مجلة حكمة
بين كتابين: صُوَّر المغرب وأوروبا في أدب الرحلات المغربية - كمال عبداللطيف

بين كتابين: صُوَّر المغرب وأوروبا في أدب الرحلات المغربية – كمال عبداللطيف

مجلة الجابري – العدد الثاني


1 – تعتبر كتب الرحلات من الكتب المفتوحة على تخصصات معرفية وفنية متعددة، وهي تتميز بنمطها الخاص في الكتابة، المتمثل في قدرتها على رسم ملامح الأزمنة والأمكنة، خارج مقتضيات النمطية المعتادة في الكتابة البحثية بمختلف مجالاتها، أو الكتابة الإبداعية بطابعها المعتمد على كفاءة التخييل.
إلا أن كتب الرحلة ليست موحدة، وفي رصيد الرحلات الصادرة في الشرق والغرب، ومنذ أقدم العصور، ما يعبر على غنى وتعدد هذا النمط من الكتابة. وقد عرفت الثقافة العربية الإسلامية، مصنفات متعددة في هذا الباب، سواء في عصورها الوسطى، أو خلال تعاقب أزمنتها المتتالية، وتم في الأغلب الأعم تصنيف

الرحلات ضمن أجناس الكتابة الأدبية، دون أي محاولة للتفكير في البنيات الفنية المتداخلة لهذا الجنس، ودون إقامة للحدود الفاصلة داخل بنية الكتابة، حيث لا يمكن الحديث عن كتابة الرحلات بالمفرد،وذلك رغم العوامل المشتركة المتعددة، الناظمة لروح هذه الكتابة ومنطقها.

يضاف إلى ذلك أن محتوى الرحلات لا يقدم معطيات متجانسة، فمادة الرحلة تَعْرِضُ لموضوعها المباشر، أي لمناسبتها وسياقها، وتعكس أيضاً معطيات أخرى لها صلة بأكثر من موضوع. مما يحولها إلى فضاء لتداخل لغات ومعطيات متنوعة.

ان هذا هو المبرر الذي يقف وراء اعتماد المؤرخين على كتب الرحلات، عند بنائهم لتاريخ المجتمعات، حيث تشكل الاشارات والأوصاف والروايات التي تقدمها مادة الرحلة، جملة من العناصر، التي يمكن اعتمادها في بناء الأزمنة والتواريخ، في استمراريتها وانقطاعها.

لكن مادة الرحلات، لا تندرج فقط ضمن مواد بناء أحداث التاريخ بحكم ما تحتويه من معطيات، إن تداخل لغاتها، السردية، الواصفة، الانطباعية، الموضوعية والذاتية، يُمَكِّن كذلك من مشاهدة صور تداخل الوعي في الكتابة. فالخلاصات التي تستقر في النص، والاشارات العابرة الدالة التي ترد فيه، وكذا الايحاءات البعيدة لصيغ التعبير، وصيغ الاستشهاد، ثم نمط اللغة الواصفة، كلها عناصر تقدم تصوراً على طبيعة الحمولة الوصفية الاستعراضية، وطبيعة الوعي المحايث لها، الظاهر منه والخفي بين ثنايا لغتها، وهو الأمرالذي يحول الرحلات إلى مادة فكرية مواتية لرصد تحولات الأفكار، في علاقاتها بصيرورة الوعي وتحولات المجتمع، في زمن تبلورها، وخاصة عندما يرتبط زمن صدورها بأزمنة الصراع بين المجتمعات، أو تكون قريبة من هذه الأزمنة، فتقدم بصورة مباشرة، شهادة لها قيمتها، بحكم اقترابها من نمط الصراع الجاري، وبحكم مواقفها منه، سواء المواقف المعلنة، أو المواقف التي يمكن استشفافها من بياضات الرحلة أو مشاهدها العابرة.

