مجلة حكمة
الوحشية اولا

الوحشية أولاً – جوديث ن. شكلر / ترجمة: فاطمة الزهراء علي

untitled
جوديث ن. شكلر(1992 – 1928)


قبل عدة سنوات مضت؛ سألني بتضايق صديق كاثوليكي متدين جدا: لماذا عليكم معشر الليبراليين أن تردوا كل شئ إلى الوحشية ؟ ماذا قصد يا تُرى؟ لقد كان – ولا زال – أحد أكثر الرجال رقة ولطفا، ومدافعا مبدئيا عن الحرية السياسية والإصلاح الاجتماعي، وباعتباره مسيحيا كان بالطبع يعتبر الوحشية رذيلة مروعة، ولم يكن يدافع عنها أو يتخلى عن السياسات الليبرالية، لكنه لم يرفض صراحةً العقلية التي لا تمقت الوحشية، بل رفض تلك التي تعتبر الوحشية الشرَ الأشد خطورة والأسوأ من بين كل الشرور.

رغم توافق أكثرنا البدهي بشأن الخطأ والصواب إلا أننا نختلف اختلافا هائلا على نحو عميق في طريقة تصنيفنا للرذائل والفضائل؛ فالذين يضعون الوحشية في مرتبة أولى – كما خمن – لا يدينونها باعتبارها خطيئة، بل لأنهم تذكروا كل شئ ما عدا الخطايا السبعة المُمِيتة، خاصة تلك التي لا تنطوي على القسوة / الوحشية.

الذنوب انتهاك لقانون إلهي وجريمة ضد كبرياء الله؛ حيث الكفر بالله لا بد أن يكون الذنب الأسوأ. غير أن الوحشية؛ باعتبارها إيذاءا جسديا مؤلما متعمدا لكائن أضعف بغرض التسبب في المعاناة والخوف؛ هي خطأ ارتُكِب بشكل كامل تجاه مخلوق آخر. عندما يتم إبراز الوحشية بوصفها – الشر الأعظم – فإنه يتم محاكمتها بحدّ ذاتها وليس لأنها تدلّ على كفر بالله أو رفض لأي معيار فوقي، وهذا حكم صادر من داخل العالم الذي تحدث فيه الوحشية كجزء من حياتنا الطبيعية الخاصة وممارساتنا اليومية العامة. من خلال وضع الوحشية في مرتبة أولى وبصورة غير قابلة للنقض ومن دون تبرير أو غفران لأعمالها؛ فإن المرء يوصد الباب في وجه أي نداء لأي نظام عدا ذاك القائم على حقائق.

أن تكره الوحشية بمنتهى الشدة أمر متوافق مع تعاليم الكتاب المقدس، لكن وضعها في مرتبة أولى يجعل المرء بشكل راسخ خارج نطاق الوحي الديني، لأنه حكم بشري محض على سلوك بشري، ما يضع الدين على مسافة معينة. في حين يبدو هذا التوتر متأصلا في قرار وضع الوحشية في مرتبة أولى؛ فإن الشك الديني ليس وحده ما يحضّ على هذا الخيار الأخلاقي، بل إنه – أي هذا القرار – ينبثق بالأحرى من الاعتراف بأن عادات المؤمنين فيما يخص الوحشية لا تختلف عن عادات غير المؤمنين، وأن فكر ميكيافيللي نجح قبل أن يكتب سطرا واحدا بفترة طويلة.

وبالتالي؛ فوضع الوحشية في مرتبة أولى يعني أن تكون على خلاف مع الدين ومع السياسة. صديقي الكاثوليكي ربما فكر بالأمر بعناية، لكنني أشك أنه قد فهمه، لاعتقادي أن قلة من الناس ربما يأخذون بعين الاعتبار الآثار المترتبة على وضع الوحشية في مرتبة أولى. هذا هو السبب الذي يدفع المرء للتحقيق عن كثب في هذه المسألة، وإحدى طرق إلقاء الضوء عليها تتمثل في دراسة أكثر الفلاسفة الأخلاقيين تميزا، ممن أبغضوا الوحشية أكثر من أي شئ آخر، وتحديدا ميشيل دي مونتين وتلميذه مونتسكيو.

لماذا على المرء أن يكره الوحشية بمنتهى الشدة؟ مونتين فكر في هذا السؤال على اعتباره سؤالا نفسيا برمته. فتطلع إلى نفسه أولا، ووجد أن منظر الوحشية ملأه على الفور بالنفور. كانت ردة فعل سلبية طاغية، عبّر عنها بقوله: “الرعب من الوحشية يدفعني إلى رأفة أكبر من أي نموذج رأفة يمكن أن يجذبني”. لا شيء إيجابي هنا، لا تصديق على إحسان أو مشاعر إنسانية شغوفة. ارتاب مونتين – في الواقع – من الرجال العاطفيين؛ لأنهم يميلون إلى أن يكونوا غير مستقرين، ومن السهولة بمكان أن يصبحوا وحشيين.

الوحشية مثل الكذب، مُنفِّرة على الفور لأنها “قبيحة”، ولأنها رذيلة تشوه شخصية الإنسان. نحتاج ألا نشك في قول مونتين بأنه يكره الوحشية ببساطة، وحسب تعبيره: “ما نكرهه نأخذه على محمل الجد”. على الرغم من أن كراهيته للوحشية كانت خيارا شخصيا لكنه لم يكن خيارا عشوائيا، ولم يتخذه في فراغ تاريخي أو فكري.

من الواضح جيدا أن مونتين قبل كتابته لمقالاته فَقَدَ معظم إيمانه بالمسيحية، وكانت الخطوة التالية بالنسبة له ولمعاصريه تتمثل في العودة إلى فلاسفة العصور الكلاسيكية القديمة، ولم يتوقف مونتين عن الاعتماد على حِكْمَتِهِم. مع ذلك؛ فقد كان هناك خطر لا يمكن تجاهله في هذه الوثنية الجديدة. فنظرا لحساسياته؛ كان ملزما أن يدرك أن ميكيافيللي كان بدوره هاربا من القيود المسيحية، وأن عدوا صريحا للدين السماوي كان أيضا معلما أساسيا للوحشية. بدا لمونتين أن الوحشية كانت في كل مكان، وأنها كانت المرض الأخلاقي المتفشي في أوروبا. ووضعها في مقدمة الرذائل، لأنها غدت أكثر الشرور بروزا وأقلها إصلاحا، خاصة في سياق الحروب الدينية آنذاك. وبالتالي؛ ليس غريبا أن تكون الأسطر الأولى من المقالة موجهة لميكيافيللي.

