مجلة حكمة

برهانُ الإمكانِ الكوزمولوجي – ويليام لاين كرايج / ترجمة: يوسف العتيبي

برهان الإمكان
ويليام لاين كرايج

توجد ثلاث مقدمات في برهان الإمكان الكوزمولوجي وهي :

1- كل شيء موجود يوجد تفسير لوجوده ( إما لضرورة تقتضيها طبيعته أو لسبب خارجي).
2- إن كان هنالك تفسير لوجود الكون، فهذا التفسير هو الله.
3- الكون موجود.

الآن، ماذا ينتج منطقياً من هذه المقدمات الثلاث؟

من المقدمة 1 و 3 ينتج :
4- وجود الكون له تفسير.

و من 2 و 4 ينتج منطقيّاً :
5- إذن، تفسير وجود الكون هو الله.

هذه حُجّة متماسكة منطقياً، لذا إن أراد الملحد إنكار النتيجة يجب عليه القول أن إحدى المقدمات الثلاث خاطئة، ولكن أي واحدة سيرفض؟ المقدمة الثالثة لا يمكن أن ينكرَها أي باحث صادق عن الحقيقة، لذا يجب على الملحد أن يرفض إما المقدمة الأولى أو الثانية، إن أراد أن يبقى ملحداً وعقلانيّاً في نفس الوقت. إذن، السؤال هو: هل المقدمة الأولى والمقدمة الثانية صحيحتان أم خاطئتان؟ حسناً دعونا نُلقي نَظرة عليهما.

 

وِفقاً للمقدمة الأولى يوجد نوعان من الأشياء:

(أ): أشياء توجد وجوباً (ضرورةً)
(ب): أشياء توجد إمكاناً

الأشياء التي توجد وجوباً توجد لضرورة تقتضيها طبيعتها ذاتها. العديد من الرياضيّين يعتقدون أنّ الأعدادَ والمجموعات وغيرها من المفاهيم الرياضية وجودها من هذا النوع الأول. هذه الأشياء لا توجد لسبب خارج عنها، إنما وجودَها تقتضيهِ طبيعتُها ضرورةً. و على النقيض من ذلك، الأشياء الممكنة الوجود توجد لسبب خارج عنها. توجد لأن شيئاً ما أوجدها. هذه المجموعة من الأشياء تشمل البشر والكواكب والمجرّات.

ما الدليل الذي يمكن تقديمه للاعتقاد بأن هذه المقدمة الأولى صحيحة؟ حسناً عندما تفكّر بهذه المقدمة مليّاً تجد أنَّ لديها نوعاً من الدليل الذاتي. تخيّل أنّكَ ذهبتَ في رحلة إلى الغابة مع أصدقائك، ثم صادفت في طريقك كرةً شفّافة ملقاة على الأرض، طبيعياً ستتساءل عن سببِ وجودها في هذا المكان. إذا قال لك أحدُ رفقاءِ الرحلة ” إنها فقط موجودة بلا سبب، لا تقلق بشأنِها ” ستظُنَّ أنّه إما أن يكونَ مجنوناً أو أنه فقط يريد المضيَّ قُدُماً في الرحلة بلا تأخير. لن يأخذَ أحدٌ على محملِ الجدّية الرأيَ القائلَ أنَّ هذه الكرة موجودةٌ على الأرض بلا سبب.

الآن افترض أن حجمَ هذهِ الكرة كان بحجم سيّارة. هذا الافتراض لن يلغي الحاجة لطلب تفسير وجودها. افترض أنّها كانت بحجم منزل. نفسُ المشكلة. افترض أنها بحجم قارّة أو كوكب، أيضاً نفس المشكلة. افترض أنّها بحجم الكون الهائل، لن تزول المشكلة حتى مع هذا الافتراض. زيادة حجم الكرة المُفتَرضَة لن يؤثّر على المطالبة بوجود تفسير.

هذه المقدمة الأولى هي التي غالباً ما ينكرُها الملحد. أحياناً يردّ الملاحدة على المقدمة الأولى بقولهم أنّها صحيحة عند تطبيقها على كل ما في الكون ولكن ليس عند تطبيقها على الكون ذاته، ولكن هذا الرد يسمّى بـ”مغالطة سائق الأجرة” لأنّه وكما أشار الفيلسوف الملحد آرثر شوبنهاور بذكاء، أنّ المقدمة الأولى لا يمكنك أن تتجاهلها ببساطة عندما تصل إلى وجهتك المطلوبة.

سيكونُ أمراً اعتباطياً للملحد أن يدّعيَ أنَّ الكونَ هو الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة. في مثال الكرة والغابة السابق أوضحنا أن زيادة حجم الكرة – حتى ولو كانت هذه الزيادة تصل لحجم الكون – لن تُلغيَ الحاجة لطلب تفسيرٍ ما لوجودها.

لاحظ أيضاً مدى لا علميّة رد الملحد السابق. لأن علم الكوزمولوجي الحديث يهدف إلى معرفة سبب وجود الكون، فموقف الملحد هذا يعيق تقدّم العلم.

بعضُ الملحدين حاولوا تبرير الادعاء القائل أنَّ الكونَ هو الاستثناءُ للمقدمة الأولى بقولهم أنه يستحيل وجود سبب لتفسير وجود الكون. لأن تفسير وجود الكون سيكون في حالةٍ ما قبل أن يوجد الكون. ولكنّ هذه الحالة هي عدم، والعدم لا يمكن أن يكون تفسيراً لوجود أي شيء، إذن الكون يجب أن يوجد بلا تفسير.

مسار الاستدلال هذا يتّضح أنه خاطئ. لأنه يفترض أنَّ الكونَ هو كل ما يوجد، لذا إن لم يكن هناك كون فلن يسبقه إلا عدمٌ محض. وبعبارة أخرى، هذا الاستدلال يفترض ضمنيّاً أن الإلحاد صحيح، وهذه مصادرةٌ على المطلوب أو استدلالٌ دائري. أنا أتفق مع الافتراض القائل أنّ سبب الكون هو حالةٌ ما تسبق وجودَه ولكنّي أقول أنًّ هذه الحالة هي الله وإرادته وليست العدم المحض.

لذا يبدو لي أن المقدمة الأولى معقولة، فهي على الأرجح صحيحة بالفعل وهذا كل ما نحتاجه لبناء حجّة جيدة.

ولكن ماذا عن المقدمة الثانية؟ هل هي معقولة؟ ما يبدو محرجاً بالفعل للملحد في هذه النقطة هو أن المقدمة الثانية متكافئة منطقياً مع رد الملحد على برهان الإمكان. العبارتان تكونان متكافئتين منطقياً عندما يستحيل أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى خاطئة في نفس الوقت. إما أن يثبتان معاً أو يرتفعان معاً. إذاً ما هو رد الملحد غالباً لـ برهانُ الإمكانِ ؟ يدعّي الملحد غالباً الادعاء التالي لنقض برهانُ الإمكانِ :

أ. إذا كان الإلحاد صحيح، لا يوجد تفسير لوجود الكون.

وهذا بالضبط ما يقوله الملحد للرد على المقدمة الأولى. الكون وُجِدَ هكذا بدون تفسير، ولكن هذا الادعاء متكافئ منطقياً مع:

ب. إذا كان هناك تفسير لوجود الكون، فالإلحاد غير صحيح.

لذا لا يمكنك قبول (أ) و رفض (ب).

 

ولكن (ب) واقعياً مرادفة للمقدمة الثانية! لذا عند الرد على المقدمة الأولى بالقول أنه على افتراض أن الإلحاد صحيح فالكون لا تفسير لوجوده، الملحد يعترف ضمنيّاً بالمقدمة الثانية القائلة أنه إن كان لوجود الكون تفسير فالله موجود.

بغض النظرعمّا سبق، المقدمة الثانية تبدو صحيحة في ذاتها. لأنه عند التفكير في ماهية الكون، كل الزمكان الواقعي المتضمن لكل المادة والطاقة، يلزم منه أنه إن كان هناك سبب لوجود الكون فإن هذا السبب يجب أن يكون لا فيزيائي، لا مادي، متجاوز للزمان والمكان. الآن يوجد احتمالان لهذا السبب المتضمن للخصائص السابقة، إما أن يكون موجوداً مجرّداً كالأعداد أو أن يكون عقلاً غير متحيّز. لكن الأشياء المجرّدة لا يمكنها أن تسبّب شيئاً، وهذا جزء من معنى كونها مجرّدة.

الرقم 7 -على سبيل المثال- لا يمكنه التسبّب بأي مسبَّبات أو آثار. لذا يجب أن يكون سبب وجود الكون عقلاً متعالياً وهو المتعارف عليه بين المؤمنين بأنّهُ الله.
إذاً هذا البرهان يثبت وجود خالق للكون، لا مادي، لازماني، لا مكاني، لا يسبقه سبب و وجوده واجب. هذا مذهل بالفعل!

الملحد لديه منفذ بديل في هذه النقطة، بإمكانه مراجعة موقفه و سحب اعتراضه على المقدمة الأولى والقول بأنّه، نعم للكون تفسير لوجوده ولكن هذا التفسير هو أن الكون واجب الوجود بذاته، لأنه بالنسبة للملحد قد يستبدل الكونُ وجودَ الله باعتباره واجبَ الوجود. تبدو هذه خطوة متطرّفة بالنسبة للملحد، ولا أعتقد بوجود ملحد معاصر يتبنّى هذا الادعاء. قبل بضع سنوات أثناء مؤتمر “فلسفة الزمن” المقام في كلّية المدينة – في مقاطعة سانتا باربارا، بدا لي أن الفيلسوف (أدولف جرونباوم)، فيلسوف العلوم الملحد الشرس من جامعة بيتسبيرغ، كان يلمّح لهذه الفكرة ولكن عندما سألته مباشرةً عمّا إذا كان يعتقد أن الكون واجب الوجود، ردّ بعصبيّة قائلاً “بالطبع لا! ” واستمرّ بالقول أن الكون يوجد هكذا بلا أي تفسير.

السبب الذي يكبح اندفاع الملحد لاعتناق هذا البديل واضح. لأنّهُ عندما ننظر للكون نجدُ أن لا شيء من مكوّناته يبدو واجب الوجود ( سواءً النجوم، والكواكب، والمجرّات، والغبار الكوني، والأشعة أو غير ذلك ). من الممكن ألاّ توجد كلها، وبالفعل في نقطةٍ ما في الماضي، عندما كان الكون هائل الكثافة، لم تكن المكوّنات السابقة موجودة. ولكن قد تقول ماذا عن المادة التي تكوّن هذه الأشياء؟ ربما تكون المادة واجبة الوجود وكل الأشياء التي ذكرناها قبل قليل عبارة عن تراكيب ممكنة الوجود للمادة؟

مشكلة هذا القول أنّه وِفقاً للنموذج الفيزيائي المعياري للجسيمات تحت الذرية، المادة ذاتها تتكوّن من جسيمات دقيقة تدعى “الكواركات”. فالكون عبارة عن تجمّعات من هذه الكواركات مرتّبةً ترتيبات مختلفة، لكن الآن السؤال المطروح هو: هل من الممكن وجود تجمّعات مختلفة من الكواركات بدلاً من الموجودة فعلاً؟ هل كلُّ واحد من هذه الكواركات واجب الوجود.

لاحظ ما لا يمكن للملحد قوله حول هذه النقطة. لا يمكنه القول أنّ الكواركات عبارة عن تراكيب للمادة فقط ويمكن لها أن توجد بشكل آخر على الرغم من أن المادة التي تكوّن الكواركات واجبة الوجود. لا يمكنه قول ذلك لأن الكواركات ليست مكوّنة من أي شيء! هي عبارة عن المكونات الأساسية للمادة، لذا إن لم يوجد الكوارك فلن توجد المادة كذلك.

الآن يبدو واضحاً أن تجمّعاتٍ مختلفة من الكواركات كانت من الممكن أن توجد بدلاً من التجمّعات الموجودة فعلاً، ولكن إن كان هذا صحيحاً فإن كوناً مختلفاً عن كوننا سيكون موجوداً. لفهم هذه النقطة، فكّر بمكتبك. هل من الممكن أن يكون مكتبك قد تكوّن من الثلج؟ لاحظ أنني لا أسألك عمّا إذا كان من الممكن أن تمتلك مكتباً من ثلج بدلاً من مكتبك الخشبي بنفس الحجم والتركيب. لكن أسألك عن ذات مكتبك المكوّن من الخشب، هل من الممكن أن هذا المكتب قد تكوّن من الثلج؟ الجواب بالطبع لا. المكتب الثلجي سيكون مكتباً مختلفاً، ليس نفسه. بطريقة مشابهة، الكون المكوّن من كواركات مختلفة حتى لو كان ترتيبها مطابق لهذا الكون، سيكون كوناً مختلفاً. ينتج عن ذلك أن الكون لا يوجد بضرورة تقتضيها طبيعته.

لذا، الملحدون لم تصل بهم الجرأة لحدّ إنكار المقدمة الثانية والقول بأن الكون واجب الوجود، المقدمة الثانية تبدو صحيحة في ذاتها. عند التسليم بصحّة هذه المقدمات الثلاث، فالنتيجة منطقياً لا يمكن الفرار منها. الله هو تفسير وجود الكون. أيضاً، هذا البرهان يقتضي أن الله عقل غير متحيّز، لا يتقدّمه سبب، متعالٍ عن الكون المادي وحتى عن الزمان والمكان ذاتهما، كما أن وجوده واجب. يا لهُ من برهانٍ عظيم!.