وبالإضافة إلى كل ما سبق، هناك الفوائد العديدة، التي تقدمها الرحلات للجغرافيين، واللسانيين، والمهتمين برصد الحساسيات والأشكال الأدبية والفنية، ثم هناك النظرة أو الرؤية الخاصة التي تحملها الرحلات للآخر، وهي نظرة تقدم مشاهداتها وأفكارها بالصورة التي تجعلها تقدم في الآن نفسه رؤيتها لذاتها، حيث تعكس نصوص الرحلات جدلية حية ومركبة، في مجال رصد الفوارق والتمايزات، من خلال الخلفيات الموجهة لغايتها البعيدة، وللغايات التي تتــرتب عــن مخــتلف الوســائط التــي تكون قد استـوعبتها، وهــي تبني مقاربتها للوقائع والأمكنة.

وهذه النظرة تعكس تقاطع رؤية المجتمعات والحضارات لبعضها، حيث تشكل الرحلات في النهاية، نماذج من الرؤى المعبرة عن درجات الفهم والصراع والتعاون، القائمة بين المجتمعات البشرية، وذلك حسب أنماط الرحلات والسفريات التي يقوم بها الرحالة بمختلف أسمائهم، السفراء والعلماء ورجالات الدولة والسواح والمخبرون وغيرهم، ففي الرحالات التي يتم تحريرها من طرف هؤلاء جميعا، نعثر على معطيات مساعدة على بلورة رؤية الآخرين لبعضهم البعض، حيث يتم تبادل المواقع، في معادلة الأنا والآخر. ففي الرحلات التي قام بها الغربيون إلى افريقيا والمشرق العربي، في القرن الثامن عشر، نشاهد الملامح الأولى للرؤية الاوروبية لافريقيا وللأفارقة، ثم للمشرق العربي، في مختلف مظاهره ومختلف تجليات وجوده، وفي رحلات العرب المسلمين للغرب في القرن نفسه، نكتشف خلفيات الانطباع والوصف المُؤثت لمتون الرحلات، كما نشاهد الرؤية الموجهة للرحلة وأهدافها. ومن خلال هذه الرؤى المتقاطعة، يمكن بناء نمط الوعي بالذات وبالآخرين، بواسطة صياغة دلالات العناصر الموظفة في الكتابة والوصف. وتختــلف الرؤى بالطبــع، انطلاقا من اختلاف المواقع والمناسبات، واختلاف تقارير الرحلات.

توضح المحددات الآنفة الذكر، أهمية الرحلات في مجال التاريخ والجغرافية والمجتمع والثقافة ، كما تشير إلى أهميتها في صياغة ملامح الوعي بالذات وبالآخرين، في سياق تطور المجتمعات والحضارات، وتطور رؤيتها لبعضها البعض. وإذا كانت رحلات السفراء، ومسؤولي الدول، وخبرائها، تكشف عن جوانب من المعطيات السياسية المرتبطة بمناسبة الرحلة وموضوعها، فإن الرحلات الحرة، التي تكتب بصورة مستقلة، أو تعد على هامش السفريات الدبلوماسية، تُمَكِّن القراء أيضاً من رصد أنماط الوصف والسرد ومحتواهما، ورصد أنماط الوعي بالآخرين، في تجارب الأمم، وضمن صيرورة تحول الوعي في التاريخ.

2 – في إطار الوعي بالمقدمات السابقة، أصدر كل من الزميلين سعيد بنسعيد العلوي، وعبد المجيد القدوري، كتاباً في موضوع “الرحلات المغربية”، وقد صدر الكتابان معاً ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط سنة 1995.

تناول كتاب الأستاذ عبد المجيد القدوري بالبحث، نماذج من الرحالات المكتوبة خلال القرون الأربعة الأخيرة 17-18-19 ومطلع القرن العشرين، وعنوانه: (سفراء مغاربة في أوروبا 1610-1922، في الوعي بالتفاوت). وعالج كتاب الاستاذ سعيد بنــسعيد العـلوي عيــنة مــن الرحــلات المعــروفة، خــلال القــرون الثلاثة الأخيرة 18-19-20، وعنــوانه: (أوروبــا في مرآة الرحلة، صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة).

يعالج موضوع الكتابين مجالاً بكراً، حيث تتم العودة إلى رحلات أغلبها غير محقق، وسياقها التاريخي غير مُضاء بما يكفي من الرصد والتحليل التاريخيين، المساعدين على فهم مادة النصوص/الرحلات، إضافة إلى غياب التواريخ المقارنة بين المغرب والدول الأوروبية موضوع الرحلات، مما حول عملية البحث إلى عملية مركبة ومعقدة.