الافتتاحية تقلب ميكيافيللي رأسا على عقب. يتساءل ميكيافيللي في كتاب “الأمير”: هل كفاءة الحاكم العصامي تتزايد إن حكم بقسوة ووحشية أم إذا تساهل؟ ويقرر بشكل عام أن القسوة أفضل. مونتين في المقابل يثير سؤالا قد يطرحه ضحايا “الأمير”: هل من الأفضل أن نلتمس رأفة أو نُبْدي تصدِّيا في وجه الوحشية؟ يَخْلُص مونتين إلى أنه لا توجد إجابات مؤكدة، ولا يوجد يقين لدى الضحايا الذين عليهم أن مواجهة الأمر دون إرشاد. الجزء الثاني من المقالة يتناول الحزن الذي يتملك الذين فقدوا أطفالهم وأصدقائهم، بينما يشير الجزء الثالث إلى أنه يمكن للمرء أخذ احتياطات ضد إرهاب الأمير.

لو توفرت مراجعة متأصلة لأفعال الأمراء بمجرد وفاتهم؛ فإن شغفهم بالشهرة كان سيكبح جماحهم هنا أو هناك. وقد لاحظ ميكيافيللي نفسه أن سفّاك الدماء العشوائي لا يرجح أن يتمتع بأفضل سمعة في التاريخ، حتى لو نجح في جُلّ مشاريعه. مونتين كان على علم بأن الوحشية وشغف الشهرة صنعا الأمراء الطامحين، ولذا لم يضع الكثير من الأمل في أي أجهزة رادعة فحسب، بل إنه بقراءته “الأمير” – كأي واحد من ضحاياه – وضع مسافة كبيرة بينه وبين كلاسيكية ميكيافيللي.

وَضْعُ الوحشية في مرتبة أولى كان رد فعل مونتين على هذا العلم الجديد من السياسة، ولم يُصلح موقفُهُ هذا علاقتَه بالدين السماوي وإنما عزّز من قناعته بأن المسيحية لم تفعل شيئا لإيقاف الوحشية، ولم يستطع أن يعترف بأن كراهيته للوحشية كانت شكلا من أشكال الأخلاق المسيحية المتبقية لديه، بل على العكس، تفاقم عداؤه للتدين الراسخ.

بالنسبة لمونتين، ولمونتسكيو من بعده، فإن فشل المسيحية أخلاقيا واضح تماما من خلال سلوك الأسبان في “العالم الجديد”، واعتبرهم مونتين المثال الأعلى لفشل المسيحية. بشّرت المسيحية بعقيدة أنقى من أي عقيدة أخرى، لكنها كانت الأقل تأثيرا على سلوك الإنسان. المحمديون (المسلمون) والوثنيون قبلهم تصرفوا بشكل أفضل، ويا لها من فرصة ضائعة باكتشاف الأسبان العالمَ الجديد ! كيف كان سيزدهر العالم الجديد لو قُدِّمتْ الفضائل اليونانية أو الرومانية إلى السكان الأصليين؟

عوضا عن ذلك؛ كان هناك ذبح لا مثيل له من أجل الذهب مع حديث زائف عن الاهتداء للمسيحية. النفاق والوحشية كانا ولا زالا متسقين يوحدهما التعصب. التعصب أخذ مكان كل من الدين والفلسفة، ويفعل الأعاجيب عندما “يؤيد نزوعنا الطبيعي إلى الكراهية، والوحشية، والطموح، والطمع، والانتقاص، والتمرد”. هذا الأسلوب في الاتهام تجاوز بمراحل أسلوب المصلحين الدينيين الذين دأبوا على استدعاء ذكرى المسيح والرُّسل لتوبيخ الضلال الكنسي.

رأى مونتين أن الهوة بين التسمية والسلوك بدت غير قابلة للردم، بينما استخدم مونتسكيو صورة المسيح المُحسن ليعيب الوحشية التعسفية. غير أنه – وللمفارقة – وضع حُجَّته على لسان إيبيري يهودي، إذ يرى أن التسمية ليست مهمة هنا، فجميع الأديان يجب أن يتم التعامل معها بالضرورة كشكل من أشكال السيطرة الاجتماعية، إلا أنه رأى أن الأديان عموما ليست مثيرة للإعجاب. الأسبان كانوا بالتأكيد “مسيحيين رائعين” عندما باشروا بارتكاب مذابحهم، وكانوا أيضا في الحقيقة يشبهون غيرهم من الغزاة في الماضي والحاضر، ولكننا مُطالبون بأن نشعر هنا بأكثر من لمسة اشمئزاز إزاء هذا الصنف من الوحشية.

الأسبان – كما رآهم مونتسكيو – خلقوا عالما كابوسيا جديدا. وبالأذى الذي ارتكبوه لم يتخلوا فقط عن المشاعر الإنسانية الرقيقة، إنما دبّروا إعادة ترتيب الواقع عندما واجهوا السكان بعادات بدا جليا أنها مختلفة عن عاداتهم، وجدوا أنه من السهل القول أن الله لم يضع أرواحا في هذه الأجساد القبيحة، وأن هذه المخلوقات تفتقر بوضوح إلى الصفات العقلانية العُليا. وبمجرد بدء الأسبان بممارسة وحشيتهم؛ بات مهما على نحو استثنائي القول بأنه “من المستحيل الافتراض أن هذه المخلوقات بشر، لأن السماح لهم بأن يكونوا بشرا سيثير الشك في كوننا مسيحيين”.

اتفق مونتسكيو ومونتين على أن الأسبان في العالم الجديد قدموا نموذجا مطلقا للوحشية العامة. كان النموذج انتصارا للميكيافيللية بواسطة أولئك الذين زعموا أنهم معارضون أساسيون لها. هنا؛ تعاضدت الوحشية والتظاهر بالتدين لإثبات صحة أفكار ميكيافيللي.

الوحشية تُصنع بسهولة عن طريق النفاق وخداع الذات، ولذلك لا بد أن يكونا في مقدمة قائمة الرذائل التي تبدأ بالوحشية. وفي الواقع فإن أوزبك – الطاغية الذكي والقاسي في رواية مونتسكيو “رسائل فارسية” – مثال نموذجي لخداع الذات. إنه يفترض أن النساء المُلتاعات في حرملك قصره يحببنه، طالما أنهن جميعا لا يُشْبِهنَهُ، التضليل هنا يبدو أقل انتهاكا للحقيقة من الوحشية.

الرذائل التقليدية لم تصدم مونتسكيو على الإطلاق ولم ينزعج مونتسكيو من أي إعلان لأي عاطفة حقيقية حتى لو كانت عاطفة مُحَرّمة. واعتبر مونتين أن الكذب والغدر والحقد والوحشية أسوأ بكثير من الزنا والذي تمّ تشنيعه بشدة من قبل الفلاسفة الأخلاقيين الآخرين.

الشهوة في المقابل لم تكن خطأ أبدا، نحن – كما يجادل مونتين – صرنا سيئين بشكل لا نهائي بسبب كراهيتنا لذواتنا إزاء ممارستنا لأفعال طبيعية وضرورية. ما الذي يمكن أن يكون أكثر ترويعا من الاختباء في الظلام ونحن نسعى لخلق عالم جديد، ندمر حياة مع صيحات فرح وهتاف في وضح النهار: “اقتل، اسرق، اغدر”؟ هذا التفاوت في تقييم القيم هو الذي أخذ مونتين إلى نقطة أبعد من مجرد رفض العقيدة المسيحية، ما وضعه خارج معظم أعراف عصره. الاحتقار الذي شعر به الأوروبيون (تجاه السكان الأصليين) كان – من وجهة نظر مونتين – دليلا آخر على الحماقة الأخلاقية العامة لدى البشر.

على الرغم من نصائحهما وروح الدعابة التي تحلى بها كل منهما؛ فإن كراهية مونتين ومونتسكيو للوحشية جعلتهما ينحدران إلى كراهية فلسفية عميقة للجنس البشري. أتقن مونتسكيو السخرية والفكاهة السوداء، بينما كانت لمونتين نوبات اعتيادية ينفجر فيها مقته لأخيه الإنسان. في أحد المقالات التي تحوي اشمئزازا مركزا؛ قرر مونتين أنه من الأفضل الضحك على البشر بدلا من البكاء عليهم، لأن الفعل الأول يعبر عن “مزيد من الازدراء” وهو أمر مناسب بما أنه “لا يُمكن أن نُزْدَرى أكثر مما نستحق”. الأمر ليس شرا ذكيا بل هو نوع من التفاهة. “لسنا بؤساءَ جدا ونحن تافهون”.

بُغْض الجنس البشري هو بالتأكيد أحد مخاطر وضع الوحشية في مرتبة أولى. إن كانت تُرعبنا الوحشية فيجب علينا في ضوء الوقائع اليومية أن نكون دائما مثل هاملت؛ في حالة غضب عارمة تجاه كثافة الشر. لم يكن مونتين عاجزا ولا يائسا لدرجة يقترح فيها – مثلا – أن على الجنس البشري التوقف عن التكاثر، لكنه في بعض الأحيان لم يكن يجد كلمة واحدة في سياق صفات إيجابية يقولها لصالح البشرية. ومِن ثَمَّ فقد بحث في الضحايا الأساسيين لوحشية الإنسان: الحيوانات.

بالنسبة لمونتين؛ فإن الحيوانات متفوقة أخلاقيا علينا من نواح مهمة. إنها تسعى فقط وراء أشياء “ملموسة” و “قابلة للتحقيق”، في الوقت الذي  نملك فيه توزيع “الرياح” و “الدخان” فقط. الحيوانات لديها إحساس سليم بالواقع، وتبحث فقط عن الراحة والأمن والصحة والسلام، في حين نسعى وراء المنطق والمعرفة والشهرة؛ أشياءُ لا تجلب لنا شيئا سوى الحزن. باستثناء النحل؛ فالشئ الوحيد الذي تريده الحيوانات هو الحفاظ على نفسها، ولا تعرف شيئا عن الحرب والإرهاب، ويبدو أن الخنزير الذي لم تُكدِّر صفوه العاصفة البحرية في قصة الفيلسوف اليوناني بيرون لن يحظى بمعجب أشد حماسا من مونتين.

اعتقد مونتسكيو أننا – مقارنة بالحيوانات – لسنا أبناء الطبيعة، لأن الحيوانات لا يبدو أنها تستخدم عواطفها بطريقة سيئة جدا كما نفعل نحن. بالمقابل؛ اعتقد مونتين أن الطبيعة كانت عادلة تماما، وأنه ليس لدينا إلا أنفسنا لنلومها على حماقاتنا ووحشيتنا، ورغم انكبابه على لوكريتيوس (شاعر وفيلسوف روماني) لكنه لم يتفق مع الأخير في نظرته السوداوية للتدمير الطائش للطبيعة، لأن ذلك من شأنه أن يضع الوحشية خارج مضمار الأخلاق واختيار الإنسان.

مقارنة مونتين بين البشر والحيوانات لم تكن لإدانة الطبيعة بل لإظهار حماقة البشر، لم تظهر لديه أي علامة مُتَخَيّلة على الحماقة أخطر من الاعتقاد بأن الإنسان هو أفضل الكائنات، ومُقَدَّر له أن يحكم مملكة النبات والحيوان. والنتيجة أننا تشجعنا لممارسة الوحشية منذ عصورنا الأولى تجاه النبات والحيوان. وماذا يمكن في الواقع أن يكون أكثر عبثية من “أن هذا المخلوق البائس والضئيل، والذي لا يُحكم السيطرة على نفسه، يجب أن يطلق على نفسه سيد وامبراطور الكون؟”. هنا تكمن أقصى درجات كراهية الجنس البشري والتي يمكن أن يصل إليها المرء إذا نظر إلى البشر من خلال عيون ضحاياهم الأساسيين: النباتات والحيوانات.

الحاجة للهروب من هذه الدرجة من كراهية الجنس البشري أمر بدهي، لا سيما إن انقاد لها المرء كراهيةً للوحشية، فبُغْض المرء بنى جنسه نادرا ما يكون أفضل علاج. وبالتالي فالإغراء كبير، ليس فقط للاصطفاف مع الضحايا بل لتمجيدهم كذلك، وإسباغ سمات وفضائل مُستَبْعَدَة عليهم. وهذا ما فعله مونتين حين بالغ في تقدير الفلاحين إلى جانب الحيوانات.

مونتسكيو غالى في تقدير اليهود – على الأقل لأغراض الجدل السياسي – وتشارلز ديكنز قام بتقديس الأطفال، بينما قدس ناثانيال هاوثورن المرأة. هذه بالطبع طريقة مُثلى لإدانة الوحشية، والأهم من ذلك أنها السبيل الوحيد لتحاشي غثيان كراهية الجنس البشري. الفضائل المُنْقِذة للضحايا غالبا ما تكون: الثبات والأنفة، وهي التي يتم إلصاقها بهم. الأنفة قد تصير خطيئة مُمِيتة عند أولئك الذين ينصحون بالحِلْم والخنوع، لكنها تفرض نفسها على أولئك الذين يضعون القسوة / الوحشية في مرتبة أولى.

روكسانا – إحدى نساء أوزبك في قصره – تنتحر كفعل تحدّ نهائي وهروب من الحرملك. إنها بذلك لا تُظهر شجاعة شخصية فقط بل تفوقا على مالكها، والذي يفكر مليا في الانتحار لاستبداد الملل والاحباط به، ويريد أن يُنهي حياته لأن وجوده لم يَعُدْ له أي معنى كوني. هذره هذا يجسد أهمية الذات التي يدّعيها طاغية نموذجي، في حين أن وفاتها عمل بطولي تحرري لإثبات الذات.

البسالة كانت عند مونتين أعظم فضيلة، على الرغم من أنه لم يكن متأكدا من ذلك في أحيان جمّة، واستطاع أن يفصل الشجاعة عن العدوان على نحو جيد عن طريق الاعتراف بكمالها عند الجنود المهزومين وليس المنتصرين. وحدهم الملوك الهنود الذين تمّ إخضاعهم من قبل الغزاة الأسبان؛ أظهروا شجاعة روحية عوضا عن شجاعة جسدية / مادية فحسب. الشجاعة التي لا تُقهَر هي رفض مهيب لاسترضاء الغزاة، وليست مجرد  رغبة في الانتصار. الفلاحون – الذين يمثلون بدورهم مجموعة مضطهدة أخرى – يعيشون في عزلة، ويموتون من دون ضجة، وهذا أيضا نوع آخر من الشجاعة.

اليهود – حسبما رأى مونتسكيو – اعتمدوا خطابا فلسفيا راهنوا عليه، وتبنوا علنا وبشكل سريع قناعات آبائهم دون مخاتلة. لم تكن تلك فضيلتهم الوحيدة لأنهم وبصورة متفردة شاركوا في الأنشطة التجارية رغم الاضطهاد والحظر المسيحي. وبالتالي فقد صانوا للقارة الأوروبية نشاطها الاجتماعي سعيا لإنقاذها – على الأرجح – من الميكيافيللية والحرب، فروح التجارة هي روح السلام.

مونتين – في عهد سابق لعصر مونتسكيو – لم يعِ هذا الأمل المُستبعَد، ووجد أنه أمر مروع لحدٍ استثنائي تغيير الأسبان بلدا جميلا رأسا على عقب لمجرد “تأمين مرور الفلفل واللؤلؤ”. كانت الشجاعة الأرستقراطية النقية بالنسبة له – باعتبارها أسلوب حياة – هي الأمر الوحيد الذي يدعو للإعجاب والمطالبة بمكانة نبيلة.

الشجاعة فعل سخيّ لأنها الوجه الآخر للوحشية التي تمثل تعبيرا عن الجُبْن، إلا أنها أحيانا لا تبدو فعلا يكترث تماما بالآخرين لأن هدفها هو الكمال الذاتي. إنها تخدم صورة بطولية ذاتية يمكن أن تكون فردية متطرفة ولكن في سياقها العسكري، نظر إليها مونتين من حين لآخر كرِفْقَة أو زمالة بين رجال شجعان، وأُعجِب بهذه الرِّفقة وقدّرها كما كان يقدِّر رفقة أقرانه. فعل ذلك دون النظر إلى الغرض الذي جمعهم: الحرب التي احتقرها؛ الحرب التي كتب عنها أنها “شهادة على بلاهتنا ونقصنا”.

مونتين لم يكن الرجل الأول – ولن يكون الأخير – الذي ارتبك من حقيقة أن أكثر الممارسات الوحشية لجميع المشاريع الاجتماعية يجب أن تكون ملائمة للنُّبْل الشخصي والزمالة / الرفقة والشجاعة.

لم يتوقف مونتين عند كراهية الحرب، وإنما كره المنتصرين أيضا. فالانتصار في الحرب كان مسألة حظ في نظره على النقيض من ميكيافيللي؛ لم يعتقد مونتين أن الحظ امرأة تُحرَّكُ بالقوة البدنية للأمراء الحازمين والعدوانيين، الحظ – كما اعتقد مونتين – هو نتيجة ظروف غير متوقعة وغير قابلة للسيطرة. إلكسندر الأكبر ويوليوس قيصر كانا ببساطة مستفيدين من الحظ.

الغزاة باختصار مجردون من أي استحقاق، وانتصاراتهم ليست بسبب جهودهم أو شخصياتهم. الضحايا وحدهم يمكن أن يرتقوا إلى جَلَد حقيقي، لأن الحظ قد هجرهم على نحو بَيِّن. إن بريق المجد يختفي تماما، ما يهم هو كيف يتحمَّل المرء الهزيمة بشجاعة. وضع الوحشية في مرتبة أولى بهذه الطريقة يقود إلى أيدولوجية من التدمير الذاتي البطولي. وبالفعل فقد كان سقراط – المُنتحِر الجليل – رمزا مثاليا لمونتين، وبدا له فعل كاتو (سياسي روماني رَواقيّ عارض يوليوس قيصر وفشل في محاولته الأولى للانتحار) فعلا استعراضا دونيا.

بالتأكيد؛ ثمة أمر مثير للقلق في تمجيد المهزومين. هم أيضا بيادق للحظ وليسوا أفضل من الذين حالفهم الحظ، هم خاسرون فحسب. الإسراف في محاباتهم هو وسيلة هروبٍ من كراهية الجنس البشري ومحاولة للعثور على أخلاقيات لا تؤدي إلى التعصب أو الوحشية بخلاف الدين السماوي، الشجاعة باعتبارها رفضا جريئا للعيش كعبد أو كضحية قد تكون وصفة للعزلة أو الانتحار المُحتمَل، لكنها لن تكون وصفة للوحشية. الاعتداد بالنفس هو المنقذ هنا. عندما قال مونتين: “الخوف هو أكثر ما أخافه”؛ كان يفكر في كل من الضحية والجاني، فالخوف يجعل الثاني أشد وحشية ويزيد معاناة الأول.

إذا تمكنا من تعلم عدم الخوف من فراغ ما بعد الموت؛ فإن القتل سيفقد ذعره وجاذبيته. ابتلاء الألم سيبقى، لكن مونتين يصرّ؛ على الرغم من الاعتراضات الواضحة من السلطات الكنسية؛ على أن أي عقاب يتجاوز القتل يعتبر وحشية. ويبدو أنه قد اعتقد أن معاينة الموت بطريقة أكثر عقلانية سيؤدي إلى الحدّ من القسوة.

مونتسكيو كان لديه فهم أفضل؛ فبقدر ما كان معجبا بالمزاج الرواقي بقدر ما كان يرفض الاعتقاد أن موقفا عقلانيا من الموت سيخفف الوحشية لدينا بأي شكل من الأشكال. واعتقد أنه من الأفضل أن ننظر إلى البشر باعتبارهم كائنات عاطفية أكثر من كونهم كائنات عقلانية. أوزبك – طاغيته في روايته – كان نموذجا للعقلانية المستنيرة، ومتحررا من أي مخاوف من الآخرة لكنه قاسٍ مثل أي مستبد آخر. الشجاعة في مواجهة الموت قد تدعو إلى الإعجاب، لكنها لم تبدُ لمونتسكيو أنها تُقلِّل من النزعات البشرية القاتلة. تعلم كيفية الموت في كلتا الحالتين هو بالكاد فضيلة اجتماعية، وقد يكون ذلك عموما إحدى تكاليف وضع الوحشية في مرتبة أولى، وقد يقود إلى أخلاقيات العزلة.

ثَمّة أفكار اجتماعية على نفس الدرجة من الجِدِيّة تنبثق من داخل هذا الإطار العقلي، وخاصة القبول السهل للتنوع الثقافي والمساواة السلبية. وبما أن أسوأ أشكال الوحشية العامة تقع عادة على الشعوب الغريبة؛ فإن مونتين ومونتسكيو التزما بالتحقيق في المبررات التي يقدمها قاتل ومُستعبد البرابرة.

الحجة الأقدم والأكثر شيوعا كانت أنهم دونِيُّون بالطبيعة، وبما أن الطبيعة تتحكم في قواعد السلوك فمن الواضح أنها أعَدّتْ الأوروبيين لاستعباد الشعوب الأقلّ شأنا، والذين ميّزتهم الطبيعة بألوان مختلفة لذات الغرض.

اتفق مونتين تماما مع الرأي القائل أن الطبيعة أفضل دليل يقودنا إلى السلوك الحسن، لذا كان من المهم لديه معرفة ما إذا كانت الاختلافات بين الثقافات أمرا طبيعيا بالفعل أم لا؟ وأي الثقافات – إن وُجِدتْ – كانت أدنى أو أعلى من حيث وحشيتها المُعتادة؟

سرعان ما اكتشف مونتين أن البربرية / الهمجية كانت “أي شئ لا يتناسب مع الأعراف”، وكل شعب يبدو همجيا بالنسبة لشعب آخر. وعلاوة على الآراء والعادات اللانهائية والمتعددة التي كان يحب سردها لإثبات أن أيا منها لم يكن طبيعيا؛ فجميعها كانت اختراعات بشرية، ولا وجود لشئ غير لائق لن يكون لائقا في مكان ما، وجميع الآراء والعادات هي خروج عن البساطة الطبيعية الأصلية، والطبيعة تعيب جهودنا الرديئة التافهة.

العادات؛ بهذا النحو؛ تقف على مسافة واحدة من الطبيعة، والاختلافات ليست مهمة بحدّ ذاتها. ما يهمّ هو القسوة / الوحشية. “أكلة لحوم البشر يأكلون لحوم الموتى ونُحُجِم نحن عن ذلك رعبا، بينما نقوم بتعذيب واضطهاد الأحياء. كبرياؤنا لا مبرر له، إذ لا يوجد شعب متفوق بشكل طبيعي أو دُونيّ بشكل طبيعي، لكن الغطرسة والوحشية علامة لازمت الأوروبيين، لا أولئك الذين يزدرونهم كالبرابرة”؛ هذه النقاط الثلاثة كونت مزاج الإيمان بأفضلية الحياة البدائية لدى مونتين، لكنها لم تكن ضرورية لتحقيق غرضه.

لم يشاركه مونتسكيو هذا الرأي، ولم يتطلع أبدا إلى الطبيعة لاستخلاص معايير إنسانية، غير أنه استخدم تنوع العادات لتقويض غطرسة الحضارة الأوروبية. ما قام به ببساطة هو كشف ابتذال الأعذار التي قُدّمتْ لتبرير الأضرار الجسيمة التي أُلحِقت بالشعوب البدائية؛ “الزنوج فضلوا القلادة الزجاجية على القلادة الذهبية فثبت افتقارهم للحس السليم”، “الهنود الأمريكيون قصوا لحاهم بطريقة غير مألوفة، وبالتالي فاستعبادهم من قبل الأسبان فعل قانوني”. على عكس مونتين؛ أدرك مونتسكيو ضرورة عدم الخوض في أي تفوق أسطوري للسكان الأصليين، كان يكفي أن يُظهر أنه لا توجد فروقات يمكنها أن تبرر الوحشية مطلقا. وكان لديه – فوق ذلك – سبب آخر جعله حريصا على أن يتعرف قُرّاؤه على جميع الثقافات ويفهموها؛ لقد آمن حقا أن “المعرفة تجعل البشر ألطف، تماما كما يجعلهم الجهل أقسى”. قد لا تكون البدائيةُ الأسلوبَ الأمثل للتعافي من الوحشية بشكل تام، بل ربما سلوك فوق التحضر هو الحل.

يرى مونتسكيو أن أي وضاعة أو أي تفوق هو من ابتكار السياسة. فور استعبادنا للغرباء الذين نحتقرهم لجهلنا؛ فإننا نضعهم في مرتبة دونية، العبودية هي ما يصنع البلاهة وليس العكس و”لا شيء يجعل المرء أشبه بالبهيمة أكثر من رؤيته بشرا أحرارا لا يملكون حريتهم”، وعندما يتمّ إنزال البشر إلى مرتبة أدنى باستعبادهم فإن الوحشية تعمل على توسيع الفجوة بين “المالك” و “العبد”. في آسيا – ادعى مونتسكيو – أن إخصاء العبيد السود يتمّ لهذا الغرض. وفي روايته رسائل فارسية؛ فإن المخصيين السود وُظِّفُوا للحفاظ على تدفق الخضوع والهيمنة داخل الحرملك. إنهم أدوات ذليلة بيد مالكهم العام، والذي يتحكم بهم عن بُعْد. إذا كانت فجوات اجتماعية كهذه تخلق مناخا للوحشية؛ فإن قدرا أكبر من المساواة قد يكون حلا.

حتى ميكيافيللي أدرك أن المرء لا يستطيع أن يحكم نُظراءه بالقسوة / الوحشية، لكن بمقدوره فعل ذلك مع الخاضعين الأدنى منه منزلة. مونتسكيو أعجب في بعض الأحيان بتلك الديموقراطيات القديمة والتي جعلت مساواتُها المواطنين غير قادرين أو غير راغبين في الاستبداد بها تجاه بعضهم البعض. مونتين أعجب من قبله بالفلاحين، والذين كانت العلاقة بينهم – كما اعتقد – أفضل تنظيما من العلاقة بين النبلاء، لكن تصريحه هذا كان رفضا للقدرة التنافسية الأرستقراطية وليس تأملا في عدم المساواة كوضع اجتماعي يشجع على الوحشية. لم يكن مونتين ولا مونتسكيو مستعدين للتعاطي مع المساواة الاجتماعية كأمر إيجابي. ما تبنوه كان مساواة سلبية بحتة متجذرة في الارتياب من الأسباب المُعلنة، ليس فقط لتبرير عدم المساواة بل أيضا لتبرير أسوأ عواقبها، فعدم المساواة يولد – إلى جانب ما سبق – أوهاما.

مونتين اعتقد أن عدم المساواة يُشوه إدراكنا السليم بشكل سيئ للغاية، لدرجة أننا ننسى أن “قاعدة التمثال ليست جزءا من التمثال”. ويظهر هنا ما يتجاوز مجرد الشكوى المعهودة من فشلنا في تقدير الجدارة الحقيقية لأننا نُؤخذ بسهولة بالزينة والزخارف الشكلية، ما كان مونتين يخشاه هو البريق الصافي للسلطة / القوة، ومشهد البسالة الذي يلازمه، والوحشية التي يشجعها كلاهما.

مونتسكيو كان – شكرا لمدينة فرساي ولكل ما نافحت عنه آنذاك – مهووسا بسياسات القوة الناعمة، الفراغ المحيط بالطاغية والذي يفصله عن الخاضعين له هو شرط للحد الأقصى من عدم المساواة ومن الوحشية، لا شئ يمكن أن يكون أكثر خطورة من تأليه المسؤولين السياسيين. وفي الواقع؛ فإن عدم تقديس السياسة كان هدف مونتسكيو الرئيس. المساواة لم تكن مطلوبة لتحقيق ذلك الهدف وفضَّل تعددية هرمية، رغم أنه ثَمَّن مؤسسة واحدة تتحلّى بقدر عال من المساواة: لجنة التحكيم المُختارة بالقرعة، لأن لجان التحكيم تحدد نتائج تلك الظروف التي يواجَه فيها مواطن عادي بالقانون الجنائي. المساواة السلبية هي حقا خوف من عواقب عدم المساواة ومن التأثير المُبهِر للقوة؛ إنها نتيجة واضحة لوضع الوحشية في مرتبة أولى.

ليست المساواة علاجا للغطرسة، بل التواضع. ولا غطرسة أشنع من الادعاء بأن بعضنا وكلاء الله ونُوَّابه على الأرض، ومُخوَّلون لمعاقبة أعداءه. لقد تمّ تعذيب وحرق الهراطقة دفاعا عن كرامة الذات الإلهية، ولذا اعتقد مونتين أن التعذيب أفسد العالم بأسره؛ العلماني والكنسي على حد سواء، وبات شرا موجودا في كل مكان.

مونتسكيو؛ الذي عاش في عصر أكثر اعتدالا نسبيا؛ كان ولازال ساخطا على الأحكام القضائية إزاء الخطايا والأخطاء الطفيفة، وذلك لأن كلاهما – مونتين ومونتسكيو – لم يُؤمِنا بخطورة تلك الخطايا، كما أن الوحشية كانت أولوية مشتركة لديهما. الجرائم التي عوقب عليها الناس بوحشية لم تكن بحدّ ذاتها أفعالا وحشية، ولذا فقد بدت لهما غير مهمة ولا سيما حين تُوضع تلك الأفعال مقابل أهوال التعذيب الرسمي. ينصح مونتسكيو المحاكم أن تترك قضايا الإيمان والعادات الجنسية جانبا، وأن تركز على العمل الجاد لحماية أمن الأرواح والممتلكات.

مونتين لم يثق حتى بهذا النوع من الإصلاح القانوني، واعتقد أن معظم القوانين عديمة النفع، لأن القوانين العامة لا تلائم التنوع الفعلي للحالات الفردية، ومعظم الإجراءات القضائية قاسية جدا لدرجة إرهاب المواطنين الملتزمين بالقانون دون أن تحقق شيئا آخر. مونتين ومونتسكيو أصرا على أن اجتهاد القضاء يجب أن يكون محدودا قدر الإمكان، وبالتالي فإن كلاهما أظهر عدم ثقة ملحوظة بالنظام القضائي بشكل عام. وهذا ينبغي ألا يُدهشنا، فكلاهما قضى سنوات على مقاعد برلمان بوردو (حيث عمل كل منهما قاضيا هناك لفترة)، ولم يثقا بأي طبقة حاكمة، بما فيها طبقتهما.

حكمة التجربة تعزز فقط من شكّ أولئك الذين يضعون الوحشية في مرتبة أولى. كيف يمكن للأمر أن يكون خلاف ذلك؟ العذر الشائع لأكثر ممارساتنا العامة وحشية والتي لا يصِحُّ ذكرها هو: الضرورة. إلى أي مدى تكون “الضرورة” صحيحة في الواقع؟

لم يكن مونتسكيو ولا مونتين غافلَين عن إملاءات القانون أو منطق الدولة، لكنهما علِما أن معظم ما مُرِّر تحت هذه العناوين لم يكن سوى عنادا أميريا. الاستجابة للمخاطر تعني شيئا، و”الضرورة” في المفردات الميكيافيللية تعني شيئا آخر أبعد منها، أن تُحسن توظيف الضرورة يعني أن تحكم. والضرورة – إلى جانب إخضاع الحظ – تدخل في نطاق قوة الحاكم الداهية. حين يتمّ تحديد الضرورة واغتنامها تتبقّى مسألة التخطيط والتنفيذ. هذه كفاءة طوباوية مع كل الوحشية التي تمهد لها.

اعتقد مونتين أن السياسة غامضة وغارقة في الفوضوية بصورة تجعل إدارتها وفق أي خطة أمرا صعبا، ولذا نبذ أفكار ميكيافيللي لأنه كان قصير النظر مثل أغلب الساسة، ولم يكن أكثر مصداقية من السياسي الذي يحيك الدسائس. خلاصة القول أن مونتين اعتقد أن تلك الحُجج اللاأخلاقية غير قاطعة، ولم ترتقِ إلى الاستجابات العقلانية لأي ضرورة. ولكن حين يشكّ المرء في الضرورة فإنه يشكّ في كل شيئ، “إن كان لابد للأمراء أن يرتكبوا الفظائع؛ فليُظهِروا ندما على الأقل، وليبذُلوا بعض الجهد لتجنب الذهاب إلى الحرب من أجل إشباع نزواتهم الشخصية”؛ هذا ما يخلص إليه مونتين، موقف يشبه رفع المرء يديه في يأس.

لا يوجد مزاج أقلّ طوباوية من هذا النوع من الشكّ. كتب مونتين: “إن العالم غير قادر على علاج نفسه، لقد نفذ صبره تجاه الثِّقَل الذي يضغط عليه، لدرجة أنه بات يسعى للتخلص منه دون أخذ التكلفة بعين الاعتبار”. كانت قناعة مونتسكيو أكبر في التغيير الاجتماعي والقانوني لكنه لم يكن مفعما بالحماسة، كتب وصفا لمجتمع طوباوي صغير في روايته “رسائل فارسية” لكن الطوباوية حتى في عالمه الخيالي تظهر لإثبات ضرورة إنهائها بسرعة.

يجادل مونتين أن عامل الزمن والاستمرارية أفضل شفاعةٍ للمؤسسات؛ ليس لأنها همجية ومتوحشة؛ “بل لأننا نجنح بشكل عجيب للأسوأ. معظم عاداتنا وقوانينا دونية مُخزية، ولكن إذا قمنا باستبدالها سنقع في التدمير المباشر وعدم الاستقرار والذي ربما يكون أسوأ إلى حد بعيد”.

بدا لمونتين أن ولاءً لائقا وغير مفرط للنظام القائم ومن دون تسويغ أعذار له هو السبيل الوحيد، لدرجة أنه اختار الوقوف إلى جانب الطرف الرسمي في الحرب الأهلية الفرنسية، إذ لم يكن بمقدوره تفادي الأمر لكنه بقي منصفا للمعارضة. وكما كتب عنه إيمرسون المُعجب به؛ فإن مونتين وجد نفسه “على خلاف بنفس الدرجة مع شرور المجتمع والمشاريع المطروحة لإزالتها”. ويضيف إيمرسون أن مونتين كان “صريحا في إنكاره”؛ الصراحة هنا تعني أن مونتين لم ير سببا لافتراض أن التغييرات في المعتقد الديني ستُبدّل سلوك البشر بشكل ملحوظ.

أشار مونتين بضجر إلى أن أولئك الذين حاولوا تصحيح العالم بمعتقدات جديدة أزالوا فقط الرذائل السطحية، وأن الرذائل الأساسية لم يتم لمسها. بالتالي؛ وحسب رأي مونتين؛ فإن أفضل دين يحمل رؤية سلام هو الذي ولد به المرء وتعود عليه والأكثر رسوخا في بلده، وهذه ليست محاولة للاستخفاف بالأخطاء الجسيمة للمؤسسات والأيديولوجيات القائمة بل هو اعتراف بأن البدائل ليست أفضل. إنها مُحافَظَة معنية بالاشمئزاز العالمي؛ إن صحّ أن نطلق عليها مُحافَظَة على الإطلاق؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يصرح بدعمه لنظام قائم إن كان لا يستطيع قول أي شيء في مصلحة النظام سوى أنه قائم؟ إن هذا الموقف فعل انفصامي بامتياز، لكنه ليس بالضرورة تراجعا عن المجال العام.

حين تكون الوحشية أولوية المرء؛ فإن فجوة هائلة بين الحياة الخاصة والحياة العامة ستنفتح أمامه. تبدأ الفجوة بكشف وهن و ضآلة الأسباب المُقَدَّمَة لتبرير الفظاعات العامة، وتتجه إلى إدراك أن الحكومات غير واقعية وبعيدة عن الحقائق التي تتحدث عنها. المقصد هنا ليس أن الحياة الخاصة أفضل من الحياة العامة؛ فالقسوة تظهر في كليهما؛ بل المقصد أن على المرء أن يدرك الانفصال والتنافر بين التجربة الشخصية والتجربة العامة. ومونتسكيو اعتقد أن المواطن الصالح والإنسان الصالح يستحيل أبدا أن يعنيا الشيء ذاته، فالتضارب في الوصفين أصيل، لأن مطالب الحياة الاجتماعية ببساطة مختلفة عن مطالب الأخلاق الشخصية.

هذه الحقيقة قد تسبب لنا الكثير من التعاسة، لكنها غير قابلة للتغيير. “إن أحد مصائب الوضع البشري..”، كتب مونتسكيو مستعيرا عبارة مونتين الشهيرة: “تكمن في أن المُشَرِّعين يجب أن يشتغلوا بالمجتمع أكثر من المواطنين، وبالمواطنين أكثر من البشر”. لم يكن مونتسكيو يائسا لأنه اعتقد أننا نستطيع عموما التحكم بحياتنا العامة بفعالية أكثر من طباعنا الشخصية. المناخ يؤثر علينا بشكل مباشر، ورغم إمكانية تلطيف آثاره بإجبار أنفسنا على اتجاهات اجتماعية معينة، لكننا كأفراد لا نتغير حقا. البريطانيون – مثلا – مواطنون جادون، ولديهم دستور ممتاز، لكنهم شعب بشع على نحو تام، ويعانون من السوداوية المُستعصِية والميول الانتحارية.

يمكن للقوانين أن تجعل الحياة الجماعية أفضل أو أسوأ، لكن كل فرد منا غير قادر على التغير بصورة جذرية، والأخلاق – في نقطة ما – هي أمر شخصي. في واقع الأمر؛ انتقل مونتسكيو إلى التفاؤل باعتقاده أن السياسة والأخلاق أمران مختلفان كُليا، لأن القوانين جعلت من الاصلاح الاجتماعي أمرا ممكنا دون المطالبة بثورة أخلاقية من شأنها أن تكون مستحيلة ومستبدة لأقصى درجة.

فصل الأخلاق عن السياسة بهذه الطريقة (التي تبناها مونتسكيو) يعني فتح الباب أمام الميكيافيللية لدرجة كان من المستحيل أن يتسامح معها مونتين، رأى مونتين أن قدرتنا على التحكم بحياتنا الشخصية ولو عن طريق العزلة أعظم من الوجود الجماعي حيث يحكم الحظ، مشيئة الإنسان تمّ اختزالها في السياسة، والشخصيات العامة مجبرة على ارتكاب الفواحش كما لو كان الأمر بدافع الضرورة. لم يُنكر مونتين أن هناك الكثير من الأمور التي يصعب تجنبها في السياسة، لكنه لم يؤكد على صوابيتها ولم يرغب أن يكون طرفا فيها، حتى حين استسلم لقسوة ممارسة الشأن العام لم يتقبَّلها كأمور لا مفر منها.

لطالما كان هناك رجال كرماء وعظماء تجنبوا القسوة / الوحشية. كان عقل مونتين منقسما على ذاته، وكان صورة للحيرة. قال عن وظيفته العامة (كرئيس لبلدية بوردو): “رئيس البلدية ومونتين شخصان مختلفان بوضوح شديد”. مونتين – رئيس البلدية – لعب دورا على المسرح العام تأدية للواجب، وقام بالوفاء بمتطلبات هذا الدور على أفضل وجه ممكن. لم يكن مثل أصحاب النفوس الحساسة الذين حافظوا على صفائهم الداخلي بتجنب السياسة والهروب منها، يخبرنا مونتين أنه باعتباره رئيس بلدية فقد فعل أقل ما يمكنه فعله، ودافع عن سياسته هذه بأنها تُسبب الضرر الأقل في إطار الصلاحيات المتاحة له. وبالتأكيد فقد شعر مونتين أنه عاجز في مكتبه العام أكثر من عجزه في مكتبته الخاصة، لكن الأمر لم يُحدِث بالنسبة له فارقا أخلاقيا، وولاؤه لم يتغير تحت جميع الظروف.

لم يقم مونتين بخيانة أميره من أجل فرد خاص، ولم يخن الأخير من أجل الأمير. إيبامينونداس (قائد عسكري يوناني) بدا لمونتين مثيرا للإعجاب على نحو خاص، لأنه لم يكن ليقتل في معركة عدوا كان قد استضافه سابقا. لقد أثارت لاعقلانية الخير في السياسة إعجابه بعمق، ليكن الأمراء عادلين إن حاولوا أن يكونوا كريمي الطباع فإنهم سيصيرون متعسفين فحسب. وفوق ذلك؛ فإن المجتمع لا يعتمد على الفضيلة الشخصية كوسيلة نجاة، ومجتمع من الأوغاد المتنافسين سيلتصق ببعضه كما نفعل في مجتمعاتنا، ولن يكون مجتمعا أسوأ بشكل عام. ليست الأخلاق؛ بل الحاجة المادية والقوانين – بما فيها القوانين الشرسة جدا – هي التي تبقينا معا

بعد سنوات من الصراع الديني؛ فإن عقل مونتين كان حربا أهلية مصغرة، وعكس الارتباك الأبدي لهذا العالم، لكن خليط تصوراته السياسية لا يعكس فشلا فكريا، إنما رفضا لقبول كل من رفاهية السلبية السياسية وتفاهات ميكيافيللي.

ظهرت في السنوات الأخيرة أدبيات معتبرة عن ميكيافيللي، معظمها معجبة بـ “واقعية” كتاباته، وقد حاولتُ إبراز وجهات نظر الذين عارضوه، ليس انطلاقا من “أوهام” دينية أو أخلاقية، بل لأنهم كانوا أكثر واقعية منه، وقرأوا ملاحظات أفلاطون عن الأيادي القذرة (في عالم السياسة) بعناية أكبر، وكانوا أكثر صدقا. هذا موقف يتجاوز أي شيء يمكن أن يطلق عليه المرء ليبرالية، صديقي الكاثوليكي كان مخطئا في اعتقاده أن وضع الوحشية في مرتبة أولى لا يتجاوز تلك الدرجة، ولكنه كان محقا حين رأى أن وضع الوحشية في مرتبة أولى لا يتوافق مع إيمانه. ما كان يجب أن يسأله هو “كم عدد الناس المستعدين حقا – عدا مونتين – لتحمل عواقب اتخاذ هذا الموقف؟” . لقد كان هدفي أن أُظهِر على الأقل ما ينطوي عليه.