مجلة حكمة
الرؤية الوجودية في حكاية البيضة والدجاجة - كلاريسي ليسبكتور / ترجمة: إبراهيم الكلثم

الرؤية الوجودية في حكاية البيضة والدجاجة – كلاريسي ليسبكتور / ترجمة: إبراهيم الكلثم

كلاريسي ليسبكتور
كلاريسي ليسبكتور

تحليل لحكاية البيضة والدجاجة لكلاريسي ليسبكتور


 

في الأدب، سارتر هو الوجودي الرمز لزماننا. أطروحته الفلسفية القائلة بأن “ماهية الإنسان هي وجوده” هي أكثر الأحكام قنوطًا وشجاعة في كل الأدب الوجودي. ما يقوله هو أنه لا وجود لماهية طبيعية للإنسان، عدا أنه يُمكنه أن يكوّن من نفسه ما يريد. مع هذا، الإنسان محدود. حريته محدودة؛ وبالتالي بنيته مُحدّدة. إذا حاولت “الأنا” تجاوز هذه البنية سينتهي بها الحال بخسارتها.

إذن الوجودية بالنسبة لسارتر ذاتية، بالمعنى القائل بعجز الإنسان عن تجاوز ذاتيته. هذا الأخير عبدٌ لذاتيته، بمعنى أنه لا يمكنه أن “يخرج” من نفسه. هذا الإنسان المسجون في عالمٍ حصين ليس في يده إلا تمهيد الطريق لفلسفة عبثٍ وألم.

 

تحليل لحكاية البيضة والدجاجة لكلاريسي ليسبكتور

حكاية البيضة والدجاجة قائمة على لعبة لغوية بين الكلمة والشيء. جُمل تُشابه الكُتب المدرسية القديمة (“هل يستطيع الكلب رؤية البيضة؟ وحدها الآلات تستطيع رؤية البيضة.”)، الهراء (“إلى البيضة،أُهُدي الأمة الصينية.”)، المفارقة (“ما الذي لا أعلمه حول البيضة يعطيني البيضة نفسها”)، تأكيد وتحوير وتبديل طوال النص، وإعادة تأكيّد على كلمة “بيضة”. هذه الأخيرة تُعرّف بطُرق مختلفة. تبقى اسم وتبقى [في نفس الوقت] “بيضة”. ستحمل هذه حتى نهاية الحكاية معانٍ لا حصر لها، دائمًا ما تعاود الظهور، شيء ظاهر لمعنى لا يوصف.

من خلال هذه اللعبة اللغوية بين الكلمات والشيء، تبرز البيضة كمقولة (Category) حدث موحى ومفتوح عن حقيقة غير محددة تمثلها البيضة، حقيقة وجدت الراوية نفسها محبوسة ومتورطة فيها منذ بداية وصفها في ضوء ما تسرده هي نفسها.

يتكشّف السرد من خلال مُراوغة المعنى الذي يُصاحب حركة “الأنا” الباحثة عن نفسها وصراعها مع الشيء المفتونة به.

يُمكننا أن نلاحظ هنا شواهد على موقف وجودي من حيث إنه يفترض مشاركة وانخراط وجودنا في وجود آخر.

تكشّف هذه القصة – التي من غير حبكة (plot) -يخلق نفسه من خلال تمدد وانتشار لرؤية الراوية، ذات وموضوع السرد. انطلاقًا من البيضة، تسبر أغوار السمة الأساس للحب والحياة، وعبادة (خدمة)الوجود، [التي] تُحرق بلا لهب، قوة غامضة وعمياء.

الاتصال بين الوجود والشيء نشأ من خلال النظرة. بالنسبة لسارتر، النظرة تكويّنية (constitutive) للذاتية الداخلية، تحمل النظرة سِمة أنطولوجية. “إن النظرة هي قبل كل شيء وسيط بيني وبين ذاتي” [الكينونة والعدم / جان بول سارتر – ت : نقولا متيني. ص: 354-355]

إذن تستعمل كلاريسي منذ بداية البداية أداة وجوديّة للمعرفة: البصر ( الرؤية، النظرة ). انطلاقًا من النظرة – وسيلة للوصول إلى الشيء -تذهب إلى مشاركة (تفاعل) الشيء. والوصف الذي تذكره الكاتبة عن الشيء يُشكّل نفسه لجانب آخر من الثيمة الوجودية : أسبقية الوجود على الماهية.البيضة ليست شيئًا، البيضة موجودة. ماهية موجودٍ هي ما هو. ماهية البيضة هي “الـ”بيضة، وهذه الماهية مرفوضة : “ليست موجودة بشكل منفرد”. الوجود هو “هذه” البيضة، بشكلها وصفاتها. يكون الشيء بينما يوجد فقط. عندما “كسرت [الراوية] قشرتها وشكلها”، “منتلكاللحظةلمتكنهناكبيضةمُطلقًا”. قبل أن نقارب الجانب الوجودي التالي في الحكاية، من المهم التأكيد على بعض الجوانب الأساسية في الوجودية السارترية.

بالنسبة لسارتر، هناك تضاد جوهري (أساسي) بين “مملكة الأشياء” [العالم الموضوعي] و”مملكة الإنسان”. تفترض مملكة الأشياء الوجود-في-ذاته، مٌطابق لذاته، وجود مُعتم. الوجود-في-ذاته مُشبّع بذاته، ولا يُمكنه تصوّر كمالأكمل، محتوى أكمل وأكثر ملائمة للحاوي : لا وجود لأقل فراغ في [هذا] الوجود، شق صغير حيث يمكنك إدخال العدم (اللاشيء). “بالتالي، يصبح من سابع المستحيلات معرفة البناء الداخلي للوجود. “الوجود-في-ذاته” غريب دائمًا بالنسبة للإنسان. أكثرمن هذا، يمنح الوجود- في-ذاتِه ذاتَه للإنسان، الذي/التي لا ت/يضيف أي شيء له.

“الوجود-في-ذاته” يضاد بقوة “الوجود-لذاته”؛ بالتالي سيكون هذا الأخير العدم الذي يقف قبالة الوجود بأسلوب استفهامي. مملكة الإنسان ليست شيئًا. أكثر من هذا، يجب أن تكون كذلك، تسعى لأن تكون هكذا. الوعي الإنساني ليس له أي شيء جوهري، إنه يوجد كما يظهر لا أقل ولا أكثر.

هذا التقابل الأساسي بين وجود والوجود يُكوّن اليأس في الإنسان، ألم استحالة وجود نقي وكامل. في حكاية كلاريسي، حضور “الوجود-في-ذاته” يُترجم بوصفه رؤية البيضة. “هذا كامل” “مرئي للعين” “هبة”. تمامًا كما أن الوجود (الراوية) غير قادر على الإحاطة بها، تعرف [كذلك] بأنه يستحيل فهمها. وُجودٌ مُعتم،”متحرر من الوعي الذي يؤلم ويلسع”.

“تمامًا مثل العالم، البيضة واضحة”. “الوجود-في-ذاته” بديهي وواضح ولا يُمكن إنكاره. بالنسبة لسارتر، ينتهي الحال بالـ”الوجود-في-ذاته” ليكون ما هو عليه، وهذا صعب للغاية إلى درجة أنه قد تجعله يهرب إلى زمانتيه الخاصة : “رؤية بيضة يكون في الحاضر دائمًا : “بمجرد أن أرى البيضة حتى أرى بيضة،نفس البيضة التي وُجدت منذ ثلاثة آلاف عام.”

قبل هذا، تتلاءم البيضة – المٌقدّمة بوصفها وجودًا نقيًا – تمامًا في مملكة الأشياء المُشار إليها من قِبل سارتر، باعتبارها حقل الوجود التام (المُصمت).

لكن بالنسبة لكلاريسي أين تقع مملكة “الوجود-في-ذاته و الوجود-لذاته”؟ يربطها سارتر بالوعي الإنساني. في هذه الحكاية، يتشخّص “الوجود-في-ذاته/لذاته” في الحيوان (الدجاجة )، بشكل مختلف عن الإنسان الراوية.

“البيضة هي حلم الدجاجة بعيد المنال” على نحو مماثل للتوق في أن تكون (To be) هو “شغف عديم الجدوى” بالنسبة للفلسفة السارترية.”توجد كما في الأحلام. ليس لها حسب الواقع. تتوتر لأن الناس دائمًا ماتؤول أحلامها. الدجاجة نوم عميق. تعاني من شر مجهول. الشر المجهول هو البيضة. لاتعرف كيف تشرح نفسها: “أعلم بأن الفشل داخلي” تُسمي الحياة فشلًا، “لا أعلم بماذا أشعر بعد الآن”،إلخ.”

على الرغم من ذلك، عبثية نسب الوعي الإنساني إلى الدجاجة يُفسّر من خلال وصفها [أي الدجاجة] بمجموعة واضحة وصارخة من الصفات الإنسانية : هي أم، وتحلم، ويُمكنها أن تحب، ولها حياة داخلية، وتصرخ، وبإمكانها أن ترى وتفكر. فوق ذلك، هي خرقاء وكسولة وقصيرة النظر، صفات تنطبق تمامًا على البشر.

 

خاتمة

تكشف الحكاية عن موقف وجودي من المؤلفة من حيث إنها  تغوص عميقًا في الحالة المعروضة، حُبست حبكة الحكاية على حساب توصيف هذا التورّط. على الجانب الآخر، نُسب إلى الشيء/الموضوع المُحرّك لهذه الحكاية بداية جديدة : توقفت البيضة عن أن تكون البيضة، النقية، لتكون ببساطة طريق الوصول إلى الصفة الأداتية (instrumental) للحب والحياة، عابدة (خادمة) الوجود الذي تُدركه بوصفه تضحيةً، بوصفه أسمى منها.على الرغم من هذا – وراء هذا الموقف الوجودي- نُلاحظ في كلاريسي مذهبًا وجوديًا باعتباره وجهة نظر وتعبير.

متحررةً من الفن التقليدي، تُقارب كلاريسي الوضع الإنساني المُعاش والمُجرّب من قِبل الموجود بينما يكون ملجومًا من قوة الوجود المَهيبة التي تحوله إلى “أداة عمل” بسيطة. [من خلال]جعل الوجود الإنساني موضوعًا يُرى من خلال اللعبة اللغوية بين الكلمة والشيء التي تقود إلى مراوغة المعنى، تكشف كلاريسي عن مفهومٍ لعالم وجودي نمطي، من حيث إنها تتعامل مع أمور من قبيل الرغبة في الوجود، وموت العلاقات الإنسانية، والواقع المُحاكى (simulated reality)، وسحر وقوة النظرة.

في هذه الحكاية تمنح كلاريسي الحياة لما أسماه تيليش “شجاعة أن تكون نفسك”، من خلال قدرتك على رؤية خلو المعنى الإنساني، ومحاربته والتعبير عنه بكل براعة وإتقان من خلال الفن.

كاتبة المقالة: Cleusa T. Suiter de Aquino


 البيضة والدجاجة – كلاريس ليسبكتور*

تقديم المترجم :

تُعد كلاريسي ليسبكتور من أهم كاتبات البرازيل وأمريكا اللاتينية عمومًا، وبدأت تحصد اهتمامًا متناميًا على مستوى العالم في العقود القليلة الماضية.”البيضة والدجاجة” نص قالت عنه كاتبته نفسها بأنها لا تفهمه تمامًا، ومع ذلك فهو من أقرب كتاباتها إلى نفسها. كلاريس كانت عادة ماتجلس في المطبخ لساعات طويلة؛ فمن غير المستبعد أن تكون لحظة إلهامها ولدت في تلك الفترة. على الرغم من أسلوب كتابتها المتوسل بكلمات متداولة وسهلة، إلا أن نصوصها عادة ما توصف بالغموض. والنص الذي بين أيدينا أكبر دليل على ذلك؛ فمع أن النص لا يحتوي تلك الكلمات الصعبة المقتصرة على فئة معينة، ولا يقدم بأسلوب معقد، إلا أن الغموض والغرابة تلف النص منذ بدايته حتى منتهاه. ملمح مهم في كتابة ليسبكتور يجب ذكره، ألا وهو تعمّد كلاريس في أسلوب كتابتها على اللعب على الكلمات، وهي صعوبة تواجه من يحاول الترجمة لها من البرتغالية إلى لغات أخرى؛ فغالبًا ما تفقد العبارة المترجمة شيئًا من معانيها تحت مقصلة الاختيار القصري لتأويل معين، الأمر الذي حاولت تفاديه قدر الإمكان بالترجمة الحرفية – التي قد تبدو “ركيكة” بعض الشيء – والهوامش.

 

النص :

في الصباح البيضة ملقاة على طاولة المطبخ.

أرى البيضة بلمحة واحدة. أُدرك مباشرة بأنه لا يمكنني رؤية بيضة. رؤية بيضة يكون في الحاضر دائمًا : بمجرد أن أرى البيضة حتى أرى بيضة، نفس البيضة التي وُجدت منذ ثلاثة آلاف عام. في نفس اللحظة التي تُرى فيها بيضة، تُصبح ذكرى بيضة. الشخص الوحيد الذي يُمكنه رؤية بيضة هو شخصٌ رآها مُسبقًا. مثل إنسان، لكي يفهم الحاضر، عليه أن يمتلك ماضيًا. عند رؤية البيضة، سيكون قد فات الأوان : بيضة مرئيةهي بيضة ضائعة. طيفٌ يمر مثل إلتماعة برق خاطف. أن ترى البيضة هو وعد بأن تكون قادرًا على رؤية البيضة مجددًا في يومٍ ما. لمحة موجزة لا يُمكن تقطيعها. هل يتدخل الفِكر؟ لا، لا وجود لفِكر : هنالك البيضة فقط. البصر هو المَلكة الضرورية، وحالما تُستعمل، عليّ أن أُلقيها جانبًا. سأبقى من غير البيضة. لا تمتلك البيضة نفسها. ليست موجودة بشكل مستقل.

يستحيل رؤية البيضة في الواقع. البيضة فوق-مرئية تمامًا مثلما أن هناك أصواتًا فوق مدى السمع لم يعدمن الممكن للأذن سماعها. لا أحد في استطاعته رؤية البيضة. هل يستطيع الكلب رؤية البيضة؟ وحدها الآلات تستطيع رؤية البيضة. الونش يرى البيضة. في أزمنة سحيقة استقرت بيضة على كتفي. وكذلك لا أحد يُمكنه أن يُحب البيضة. حُبي للبيضة فوق الإحساس. ولا سبيل لدي لمعرفة أنني أشعر بهذا الحب. لا يُمكن للشخص أن يكون واعيًا بحب البيضة. كُنت في ازمنة سحيقة حارس البيضة ومشيت على أطراف أصابعي لكيلا أُزعج صمت البيضة. عندما مت، أزالوا البيضة التي بداخلي بعناية : كانت لا تزال على قيد الحياة. تمامًا كما نتجاهل العالم لأنه واضح، كذلك نفشل في رؤية البيضة؛ لأنها هيأيضًاشديدة الوضوح. هل لم تعد البيضة موجودة؟ هي موجودة في هذه اللحظة. يا بيضة، أنتِ كاملة. أنتِ بيضاء. أهدي هذه البداية لكِ. أهدي هذه اللحظة الأولى إليكِ.

 

إلى البيضة، أُهُدي الأمة الصينية.

البيضة شيءٌ في حالة قلق. لم تستقر أبدًا. عندما تستقر، لا تكون هي البيضة نفسها التي استقرت. سطحٌ تشكل تحت البيضة. ألمح البيضة على طاولة المطبخ بشكل مبهم لكيلا أحطمها. أجاهد بأقصى ما يمكنني حتى لا أفهمها. لا يُمكن فهمها، وأعلم أنه إذا فهمت البيضة سيكون فهمًا خاطئًا. الفهم دليل على خطأ. عدم التفكير في البيضة هو أحد طرق فهمها. هل من المعقول بأنني أعلم بشأن البيضة؟ بالتأكيد أعرف بشأنها. على هذا النحو : أنا موجود؛ إذن أنا أعلم. ما الذي لا أعلمه حول البيضة هو المهم حقًا. ما الذي لا أعلمه حول البيضة يعطيني البيضة نفسها. القمر مسكونٌ بالبيض …

البيضة فعل ظاهري : امتلاك بيضة هو فعل منح. البيضة تفضح المطبخ. تحول الطاولة إلى سطح مائل. البيضة تفضح كل شيء. أي شخص يسبر غور البيضة، ويمكنه اختراق سطح البيضة؛ فهو يبتغي شيئًا آخر : ذلك الشخص يعاني من الجوع.

البيضة روح الدجاجة. الدجاجة الخرقاء. البيضة المستقرة. الدجاجة المذعورة. البيضة الهادئة. مثل قذيفة مُعلّقة في الهواء. بالنسبة للبيضة هي بيضة في الفضاء. بيضة ضد خلفية زرقاء. أحبك. أحبك كشيءٍ لا يعرف حتى أنه يحُب شيئًا آخر. لا ألمسها. هالة أصابعي هي التي ترى البيضة. لا ألمسها، لكنأن أنذر نفسي لرؤية البيضة سيعني نبذ وجودي الأرضي الذي سأستمر في الحاجة إليه، كُلًا من الصفار والبياض. هل تستطيع البيضة رؤيتي؟ هل تحاول سبر أغواري؟ لا، البيضة تراني فحسب. وهي حصينة ضد ذلك الفهم المؤلم. لم يسبق للبيضة قط أن جاهدت لكي تصبح بيضة. البيضة منحة. هير غير مرئية للعين المُجرّدة. من بيضة إلى بيضة، يصل الشخص إلى الله الغير مرئي للعين المجردة. ربما كانت البيضة في يومٍ ما مُثلثًا تقلّب كثيرًا في الفضاء حتى انتهى به الحال ليصبح بيضوي الشكل. هل كانت البيضة في الأصل برطمانًا مُحكم الإغلاق؟ ربما أول برطمان صنع من قِبل الأتروسكان؟ لا. أصل البيضة من مقدونيا. هناك صُممت، نِتاج أكثر التعمّد عفوية. رسمها رياضياتي على رمال مقدونيا بعصا في يدٍ واحدة. ثم مسحها بقدمه العارية.

تحتاج بيضة إلى أن تعامل بحرص شديد. لهذا السبب الدجاجة هي غطاء البيضة. الدجاجة موجودة حتى يمكن للبيضة أن تعبر الأزمان. هذا سبب وجود الأمهات. تعيش البيضة مثل هاربة؛ لأنها دائمًا سابقة لزمانها، إنها أكثر من معاصرة : إنها تنتمي إلى المستقبل. خلال ذلك ستبقى البيضة ثورية دائمًا. تعيش داخل الدجاجة حتى لا ينتعها أحد بالبيضاء. البيضة في الحقيقة بيضاء، لكن يجب أن لا تُنعت بذلك. ليس لأن ذلك سيؤذي البيضة المحصنة ضد الخطر، لكن أولئك الذين يذكرون الواضح من خلال وصف البيضة بالبيضاء ينكثون عهدهم مع الحياة. أن تنعت شيئًا أبيضًا بالأبيض هو تدمير للإنسانية. دائمًا ما تكون الحقيقة في خطر تدمير الإنسانية. اُتهم إنسان بكونه ما كان عليه وأُشير إليه باسم ذلك الإنسان. لم يكذبوا : كان إنسانًا. لكننا لم نتعافى منذ ذلك الحين. هذا هو القانون الكوني حتى يمكننا مواصلة الحياة. يُمكن أن يقول أحدهم “وجه جميل”، لكن أي شخص يقول “وجه” سيموت لأنه أنهك الموضوع.

مع مرور الوقت تصبح البيضة بيضة دجاجة. هي ليست كذلك. لكن عندما تُتبنى، يستعمل هذا اللقب. يجب على الشخص أن يقول : “بيضة الدجاجة”. إذا قال الناس “بيضة” ببساطة، يُنهك الموضوع، ويعود العالم ليصبح عاريًا. فيما يتعلق بالبيضة، هناك دائما خطر أننا قد نكتشف ما قد يُسمى جمالًا. بعبارة أخرى، واقعها الكامل. واقع البيضة ليس له مظهر الحقيقة. لو كان جمالها هو الذي سيُكتشف، قد يحاول الناس جعلها مستطيلة. البيضة ليست في خطر، لن تصبح مستطيلة. ( ضماننا هو أنه لا يمكنها ذلك : وهذه هيقوة البيضة العظيمة : سيادتها منبثقة من عظمة كونها عاجزة، التي تنتشر مثل ممانعة مغناطيسية ). لكن كما قلت، البيضة لن تصبح مستطيلة، وأي شخص يجاهد لكي يجعلها مستطيلة سيكون في خطر خسارة حياته. وهكذا تُعرّضنا البيضة للخطر. مكسبنا هو أن البيضة غير مرئية للغالبية العظمى من الناس. أما فيما يتعلق بالمختص، فالمختص يحجب البيضة كما في الماسونية.

أما فيما يتعلّق بجسم الدجاجة، جسم الدجاجة أوضح محاولة لإثبات أن البيضة غير موجودة. لأن نظرة واحدة على الدجاجة كافية لرؤية أن البيضة لا يُمكن أن توجد.

 

وماذا عن الدجاجة؟

البيضة هي تضحية الدجاجة الكبرى. البيضة هي الصليب الذي تتحمله الدجاجة في الحياة. البيضة هي حلم الدجاجة بعيد المنال. الدجاجة تحب البيضة. لا تعلم بأن البيضة موجودة في الحقيقة. ولو عرفت بأن هناك بيضة في داخلها، هل ستنجو؟ ولو عرفت بأن هناك بيضة في داخلها، هل ستخسر عملها كدجاجة؟ أن تكون دجاجة هو فرصة الدجاجة الوحيدة في البقاء على قيد الحياة ذهنيًا. البقاء على قيد الحياة يعني الخلاص. بالنسبة لها سيظهر أن عيش الحياة غير موجود. الحياة تنتهي في موت. بينما تتابع الدجاجة البقاء على قيد الحياة. وأن تبقى على قيد الحياة يعني أن تواصل المجاهدة ضد الوجود الفاني. هذا ما يعنيه أن تكون دجاجة. دائمًا ما تبدو الدجاجة مضطربة.

يجب أن لا تعرف الدجاجة بأنها تحمل بيضة. وإلا قد تُنقذ باعتبارها دجاجة – على أنه لا ضمانة لذلك -لكن في نفس الوقت ستخسر بيضتها بولادة مبكرة لتحرر نفسها من ذلك المِثال السامي. لديها مهمة لتحققها، الأمر الذي تستمتع به. وكان هذا إطلاق الدجاجة. لا علاقة للاستمتاع بالولادة. أن تستمتع بكونك حيًا أمر مؤلم.

أما فيما يتعلّق بمن أتى أولًا، كانت البيضة هي التي اكتشفت أن الدجاجة ستكون الغطاء الأنسب. لم تُستدعى الدجاجة حتى. اختيرت الدجاجة مباشرة. توجد كما في الأحلام. ليس لها حس بالواقع. تتوتر لأن الناس دائمًا ما تؤول أحلامها. الدجاجة نوم عميق. تعاني من شر(1)مجهول. الشر المجهول هو البيضة. لا تعرف كيف تشرح نفسها: “أعلم بأن الفشل داخلي”تُسمي الحياة فشلًا، “لا أعلم بماذا أشعر بعد الآن”، إلخ.

“إلخ إلخ إلخ” هو كل ما تقوقئ به الدجاجة طوال اليوم. للدجاجة الكثير من منابع الحياة الداخلية. في الحقيقة للدجاجة حياة داخلية فقط. رؤيتنا لحياتها الداخلية هو ما نسميه “دجاجة”. الحياة الداخلية للدجاجة تتضمن تمثيل كأن حياتها الداخلية مفهومة. أي خطر وستصرخ بشكل فضائحي كمجنونة. كل هذا حتى لا تتشظى البيضة داخلها. البيضة التي تتشظى داخل الدجاج لها مظهر الدم.

تراقب الدجاجة الأفق. كما لو أن هناك بيضة قادمة ببطء من خط الأفق.بغض النظر عن كونها وسيلة نقل للبيضة، الدجاجة خرقاء وكسولة وقصيرة النظر. كيف يُمكن للدجاجة أن تفهم نفسها إذا كانت هي نقيض البيضة؟ لا تزال البيضة هي نفسها التي نشأت في مقدونيا. دائمًا ما تكون الدجاجة التراجيديا الأحدث. دائمًا ما تكون واعية بلا جدوى. ويُعاد رسمها باستمرار. الشكل المُلائم للدجاجة لم يُعثر عليه بعد. يُعيد جاري رسم الدجاجة بقلم رصاصٍ تجريدي بينما يُجيب على الهاتف. لكن لا يُوجد بديل للدجاجة : جُبلت على أن لا تخدم نفسها. مع هذا، كون قدرها أهم منها، وكون البيضة قدرها، حياتها الشخصية لا تُهمنا.

في داخل نفسها لا تلاحظ الدجاجةُ البيضة، لكن حتى خارج نفسها لا تلاحظها. عندما ترى الدجاجةُ البيضة تظن بأنها تتعامل مع شيء مستحيل. مع دقات قلبها، مع دقات قلبها تدق بقوة، لا [يمكن أن] تُلاحظها.

فجأة أنظر إلى البيضة في المطبخ وأرى فيها طعامًا. بدأ المسخ في أخذ مكاني داخل نفسي : بدأت أصير غير قادرة على رؤية البيضة بعد الآن. بغض النظر(2) عن كل بيضة معينة، بغض النظر عن كل بيضة قد أُكلت، البيضة غير موجودة بالنسبة لي. تتضاءل قدرتي على الاعتقاد بشكل متزايد، أحتضر، مع السلامة، نظرت إلى البيضة طويلًا وقد نومتني. لم ترد الدجاجة التضحية بنفسها.تلك التي اختارت أن تكون “سعيدة”.تلك التي لم تكن تدرك بأنها لو أمضت حياتها ترسم داخل نفسها مثلما ترسم منمنمةٌ مُذهّبة (Illumination) البيضة؛ فإنها سوف تظل مستعبدة. تلك التي لم تعرف كيف تفك قيدها. الدجاجة التي تظن بأن لها ريش دجاجة فقط لتغطية جلدها الثمين، دون أن تفهم بأن الريش كان على وجه التحديد لتسهيل العبور خلال حمل البيضة؛ لأن [أي] معاناة شديدة قد تؤذي البيضة.

تلك التي اعتقدت بأن المتعة كانت هبة لها، من غير أن تدرك بأنه كان ذلك كذلك لكي تُلهي نفسها تمامًا بينما البيضة تصنع نفسها. تلك التي لم تعرف بأن “أنا” واحدة من الكلمات التي ترسم نفسها بينما يُجاب على الهاتف، محض محاولة للعثور على شكل أكثر ملائمة. تلك التي اعتقدت بأن “أنا” تعني امتلاك نفس. الدجاج المؤذي للبيوض هن تلكن اللاتي [يعتبرن] “أنا” بلا مهادنة. “الأنا”داخلهن ثابتة بقوة إلى درجة أنه لم يعد في مقدورهن نطق الكلمة “بيضة”. لكن – من يعلم -لقد كان هذا ما احتاجته البيضة حقًا. لأنه لو لم يكن لاهيات،لو انتبهوا للحياة العظيمة داخل أنفسهن؛ لعكّرن صفو البيضة.

بدأت حديثي عن الدجاجة ومنذ فترة طويلة لم أعد أتحدث عن الدجاجة. لكنني ما زلت أتحدث عن البيضة. لأدرك بأنني لا أفهم البيضة،لا أفهم إلا البيضة المتشظيّة فحسب : فتحتها على المقلاة. من خلال هذه الطريقة الغير مباشرة أهب نفسي إلى وجود البيضة : تضحيتي من أجل تقليص وحصر وجودي على حياتي الخاصة. صنعتُ من لذتي وألمي قدري المُقنّع. وامتلاك حياتك الخاصة – بالنسبة لأولئك اللذين رأوا البيضة -تضحية. مثل أولئك اللذين ينظفون البلاط و في المعبد ويقومون بالغسيل، يخدمون بلا مجد وطموح في عمل أعظم، عملي من ذلك النوع الذي يكون في عيش ملذاتي وآلامي. من الضروري أن امتلك التواضع لكي أعيش.

أخذت بيضة أخرى في المطبخ، وكسرت قشرتها وشكلها. ومن تلك اللحظة لم تكن هناك بيضة مُطلقًا. من المهم أن أكون مشغولةً ومُشتتة. أنا بالضرورة من أولئك اللذين ينكرون. أنا جزء من ماسونية أولئك اللذين رأوا البيضة مرةً وأنكروها كوسيلة لحمايتها. نحن أولئك الذين نكصوا عن التدمير، وبهذا دمرنا أنفسنا. نحن، فعلاء متنكرون ومنتشرون بين الأعمال الأقل كشفًا. نلاحظ أنفسنا بين الحين والآخر، أسلوب معين في النظر، أسلوب معين في مصافحة الأيادي، يساعدنا في ملاحظة أحدنا الآخر، وهذا ما نُسميه حُب.

 

 


هوامش من وضع المترجم:

  • في البرتغالية desease يُمكن أن تؤول على أنها شر، شيءٌ ( باكتيريا – فايروس – أو حتى مرض عقلي ) يهاجم شخصًا ما.

  • ترجمة لكلمة (Besides) الإنجليزية، التي قد تعني أيضًا “بالإضافة إلى ذلك” أو “خارج الموضوع”. لكن مع هذا، أقرب كلمة في البرتغاليةفي هذا السياق لها إمكانية تأويل آخر : خارج شيء ما جسديًا.

*شكرًا جزيلًا للصديقة بيانكا ليتشي (Bianca Leite) على ترجمة جزء من هذا النص من البرتغالية إلى الإنجليزية، وإبداء ملاحظات مهمة حول النص ككل. بدونها، هذه الترجمة لم تكن ممكنة.