لم يكتف الباحثان بدراسة متون الرحلات، للإجابة على أسئلة منهجية محددة، بل أضافا إلى ذلك جهداً ثانياً، انصب على نشر بعض هذه الرحلات، أو نشر بعض أجزائها، وهكذا نسجل أن كتاب الأستاذ سعيد يتضمن النص الكامل “للرحلة الأوروبية” لمحمد الحجوي، وقد جاءت في حدود 100 صفحة، من القطع الكبير. كما قام الأخ عبد المجيد بنشر عيِّنة نموذجية دالة، من أوصاف الرحالة المغاربة لباريز، خلال القرن السابع عشر، والتاسع عشر، والقرن العشرين، وهي نصـوص مُــسْتَلَّةٌ من رحــلات الحـجوي والعمراوي والجعايدي ومحمد بن عبد السلام السايح.

قد لا نجازف إذا مااعتبرنا أن هذا العمل (الجهد البحثي المبذول في المصنفين معاً) يتجه لإصابة هدف مشترك، ونحن لا نقر بهذا الحكم، لمجرد أن موضوع الكتابين واحد، وان اختلف المجال الزمني الذي غطاه البحثان قليلاً، حيث توقف القدوري على نص، مكتوب في القرن 17، (ناصر الدين على القوم الكافرين) 1610 للحجري. وتوقف بنسعيد العلوي على (الرحلة الأوروبية) للحجوي، كما توقف عند رحلة الصفار (1845)، بينما اختار القدوري رحلة محمد بن عبد السلام السايح (أسبوع في باريز) (1922).

ان المقصود بالإقرار السابق، هو الروح التي تحكمت في البحثين معاً، حيث ساهم الكاتبان كل بطريقته الخاصة، في إماطة اللثام، على نمط من الكتابة، ظل يُنْظر إليه باعتباره مجرد أداة لفهم معطيات تاريخية أو جغرافية، وفي أفضل الأحوال ينظر إليه كوسيلة مساعدة على بناء الأحداث التاريخية، دون أي محاولة للنظر إليه في استقلاليته النصية، وما يمكن أن يترتب عن هذه الاستقلالية من نتائج خاصة، ثم النظر في أدوراه الممكنة والمحتملة، في مستوى مساعدته على بناء معارف أخرى، تتعلق بمجالي التاريخ وصيرورة الوعي، والمجال الأخير يدرج عادة في تاريخ الأفكار بمعناه العام.

1.وما يُدَعِّم حكمنا السابق، حول وحدة محتوى المُصَنَّفين، والهدف الذي تمكنا معاً من إصابته، أن مادتهما الأولية في مجملها واحدة، فقد تناولا معاً الرحلات المشتركة الآتية: (الاكسير في فكاك الأسير) (1781)، و (البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر) (1782)، وهما معاً لمحمد بن عثمان المكناسي، و (تحفة الملك العزيز بمملكة باريز) (1860) لإدريس العمراوي. و(التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الاسبنيولية) (1884) لأحمد الكردودي، ثم رحلة (اتحاف الأخيار بغرائب الأخبار) (1876) لإدريس الجعايدي ، وهناك رحلات أخــرى اهتــم بها كل منهما على حدة ، بناء على اختياراته المـنــهجية، وطريقته في البــحثوالكتــابة، وانطلاقاً مـن المخطوطات والمطبــوعات التــي توفرت له. زمن البحث صحيح ان تخصص كل من الباحثين وتكوينهما العام (التاريخ والفلسفة)، ساهم في تنويع المقاربة، كما ساهم في تميز طريقة بناء كل منهما لعمله، وهو أمر لا يمكن الاختلاف في أهميته وفائدته. عندما يتعلق الأمر بتنويع وتوسيع زوايا المقاربة، إلا ان الوِجْهة العامة التي تحكمت في رؤيتهما للموضوع، والنتائج العامة التي توصلا إليها، كل بأسلوبه الخاص، جاءت متقاربة بصورة ملفتة للنظر، وذلك رغم أن الأستاذ بنسعيد تناول في بحثه موضوعاً محدداً، ركز فيه على صورة أوروبا في الرحلة المغربية، المنظور إليها كمرآة، رغم التحفظات التي يمكن أن تؤخذ على مفهوم المرآة والمرآوية وآلية الإنعكاس التي يؤدي إليها مفهوم المرآة، وخاصة عندما نعرف بأن الذات الواصفة (كاتب الرحلة) لا تعكس الصور فقط، قدر ما تعمل على إعادة بنائها، في ضوء النظرة الذاتية بكل ثقلها اللساني، النفسي، السيــاسي، التــاريخي، وبــمختلف وســائلها في المعرفة ومواقعها التاريخية، وأحكامها المسبقة.

