مجلة حكمة
الهوية والاعتراف الانجلو

الهوية والاعتراف في الفضاء الأنغلوسكسوني – مصطفى بن تمسك

8570960


لم يعد خافيا على أحد ما تحظى به قضايا الهوية ومسألة الاعتراف من اهتمامات في عالمنا الراهن جعلها ترتقي الى سجل الحقوق الكونية بامتياز. الهوية لم تعد مجرد إحساسا سيكولوجيا/وجدانيا/عاطفيا يمنحنا صمامات الأمان ويقينا ذلك الشعور بفقدان الإحداثيات أو بأزمة هوية. والاعتراف، كذلك بوصفه استتباعا لمطلب الهوية، لم يعد بدوره ذلك الشكل الدرامي الذي يجبر المغلوب على الاعتراف للغالب بقوته مع الاعتراف السلبي بضعفه وقلة حيلته (نشير هنا تحديدا الى جدلية العبد والسيد لدى هيغل). أصبح الاعتراف في مضمار براديغات الهوية المستحدثة (هويات ما بعد الحداثة) متنوعا كتنوع الهويات عينها.

يمثل الفضاء الانغلوسكسوني نموذجا لهذه التعدديات المستحدثة.
ويعزو ذلك الى تضافر عوامل تاريخية وسوسيولوجية متعلقة أساسا بمطالب الحركات السوداء بالمساواة وتجريم الميز العنصري على خلفية اللون، فضلا عن الاعتراف بجرائم التهجير القسري واللانساني التي تعرض لها أسلافهم بداية من القرن 17 من إفريقيا الى أمريكا. وبالتوازي مع هذا فرضت حركة الهجرة المكثفة من المستعمرات السابقة الى دول المتروبول واقعا سوسيولوجيا وسياسيا جديدا فرض على الديمقراطيات العريقة توسعة مجال الحقوق الفردية والجماعية ليشمل الاعتراف القانوني بالخصوصيات الثقافية القادمة من وراء البحار.

والى كل هذا تنضاف الضغوطات المتصاعدة للمجموعات اللانمطية Atypiques من اجل الاعتراف الرمزي والقانوني. وهذه الجماعات هي الحركات النسوية والمثليين الجنسيين والمهاجرين الغير شرعيينLes sans papiers ومن لا مأوى لهم Les SDF والمجموعات الافتراضية وأطفال الشوارع وغيرهم من المهمشين.

كل هذا الزخم وهذا الحراك هو الذي سيؤجج حينئذ قضايا الهوية والاعتراف في الفضاء الانغلوسكسوني.

• كيف تتأسس شرعية التعددية الهوياتية نظريا دون أن تتعارض مع قيم المواطنة التعاقدية وقواعد “الوفاق التقاطعي” ؟
• ألا يؤدي الاعتراف بالاستقلالية الثقافية الى تفتت الوحدة الوطنية وعودة “القبلنة” Retribalisation La (بنجامين بربار) و”حرب الآلهة” (فيبر)؟

I /السندات النظرية للتعددية الثقافية

ليس من العسير تخريج الدعائم النظرية لهذه التعددية الثقافية الناشئة Le Multiculturalisme، إذ يكفي أن نولّي وجهنا للنقاش الليبرالي/الجماعتي الشهير حتى نرصد أبرزها. وبإيجاز نقول أن الجماعتيين Les Communautariens بمختلف مشاربهم(تايلور/والزار/سندال/ماك انتير) وقسم من الليبراليين الجدد (كيمليكا /دوراكن/رولس الثاني/شارل لارمور/هابرماس(1) ..) باتوا أكثر اقتناعا اليوم بضرورة توسعة لائحة الحقوق الفردية وعدم كفاية الحقوق الإجرائية العقدية على غرار مبادئ العدالة الإجرائية كما أسسها رولس الأول.

يتوافق هؤلاء بأشكال متفاوتة حول مشروعية الاعتراف بالتعددية الثقافية وبحقوق الأفراد داخل المجتمعات الديمقراطية في الانتماء الى مرجعية ثقافية والولاء لها باعتبار:

• أولا: أن “الأنا ليس سابقا على غاياته”(2) كما يذهب الى ذلك رولس وبالتالي ليس منخلعا عن الأطر المرجعية السابقة عليه وليس “عائما في الفضاء”(3) . بل يوجد بدءا على هيئة “النحن” أي الغيريات التي منحته الوجود والمعنى. لا يمتلك الأنا أي قدرة ذاتية على فعل إيجاد ذاته، بل لا يكتسب صفة الانيّة قبليا بل بعديا أي بمعية الغيرية التي أوجدته.

• ثانيا: تتنزل الحقوق الفردية والميولات الفردية في إطار اجتماعي وثقافي معين. ولهذا فمن الخطأ الزعم بأن اختياراتنا الفردية يمكن أن توجد في حل من الارتباطات المجتمعية، لأننا نسبح في عالم قيمي موضوعي قبل أن نقتدر على وضع تصورنا القيمي الذاتي(جوزيف راز)(4) .

• ثالثا: لا تتحقق ديمومة “الحياة الجيدة” الفردية دون أن يكون للعدالة امتدادات ثقافية واجتماعية. إذ لا يكفي أن تتوفر شروط العدالة دون ان تتوفر حقوق الانتماء و الانفصال الثقافي(هابرماس). إن الإقرار بهذه الانتماءات هو شرط ضروري من شأنه أن يوطّن الحريات الفردية داخل أفق الدلالات المشتركة(5)Shared Meanings (تايلور). بحيث لن ترتد إلى ضرب من النسبوية والتقوقع حول مفهوم أحادي وفردي للخير. فالتصورات الفردية للخير مطالبة بأن تنحو صوب التصوّر الجماعي وتتماهى به. الجزء مطالب بأن يتناغم مع الكل، وهذا هو شرط استقرار الحياة السياسية الجماعية. يجب أن تراهن الأولوية الممنوحة للعدالة على تحقيق خير دائم وليس فقط إبراز قيمة حرية الاختيار كما يؤكد ذلك وليام كمليكا(6) . وعلى منوال كيمليكا، يدافع دواركن (احد ابرز أتباع رولس) عن فكرة الحياة الجيدة الفردية معتبرا إياها شرطا لاستقرار المؤسسات القاعدية للعدالة. ففي نظره يتعيّن عل مبادئ الحق الصورية أن تكون مستندة إلى قيمة أخلاقية أصيلة وثابتة(7).

• رابعا: بإمكان نظرية حيادية الدولة La Neutralité de l’Etat عن كل تحديد للحياة الجيدة والخيرة، أن يخفي عن أنظارنا العنف الذي تمارسه بعض الطوائف والجماعات العرقية والأصولية الدينية على أفرادها. وعليه “فواقع التعددية”(8) لا يلزم عنه آليا فكرة التسامح، إذ قد توجد حالات من التعصّب والقهر داخل واقع التعددية. في غياب الدولة وحياديتها تنتهك حقوق الإنسان الأساسية. كيف ستتجسد هذه الحقوق في المشهد السياسي والمدني الانغلوسكسوني ؟

II/ الاستحقاقات الحقوقية والسياسية للاعتراف

بالتوازي مع الحراك النظري/الفلسفي الذي عرفته الساحات الجامعية بعد صدور “نظرية العدالة” لجون رولس 1971 يشهد المجال السياسي والمدني الانغلوسكسوني حراكا عمليا مداره تشريع حقوق الاعتراف بالاختلاف الثقافي والعرقي والديني واللغوي وبحقوق الانتماء الى هوية-أم سابقة على المواطنة التعاقدية. انطلق هذا الحراك فعليا بمناسبة انعقاد أول مؤتمر خاص بحقوق الهويات. كان ذلك سنة 1967 بشيكاغوNational Conference for New Politics. وفي هذا المؤتمر هيمن اليسار الأمريكي على أشغاله بزعامة ” القوة السوداء” Black Power وعلى رأسها مارتن لوثر كنغ. استطاع هذا التيار أن يفرض على أجندا المؤتمر قضايا “التعددية الثقافية”(9) وديون ما سمي ب”النكبنة”(10)”Victimisation” في حق الشعوب والأمم والأعراق الأصلية المضطهدة. يفيد مفهوم “النكبنة” إشهار مشاعر الاضطهاد والضيم التي عانت من ويلاتها بعض الأعراق والأمم والديانات سواء بما تسلّط عليها من اجتثاث من مواطنها الأصلية من قبل الغزاة (حالة الامرنديين في أمريكا والكندا واستراليا ) أومن تشريد وتنكيل (حالة اليهود في ألمانيا النازية) أو من تهجير( حالة الشعب الفلسطيني) أو من ميز عنصري( حالة السود من أصول إفريقية في أمريكا)، ومن ثمة مطالبة الأطراف المعنية الاعتراف أولا بهذه المظالم التاريخية، وفي مرحلة ثانية الحصول على تعويضات مادية.

يعتبر تايلور أن مشاعر “النكبنة” التي لا تفتأ هذه الأعراق والأمم في إذاعتها وإشهارها لا تستبطن بالدرجة الأولى “نوايا ابتزازية” كما يميل إلى ذلك تودروف(11)، لأن مجرّد التعويض المادي عن هذه المظالم التاريخية لا يمكن بأي حال أن يزيل الأحكام المسبقة والنظرة الازدرائية والاحتقارية الراسخة في الأذهان والمتوارثة عبر الأجيال. يقول تايلور في هذا السياق ما يلي: ” بإمكان شخص ما أو مجموعة ما(..) أن يصاب بضرر أو تشوّه حقيقي إذا بث المجتمع المحيط في روعه صورة محدودة وحقيرة ومهينة عن ذاته. فعدم الاعتراف أو الاعتراف المنقوص يمكنهما أن يسببا ألما وشكلا من الاضطهاد، وذلك بإرغام البعض على تحمّل شكل خاطئ ومشوّه ومحدود من الوجود”(12).

تتلخّص استحقاقات الاعتراف في البحث عن طرق الاندماج في مؤسسات المجتمع الأمريكي ونسيجه التربوي والثقافي: الانتماء إلى نفس المدارس التي يؤمّها البيض “وإدراج المقررات الافرو- أسيوية في المدارس التي يؤمّها التلاميذ السود”(13). وهو ما حدث بالفعل في أمريكا(14)، وحق المشاركة في الحياة السياسية وخاصة تغيير النظرة العنصرية والقيمية الجماعية التي تتعامل مع السود واليهود على خلفية انتماءاتهم العرقية والدينية(15). بيد أن بقايا السكان الأصليين من الامرنديين لم ترضيهم هذه الاعترافات الاندماجية، بل وصل الأمر الى حد إعلان جمهورية Lakota المتكونة من 200 الف هندي جمهورية مستقلة وتابعة فيدراليا للولايات المتحدة الأمريكية سنة 2007. أما في الكندا فقد تشكلت لجنة تقصي الحقائق حول الإبادة الجماعية التي تعرض لها السكان الأصليون أي الامرنديين او الاوتوكتونLes autochtones كما يسمونهم الكنديون الغزاة سنة 2008.

بيد أن مطالب الاعتراف لا تتوقف عند حدود التعويض المادي للضحايا أو الاعتذار الدبلوماسي المنمق، بل يراد منها تشريع قوانين خاصة وملزمة من قبل دول الاضطهاد تعترف بذاكرة الشعوب التي نكبتها وأخرتها لعقود عن التطور والنمو الطبيعيين. يطلق على شكل الاعتراف هذا “بقوانين الذاكرة المضطهدة” Les lois mémoriellesمثال مطالبة ايرلندا بريطانيا بالاعتراف بذاكرتها النضالية وتثمينها وكذلك الشأن بالنسبة للمحرقة اليهودية والمجزرة الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي وفي الآونة الأخيرة نتابع الضغوط الفرنسية على تركيا من اجل سن قانون يجرم من ينكر المجزرة الأرمينية التي راح ضحيتها زهاء المليون ومائتي ألف ارمني بين سنة 1915 و 1916 على يد القوات العثمانية. والقائمة لا تزال مفتوحة. إذن ضد سياسات الإنكار والتعتيم والتضليل او ما بات يعرف بالنزعة “النفيية” Le Négationnisme تنتفض ذاكرة الشعوب وتطالب مؤرخو وحقوقيو الدول المضطهدة (الاستعمارية) أن ينصفوا الذاكرة الوطنية والنضالية للشعوب التي استعمروها وان يكفوا عن تزييف التاريخ واضطهاد الذاكرة المنكوبة. ولا شك أن اعتراف نوعي كهذا من شأنه أن يفصح عن ذاكرة هذه الشعوب ويؤسس لسردية كونية تتعظ بالماضي لأجل التسامح في الحاضر لا لأجل التقوقع الهوياتي أو الانتقام المؤجل من الآخر. الاعتراف بهذا الشكل هو إصلاح للذاكرة الكونية وتنقية للتوترات التاريخية العالقة بين الشعوب المستعمرة والمستعمرة وفتحا لأفاق كونية متجددة.

يتضح الآن أن التوجهات الجديدة للفلسفة الانغلوسكسونية باتت لا تمانع قران الدفاع عن حقوق الأقليات بالاتجاه العام للدولة الليبرالية. أضحت الدولة الليبرالية مطالبة إذن بالحدّ من حياديتها ولامبالاتها إزاء القضايا الهوياتية ونماذج الحياة الجيدة. و يتمثل تدخّلها هنا في مجال تشريع الاعتراف بالواقع الثقافي التعددي باعتباره جزء لا يتجزأ من واقع التعددية السياسية والأخلاقية. يشكّل هذا الحضور ضمانة قانونية للحقوق الثقافية للأقليات المضطهدة بعدما تبيّن أن هذه الانتماءات هي شرط من شروط الحرية الفردية(16).

وبذلك تحوّلت مسألة الاعتراف بحقوق الهويات الثقافية المتمايزة داخل النسيج التعددي للمجتمعات الديمقراطية إلى مقوّم من مقومات العدالة والتسامح. يقول رونالد دواركن: ” يجب الدفاع عن التسامح الليبرالي لا كإحدى دلالات الديمقراطية، بل كمسألة مرتبطة بالعدالة”(17). ويعني هذا أن مبادئ العدالة ذاتها لا تزدهر إلا في إطار ثقافة معترف بها، بحيث لا يستطيع الليبراليون أن يرفضوا منح الأقليات الثقافية “تأشيرة “الاعتراف القانوني مخافة أن تتحوّل هذه الأخيرة إلى حركات انفصالية أو “هووية” متطرفة. لكن هذا الاعتراف يفترض أن تعمل الاقليات الثقافية داخل النسيج التعددي وأن تحافظ على وحدته بإثرائه لا بتمزيق عراه وأواصره أو بادعاء التفوق الثقافي أو العرقي ثم المطالبة بالانفصال السياسي.

من تداعيات هذا الاعتراف توسعة مفهوم المواطنة حتى يستوعب الأنماط الجديدة من المواطنين القادمين بطرق الهجرة أو المعترف بهم حديثا ضمن ما يسميه تايلور ب”المواطنة المتعددة الثقافات(18)””Citoyenneté multiculturelle أو ما تطلق عليه ج. نوتنس G. Nootens ب”المواطنة الاختلافية (19)” Citoyenneté différenciée “” . ويفيد هذا بداية التخلّي عن مفهوم المواطن الغربي الأصيل(الرجل الأبيض)، ومن ثمة الاعتراف بأنماط أخرى من المواطنة ظلت إلى زمن بعيد في عداد النسيان والاحتقار. إضافة إلى “الإقرار بحدود الحرية التعاقدية وأهمية الخير المشترك”(20).

II/ تداعيات الاعتراف

أثارت سياسات الهوية المتنامية في المجتمعات الانغلوسكسونية سيلا عارما من الهواجس اختلفت صياغاتها واتفقت مضامينها. وفيما يلي نعرض عينات من هذه الهواجس: ” كيف يمكن للمجتمع الليبرالي أن يشتغل بالتعددية والتنوع الثقافي وأن يضمن حماية الثقافات الأقلية، وبعبارة أخرى كيف يمكن للمجتمع الليبرالي أن يحمي هذه الثقافات الأقلية والحال أن المبادئ الليبرالية التي قام عليها صرحه واعني مبدئي المساواة والاستقلالية تحتم عليه معاملة المواطنين وفق مبادئ المساواة والعدالة القانونية لا وفق انتماءاتهم الثقافية أو العرقية أو الدينية؟”(21).

هل تقوم التعددية على فكرة التسامح أم على التقاطع ؟(22)، ألا يوجد تناقض بين الدعوة للكونية والدفاع عن الهويات؟(23)، هل بالإمكان تخيّل “مواطنة- تعددية”” Citoyenneté -plurielle” تضع في الاعتبار تعددية الموروث الثقافي للمجتمع؟(24). وبعبارة أخرى هل يتعيّن الاختيار بين انتماءات حرة ومتغيرة وبين الهويات الموروثة والمفروضة؟ وكيف يمكن دمج حقوق الأقليات في النسيج الليبرالي؟

نبّهت هذه الهواجس المكثفة والمتنامية إلى المخاطر الممكنة التي قد تهدد مقومات الديمقراطية الليبرالية. وبالإمكان أن نبوّب هذه المخاطر المحدقة في ظاهرتين: الانكفاء الهووي (الانكماش الهوياتي) وتفكك الوحدة الوطنية.

أ- الانكفاء الهووي

يتحدد معنى ما اصطلحنا على تسميته ب الانكفاء الهووي Crispation identitaire في مظاهر وسلوكات متعددة من أبرزها:

• التقوقع على الذات إما بادّعاء الطهرية العرقية والدينية ( حالة الشعب اليهودي) وبالتالي رفض الاندماج والانصهار في مجتمعات العالم، أو خوفا من ضياع الهوية المكتملة والمغلقة. ونسوق في هذا المضمار ادّعاء الأصولية الإسلامية اكتمال الهوية العربية- الإسلامية منذ ما يزيد عن أربعة عشرة قرنا، وعدم حاجتها للانفتاح على الحضارة الغربية والتثاقف معها والمحافظة باستمرار على طهرية هذه الهوية ونقائها من كل العناصر الدخيلة. وبهذا تحوّل الأصولية الدينية الهوية من سجل الانفتاح والاعتراف بالغيرية إلى سجل إيديولوجي محض تنقلب فيه الهوية إلى “هووية”” Identitarisme “ويتحوّل فيه الإسلام إلى “أسلمة”(25) Islamisation ” ” .

• ويعبّر الانكماش عن نفسه أيضا في كره الأجنبي L’Xénophobie وملاحقة المهاجرين بالقتل العنف،( حالة الحركات العرقية اليمينية المتطرفة في ألمانيا وفرنسا مثلا).

• ويتجلّى أيضا في المنزع الانفصالي الذي يراد به الاستقلالية واثبات الكيان ورفض الذوبان داخل هوية طاغية: مثال رغبة الكيباك في الانفصال ثقافيا عن الكندا. (او كما هو الحال في الشيشان والتبت والأمازيغ في الجزائر ).

• وليس هذا وحسب، بل نستحضر من تاريخنا المعاصر وضعيات قصوى لهذه الانكماشات الهووية، ونعني بها التطهير العرقي للخصوم( مثال ذلك تصفية البوسنيين عرقيا من قبل الحركة العرقية الصربية، والتصفية العرقية التي تشهدها القبائل الإفريقية ولا سيما في رواندا والصومال وغيرهما)(26).

ب/ تفكك الوحدة الوطنية

إن تعزيز المجموعات اللانمطية قانونيا ومنحها هامشا من الاستقلالية والمناورة قد يؤدي إلى النتائج التالية:

• تأجيج التنافس بين الأقليات العرقية والدينية وبالتالي رفض الاختلاط بالآخر والمطالبة بالطهرية العرقية والدينية.

• الاستعاضة عن فكرة “الاستحقاق الديمقراطي”(27) القائمة على مبدأ المساواة بين المواطنين بفكرة الولاء أولا لقيم العشيرة والقبيلة.
وهنا لا بد من التساؤل: هل بإمكان مطلب الاعتراف بالتعددية الثقافية أن يكون محايدا عن التصور الأيديولوجي الجماعاتوي أي التصور الذي يصفه بيار اندري تاغييف ب” العنصرية الثقافية الاختلافية الجديدة(28) ” Néoracisme culturel et différentialiste “

• وعلاوة على هذا الاعتراض يرى البعض الآخر أن الاعتراف القانوني بهذه الكيانات يعني حماية طقوسها وعاداتها وقيمها حتى ولو تعارضت مع حقوق الإنسان ومع الأعراف الأخلاقية والاجتماعية. وفي الواقع لا يؤدي هذا الاعتراف إلا إلى تثبيت هذه الجماعات داخل فكر هوياتي
و” ثقافوي” مغلق(29). وإذا أدركنا أن هذا “التثبيت(30)”Fixation يتعارض جوهريا مع مطلب المواطنة الديمقراطية المتعالية عن الخلفيات الإنتمائية، نفهم أن “سياسات الهوية” باتت تمثل خطرا على القيم الليبرالية الديمقراطية، لأنها تهدد هذه المجتمعات “بإحياء الروح القبلية”(31)، وتشعل بالتالي فتيل الحروب العرقية والثقافية الأهلية وتغذي تبعا لذلك ما عرف بـ “صدام الحضارات” والثقافات(32).

تمثل “سياسات الهوية” إذن خطرا متعدد الزوايا، فعلاوة على “التثبيت” و”القبلنة”، بإمكان هذه السياسات أن تدمّر الشروط الكونية للحرية والمساواة، حيث يصبح لكل جماعة مفاهيمها الطائفية للحرية والمساواة وقد يمنحها هذا سلطات دستورية لمزيد من الهيمنة والوصاية على أفرادها وأنصارها.


الهوامش:

(1) Voir à titre d’exemple la nouvelle attitude relative aux droit culturels des minorités chez : Jürgen Habermas, “Le Multiculturalisme : les différences culturelles concernent-elles la politique ?”, in Une époque de transitions, Traduit de l’allemand et de l’anglais par Christian Bouchindhomme, Fayard, 2005. p p.219-220.
(2) J.Rawls, Théorie de justice, Trad .fr. Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987 .
,p.560
(3) يعتبر ساندال أن ما قام به رولس هو المرور من تصور للشخص يقوم على التعالوية في الكانطية إلى آخر يقوم على الاجتثاث واللاتعين أنظر:
M.Sandel,” La république procédurale” , in André Berten, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens, op.cit, p.262..
(4)Joseph Raz, ” A liberal Perspective ” , in Ethics in the Pubic Domain, Oxford, Clarendon Press, 1994, citée in Jürgen Habermas, “Le Multiculturalisme : les différences culturelles concernent-elles la politique ?”, in Une époque de transitions, op.cit., p.219-220.
(5) Taylor,” Interpretation and the Sciences of Man”, in Human agency and Languag ” Philosophical Paper I, Cambridge University Press, 1985., p.22.
(6) André Berten, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens, p.4.
(7) Ibid.,p.4
(8) John Rawls,”L’idée d’un consensus par recoupement”, op.cit., p.246.
(9) Micheal Walzer , Traité sur la tolérance , op. cit ., p.139 .
(10) Tzvetan Todorov , « Du culte de la différence à la sacralisation de la victime », op.cit,. p. 96.
(11) Ibid., p. 96-97.
(12) Charles Taylor , Multiculturalisme , op .cit ., p .41 –42 .
(13) Charles Taylor , Multiculturalisme , op .cit ., p.89-90 .
(14) ينقد مايكل فالزر طريقة الإدماج هذه لان “المدرسة مطالبة بالحياد عن الجماعات ..” وعن الثقافات العرقية ، ولا سيما في الولايات المتحدة التي تتميز بالتنوع المذهل . أنظر :
Micheal Walzer , Traité sur la tolérance , op. cit ., p. 159 .
(15) Michel Feher , ” Sur quelques recompositions de la gauche américaine ” , op. cit., p .62 .
(16) Dominique Schnapper, ” Le communautarisme est-il une fatalité ? “, in Le Nouvel Observateur, n° 1993 du 16 au 22 Janvier 2003.
(17) Renald Dworkin, ” Deux conceptions de la démocratie ” , in L’Europe au soir du siècle…op.cit., p.135.
(18) Jürgen Habermas, “Le Multiculturalisme : les différences culturelles concernent-elles la politique ?”, op.cit., p. 214.
(19) Geneviève Nootens, ” Multiculturalisme et tolérance.. “, op. cit ., p. 153.
(20) Thomas Moody , ” Some Comparisons between liberalism and an Eccentric Communitarianism” , op. cit., p.96 .
(21) H . Poutois, ” la société libérale face au défi du pluralisme culturel “, op.cit., p.6.
(22) Christian Ansperger et H . Poutois” Raison , sphère publique et défi du pluralisme ” , in Revue philosophique de Louvain, N°1, Février,2000 , p.5.
(23) Wayne Norman, ” Les paradoxes du nationalisme civique “, in Charles Taylor et l’interprétation de l’identité moderne, p.163.
(24) M.Elbaz, Mondialisation, Citoyenneté et Multiculturalisme, Avant propos, p. 2.
(25) F. Triki, la Stratégie de l’identité , op. cit., pp .90-91
(26) يقول بن عاشور في وصفه لتصاعد التوتر بين الهويات أن ” الحرب لم تعد الآن بين الدول بل بين الحضارات والهويات ” . أنظر :
Yath. B. Achour, ” la Mondialisation et les grandes peurs du VV siècle”, in Boutros Boutros- Ghali Amicorum discipulorumque liber, Bruylant, Bruxelles, 1998, p 937.
(27) Pierre – André Taguieff, La république enlisée. Pluralisme, « communautarisme » et citoyenneté, Paris, Editions des Syrtres, janvier 2005, p. 58.
(28) Ibid., p.120.
(29) J.Ranciére ” Citoyenneté , culture et politique ” , op .cit ., p.64
(30) D. Weinstock , ” La problématique multiculturaliste “, in Histoire de la philosophie politique, dirigée par A. Renaut, op. cit., p.450.
(31) B. Barber , ” Face à la retribalisation du monde “, in Esprit, n° , Juin 1995, p. 137.
يقول بنجامين بربار في موقع آخر من هذا المقال ص. 136 : ” في هذا العالم المضطرب ، الفاعلون الحقيقيون ليسوا الأمم ، بل القبائل من كل نوع . إننا نرى العالم الذي تتكون منه تشكيلة الأمم المتحدة وقد بلغ ألف أمة قائمة على اصل عرقي . ”
(32) Samuel P.Huntington , ” Les trois choix de l’Amérique ” , in Le nouvel observateur 11-17 Novembre , 2004, p .52 .
في هذا المقال يبين هينتغتون أن التعددية الثقافية واللغوية وموجات الهجرة المتنامية للولايات المتحدة باتت تهدد الوفاق الوطني .