مجلة حكمة

انتفاضة الربيع (مذبحة: حياة وموت كمونة باريس 1871) – جون ميريمان / ترجمة: إسراء السكران

The Life and Death of the Paris Commune of 1871
غلاف الكتاب

لا تزال عملية تدمير كمونة باريس أمرًا عصيًا على الفهم، ففي مايو 1871م، و على مدى يومين، قام 130,000 مجند من الجيش الفرنسي بدخول باريس لقمع حكومة ارتجالية باريسية أطلقت على نفسها اسم: الكمونة. ولا يزال المؤرخون مختلفين حول الأرقام، لكن بعد مرور سبعة أيام قتل الجيش ما يقارب عشرة آلاف مدافع؛ ما بين متطوع غير مسلح وعابر تعيس الحظ. كما تم إطلاق النار على السجناء، ومن بين 36 ألف شخص اعتقلوا، تم إعدام وسجن وترحيل ما يقارب العشرة آلاف شخص.

يقارب جون ميرميان في كتابه بإبداع  – وهو أستاذ للتاريخ في جامعة ييل- بين روايتين: نظرة عامة للخلفية المتشابكة لما حصل وصور حية قريبة من الشارع. فانهيار الجيوش الفرنسية بحرب غير محسوبة مع بروسيا قبل عام من الاحداث انهى امبراطورية نابليون الثالث الاستبدادية. وتنافست المدن الفرنسية الراديكالية مع الريف المحافظ على السيطرة على الجمهورية الجديدة الهشة. ولتأكيدالنصر، حاصر الألمان البروسيون العاصمة وتفاوض الفرنسيون حول شروط الاستسلام، بينما كانت مؤونات الطعام تتناقص في يناير 1871. وصَوت الناخبون الذين سئموا الحرب لحكومة يمينية بقيادة أدولف ثيرس، ومنحوه تفويضًا لقبول شروط السلام الألمانية القاسية.

نبعت الكمونة من إحساس الباريسيين بأنه قد تمت خيانتهم -المرشحون الراديكاليون اجتاحوا مقاعد باريس البرلمانية، خاصة في الأحياء الشرقية الفقيرة – وبدأ امتعاضهم من السلام ورغبتهم بالقتال، وغضبهم من رفع قيد الديون الذي وضع أثناء الحرب وآمالهم بالحقوق الديموقراطية والإصلاح الاجتماعي.

جون ميرمان

في الثامن عشر من مارس، أفشل ثيرس محاولةً للسيطرة على باريس من قبل ميلشيا راديكالية، رغم أن وحدات من الجيش النظامي ساندت هذه الميلشيا. وبذعر، قام ثيرس بنقل الجيش والحكومة إلى قصر فرساي، ومع انسحاب السلطات من العاصمة انتخبت باريس كمونة حاكمة من 90 عضوًا -رغم رفض 20 مرشحًا من المناطق الأغنى لمقاعدهم – وهذا الذي رأته باريس الراديكالية حكمًا ذاتيًا، وكان بنظر قصر فرساي المحافظ ثورة. وما بدأه فرساي لاستعادة النظام السياسي رأته الكمونة حربًا طبقية من الأثرياء.

لم تكن الكمونة اشتراكية ولا بروليتارية، فقد كان غالب أعضائها إما حرفيين مستقلين، أو ذوي أشغال بسيطة. والنقاش حول الأناركية واليوتيوبيا كان يدور في النوادي السياسية. فمطالب الكمونة كانت حكمًا مدنيًا ذاتيًا، وإزالة المظالم التي كانت ترهق الحرفيين وأصحاب التجارات البسيطة. استمرت الكمونة لمدة 72 يومًا، وهو وقت لم يكن كافيًا لإنجاز أي مطلب، رغم أنه كان كافيًا لثيرس ليقمع تمردًا عفويًا تسببت حكومته به.

قام ميرمان بعمل رائع بعرض الكمونة من وجهتي النظر البعيدة والقريبة. وباستخدام كلمات من قلب تلك الأحداث؛ يصفها من الشارع كما حصلت يومًا بيوم، -وأثناء حديثه عن “الأسبوع الدموي” – يصفها ساعةً بساعة: من انتشار الاشاعات، والقرارات التي تتخذ بجهل ثم تلغى أثناء تنفيذها.. على زاوية شارع تحدث الفظائع، وبمكان ليس ببعيد عنه يقبل باريسي مرفه على غداءه.

و بينما تتكشف حكاية ميرمان الكئيبة للأسابيع الأخيرة، تبدو صورة الحكومة الوحشية مختلة بازدياد؛ فالنتيجة النهائية للتدخل العسكري لم تكن محل شك، فأعضاء ومؤيدوا الكمونة كانوا أقل عددًا (بنسبة أكثر من 1 إلى 8). لم يؤد سحق الكمونة إلى استعادة الملكية أو عرقلة الجمهورية. وخلال عقد واحد فقط، تمت تبرئة من أدينوا. لاحقاً -من سنة 1880 فصاعدًا- تم قبول أفكار الكمونة الليبرالية والديموقراطية على صعيد السياسة الجمهورية. ويكاد القتلة يبدون على ضوء هذه النتائج من دون أي غاية، وبقيت صورتهم  في الذاكرة الباريسية من دون أي تأثير.

وباختصار، يبدو أن الخوف والغضب سيطرا على الموقف، فالناخبون اليمينيون والحكومة والصحافة اخترعوا كاريكتورًا بشعًا للكمونة، وصدقوا كذبهم بعد ذلك. حيث أُعطي للجنود صحفًا تصف الباريسيين بالخونة والمنحطين، واستمرت هذه الصور الهستيرية بالكتب التي نظرت للقاتل بأنه يعاقب الكمونة على جرائمها –إطلاق النار على الضباط، وقتل موظفين رهائن، وحرق معالم باريس– و برغم بشاعة الوضع، فإن هذه التجاوزات أدت إلى عقد مقارنة بينهم وبين انتقام الحكومة.

رواية ميرمان تتعقد أحداثها أحيانًا، تاركة للقراء إيجاد طريقهم بين الأحداث المتشابكة، وأفضل ميزة لهذا الكتاب هو تسليط الانتباه على الشناعة الأخلاقية للانتقام الغاضب الذي ارتكبته دولة حديثة بمجتمع متحضر، وضد مواطنيها. وفي رواية ميرمان: إن كمونة باريس هي تذكير بأن اسوأ الجرائم الشنيعة ممكنة في اللحظة التي تلغي فيها  إنسانية خصمك.