أما الأستاذ القدوري، فقد وضع لبحثه عنواناً فرعيا دالاً، توخى منه أن يضع يده على الموضوعة المركزية في الرحلات، موضوعة إدراك الفوارق، أوما أطلق عليه في العنوان الفرعي للكتاب: “في الوعي بالتفاوت”، والتفاوت المقصود في هذا العمل، هو مجمل مظاهر الفروق والاختلافات القائمة بين مجتمعات متقدمة، وأخرى (من بينها المغرب) يعرف زمن تحولها كثيراً من الركود. وليس هذا فقط، بل إن الدول المتقدمة تتجه لاكتساح الأخرى، وقد كشفت الرحلات المدروسة ملامح التفاوت، بل التفاوتات الحاصلة بين المغرب وأوروبا، في الأزمنة التي كتبت فيها هذه الرحلات.

في كتاب القدوري، ورغم وضعه اليد على موضوع التأخر والتقدم ووعي التفاوت، كما تَرْسُم ملامحه الرحلات، وخاصة الدبلوماسية منها، لم يتم بناء وتركيب المفاصل الكبرى للبحث، في سياق ترتيب ملامح ومظاهر الوعي بالتفاوت المنصوص عليه، حيث تحضر معادلة الذات والآخر، المغرب وأوروبا بصورة مركزية، بل إن هيمنة خلفيته التكوينية كباحث في مجال التاريخ، حولت بحثه إلى ميدان لاستعراض الوقائع والأحداث الوصفية، فتابعها دون كلل، بكثير من الحرص والتدقيق، متناسياً العودة إلى موضوعة الكتاب المركزية “الوعي بالتفاوت”. ولو استطاع إنجاز عملية استجماع لخيوط المعطيات التي قام بإخراجها وترتيبها، عبر فصول بحثه، في فصل إضافي تركيبي جامع، أو في خاتمة مفتوحة على أبرز خلاصات الوعي بالتفاوت، لجاء العمل في صورة أكثر تماسكاً، وأكثر وفاء لما أراد إصابته من أهداف، في مستوى القراءة والتأويل.

وهذا المُفْتقد في متن بحث القدوري، تمكن من تحقيقه بنسعيد، حيث قام بحصر مجال البحث، وحرص على بناء المعطيات التي تخدم غرضه الدقيق والمعلن، صورة الآخر في أدب الرحلة، صورة أوروبا في الرحلة المغربية، رغم أن النعت الذي أضاف إلى العنوان “المعاصرة”، قد لا ينطبق تماماً على النصوص المعتمدة كمصادر أولية في البحث، ذلك أننا لا نعاصر القرن الثامن عشر، و كان بإمكان الباحث أن يتكلم عن المغرب الحديث والمعاصر، أو يعين الدلالة الاجرائية للمعاصرة، خاصة وأنها موضوعة في صدر الغلاف.

وعندما ننظر إلى الكتابين من زاوية بنيتهما العامة والخلاصات الأساسية، التي انتهيا إليها، نكتشف تكاملهما من جهة، وتطابق كثير من أحكامهما من جهة ثانية. أما تكاملهما، فيتجلى في كون كتاب بنسعيد، اعتنى بالتفكير في الآخر، حيث تتضمن الرحلات المغربية التي قام بدراستها تصوراً محدداً لهذا الآخر، وقد حدد الباحث هذا التصور من خلال لحظات ثلاث دالة عنون بها فصول كتابه: لحظة القوة والثقة في النفس القرن 18، (قوة الذات في مواجهتها للآخر، للآخرين، “الدول الأوروبية”)، و لحظة الهزيمة والاكتشاف، القرن التاسع عشر، (هزيمتي معركة إيسلي 1844 ومعركة تطوان 1860)، ثم لحظة الدهشة واستعادة الوعي القرن 20 (إدراك الفوارق بين التأخر والتقدم).

أما مصنف القدوري، فقد اهتم بموضوع الوعي الذاتي، أي أنه فكر في الوعي الذاتي بالتفاوت، وقارب جوانبه المختلفة، وهي تحاول إدراك أوجه اختلافها مع الآخر، منطلقاً من الاقرار بأن رحلات القرن 17 و 18 تتضمن ثقة واضحة في الذات، واعتزازاً بمكانتها وأدوارها التاريخية، أما رحلات القرن التاسع عشر، فقد اعتبر أنها تهدف إلى التخفيف من وطأة إرادة الهيمنة الأوروبية المتزايدة والمتصاعدة، والتي ستنتهي كما هو معلوم بإعلان الحماية على المغرب في مطلع القرن العشرين. وأما رحلات بداية القرن، ومنها رحلة محمد بن عبد السلام السايح، النموذج المدروس، فإنها تتضمن قبول الأمر الواقع، واقع الحماية، وتدعو إلى التساكن في ظل التسامح، وفي هذا كثير من المعطيات التي تقرها أيضاً (الرحلة الأوروبية) للحجوي، كما أبرز ذلك الأستاذ بنسعيد، وقد بلورت هذا المحتوى فصول كتاب القدوري، من خلال مقاربتها للموضوعات الآتية: –

تمثل السفراء المغاربة للسياسات الأوروبية، الرحلات السفارية واقتصاد أوروبا، ثم المجتمعات الأوروبية من المنظور المغربي.

نقطة الارتكاز البحثية تختلف بين الباحثين، وتترك آثارها في طريقة الاستدلال، وبناء المشروع البحثي، فعندما يتجه بنسعيد لبناء صورة الآخر في مرآة الذات، يقوم القدوري بمراقبة صيرورة الوعي الذاتي كما تصوره الرحلات، وهي تتيح للذات معاينة مظاهر حياة ومجتمع الآخر، المجتمع الأوروبي في مخلتف مجالات حياته في الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، والعمران إلخ… والفرق بين الاثنين يتمثل في أمرين اثنين:

أولهما: نقطة الارتكاز البحثية، وقد تجلت في كتاب بنسعيد في محاولته التفكير في بلورة صورة الآخر في الرحلة، وذلك رغم المقدمات المحددة في الفصل الأول من هذا الكتاب. والتفكير في تصوير واقع الذات، وهي ترحل صوب جغرافية الآخر، في كتاب القدروي. صحيح أن فصول كتاب هذا الأخير المذكورة آنفاً، تتجه لصياغة مواقف الرحلات من الغرب، أي من السياسة والاقتصاد والمجتمع الأوروبي. إلا أن منطلق التفكير عنده يروم رسم التفــاوتات القــائمة بــين واقــع الــذات (المغرب)، وواقع الآخر (أوروبا في مظاهرها المذكورة). ذلك أن الخلفية الناظمة لعمله تظل هي الصور الذاتية، الصور التي يقوم الرحالة بتركيبها عند تعبيرهم عن مشاهداتهم وأثناء وصفهم للظواهر التي تلفت انتباههم أثناء رحلاتهم.

وثانيهما: درجة اصطناع آليات المقاربة، أي درجة العمل على بناء البحث، بالانتقال من مستوى الاستماع للنص، إلى مستوى إعادة تشكيله، في ضوء العدة المنهجية المتاحة لكلا الباحثين، حيث لا يطغى محتوى النص على الكفاءة البحثية، أي على أسئلة البحث ومنهجيته، والهدف المتوخى منه.
وما تبقى في العمل تفاصيل ومعطيات متاحة في النصوص، وقد قام الباحثان باستخراجها -كل بطريقته الخاصة- لرسم ملامح الذات، في مواجهتها للآخر، وصور الآخر كما لاحت للوعي الذاتي. فتمكنا بفضل عملهما من معاينة مؤشرات التقدم الأوروبي (أوروبا المؤسسات، أوروبا التنظيمات، أوروبا المتربصة بالذات)، بحكم شروط تطورها الذاتي المتمثل في تطور نمط إنتاجها الاقتصادي مقابل تقهقر وتراجع الأوضاع في المغرب، وهذه هي الخلاصة المركزية في الكتابين، وقد تم الوصول إليها من خلال عمليات استدلالية مركبة، اعتمدت من جهة مادة الرحلات، واستندت من جهة أخرى على معطيات تاريخية موثقة.

في نصوص الرحلات المغربية المكتوبة خلال القرون الثلاثة الأخيرة إذن وعي واضــح بمــسار التــقدم والنهــوض الحــاصلين في أوروبا، وذلك مقابل الوعي الذاتي بالتأخر.

3 – ولابد من الاعتراف في النهاية بالنتائج القيمة للكتابين، ليس فقط لأنهما اجتهدا في كشف كثير من المعطيات المتعلقة بموضوع المغرب وأوروبا، صور المغرب وصور أوروبا كما بلورتها مجموعة من الرحلات المكتوبة، في القرون الثلاثة الأخيرة، بل لأنهما دشنا البحث في مجال مازال في حاجة إلى كثير من الدراسة، وهو مجال ينفتح على إمكانيات متعددة للمقاربة والمقارنة والبحث، ويتيح إمكانية إعادة كتابة بعض أوجه وملامح وحقب التاريخ. وإذا كان الفصل الأول من كتاب الأستاذ بنسعيد يلمح إلى علاقة الرحلات المغربية، ببعض الرحلات التي أنجزها المشارقة، فيذكر رحلة الطهطاوي، (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ورحلة أحمد فارس الشدياق (الواسطة في أخبار مالطة) ليشير إلى بعض مظاهر حضورهما في رحلات المغاربة، فإنه يمكننا أن نضيف إلى ما ذكر، أمثلة أخرى من الرحلات، مثل رحلة فرنسيس مراش “رحلة إلى أوروبا”، ثم”رحلة أمين فكري” إرشاد “الألبَّا إلى محاسن أوروبا” على سبيل المثال لا الحصر.

إن تقصي طبيعة وبنية هذه الرحلات يتطلب وحده، إنجاز أبحاث مقارنة حول ملامح تصور الرحلات المغربية والمشرقية للآخرين، لإجلاء صورهم في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، بل إن الأمر يقتضي أيضاً إنجاز مقارنات بين النصوص التي تنتمي إلى مجال المغرب العربي، فالتقارير التي تضمنتها مقدمة خير الدين التونسي حول “التمدن الأوروبي” و”الاختراعات الأوروبية” ورحلة ابن أبي الضياف “الرحلة إلى فرنسا” في كتابه “الاتحاف”، ثم رحلة سليمان الجزائري “عرض البضائع العام”، وقد كتبها بمناسبة معاينته للمعرض العالمي بباريز سنة 1866، تقدم موضوعات توضح الصور الجديدة التي شكلتها النخب السياسية، وشكلها الكُتاب والرحالة والمبعوثون حول أوروبا الجديدة، وحول علاقة بلدانهم بها، وهو ما يحتاج إلى تضافر جهود مجموعات بحثية، لنتمكن من إضاءة جوانب من تاريخنا، وتاريخ علاقتنا بأوروبا وبالأوروبيين، وقد تدعم هذه الأبحاث متى توفرت، الأبحاث الجــارية فــي مــجال التأريــخ الشــامل للفــكر المــغربي، ضــمن دائرة أوسع، هي دائرة الفكر العربي المعاصر.

(*) يحاور هذا النص محتوى الكتابين الآتيين:

1- عبد المجيد القدوري: سفراء مغاربة في أوروبا، 1610-1922، في الوعي بالتفاوت، منشورات كلية الآداب بالرابط 1995، سلسلة الأبحاث والدراسات.
2- سعيد بنسعيد العلوي: أوروبا في مرآة الرحلة، صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب بالرباط 1995، سلسلة الأبحاث والدراسات..