مساوٍ لحكم ورأي المواطنين الذين بالكاد يقرأون ويكتبون. إن أهلية الترشح، والتي تعني الحق في أن يتم التصويت لك للفوز بمنصب، هي الأخرى حق راسخ مكفول لكل مواطن، غير أن المساواة هنا تصبح محصورة الآن، فبالرغم من أن ضرورة التفرد الشخصي في الانتخابات تنشأ من المساواة العددية والتي يتقلص فيها الجميع حرفيًا ليشكلون فردًا واحدًا، هو تمييز حيث يعتمد الأمر على المزايا التي يتم أخذها في الحسبان للفوز بالأصوات، وهذه ليست مساواة مطلقة.

      وخلافًا للفروقات الأخرى مثل اختلاف التخصص المهني، والتأهيل المهني، والفروقات الاجتماعية أو الفكرية تعد المزايا السياسية المطلوبة للفوز بالمنصب أشبه ما تكون بأن يصبح الفرد متساوٍ بين متساويين، ويمكن لغير ذوي الاختصاص القول بأن تلك المزايا بالتحديد لا يسعى لها جميع الناخبين على حد سواء بدافع الإنسانية، ولكن بدافع كونهم مواطنين وسياسيين. وكذلك تعتمد صفات المسؤولين في النظام الديموقراطي دائمًا على صفات جمهور الناخبين. بالتالي فأهلية الترشح هي بالضرورة نتيجة طبيعية لحق التصويت، والتي تعني منح الجميع الحق لأن يتفردوا في تلك الأشياء التي يكون فيها الجميع متساوين. وبالأحرى، فإن حق التصويت وحق أهلية الترشح للمنصب هي الحقوق الأساسية الوحيدة التي تشكل الجوهر الحقيقي للمواطنة في النظام الديموقراطي الحديث. على عكس بقية الحقوق المدنية والإنسانية التي لا يمكن منحها للأجانب المقيمين.

      تمثل المساواة للهيكل السياسي ما يمثله التمييز كمبدأ جوهري في المجتمع. ويعتبر المجتمع بمثابة المجال اللافت والهجين نوعا ما بين السياسة وبين الحياة الخاصة، والذي قضى فيه الغالبية الجزء الأكبر من حياتهم منذ بداية العصر الحديث. ففي كل مره نغادر فيها الحيطان الأربع الواقية لمنازلنا الخاصة، ونخطو على عتبة الحياة العامة فإننا ندخل المجال الاجتماعي أولاً وليس مجال المساواة السياسية. ندخل لهذا المجال بهدف كسب لقمة العيش، أو ميلا لتحقيق رغبتنا في تلبية النداء الوظيفي أو طمعًا بأُنس الصحبة، وبمجرد دخولنا يصبح المثل السائد الذي يقول: “الطيور على أشكالها تقع” منطبقٌ علينا، فلهذا المثل هيمنته على المجال الاجتماعي برمته حيث يُحيل المجتمع إلى جماعات وجمعيات متفرقة لا تعد ولا تحصى. إن الفروقات الشخصية ليست مربط الفرس هنا ولكن الاختلافات التي ينتمي الأشخاص لمجموعات معينة بناءً عليها، والتي تتطلب هويتها الحقيقة على من ينتمون إليها ممارسة التمييز ضد باقي المجموعات ممن يشاركونهم ذات المجال. يشكل الناس في المجتمع الأمريكي مجموعة، ومن ثم يمارسون التمييز ضد بعضهم البعض بناء على المهنة ومستوى الدخل والأصل العرقي، بينما الأسس التي يُبنى عليها التمييز في أوروبا هي أصل الطبقة الاجتماعية ومستوى التعليم وطريقة السلوك.  تبدو كافة الممارسات التمييزية تلك لا معنى لها من المنظور الإنساني، غير أن احتمالية وجود شخص في المجال الاجتماعي يرى الأمور من ذات المنظور هي احتمالية ضعيفة. وعلى أية حال، من دون وجود تمييز من أي نوع سيفنى المجتمع، والاحتمالية الأكثر خطورة هي زوال حرية تكوين الجمعيات والجماعات. إن المجتمع الجماهيري الذي يطمس أسس التمييز والتفاوت بين طبقات الجماعة، هو بهذا يشكل خطورة على المجتمع وليس على إخلاص المرء، لأن الهوية الشخصية تستمد جذورها بعيدًا عن المجال الاجتماعي. وعلى أية حال لا يعد الامتثال صفة يختص بها المجتمع الجماهيري لوحده، بل تشمل أي مجتمع فقط بالقدر الذي يقر فيه تلك الصفات لأي جماعة في المجتمع ممن يمتثلون لسمات الاختلاف العامة التي تُبقِي المجموعة على وفاق معًا. تكمن خطورة الامتثال في هذه البلاد -وهي خطورة قديمة بقدم نشأة الجمهورية تقريبا- في الاختلاف الاستثنائي الموجود في نسيج هذه الأمة، فيصبح الانسياق الاجتماعي مطلقًا وبمثابة البديل للتجانس القومي. وعمومًا يعد التمييز حقًا اجتماعيًا ضروريًا مثلما تعد المساواة حقًا سياسيًا. إن المسألة ليست متعلقة بكيفية إلغاء التمييز، بل بكيفية جعله مقتصرًا على النطاق الاجتماعي حيث يعتبر مشروعًا، ومنع تجاوزه للمجال السياسي أو الشخصي حيث يعتبر مدمرًا. وبهدف توضيح هذا الفرق ما بين المجال الاجتماعي والسياسي عليّ أن اذكر مثالين على التمييز، أحدهما في رأيي مسوغ تمامًا وخارج نطاق التدخل الحكومي، والآخر مشين ولا مبرر له وهو حتمًا يضر بالمجال السياسي.

      من المعروف أن المنتجعات المعدة لقضاء العطلات في هذه البلاد تكون مقيدة بحسب الأصل العرقي عادة. وهناك الكثير ممن يعارضون هذه الممارسة، بالرغم من كونها امتداد لحق تكوين التجمعات وحسب. كيهودية أرغب في قضاء عطلتي بصحبة يهود فقط، ولا أرى أن لأحد الحق في منعي من ذلك، كما أني لا أرى أي سبب وجيه في جعل المنتجعات الأخرى تمتنع عن تلبية رغبة نزلائها إذا ما رغبوا بعدم رؤية اليهود أثناء قضائهم لعطلاتهم. ومن غير الممكن أن يكون هناك شيء اسمه “حق الذهاب لأي فندق أو أي منطقة ترفيه أو أي مكان استجمام” لأن جل هذه الأشياء داخلة ضمن النطاق الاجتماعي البحت، حيث يكون فيه حق تكوين التجمعات حقًا مكفولاً وهو ما ينتج عنه بالتالي ظهور التمييز، وتفوق شرعية هذا الحق شرعية مبدأ المساواة. ((وهذا لا ينطبق على المسارح أو المتاحف حيث من الواضح أن الناس لا يذهبون هناك بغرض تكوين الصداقات.)) وفي الحقيقة يُمنح “حق” الدخول للأماكن الاجتماعية بصمت في معظم الدول، عدا في أمريكا الديموقراطية حيث يصبح أمرًا مثيرًا للجدل للغاية، ولا يعود ذلك بسبب كون الدول الأخرى أكثر تسامحًا، بل يعود جزء منه إلى تجانس شعوبها والآخر للنظام الطبقي المطبق اجتماعيا بالرغم من زوال الأساسات الاقتصادية. حيث تعمل كُلا من الطبقية والتجانس لضمان توفير بيئة يكون فيها العملاء الذين يرتادون المكان من ذات المستوى، وهو ما عجزت عن توفيره الممارسات التمييزية وسياسات التقييد في أمريكا. وعلى أية حال، إن الحديث عن “حق جلوس المرء في أي مقعد يشاء على متن الحافلة ” أو في محطات وعربات القطار إلى جانب حق الدخول الى الفنادق والذهاب للمطاعم الواقعة في المناطق التجارية، هي مسألة مختلفة تمامًا. وباختصار حين نتعامل مع الخدمات سواء كانت مملوكة من قبل الحكومة أو من قبل الأفراد، تبقى في الواقع مرافق عامة يحتاجها كل فرد حتى يتسنى له متابعة شؤونه وتسيير حياته. وإن لم تكن تلك المرافق ضمن النطاق السياسي المحض فهي تعد بوضوح ضمن المجال العام حيث يكون الجميع فيه سواسية، وتعتبر ممارسات التمييز المتبعة في عربات القطار والحافلات في الجنوب ممارسات مُهينة كباقي ممارسات التمييز المتبعة في الفنادق والمطاعم في كل أنحاء البلاد. ومن الواضح أن الوضع في الجنوب أكثر سوءا وذلك بسبب أن فصل المرافق العامة تم فُرضه بالقانون، وأصبح ظاهرة جلية للجميع. في الواقع، من المؤسف أن تبدأ أول خطوة نحو تصحيح الممارسات التمييزية في الجنوب بعد عقود كثيرة من الإهمال التام بعيدًا عن أكثر الجوانب المهينة والواضحة جدا.

       أخيرًا، المجال الثالث -العالم الخاص- حيث نعيش ونتنقل مع الأخرين، وهذا المجال ليس محكومًا لا بالمساواة ولا بالتمييز، بل بالخصوصية. ففيه نختار أولئك الذين نرغب بقضاء حياتنا برفقتهم من الأصدقاء الشخصيين والأحباء. ولا يكون اختيارنا بناءً على التماثل أو بناءً على الصفات المشتركة التي يتصف بها مجوعة من الناس، في الواقع لا يكون خيارنا مبني على أي معايير موضوعية أو شروط، إنما نتيجة اكتشافنا لشخص متميز ومتفرد عن بقية من عرفناهم، وهو اكتشاف صائب لا يمكن معرفة مسبباته. إن شروط التفرد والخصوصية تتعارض وستتعارض دائما مع معايير المجتمع بشكل خاص، بسبب كون التمييز الاجتماعي يخالف مبدأ الحياة الخاصة ويحد من أحقية التصرف بها. وبالتالي يشكل أي زواج بين الأجناس المختلفة تحديًا للمجتمع ويعني أن الزوجين قد فضلا تحقيق سعادتهم الشخصية عوضًا عن موافقة المجتمع، أي أنهم على استعداد لتحمل عبء التمييز العنصري. وهذا شأنهم الخاص ويجب أن يبقى كذلك. يعد تحديهم للمجتمع ومخالفتهم للأعراف شيئًا من حق أي مواطن فعله، والعار فقط حين يُفسر فعلهم كتهمة جنائية بحيث يجدون أنفسهم في خلاف مع القانون أيضًا بمجرد أن خطو خارج المجتمع. إن المعايير الاجتماعية ليست معايير قانونية، وفي حال امتثلت السلطة التشريعية للتحيزات الاجتماعية، أصبح المجتمع مجتمعا استبداديًا.

      أصبحت القوة الاجتماعية في وقتنا الحالي أكبر مما كانت عليه في السابق، ويرجع هذا لعدة أسباب معقدة جدًا يصعب مناقشتها هنا. ولا يُترك العديد من الناس ممن يعرفون القوانين ليعيشوا حياة خاصة. لكن هذا لا يعطي للهيكل السياسي العذر لنسيانه حقوق الخصوصية، وفشله في فهم أن حقوق الخصوصية تُنتهك انتهاكًا صارخًا حين تبدأ السلطة التشريعية بفرض التمييز الاجتماعي عن طريق القانون. وفي حين لا تمتلك الحكومة حق التدخل في التعصب والممارسات التمييزية في المجتمع، فإن من واجبها في المقابل وليس من حقها فقط ضمان عدم فرض تلك الممارسات قانونيًا. ومثلما ينبغي على الحكومة ضمان أن التمييز الاجتماعي لا يحد من المساواة السياسية، عليها أيضا أن تحفظ لكل شخص حقه في فعل ما يريد ضمن حدود حيطان منزله الأربعة. فحين يُفرض التمييز الاجتماعي قانونيًا، يصبح اضطهادًا. وقد أدينت الكثير من الولايات الجنوبية بسبب تلك الجريمة. وحين يُلغى التمييز قانونيًا، يعتبر انتهاكًا لحرية المجتمع. ويكمن الخطر في أن يؤدي تعامل الحكومة الفيدرالية الأرعن مع قضايا الحقوق المدنية إلى مثل هذا النوع من الانتهاكات. ويحق للحكومة قانونيًا عدم اتخاذ أي خطوة ضد التمييز الاجتماعي، لأن حدود تشريعها مقتصر باسم المساواة، والمساواة مبدأ لا يمكن تحقيقه ضمن النطاق الاجتماعي. إن القوة الشرعية الوحيدة التي باستطاعتها محاربة التعصب الاجتماعي هي الكنيسة، حيث بإمكانها فعل ذلك بذريعة تحقيق السمو الروحي، لأن الديانات –وخصوصا العقيدة النصرانية- قائمة على مبدأ سمو الروح. وفي الواقع تمثل الكنيسة المكان العام والمشترك الوحيد الذي لا يشكل فيه مظهر الإنسان أهمية، وإذا ما تسلل التمييز إلى دور العبادة فهي دلالة أكيدة تشير إلى وجود علة في إيمانهم. وبالتالي تحولهم من مؤسسة دينية إلى مؤسسة اجتماعية.

       والقضية الأخرى المتعلقة بالخلاف الحالي بين واشنطن وبين الجنوب، هي قضية الحقوق الخاصة بكل ولاية. أعتاد الليبراليون في فترة من الفترات ادعاء عدم وجود قضية من هذا النوع على الإطلاق، واعتبروها مجرد ذريعة جاهزة يستخدمها رجعيو الجنوب ممن ليس بجعبتهم شيء غير “جدال عبثي وتاريخ دستوري”، وبرأيي هذا خطأ خطير. وخلافًا للمبدأ التقليدي بأن امثل السلطة العليا غير قابلة للتقسيم، وهو المبدأ المطبق في الدول القومية الأوربية، فإن هيكل السلطة الحكومية في هذه البلاد يعتمد على مبدأ تقسيم السلطة، وعلى الاعتقاد بأن الهيكل السياسي بأكمله يستمد قوته من خلال تقسيم السلطة. وهذا المبدأ بلا شك متجسد في نظام الضوابط والموازين بين الفروع الحكومية الثلاثة، وهو ليس أقل تجذرًا في الهيكل الفيدرالي الحكومي حيث يستلزم أيضًا وجود التوازن والقرار المشترك بين السلطة الفيدرالية وبين السلطة في الثمان والأربعين ولاية. وتولد السلطة حين تُقسم مزيدا من القوة وذلك خلافًا للفرض الجبري، وفي حال كان ذلك صحيحًا –وأنا متيقنة من كونه كذلك-  بالتالي فإن أي محاولة من الحكومة الفيدرالية بهدف سلب الولايات بعضًا من سلطتها التشريعية تكون مقبولة فقط ضمن نقاش قانوني وتاريخ دستوري. إن مثل تلك النقاشات هي ليست نقاشات عبثية، بل هي مبنية على مبدأ كان في الواقع في صدارة الأشياء التي خطط لها مؤسسي الجمهورية.

       إن هذا لا يتعلق بالحزب الليبرالي او المحافظ، بالرغم من أن طبيعة السلطة هنا تكون عرضة للخطر. وإن التاريخ الطويل والمُشرف لحكم الليبراليين الذي كان حافلاً بالارتياب الشديد من أي نوع من السلطة، يصعب الوثوق فيه هنا أكثر من بقية المسائل الأخرى. حيث يفشل الليبراليون في فهم أن طبيعة السلطة، والمتمثلة في إمكانيات السلطة للاتحاد بأكمله، ستتضرر في حال كانت الأساسات الإقليمية التي تُستمد منها السلطة ضعيفة. ويمكن -في الواقع من الواجب-  تقييد الفرض الإجباري بهدف أن يكون ذا فعالية، ولكن لا يمكن تقييد السلطة ويجب ألا يتم ذلك. وإذا جُففت المصادر المختلفة التي تندفق منها السلطة، سيصاب الهيكل السياسي كاملا بالوهن. تعد الحقوق الخاصة لكل ولاية في هذا البلد إحدى أكثر مصادر السلطة الرسمية، ولا تقتصر أهميتها في تعزيز المصالح الإقليمية وتنوعيها بل تطال أهميتها كامل الجمهورية.

       تتمثل مشكلة حملة المطالبة بحقوق الأمريكيين من ذوي الاصول الأفريقية في فرض تطبيق قرار الدمج في مجال التعليم الحكومي عوضا عن بقية المجالات، وهو ما جعل هذا القرار يتطرق دون قصد لمسألة يشترك فيها الجميع ممن لديهم حقوق ومبادئ مختلفة والتي تمت مناقشتها مسبقًا. إن ما أشار إليه الجنوبيون مرارا وتكرارا حول كون الدستور يصمت أمام التعليم هو صحيح تمامًا، فمن المتعارف عليه عرفَا وقانونَا أن التعليم الحكومي يقع ضمن حيّز نطاق تشريع الدولة. وإن ذريعة المعارضين بكون جميع المدارس الحكومية الآن تتلقى دعم فدرالي هي ذريعة ضعيفة، لأن الدعم الفيدرالي في هذه الأصعدة يقدم بنية ملائمة الإسهام المحلي وسد النقص فيه، وليس بنية تحويل المدارس لمؤسسات فيدرالية وجعلها بمثابة المحاكم الجزئية الفيدرالية. سيكون من الحمق في الواقع أن تلجأ الحكومة أو الاتحاد لاستغلال مساعدتها المالية كوسيلة لجبر الولايات على القبول بوضع كانوا لولا ذلك سيأخرون تطبيقه أو يرفضونه تمامًا، وهو ما أصبح الآن وشيكًا بفضل القيام بالمزيد والمزيد من المجازفات التي كانت في السابق مسؤولية فردية تخص كل ولاية على حدة.

      يصبح الخلط المذكور آنفًا بين الحقوق والمصالح واضحًا حين نتطرق لقضية التعليم على ضوء المجالات الثلاث المحيطة بحياة الفرد، وهي المجال السياسي والمجال الاجتماعي والمجال الخاص. يعد الأطفال قبل كل شيء جزءًا من الأسرة ومن المنزل وهذا يعني أن تتم تربيتهم أو يجب أن تتم ضمن إطار تمييزي استثنائي وهو ما يجعل المنزل منزلاً حقيقيًا، قويًا وحصينًا بما يكفي ليحجب من بداخله من الصغار عن المتطلبات المجتمعية ومسؤوليات المجال السياسي. يكفل حق الخصوصية للآباء الحق في تربية أطفالهم وفق ما يرونه مناسبًا، وهو حق خاص بالمنزل والأسرة. إلا ومنذ استحداث التعليم الإجباري تمت مجابهة ذلك الحق ومحاولة تقييده -لكن لم يُلغى- من قبل حق الهيكل السياسي في تهيئة الاطفال للقيام بواجباتهم المستقبلية كمواطنين. ويصعب إنكار مجازفة الحكومة في هذه المسألة حيث يعد هذا شأن متعلق بالآباء. ولا يوفر خيار التعليم الخاص حلاً للمعضلة، لأنه يجعل إمكانية حفظ بعض من الحقوق الخاصة معتمدة على الحالة الاقتصادية، وعليه فإن أصحاب الدخل المحدود هم من يضطرون لإرسال ابنائهم للدراسة في مدارس حكومية.

      قيّد التعليم الإجباري -بشكل قانوني- حق الآباء في التحكم في أبنائهم، ولا شيء غيره فعل. إن للدولة حق ثابت لسن حد أدنى من المتطلبات التي يجب على المواطن أدائها في المستقبل ويتجاوز ذلك ليشمل تطوير المناهج ودعم الحرفيين الذين يجب أن يشعروا بأن الوطن بأكمله يحتاجهم. وهذا كله متعلق بنطاق تعليم الطفل فقط وليس بصداقاته وحياته الاجتماعية، والتي دائمًا ما تنشأ من خلال حضوره في المدرسة، وما كان خلافًا لذلك يستوجب المرء أن يعارض حق وجود المدارس الخاصة. حيث تعد المدرسة المكان الأول الذي يرتاده الطفل بعيدا عن منزله والذي يقيم فيه علاقات اجتماعية مع العالم الخارجي الذي يحيط به وبعائلته، وهو ليس بعالم سياسي، بل اجتماعيا. وتمثل المدرسة لطفل ما تمثله الوظيفة للكبار، غير أن الاختلاف الوحيد هو أنه في المجتمع الحر يكون مبدأ حرية الاختيار متوفرًا على الأقل حين اختيار الوظائف واختيار الرفقة، وهذا ليس بعد بيد الطفل بل موكلاً لأبويه.

      إن اجبار الأبوين على إرسال أبنائهم لمدراس تدمج السود والبيض دون رغبتهم، يعني سلبهم حقًا جليا تكفله لهم جميع المجتمعات الحرة، وهو حق توفير الخصوصية لأبنائهم وحق حرية تكوين التجمعات وهو حقٌ اجتماعي. ويعني بالنسبة للأطفال فرض الدمج ووجود اختلاف خطير بين المنزل وبين المدرسة، بين عالمهم الخاص وبين حياتهم الاجتماعية، وفي حين يكون مثل هذا الاختلاف أمرًا معتادا في حياة الكبار فإنه من المستبعد أن يحسن الأطفال التعامل معه، وبالتالي يجب عدم تعريضهم لذلك.

      كثيرًا ما تمت الإشارة إلى أن الكبار لا يكونون على نفس الدرجة من التوافق كما كانوا في السابق، لأننا في الطفولة نكون اجتماعيين بالفطرة. ولهذا السبب يحتاج كل طفل فطريًا لولي أمر يوجهه في هذا العالم الذي ما يزال غريب فيه، حيث ليس بإمكانه تدبر أمره بنفسه. وحين نصل للمرحلة التي يفشل بها الأبوين والأساتذة من أن يكونوا مصدر السلطة للطفل، يصبح ولائه لرفاقه أقوى، وفي ظل ظروف معينة تصبح جماعة الرفاق هي سلطته العليا. وستكون النتيجة ازدياد سلطة الغوغاء والعصابات وحسب، مثلما أظهرت الصورة المنشورة في الأخبار ذلك بوضوح والتي تم ذكرها سابقا. إن الاختلاف بين بيئة المنزل المنعزلة وبيئة المدرسة المدمجة، وبين التعصب الأسري ومتطلبات المدرسة، سيقضي دفعة واحدة على سلطة الأساتذة والآباء ويستبدلها بسلطة الرأي العام على أطفال لا يمتلكون لا القدرة ولا الحق في تشكيل رأي عام يعبر عنهم.

      وبسبب العوامل الكثيرة المختلفة المتعلقة بقضية التعليم الحكومي أصبح من السهل توظيفها لتحقيق أهداف متضاربة، وسيبقى التدخل الحكومي حتى في أفضل حالاته محل خلاف. بالتالي أصبحت القضية محل تساؤل لدرجة عالية عما إذا كان من الصائب أن يبدأ فرض الحقوق المدنية في مجال لا تكون فيه الحقوق الإنسانية والسياسية الأولية عرضة للخطر، بينما تكون فيه حقوق أخرى عرضة للانتهاك بكل سهولة، مثل الحقوق الاجتماعية والحقوق الخاصة وهي حقوق لا تقل أهمية حفظها عن بقية الحقوق الأخرى.


([1])الكليشية (cliché): هي مثال أو قول أو فكرة، فقدت قيمتها من كثرة الاستخدام.

([2])عاصمة ولاية اركنساس

([3])روائي أمريكي وشاعر وأحد أكثر الكتاب تأثيراً في القرن العشرين

([4])مؤرخ ومنظر سياسي فرنسي اهتم بالسياسة  وفي بعدها التاريخي.

([5]) ولاية امريكية

([6]) إحدى الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية.