مجلة حكمة

انهيار النظام الليبرالي العالمي – ستيفن والت / ترجمة: وافي الثقفي

 


“لقد أشرف العالم على زمن أضحت فيه الديمقراطية هشة من بعد قوة، وقد آن أن ندرك خطأ طريقنا”

في يوم من الأيام – تحديدًا في التسعينيات من القرن العشرين – ظن كثير من ذوي الجِدِّ والفطنة أن الأنظمة السياسية الليبرالية موجةٌ سوف تغمر معظم العالم مستقبلًا ولابد. لقد أطاحت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الديمقراطية بالفاشستية وأتبعتها الشيوعية، ظنًا أنها ستضع الإنسانية في “نهاية التاريخ”. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي محاولةٌ جرئية في سيادة مشتركة أوقفت الحروب في معظم أوروبا. إن كثيرًا من الأوروبيين يعتقدون أن اتحادَ المؤسسات الديمقراطية الفريد من نوعه، والسوقَ المشتركة، وسيادةَ القانون، والحدودَ المفتوحة، جعلت “القوة المدنية” الأروبية كقوة “الإكراه” الأمريكية إن لم تكن أشد قوة. أما الولايات المتحدة فقد أخذت على عاتقها “توسيعَ دائرة الحكم الديمقراطي، والتخلصَ من الأوتقراطيين المزعجين، وترسيخَ السلام الديمقراطي”، لترحب بنظام عالمي نافع ودائم.

ربما رأيت أن الافراط في التفاؤل – في التسعينيات من القرن الماضي – أثار شيئًا من روح التشائم حول نظام ليبرالي قائم؛ بل حذر منه. ويعتقد روقر كوهن – كاتب ومفكر من دعاة التحرر في صحيفة نيويورك تايمز – أن قوى التحلل تسير قدمًا” وأن “دعائم العالم بعد الحرب تضطرب”. وقد حذر تقرير أصدره منتدى الاقتصاد العالمي في شهر إبريل من أن النظام العالمي الليبرالي “يواجه قوىً شتى من حكومات استبدادية قوية وحركات متشددة تناهض اللبرالية.” أمّا أندرو سوليفان – من مجلة نيويورك – فقد نبّه على أن الولايات المتحدة ذاتها قد تؤدي نفسها إلى التهلكة، لأنها أصبحت “ديمقراطية مفرطة”.

إن من اليسير إدراك هذه المخاوف. ففي روسيا والصين والهند وتركيا ومصر – نعم حتى هنا في الولايات المتحدة – لا يرى المرء سوى استبدادٍ مناهض أو تعطشٍ لقائد فذ، يزول على يديه كل تسخط وتذمر. ووفقًا لما ذكره الخبير الديمقراطي لاري دايمند فإنه بين عامي (2000م – 2015م)، انهارت الديمقراطية في سبع وعشرين دولة،” وأن “كثيرًا من الأنظمة الاستبدادية القائمة باتت أقل انفتاحًا وشفافيةً وتجاوبًا مع مواطنيها.” لقد قامت بريطانيا هذه الأيام بتصويتٍ للخروج من الاتحاد الأوروبي؛ وذهب كلٌ من بولندا وهنقاريا وإسرائيل مذاهبَ متعصبة؛ ويوشك أحدُ الحزبين الرئيسيين في أمريكا أن يُنصّب مرشحًا رئاسيًا لا يقيم وزنًا للتسامح الذي عليه مدار المجتمع الليبرالي، ويتغنى بمبادئ العنصريين ونظريات المؤامرة التي لا تستند إلى دليل، بل ويشكك في استقلالية السلطة القضائية. أما مناصرو مثاليات الليبرالية الحقّة فقد أظلهم زمان لا بشرى لهم فيه.

أظن أن لدي اطلاعًا واقعيًا على السياسية العالمية والخارجية، غير أن ما يجري من تطورات لا يَسُرّ أبدًا. وكما يقول روبرت قلبين، “لو أُكرِهت على الكلام لوصفت نفسي ليبرليًا في عالم واقعي،” وأعني بذلك أنني أُجلّ ما يقوم عليه المجتمع الليبرالي من فضائل، ومقرٌّ بجميل البقاء في مجتمع كهذا المجتمع، وأعتقد – حقيقةً – أن العالمَ خيرُ مكان لو أن قيمَ المؤسسات اللبرالية اتُّخذت على نحو واسع – بل على مستوى العالم كله. (ينتابني شك في قدرتنا على الإسراع بتلك العلمية، وخاصة بالقوة العسكرية، إلا أن هذه قضية أخرى). لذا وَدِدْت لو أن آمال الليبراليين بادئ الأمر تحققت. غير أن ذلك لم يكن، ومن الضروري أن نتأمل في ذلك.

تكمن أولى المشكلات في أن مناصري الليبرالية باعوا أكثرَ مما يملكون. فقد أُبْلغنا أن مع استمرارِ سقوط الديكتاتوريين، وتزايدِ الدول التي تعقد انتخابات حرة، ومؤازرةِ الخطاب الحر، وتطبيقِ حكم القانون، وتبني السوق التنافسية، والانضمامِ إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي أو كليهما، كلُّ ذلك سَيُسْهم في بناءِ “منطقة سلام”، وازدهارِ الرخاء، وسهولةِ التعامل مع النزاعات السياسية المعلقة ضمن إطار النظام الليبرالي.

ولمّا لم تجرِ الأمورُ بيسر وسهولة، ولَحِقَ ببعضُ الجماعات في هذه المجتمعات الليبرالية ضررٌ جراءَ هذه التطورات، لم يكن هناك بد من رد فعل عكسي. وأسوأ من ذلك ما ارتكبه النخبةُ من حماقات كبيرة بما في ذلك إصدار اليورو، وغزو العراق، والمحاولات غير المدروسة لبناء هويتهم في أفغانستان، والأزمة المالية عام 2008م؛ كلُّ ذلك وغيرها من الأخطاء ساهمت في التقليل من شأن شرعية نظام ما بعد الحرب الباردة، وأَشْرَعت الأبوابَ للقوى المتشددة، وتركت شيئًا من المجتمع عرضةً لمطامع المتعصبين لأهل البلاد.

كذلك فإن الجهود المبذولة لنشر النظام الليبرالي العالمي تواجه معارضة محتملة من زعماءَ ومجموعاتٍ تُهددهم جهودنا تهديدًا مباشرًا. ولاغَرْوَ أن إيران وسوريا فعلتا ما بوسعهما للحد من جهود الولايات المتحدة في العراق على سبيل المثال، ذلك أن إدارة جورج بوش بينت أن هذه الأنظمة كانت ضمن قائمة الدول التي ستقوم بضربها أيضًا. وبالمثل فإن من العسير أن نفهم لمَ آنَست الصين وروسيا خطرًا من جهود الغرب في نشر القيم “الليبرالية”، أو لم اتخذتا خطىً شتى لاتقاءها؟

لقد نسي الليبراليون كذلك أن المجتمعاتِ الليبراليةَ الناجحةَ لا تكتفي بمؤسسات ديمقراطية صُورية؛ بل تقوم على إلتزامٍ واسعٍ ومخلصٍ للقيم الأساسية في المجتمع الليبرالي، وعلى رأسها التسامح. وكما تَبيّن من أحداث العراق وأفعانستان وأماكن أُخر، فإن وضعَ دستورٍ، وتشكيلَ أحزاب سياسية، وإجراءَ انتخابات “حرة وعادلة” لن تُولد نظام ليبراليًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى إلا أن يتبنى الأفرادُ والجماعاتُ في المجتمع المعاييرَ الليبرالية الأساسية. ولا يمكن تطوير هذا الضرب من الالتزام الثقافي والمعياري بين عشية وضحاها أو فرضها من الخارج، بل ولا سبيل إلى ذلك لا بطائرات تجسس ولا قوات خاصة ولا غيرها من أدوات العنف.

وأيضًا فإن مِنْ ما لا يحتاج إلى بيان أن ليبراليي ما بعد الحرب الباردة استهانوا بدور الوطنية وغيرها من صنوف الهوية المحلية، والطائفية والعرقية والروابط العشائرية ونحو ذلك. فيرون أن هذه العناصر المتخلفة ستضمحل يومًا بعد يوم، أو أنها لن تعدو أن تكون تعابيرَ ثقافيةً لا تَمُتّ إلى السياسة بصلة، و ربما تُسيّر وتُرصد رصدًا محكمًا داخل مؤسسات ديمقراطية ذات إعداد جيد.

لكنِ اتضح أن كثيرًا من الناس في أماكن شتى يصرفون اهتمامًا إلى الهوية الوطنية، والعداء التاريخي، والشخصيات الإقليمية، والقيم الثقافية الشعبية أكثرَ منه إلى “الحرية” كما يسميها الليبراليون. وإن دلّ تصويت بريكست[1] على شيء فإنما يدل على أن بعض أصحاب الأصوات (معظهم كبار السن) سرعان ما فُتِنوا بتلك المظاهر؛ وليس تفكيرًا في الاعتبارات الاقتصادية الخالصة (ريثما يرون تبعاتها على الأقل). وربما خُيّل إلينا أن قيم الحرية عندنا تحظى بقَبَول واسع، إلا أن قيمًا أخرى قد تطغى عليها. وسوف تجيش عواطف شعبية كهذه لا سيما مع وجود تغير اجتماعي متسارع وغير متوقع، وكذلك حينَ تُضطر المجتمعات إلى أن تذوب وتذيب أناسًا – في زمن يسير – تختلف خلفياتهم كأن لم يكونوا أمة واحدة من قبل.  إن في وسع الليبراليين أن يتحدثوا بكل ما يريدون من أهمية التسامح ومزايا تعدد الثقافات (وأنا أتفق معهم في ذلك)، لكن الحقيقة أن امتزاج الثقافات في دولة واحدة لم يكن أبدًا أمرًا هينًا أو لينًا. وما تمخض عن ذلك من توتر جعل الزعماء الشعبيين يضربون بسهم وافر، فهم مَنْ تعهّد بالدفاع عن القيم “المتوارثة” (أو “إعادة عظمة الدولة ثانيةً”). فالحنين للماضي لم يُعُدْ كما كان أولَ مرة، وإن كان يصلح أن يكون أداة سياسيةً قوية.

وفوق ذلك كلّه فقد حَلّ بساحة المجتمعات الليبرالية هذه الأيام ما لا يسرهم، فهي محلّ اختطافٍ من قِبَلِ جماعاتٍ أو أفرادٍ، يستغلون الحريات ذاتها التي تقوم عليها تلك المجتمعات. وقد أثبت دونالد ترامب على مدار عام كامل [رجل أعمال، وملياردير، ومرشح رئاسي للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016] ( كما فعل جين ماري و ريسيب أوردغان، و قيرت ويلدرز، وغيرهم من رجال الأعمال السياسيين) ، أن الزعماءَ والحركاتِ السياسية – مَن التزم منهم مبادئ الليبرالية – يمكنهم في أفضل الأحوال جعل مبادئ المجتمع المفتوح سلمًا لحشد الأتباع الشعبيين. وليس ثمة شيء في النظام الديمقراطي يُحتّم دائمًا ضياع تلك الجهود.

وأعتقد – بعد طول تأمل – أن هذا يفسر لم سئِم كثير من الناس في الولايات المتحدة وأوروبا من تدخل “العم سام” [2]تدخلًا كاملًا في أوروبا. فليس الخوف كلّ الخوف من تقهقر روسيا رغم حزمها؛ بل من أوروبا نفسها. ويَودّ الليبراليون لو تبقى أوروبا في سلام وتسامح وديمقراطية تحت رداء الاتحاد الأوروبي، ويتمنون اجتذاب دولٍ كجورجيا أو أوكرانيا لتكون في نهاية المطاف أوربيةً محضه. لكنهم لا يُعولون على قدرة الأوروبيين في إدارة هذا الموقف، ويخشون فشلهم إذا ما رُفِعَ عنهم “التخدير الأمريكي”. وبالنسبة إلى مزايا الليبرالية المزعومة فليس عند مناصريها أدنى شك في أن الليبرالية الأروبية أضعف من أن تستغني عن دعم أمريكي متواصل. ومن يدري؟ فلعل الحق معهم. لكنْ إن لم تكن ترى أن الولايات المتحدة تمتلك مصادر أكثر من أن تحصى واستعدادًا غير محدود لدعم القوى الدفاعية للدول الغنية الأخرى، فهنا سؤال يطرح نفسه: ما الأولويات العالمية الأخرى التي هيئها الليبراليون ضحيةً لتحفظ ما بقي من النظام الأوروبي؟

المصدر


[1]   تصويت بريكست: تصويت البريطانيين 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي.

[2]  العم سام: الاسم واللقب الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية.