مجلة حكمة
النسوية واليسار: حوار مع ليندا مارتن ألكوف - ترجمة: وضحى الهويمل

النسوية واليسار: حوار مع ليندا مارتن ألكوف – ترجمة: وضحى الهويمل

نسخة PDF


   لقد تناول العديد من الكتَّاب القضايا الجندرية بوفرة عبر هذا الكتاب، وذلك بعد اطلاعهم على مشهد بناء التحالفات اليسارية، في حين نلحظ، نحن الداعمون للنظرية النسوية والمنخرطون في النشاط السياسي النسوي، التراجع المستمر للخطابات التي تتناول الجندرية لصالح أجندة سياسية يسارية إلى أنْ أصبحتِ “الجندرية” مسألة ثانوية أو لاحقة مقارنة مع القضايا الجوهرية أو المركزية، مع استمرار اتخاذها مَطِيَّة لاسيما عندما تتماشى مع غايات سياسية أخرى.

     ونظرًا لحدوث ذلك ضمن سياقات ودواعٍ لا حصر لها، وجدتُ أنّ من المهم الإحاطة بمثل هذه القضايا المُلْتبسة عبر ختمِ الكتاب بحوار مع الصديقة والباحثة [ليندا مارتن ألكوف] المعروفة بإسهاماتها في تحديد أُطر العلاقة بين النظرية والممارسة إضافةً إلى مساعيها المستمرة لبناء تحالفات تنطوي على “الجندر” باعتباره طرفاً رئيسياً يتقاطع مع أشكالٍ أخرى للاضطهاد، بل قد يكون الطرف الأهم لما له من أثرٍ علينا نحن اليساريين حسبما أوضحت لنا في أعمالها.

    لقد كان لي شرفُ مشاركة [ألكوف] النشاط َفي مطلع التسعينات، حينما بدأت الأنشطة المناهضة للعنف المتفاقم ضد النساء في الجامعات تأخذُ حيزًا واقعياً. وكانت أغلب الشابات يخشين الإفصاح عن تجاربهن أو اللجوء إلى القضاء المنحاز بدوره للجاني، كما خشينَ مواجهة التستر المُمَارس في الجامعات ضد انتهاكات حقوق النساء خوفًاً على سمعة الجامعة ومنعاً لتراجع معدلات الإقبال عليها.

   كنا ومازلنا نؤمنُ أنّ أصوات (النسوة) اللاتي نجيْنَ من الاعتداءات الجنسية تمتلك قدرة كبيرة على مواجهة هيمنة الخطابات القمعية. وأدركنا من واقع مشاركاتنا ــ فضلاً عن النشاط السياسي أيضاً ــ أّن ممارسات التخميد للقضايا الجندرية لا تقتصر على الفصائل المحافظة وحسب، بل كثيرًا ما تبدر عن جماعاتٍ تتبنى خطابات سياسية نقدية نتفق معها بالعديد من الأهداف، وكان الخطاب اليساري من بينها غالباً، وتبعًا لذلك باتَ من الصعب ربما ردمُ الصدع الذي أخذ بالاتساع بين أهداف النسويين واليساريين.

    نتناولُ في حوارنا التالي مع [ليندا مارتن ألكوف] الدراسات النسوية في الولايات المتحدة في وضعها الراهن، وكيف تقرأ العلاقة الخاصة بين النسوية واليسار ضمن إطارها التاريخي، وأين تكمن هذه العلاقة في حياتها الخاصة وفي مجال دراساتها، وما المشاكل المنبثقة عن محاولاتنا لبناء التحالفات، وما الذي يساعدنا على بناء علاقات أكثر إنتاجية بين النسوية واليسار.

 1/ لورا: أعلم أّنه سؤالٌ مستحيل، لكنني سأطرحه على أيّة حال. كيف تقرئين الوضع الراهن للنسوية في الولايات المتحدة، وما الصدوعُ، والإشكاليات المهيمنة على المشهد؟

     ليندا: إنّ الصعوبة ليست في قراءة المشهد الراهن للنسوية، بل في تشخيص الإشكاليات أو تحديد ملامح العوائق. فمن المفارقات التي يتصف بها الوضع الراهن أنّ تأثير النسوية يتنامى على الصعيد الثقافي رغم الهجوم المتصاعد والشرس الذي تتعرض له من قبل عناصر لها وزنها داخل الحكومة والإعلام وقطاع الثقافة. وقد أُدرجَ مصطلح “قطاع الثقافة Cultural Industry” في كتاب جدل التنوير لـ ’هوركهايمر وأدرونو‘ ويقصد به استخدام الأفلام والإعلانات والبرامج والمجلات.. إلخ، كأدوات لإنتاج ثقافة شعبية ما.

   ويمكننا تعريف “النسوية” على أنها الإقرار بمساواة النساء للرجال في الحقوق والخيارات، والاعتراف بأهلية النساء للعمل في جميع مجالات الحياة. ويتضح لنا من تعاقب الأجيال النسوية أن التمسك بتلك المعتقدات مازال راسخاً، فإذا نظرنا إلى التعليم العالي نجد أن نسبة النساء تفوق نسبة الرجال، كما نلحظ تزايد معدل التحاقهن بتخصصات هامةٍ كالقانون والطب.

    أما بالنسبة لارتفاع معدلات الطلاق والتي يعزو المناهضين للخطاب النسوي أسبابه إلى النسوية، فقد يكون ذلك صحيحًا! ولكن ضمن سياقٍ مختلف عمّا تشير إليه تلك الخطابات المناهضة، بمعنى أنّه أصبح من السهل علينا اليوم، نحن النسوة، إعالةَ أنفسنا وأطفالنا والتخلّص من الزيجات الفاشلة، مقارنةً مع فتراتٍ خلت بوجود القوانين التي تدعم النساء الحصانة ضد التمييز، وتحرمها من المساواة في مجالات العمل، مما أدّى إلى اتساع حرية رفض النساء للأزواج المتسلطين والمعنّفِين، إضافة إلى رفض الخنوع للنظرة الجنسية الدونية الممارسة ضدّهن، مما انعكس بدوره بالضرورة على بناء معتقدات الأطفال والأجيال القادمة وصياغة مفاهيمهم حول المرأة والرجل. إلا أنّ هذا التحول الثقافي المتدرج هُوجِمَ على عدّة جبهات:

    فالإعلام يقدّمُ النسوية على أنها “علم الضحية”، ما جعل النساء اللواتي يؤمنّ بكفاءتهن وأهليتهن يصَنَّفنَ ببساطة كمناهضات للنسوية، ولسنَ بنسويات. وغالبًا ما تنجح المناهضات للنسوية في إظهار أنهن نسويات حقيقيات يرفضن تصنيف النساء كضحايا.

    فالحركة المناهضة للعنف الجنسي بتصورهم تُعزز فكرة أن المرأة ضحية، على الرغم من أن نضالنا، كما نعلم، يهدفُ لوضع حدٍّ للعنف الممارس ضد النساء، وبدلاً من دعمِ هذا النضال يعمدُ المناهضون للنسوية إلى الاستخفاف باستفحال العنف الجنسي الذي تواجهه النساء من كافة الأعمار، ويرفضون التمييز الإيجابي كتسوية، ويهاجمون النقد والتحليل الثقافي باعتبارها قيوداً سياسية على الحرية الفكرية، بل ويصرُّون على أن الضحايا الحقيقيين هم الذكور البيض الذين وجِدوا ليشعروا بالخطيئة تجاه طبيعتهم العدوانية. فلا تزال كلمة “النسوية” بذلك ــ وكما كانت دائمًا ــ تحمل في حقلها الدلالي مضامين سلبية مؤثرة باتساقها مع الواقع.

    ولا ننسى كذلك تهميش حقوق النساء الإنجابية والآثار الجسيمة المترتبة على ذلك، فالنساء اللواتي يُجْبَرنَ على الأمومة مع عدم قدرتهن على حمل الأعباء الاقتصادية والعاطفية اللازمة لمواجهة ذلك، تصبح حياتهن غالباً مرتهنة ومهددة على المدى القصير، كما تتقلص فُرصهن بالمشاركة في بناء المجتمع والقيادة السياسية والتنظيمات النقابية، والإصلاحات الاجتماعية الأخرى.

    وفيما يتعلق بالإجهاض القانوني، فقد حافظت النسوية على دعم أغلبية ضئيلة من عموم السكان، لكنها عجزت عن حشدهم بهدف إجبار الكليات الطبية على تعليم عملية الإجهاض، ولم تتمكن بعدُ من توفير موانع مجانية للحمل داخل المدارس، ولا من الحصول على الخدمات الإنجابية الكاملة للنساء الفقيرات، ونساء الريف، وللنساء في كل ولاية ببساطة.

 إنّ الوضعَ هنا معقدٌ بعض الشيء، حيث نجد أن قطاع الثقافة يسعى لاستخدام النسوية بالشكل الذي يمكّنهُ من تنشيط تجارة بيع الأحذية الرياضية للنساء في الوقت ذاته الذي يعمل فيه على تسليع واستثمار المرأة جنسياً بهدف كسب العوائد الربحية الهائلة.

    كما تعمل على طرح برامج تعزز من امتهان المرأة جنسياً مثل The Bachelor  وThe Man Show؛ حيث أصبح تحقير النساء من أساليب العصرنة المتَّبعة حديثاً، في حين لا نرى بالمقابل برامج تعزز مفهوم النسوية عبر وسائل الإعلام، بل تنحصر برامج النساء في: نصائحٌ حول الموضة، وحزمة من أفلام تشيك فليكس ( ” chick flick” وصف رائج يُطلق عادة على نوع الأفلام التي تتناول العلاقات الرومانسية وقصص الحب والتي تستهدف بطبيعتها النساء على افتراض أنهن الطرف المسؤول عن إنجاح العلاقات)

    ويبدو لي لدى استعراض المشهد على نحو أيديولوجي، أنّ النسوية بحاجة لإصلاح جانبين مهمين، يتوجب العمل عليهما وفق مقاربة ليبرالية وليست يسارية. يتصدّر هذان الجانبان الواجهة العامة للنسوية والتي تخلت، رغم امتلاك الكثير، عن الحس الأخلاقي. فالجدل حول الحقوق الإنجابية، والفرص الوظيفية… إلخ، تنضوي جميعها تحت مسمّى حرية الاختيار، بمعنى أنّ حرية الاختيار ضمن النطاق الخاص تتضارب مع النطاق العام داخل التنظيم الحكومي، نظراً لأن الجمهوريين كسبوا بالأساس المعركة لتمثيل سياسة حكومية وقائية ــ باستثناء المؤسسة العسكرية بالطبع ــ ”وفق قاعدة: مدانٌ لحين ثبوت براءته“.

     ولأن النطاق الخاص للخيار الفردي يعتبر المجال الوحيد الملائم للقرارات الأخلاقية، لا يستطيع النسويون الليبراليون أن يستندوا في مطالباتهم إلى حجج أخلاقية دون استحضار أخلاقيات الفرد، وهذا غير كافٍ وغير ضروري، بل وغير صحيح! وقد ثَبت ــ على نحو مأساوي ــ أن مقاومة الفضيلة الأخلاقية للنشطاء المناهضين للإجهاض بدعوى حرية الاختيار الليبرالية، غير ملائمة، فإذا كان الفرد يعتقد حقاً أنّ الاجهاض أمر غير أخلاقي على الدوام، سيدفع به ذلك إلى مقاومته تحت أي ظرف من الظروف، أو إلى المجازفة بفقدان شعوره تجاه نفسه كفرد أخلاقي. ولا نختلف على أن جوهر حركات اليمين المسيحي يتمحور في الواقع حول الأخلاق، وتسعى الفصائل داخله إلى تعزيز منطلقاتها الأخلاقية وطرد ما يمليه السوق من جشع وأنانية ورفاهية، وتعميم ذلك على شتى نطاقات حياتهم.

     لقد ارتكب الليبراليون خطأً جسيماً في تنازلهم عن الأرضية الأخلاقية لصالح اليمين، ولم يتوانَ الأكاديميون من النسويين الليبراليين عن نقد “الأخلاقية” أو أي خطاب يتصل بها، أو يمثل عبارة ”ما ينبغي“، وأنا لا أدعو هنا لاستغلال المنطلقات الأخلاقية بغرض استمالة الناس بها، ولكن يجب أن نقرّ بأنها كانت الأفضل بين منطلقاتنا وعلينا أن نكون صريحين حيال ذلك. يمكن حبس الدين ضمن خيارات النطاق الخاص، ولكن يصعب عزل الأخلاق عن النطاق الخاص دون حدوث تناقض أو تضارب، حيث أنّ دعوى خصخصة الأخلاق هي دعوى مرتكزة بحد ذاتها على منح التقييم الأخلاقي الأعلى لاستقلالية الفرد.

    وأظنُّ هنا أن التحليل الاجتماعي اليساري أكثر إقناعا من الليبرالي، إذ يعتقد الليبراليون أننا نستطيع إبقاء الحكومة بعيدة عن مهمة تشريع الأخلاق، ولكن، وفقاً لماركس، فإنّ الحكومات، والأنظمة الاقتصادية للمؤسسات هي التي تجعل من الأخلاق أمراً ممكناً، وهي التي تجعل بعض الخيارات الأخلاقية متاحة، والبعض الآخر منها أمراً مستحيلاً، أو نحو ذلك. وبالتالي نحتاج من منطلق استحالة تفادي تعزيز بعض القيم الأخلاقية، أن نجعل منهجنا ديمقراطياً وخاضعاً للمحاسبة والتعليل، بدلًا من تفادي ذلك كلياً.

   ويأتي بعد ذلك الجانب الآخر المتعلق بالأعمال المحصورة بالنوع الاجتماعي أو الجندر، فالتصنيف وفق الوظائف، والقيمة المتدنية لتلك الوظائف المحصورة بالإناث تعتبر سبباً رئيسياً لاستمرار التخلّف الاقتصادي للمرأة مقارنة مع الرجل، فقرابة 80٪ من النساء العاملات يشغلن وظائف محصورة بالإناث، كالحياكة، ورياض الأطفال، والتمريض، والتعليم، والتنظيف، ولن يتحقق الإنصاف بالأجور إلا بتعديل وصف تلك الوظائف بشكل جذري، أو الاقرار بصعوبة تلك الوظائف، ومنحها قيمتها الحقيقية ضمن سلم الأجور. وينحصر تأثير البرنامج الليبرالي الخاص بدفع المرأة إلى العمل وتمكينها منه، ضمن أقلية صغيرة من نساء الطبقة المتوسطة وما فوق المتوسطة، في حين أن اللاتي يعملن بالتمريض المنزلي، ومراكز العناية النهارية (يمكن أن تحصل المرأة بسهولة على العمل في كلا القطاعين دون أي مؤهلات) يتقاضين أجراً منخفضاً عموماً لا يغنيهن عن طلب الإعانة الحكومية في حال كنّ أمهات عازبات. وتعادل خطورة هذه الوظائف خطورة العمل في التنقيب عن الفحم( تصاب العاملات بالتمريض المنزلي عادة بالبكتيريا ويتوجب عليهن حمل أوزان ثقيلة باستمرار) كما أنّ صعوبتها تماثل صعوبة إدارة أي مصنع؛ تصوَّري أنك مسؤولة عن رعاية أحدهم لمدة خمسة أيام في الأسبوع، لما يقارب أو يتجاوز عشرة ساعات يومياً!.

    يواجه اليساريون في بعض الأحيان مشكلة أثناء معالجتهم لتلك الصعوبات التي تواجهها الملايين من النساء بالقدر الذي يواجه الليبراليين. فاليسار مستمر بالعمل وفق ذهنية الاختزال الطبقي التي تنخر بقدرته على تطوير ذاك النوع من التحليل الثقافي الذي يحتاجه الفرد لفهم وظيفة “الأيديولوجية الجندرية” في تنظيم القوى العاملة.

    وبالتالي نجد أن غالبية النشطاء النسويين ــ والذين هم على ما أعتقد ليبراليون غالباًــ ينحصر تركيزهم على الطبقات العليا من النساء العاملات، فيما ينحصر تركيز اليساريين على طبقة لا تختلف كثيراً، لتبقى غالبية النسوة العاملات مهمّشة. وأود هُنا أن أُشير إلى استثناءين: أولاً، الحركة على الصعيد الأكاديمي، حيث تقام كمية هائلة من البحوث والدراسات الممتازة المتعلقة بالعمل و“الجندر” واتجاه الشركات العالمية إلى استخدام إيديولوجيات جنسية متحيزة لمضاعفة استثماراتها، وصراع العمالة الوافدة/المهاجرة من ذوي الأجور المتدنية… وما إلى ذلك.

    وثانيًا: الحركة العمالية، ومساهمة شريحة كبيرة منها في توضيح دور كل من الجنس، والعرق، والهجرة في خلق ما يعرف اليوم باسم فئة الطبقة الاجتماعية المتوارثة “ascriptive class segment“. يقسّم المجتمع في الاقتصاد السياسي الرأسمالي إلى طبقتين بشكل رئيسي وينحدر منهما تقسيمات فرعية تتأثر بصفات العاملين الموروثة والخارجة بالضرورة عن إرادتهم كاللون، والعرق، والجنس (المفهوم الذي يصبح فيه موقع الفرد داخل الطبقة العاملة رهناً به)، حيث بدأت بعض النقابات باستهداف الحملات المؤسساتية والعمل على تطوير تفاصيل العقود بشكل يساعد على إصلاح بعض سلالم الأجور الحالية للعاملين بمعزل عن صفاتهم الطبقية الوراثية. ويحتّم هذان الجانبان المفصليان (حاجة النسوية إلى خطاب أخلاقي، وأهمية معالجة الإصلاحات المطلوبة في موقع عمل النساء الفعلي)، ضرورة العمل على تعزيزهما في حال أردنا النهوض بالنسوية إلى مستويات أعلى وأبعد مما هي عليه الآن.

 

٢/ لورا: كيف تصفين العلاقة بوضعها الحالي والتاريخي بين “النسوية” و “اليسار”؟

     ليندا: بالطبع يعتمد هذا بشكل كبير، كما تعلمين، على تعريفنا لـ “الحركة النسوية” و “اليسار”. لاسيما أنَّ كلاهما يقع غالباً ضمن أكثرية بيضاء، ولم يتشكل مطلقًا داخل تنظيمات جموع الأقليات.

     ولا يزال معظم الباحثين والمختصين بتاريخ “الحركة النسوية” على سبيل المثال يميلون إلى تصنيفها على اعتبارها حركة تخص النساء البيض، متجاهلين بذلك دور النساء السود سواء في (لجنة التنسيق الطلابية السلمية SNCC ) أو (الاتحاد الحضري Urban League)، أو حتى نضالهن في البرامج والإصدارات التي تهدف إلى تمكين المرأة. إضافة إلى تجاهل نضال النساء من الأصول اللاتينية في منظمة [MEChA]واللاتي أدرجن مناهضة التمييز الجنسي ضمن برامجهن.

     ولا ينظر إلى هذه الجموع من “الأقليات” على أنها جزءٌ أساسيٌّ من الجموع المكوِّنة  لـ ”اليسار” في هذا البلد، بل إنّ أغلب تصورنا للحركة النسوية كذلك لا يشمل المنظمات العمالية التي تسعى لتمكين المرأة في مجالاتها التقليدية كالتمريض أو التعليم.

      وعلى الرغم من جهود هذه المنظمات ووصولها لمئات الألوف من نساء الطبقة العاملة، وسعيها لتأهيلهن ليصبحن منظِّمات، وقائدات، إضافة إلى دفعهن للانخراط ضمن التكتلات النضالية المطالبة بتقييم منصف للوظائف كالرعاية النهارية، والتمريض المنزلي، فإن الإعلام يصرّ على صبّ جلّ تركيزه على النسويات اللاتي يسعين لدمج أندية الغولف الخاصة بالنخبة. وكحاصلٍ لتلك التصورات المغلوطة على وجه التحديد تنحصر جودة العلاقات في العمل داخل الحشود، ويتقيد فهمنا الجماعي حول كيفية توحيد ودمج برامجنا بتنوعاتها وتعدديتها.

   لذا لابد أولاً من إعادة صياغة فكرتنا حول مفهومي “اليسار”، و”النسوية” من حيث تواجدهما اليوم.

   ولكي نقيِّم النسوية بوضعها الراهن تقييماً عادلاً لا بدّ من البحث ببساطةٍ عن المواضع التي يناضل فيها النساء حتى لو لم يكن ذلك النضال ضمن مؤسسات مكرَّسة لشؤون المرأة، وكذلك يتعين علينا أن نتبع مواضع التحديات أينما كانت داخل الهيكل الاقتصادي الحالي لكي نصل إلى تقييم منصف لـ “اليسار”.

    ويتجاهل الأكاديميون أحياناً هذه الكوكبة الشاسعة من الجموع والأنشطة بحجة أنها لا تفصحُ عن غايات يسارية أو نسوية. وربما لا يقدم الأفراد فيها أنفسهم على أنهم يساريون أو نسويون، ولكن هذا لا ينفي أنهم على قدر عالٍ من الإدراك لمفهوم كلفة التغيير الاجتماعي وعلى عاتق مَنْ تقع المسؤولية، وكيف تُمارَس السلطة على السكان من قِبَل مجموعة معينة.

   أنا مؤمنة جدًا بأهمية هذه النظرية وبحاجتنا الماسّة لمّن يقضون وقتاً ليس بالقليل لتطبيق نظرياتهم؛ بالنهاية أنا فيلسوفة، ولكنني بالمقابل مؤمنة بأن النظرية السياسية قد تكمن في العديد من الأماكن خارج حدود الكتب التي تتحدث عنها، ولا أعني هنا الآمال والتطلعات السياسية وحسب، بل أعني النظرية.

    وأذكرُ هنا على سبيل المثال أستاذ العلوم السياسية “هوراس كامبل” مؤَلَّف [Rasta and resistance]  وأستاذ العلوم الإنسانية والنظرية النقدية “آنتوني بوكز” مؤلف كتاب [Black Heretics, Black Prophets]والذي تناول فيه الحركات الثقافية الشعبية والمنهج الراديكالي للسود على ضوء شخصيات معروفة كالناشطة والصحفية “آيدا بي ويلز”.

    ووفقًا لذلك فإن كلاً من النسوية واليسار، قد يتشكل ضمن مؤسسات ويتجسد على هيئة ثورة اجتماعية أو ثورة ثقافية بعيدًا عن أي نطاق مؤسساتي. وتعدّ الحركة النسوية على أية حال لامركزية نسبيًا من حيث المبدأ. وبالنظر للسؤال المهم الذي طرحته عن العلاقة بين النسوية واليسار فالإجابة لها أبعاد مختلفة تتناول “اليسار” و“النسوية” ضمن سياقيهما وترصد العلاقات بتنوعها وباختلاف سياقاتها مع الصراعات الطبقية والجندرية.

 

٣/ لورا: ما الدور الذي لعبته علاقتك بـ“النسوية” و ”اليسار” على صعيد العمل والحياة؟ وما تبعات ذلك من الناحية الشخصية والسياسة؟

     ليندا: أعتقد أن تجربتي تمثّل إلى حدّ كبير العديد من نساء الجيل الذي أنتمي إليه واللواتي انخرطن في النشاط السياسي في مطلع السبعينات نتيجة سلسلة من الثورات الاجتماعية والأنشطة الجماعية التي زامنت نشأتها في الخمسينات والستينات، وبالفعل حالما غادرت البلاد انخرطت بالنشاط النسوي وأنشطة اليسار المتوسعة آنذاك.

     عندما غادرت بلدتي في ”فلوريدا”، والتحقت بالجامعة عام 1973م، كان الحراك الشعبي في أوجهِ، وذلك ضمن كوكبةٍ من التنظيمات داخل الحرم الجامعي وحوله. وكان اليسار المنظم ”organized left“  الذي يشير إلى منظومة من مختلف الجماعات ذات الجذور الماركسية، ينتقد الحركة النسوية آنذاك بوصفها “نسوية برجوازية”. وأذكر تلك النقاشات التي تكاد لا تنتهي حول شخصيات مثل “جولدا مائير”، أو ”أنديرا غاندي” وما إذ كنَّ قد تعرضن للاضطهاد؛ وحول جوهر النضال النسوي، وما إذ كان ذريعةً يراد منها مضاعفة نصيب النساء من كعكة الرأسمالية. وكان السؤال: هل واجهت النساء البرجوازيات بعضاً من التمييز الجنسي؟ هذا في حال أن التمييز الجنسي لم يكن حصراً على طبقة معينة.  حيث يعتقد الرجال من اليسار الجديد أن مظاهر الاضطهاد مقتصرة على نساء الطبقة العاملة فقط، وبالتالي لا داعٍ للتركيز على حقوق المرأة على وجه التحديد. ومن الأسباب التي أدّت إلى وصف النسوية بالبرجوازية أنها لم تطالب بإطاحة الدولة، بل كان جلّ تركيزها على المطالب الإصلاحية الخاصة بمسائل الإجهاض والمساواة بالأجور.

    وقد برز الدور الفعليّ للنسويات على المستوى المحلي من خلال العمل على إنشاء مراكز رعاية صحية للنساء، وإقامة ندوات نسوية معْنيَّة بتعليم وتثقيف وتوجيه النساء إزاءَ حياتهن الإنجابية، وكذلك العمل على إنشاء دورٍ لإيواء النساء المعنّفات، ومراكز حماية لضحايا الاغتصاب في محاولة لخلق فضاء آمن ومؤهل لاستقبال وإيواء ضحايا التعنيف الذكوري الذي مازال يتصدر الصحف والأخبار.

    وكانت هذه الجهود الإصلاحية داخل المؤسسات وليدة ما يعانيه مجتمعنا من أزمات حقيقية ولكن تلك المحاولات لم تلق حظوة عند بعض الطلبة من ذوي الامتيازات داخل تيار اليسار (وخاصة البيض منهم والأقليات على حدٍ سواء) فانتقدونا ولم يستسيغوا جهودنا تلك من منطلق أنها لم تكن [راديكالية] بالمستوى المطلوب، في الوقت الذي سعت فيه النسويات من طالبات جامعيات أو طالبات سابقات إلى توفير الخدمات الأساسية للمجتمع ضمن الطبقة العاملة، في الوقت الذي لم يكن ثمة من يعمل على توفيرها.

     ولا أقصد هنا الحطّ من هذا النقد، بل على العكس تمامًا؛ إنّ الدولة لم تغطِّ حتى الآن مثل هذه الخدمات في غالبية أطياف المجتمع. وتعتبر هذه الاجتهادات الإصلاحية النسوية بمثابة أنشطة تطوعية للنساء أدت إلى العديد من الإصلاحات العظيمة دون أي مقابل بغية التخلص من لوثة وهيمنة الأوليغارشية الأبوية. والجدير بنا العمل على تغيير طبيعة بنية السلطة في البلد وإلا  سنظّل ندفع ثمن فاتورة التداعيات والانعكاسات الفادحة الناجمة عن تدني الأجور والبطالة الجزئية والجشع المادي وغيرها من الإشكاليات المتأصلة بالنظام الاجتماعي الحالي. ولكن كثيراً ما استهان اليساريون من الذكور بالإصلاحات النسوية آنذاك، وعمدوا إلى التقليل من شأنها، ولا شك أن مصطلح “النسوية البرجوازية“ لا ينطبق على أغلبية الجماعات النسوية المحلية التي لم تكرس جهودها ووقتها من أجل دمج أندية الغولف.

    وكان الهدف مما أنجزته النسويات من مراكز رعاية صحية وملاجئ لضحايا الاغتصاب والتعنيف، هو إيواء النساء اللواتي عانين من الظلم والقمع لتأهيلهن وتفعيل دورهن داخل الأسرة وإعادة دمجهن بالمجتمع. في حين يعمد البعض من اليساريين للتساؤل عن غياب تلك النسوة عن الاجتماعات والندوات، ولو أنهم أمعنوا النظر قليلاً لأدركوا أنهن كنّ يصارعن صعوبات الحياة اليومية داخل بيوتهن في المجتمعات الذكورية.

    وعليه، نجد أن غالبية اليسار آنذاك كانت تمارس التمييز الجنسي بشكل جليّ عبر هيمنة أنماط ذكورية في القيادات وتقسيم العمل حسب الجنس داخل المؤسسات، وتجاهل الأنظمة اليسارية داخل الحرم الجامعي للاضطهاد الجنسي “الجندري” المُمارس. وكنت أعمل ضمن المجلس الاستشاري في [CPE] (وهي جامعة مجانية تتواجد في عدة أماكن عبر البلاد وتسعى لتوفير المصادر الفكرية للمجتمع بشكل مجاني)، وبما أنني كنت ناشطة داخل الحرم الجامعي دُعيت إلى المجلس بغرض المساعدة في التنظيم والإدارة فانحصر عملي بأعمال الأرشفة والردّ على الاتصالات وتوفير الملصقات. أما البرنامج الوحيد الذي طُلب مني تنظيمه فقد كان يوم المرأة العالمي حيث دعوت فيه ثلاث سيدات من قيادات اليسار إلى الجامعة.

    وكنت أبيع منشورات يسارية في ركن داخل مقر الطلبة في الحرم الجامعي ومن بينها كانت منشورات من جمهورية ألبانيا الاشتراكية تشير إلى الدور المجيد الذي تقدمه المرأة للاشتراكية من خلال إنجاب جيل من العمال الاشتراكيين! لقد كان اليسار حينها في أسوأ حالاته. ونتيجة لهذا الوضع انسحبت العديد من النساء من المجموعات التي يقودها أو يترأسها الرجال، وبات ذلك أمرًا مستساغاً كرد فعل على الاضطهاد الممارس عليهن. حيث بدأن الانضمام والتأسيس لمجموعات نسوية ومراكز رعاية صحية ومنظمات لحقوق الإجهاض ومكتبات …إلخ. ليتمكنَّ بذلك من تجنب الجدل اليومي حول شرعية مطالبهن ويتجنبن التعامل مع الرجال الذكوريين.

    ولم تكن معظم تلك النسوة من البيض أو من الطبقة الوسطى بل كن مجموعة متنوعة الطبقات متمثلةً بمجموعات نسوية مختلفة، وأذكر على سبيل المثال هنا:

   ( NARAL/ National Abortion Right Action League)والمعنية آنذاك بالدفاع عن حق الاجهاض، وحصرت جهودها في سبيل ذلك.

   – و(R2N2/ the Reproductive Right National Network)، المعنية بنيل الحقوق الإنجابية، ليتسنى للمرأة مكافحة التعقيم الممارس على النساء الفقيرات ونساء الأقليات، ولتحظى النسوة بحقهن بالإنجاب أو عدمه.

    كما أننا اليوم بحاجة لتحليلٍ طبقي بدلًا من التعامل مع المجموعات النسوية ككتلة واحدة، فبالرغم من نشاطي داخل بعض هذه المجموعات فقد اتجهت نحو منظمات تهدف إلى التغيير الاجتماعي علناً وبصورة أكثر راديكالية في شتى أطياف المجتمع الأمريكي وأردت بذلك أن أتوغل في مناهضة تلك الإشكاليات المتداخلة.

    لقد كنت مستاءة جداً من الإمبريالية الأمريكية المتفشية في أمريكا الوسطى، من فيتنام إلى السلفادور، وكرهت استعانتها بجنود أجانب تفادياً للحراك المحلي المناهض للتجنيد الإلزامي. وكنت في أشد حماستي لمناهضة العنصرية المقيتة ضد السود والمتفشية في الجنوب حيث ترعرعت، وكان يُقلقني الاستغلال الطبقي، ومما لا شك فيه أن هذه المخاوف رافقتني نتيجة جذوري اللاتينية وعلاقتي ببلدي “بنما” أحد فرائس الإمبريالية الأمريكية التوسعية، وارتباطي بفقراء الريف الجنوبي، ونشأتي وسط أسرة بين أفرادها بعض المتشددين البيض في حين كنت أنا نصف بيضاء، إضافة إلى تزامن تجربتي مع حقبة “جيم كرو” الفظيعة بتحولاتها البطيئة ونتائجها المحدودة بغية إعادة الدمج (الحقبة التي حظرت على الأمريكيين من أصول إفريقية حق الحصول على العمل، والدخول إلى الأماكن العامة كالمطاعم والفنادق والمنشآت الأخرى. وقد عاش السود، خاصة في جنوب الولايات المتحدة، في حالة رعب بسبب أعمال العنف العنصرية، وأُطلق عليها اسم “جيم كرو” نسبةً إلى شخصية كانت تُظهر السود بصورة نمطية سيئة في العروض المسرحية الغنائية إبان فترة التفرقة العنصرية).

    وكان موقف المنظمات اليسارية التي استرعت اهتمامي تجاه اضطهاد المرأة يؤكد على ضرورة التعامل مع الاضطهاد بشكل آني، على عكس بعض المجموعات الراديكالية آنذاك التي رأت أن تصعيد قضايا العنصرية والتمييز الجنسي يعتبر “انقساماً” أو إثارة للانقسام في حال التركيز على توحيد الطبقة العاملة، إذ كان موقفها يؤكد على حاجتنا للانتظار إلى “ما بعد الثورة”.

    وكان هناك مجموعات ترى أن الدفاع عن المرأة يجب أن يكون سمة أساسية في جميع النضالات. فعلى سبيل المثال، كانت تتزعم منظمة الجنوب سيدة بيضاء من الطبقة العاملة تدع لين ويلز ى Lyn Wells، عملت سابقاً كمُنظِّمة في (لجنة التنسيق الطلابية السلمية( SNCC  و (اللجنة التنظيمية لطلاب الجنوب ،( SSOC وفي “أتلانتا”، مقر إقامتي آنذاك، استلمت الرئاسة سيدة أمريكية من أصول أفريقية من الطبقة العاملة تُدعى بيتي بريانت Betty Bryant وكانت إحدى المشاركات في إضراب شركة  Mead، وكانت تلك النسوة على درايةٍ تامةٍ بحاجتنا لمقاومة التمييز الجنسي ونقد الأنماط الذكورية، وكان ذلك بالنسبة لي بمثابة البرهان على أنّ المنظمات قد أخذت “قضية المرأة” على محمل الجد.

   وزاد ولعي كغيري من النسويات الشابات الناشطات، بالمنظمات اليسارية المنشقة عن الحزب الشيوعي الأمريكي الذي يعدَّ تاريخيًا أضخم منظمة شيوعية لعبت دورًا رائدًا عام 1930م على وجه الخصوص، من حيث المساهمة بإعانات البطالة والتضامن العرقي. وذلك لانزعاجي من دعم الحزب غير المشروط للاتحاد السوفيتي.

   فالاتحاد السوفييتي لم يناضل حسب ما بدا للعديد منا بشراسة في سبيل مساواة المرأة إلا من أجل جلبها إلى القوى العاملة، ولم يفعل شيئاً حيال المهام التي يقع عبئها على النساء داخل المنزل وخارجه، أو ممارسات الذكور الشوفينية، وقلة مشاركتهم في الأعمال المنزلية، كما أنه لم يدعم القيادة السياسية للمرأة بالشكل المرجو. (مثلت كوبا على ما أعتقد النموذج الأفضل، ولم تكن الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية أفضل شأناً من الاتحاد السوفيتي فيما يخص القضايا المتعلقة بالتمييز الجنسي).

     وفي السبعينات وبواكير الثمانينات حاولت بعض المجموعات الراديكالية بشكلٍ جديٍّ توحيد الحركات العمالية والحركات المناهضة للعنصرية ومنظمات الفقراء من خلال برامج مشتركة.

   وقد اُرتكبت العديد والعديد من الأخطاء أثناء تلك المحاولات أوردها الكاتب ماكس إلبوم [Max Elbaum] في كتابه العظيم ثورات في مهب الريح Revolutions in the Air، والجدير بالذكر أن بعض هذه المجموعات الراديكالية كانت مهتمّة بالتعبئة السياسية وتسعى لإنهاء التهميش السياسي بخلاف نظرائها آنذاك، وحالياً.

   وقد نال حشد طاقاتنا والتزامنا الاستحقاق الكبير رغم مواطن الضعف فيه.

 

٤/ لورا: من وجهة نظرك كناشطة وباحثة أكاديمية، ماهي الإشكاليات الناتجة جراء مساعينا لبناء التحالفات؟

     ليندا: أعتقد أن هناك مشكلتين جوهريتين عملتا على عرقلة التحالفات، المشكلة الأولى: التمييز الجنسي داخل اليسار. والثانية: تبنِّي النسويين لمطالب وإصلاحات غير جذرية أو راديكالية بما يكفي. سنستعرض كل مشكلة على حدة.

    لقد كانت الأوساط الاشتراكية والتقدمية عاجزة عموماً عن تناول مسألة اضطهاد المرأة على نحو مُرْضٍ أو كافٍ، كما عجزت عن صياغة أو تحديد الخطوات المطلوبة لتحريرنا، ولم تبذل الوقت الكثير في مساعيها في هذا الاتجاه.

   وأصبح مؤيدو معايير أو منطلقات الماضي (أخصّ انجلز هنا) قلّةً اليوم، حيث كان ولازال هناك مقاومة قوية ضد الاختزال الطبقي من مبدأ أن التنظيم أو الحشد ضد المسائل الطبقية سيعالج التمييز الجنسي (التصور أنّ الصراع الطبقي سيعمل على حل مسألة التمييز الجنسي من تلقاء نفسه من خلال الكشف عن المصالح الطبقية الحقيقية، أي أنّ قضايا الاضطهاد الجنسي ناتجة عن الاستغلال الطبقي، وبالتالي لا داعٍ لتبني مسألة التمييز الجنسي بشكل مباشر). وهذا كما تعلمين موضع شكّ لدى عدد كبيرٍ من النسويين وذلك نتيجة أمر واحد وهو: نموذج الدول الاشتراكية ووضع المرأة المتأخر داخلها (وهناك جدل بلا شك حول حقيقة اشتراكية تلك الدول، ولكني سأتغاضى عن ذلك الآن).

     لقد أدرك معظم الباحثين أنّ من غير الممكن أن يتناول الفرد الطبقة كعنصر منفصل، فالوضع الطبقي وليدٌ للعرق والنوع الاجتماعي ”الجندر”، وبنية القوى العاملة مصنفة عموماً وفقاً للعرق والنوع الاجتماعي “الجندر”، ومن ثمَّ نحن بحاجة إلى تحليل أكثر عمقاً وتعقيداً من أجل خدمة الأوضاع داخل المجتمعات المستعبدة والمجتمعات الأبوية التي أخضعت نفسها للرأسمالية.

     ونشهدُ في وقتنا الحاضر نتائج إيجابية جداً لعمل الباحثين والناشطين النسويين في اليسار، يأتيفي بمقدمتها وصولهم إلى غالبية الناس وإقناعهم أن البنية التنظيمية مسألة سياسية، بل مسألة “جندرية” على وجه التحديد، بمعنى آخر، إن التمييز الجنسي داخل أي منظمة قد لا يكون مادة منصوص عليها في لائحة مهماها، ولكنه موجود ضمن سياق النهج التنظيمي المتَّبع داخلها. وهناك أساليب عدة متَّبَعَة من قبل القيادات التنظيمية: مثل تضخيم كفاءة وقدرة الرجل مقابل المرأة، وتجاهل وحجب القيادات النسائية، وقد تشكِّل المرأة عصب المؤسسة ولكن دون أي اعتراف لها بذلك. (وقد تناولت كارن ساش Karen Sach هذا الجانب بشكل رائع). ويقودنا ذلك للإشادة بتجربة النسوية الراديكالية، والنسوية المثلية، حيث ثابرت تلك النسوة على التوسع وتطوير نماذج مختلفة من التنظيمات، كما تكتّلت ضمن مجموعات صغيرة متجانسة لها مطالب أساسية متفق عليها بلا مركزية أو بنية هرمية. ونرى اليوم أن الحركة المناهضة للرأسمالية العالمية اكتسبت الشيء الكثير من اللاّمركزية، وكانت جهود المجموعات الصغيرة ونجاحها في عرقلة وإغلاق بعض المدن أثناء اجتماعات “صندوق النقد الدولي” و ”البنك الدولي” نتيجة مباشرة لما اكتسبوه من تجارب النسويين.

          إنّ اللامركزية ضمان مبهر لاستدامة أي مشروع؛ إذ لا يوجد “رأس” ليُقطع، ولا “جسد” يأمرُ بقطع ذلك الرأس. كما يعتبر النضال عن طريق اللّعب على أوتار متعددة وفق أساليب متفاوتة وبؤر وأولويات سياسية مختلفة، مؤشر قوةٍ لا ضعف. ولكي ندرك ذلك ينبغي علينا مهاجمة تعديّ الذكورية التقليدية على التنافس على القيادة، وينبغي علينا أيضاً أن نتناول ذلك كما يجب ووفقًا لما هو عليه حقيقة.

    كما ركّز النسويين على الممارسات الواقعية والحياة الشخصية حيث تتجلى مظاهر التمييز الجنسي التي تستبعد المرأة من المشاركة الفعالة نتيجة تضاعف المسؤوليات والأعباء وعدم التكافؤ داخل المنزل. ولكن بطبيعة الحال، أصبح هذا النقد السياسي للحيز الشخصي محصورً جداً في بعض الأحيان، ضمن نموذجٍ واحدٍ مناسب تنتهجه الأُسر ويتبناه الناس في سلوكهم، ومظهرهم، وحتى في حديثهم، ومن هنا اسْتُحدث مفهوم الصواب السياسي ليكون بمثابة نقدٍ ذاتيٍ داخلي ضمن اليسار، قبل أن يتم تشويهه من قِبل اليمين. وكان مفهومُ ’الشخصيُّ هو السياسيّ‘   the personal is the political  من ستينات القرن الماضي يشير ضمناً إلى النظرية القائلة بأن ما تعاني المرأة منه على الصعيد الشخصي أو على صعيد علاقتها مع الرجل، هو بالأصل مشكلة سياسية، بمعنى أنه ناتجٌ عن القمع الممنهج وليس نتيجةً أخطاءٍ ارتكبتها المرأة،  ولهذا المفهوم دورٌ جوهري في الإشارة إلى أنّ الرجال الذين يدافعون عن العدالة الاجتماعية ولم يشاركوا قط في المهام المنزلية من طبخ وتنظيف، هم في واقع الأمر مفلسين سياسياً، وأنّ نظريتنا لن تثبت نفسها على الاطلاق دون أن تتخطى نطاقها النظري وتنتقل إلى نطاق الممارسة.

     ومن هنا أُثَمِّن الجهود التي قامت بها النسوية الراديكالية في سبيل فرض الإصلاحات التنظيمية والتحليل السياسي للنطاق الشخصي والتأثير المعتبر المترتب على تلك الجهود، والذي لم يقدَّر حق تقديره. ونجد اليوم أنّ الفصائل ذات المصالح المتوافقة داخل الحركات المناهضة للحروب أصبحت هي القاعدة، إلى جانب حثّ العمل على الآليات وتجاوز التركيز على النتائج فقط.

    كما أدركت حركة المجموعات اليمينية مزايا الفصائل المتعددة، واللّامركزية الراديكالية، ويعبّر هذا إلى حدٍ ما عن الأناركية التقليدية على نهج “النارودنك” في روسيا، أو ”باكونين” في فرنسا؛ حيث تبنَّت الجماعات النسوية هذا النهج وتوسعت فيه في الماضي القريب أكثر من غيرها واستخدمته على نحوٍ فعال. ودعيني أذكر هنا “Lesbian Avengers” و“Guerilla Girls”  فكلتا المجموعتين، على سبيل المثال، تجنبت فكرة أن يكون لها أيّة رموز أو زعامات، أو شخصيات قيادية، وحافظت بذلك على إغفال هويتها؛ وغيرها العديد والعديد من المجموعات الصغيرة والمحلية التي اعتمدت الديمقراطية في  منهجية عملها.

    وأود أن اُشير هنا إلى أنّ جميع الدروس التي اكتسبها اليسار من المجموعات النسوية ضرورية في حال أراد تجاوز التمييز الجنسي ضمن دائرته. وأعتقد أنّ الإسهامات النظرية لعلماء الاجتماع والباحثين الاجتماعيين من النسويين فيما يخصّ النزعة الاختزالية الطبقية، مهمة جدًا وباتت مؤثرة، حيث يتبين لنا من خلال أعمالهم أنه على الرغم من استفادة الرأسمالية من ظلم المرأة بالتأكيد، إلا أن ذلك لا يبيحُ لنا ربطه بشكل كامل بالقوى الاقتصادية الرأسمالية كما لو كان نموذجاً مثالياً بل ينبغي إيضاحه بالإشارة إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية والتقسيم المرتكز على الجنس في سوق العمل الخاص بتلك المرحلة.

     ويبدو الأمر ملتبسًا؛ فما يُعرف بالدخل الأسري، وفجوة الأجور بين الجنسين على سبيل المثال (والذي تتقاضى فيه النساء العاملات أجراً أقل من الرجال على افتراض أن أجور النساء لا تستخدم لإعالة الأسرة) يعتبر من مقتضيات الرأسمالية. بينما نجد أن النساء العاملات في مناطق المشاريع الحرة [free enterprise zones] مثل “ماكيلادوراس” لهن الأسبقية بالتوظيف، ويتقاضين أجوراً تفوق أجور الرجال؛ على اعتبار أن النساء العاملات مرنات، ويخضعن لظروف العمل السيئة، ويسهل استضعافهن نظراً لالتزاماتهن العائلية، وهلم جرا.

   وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرأسماليين لا يسعون إلى التغلب على التمييز الجنسي، بل يستخدمونه مجدداً لأغراضهم الخاصة. وآملُ أن يقرأ الاختزاليون class reductionists هذه النماذج كما ينبغي، أو أن يقترحوا سبلاً لمواجهتها، وبالتالي نحن بحاجة إلى دراسةٍ نتناول من خلالها التمييز الجنسي والعنصرية والكولونيالية بقدر من الاهتمام الذي نتناول به الطبقات في طريقنا لمحاولة فهم النماذج الحالية للاضطهاد الاقتصادي.

     وأرى كذلك أن صعود السلطة الإيديولوجية للأسرة النووية والأبوية لا يمكن تناوله أو تفسيره من خلال أداء السلطة للرأسمالية وحسب، فالرأسمالية جزءٌ من منظومة مناخاتٍ تاريخيةٍ وثقافية معينة، ولا نستطيع تجاهل حقيقة أن رجال الطبقة العاملة مستفيدون، وبالتالي فإن مناهضتهم أو معارضتهم للتمييز الجنسي لن يتناغم مع وضعهم الطبقي كما ينبغي. وبناء على ذلك نجد أن العديد من النسويين على الصعيد الأكاديمي عملوا على استقراء التاريخ والثقافة من أجل سبر جذور التمييز الجنسي. وكثيرًا ما تساءل بعض رجال اليسار ”أين الطبقة؟“، وغالباً ما يشير هذا التساؤل إلى اختزالية ضمنية وعجزٍ عن الوصول إلى ماهية الطبقة في الحالات الأكثر تعقيداً.

   وإضافة إلى تلك الكوكبة التي أشرنا إليها، هناك مشكلة رئيسية أخرى بين النسوية واليسار تتعلق بتحديد المطالب النسوية، حيث لا تخلو المنظمات النسوية، في الكثير منها، من السياسات الطبقية، مما يؤكد حاجتنا إلى تشريحٍ طبقي نستوضح من خلاله كيف تصل مختلف الجماعات النسوية إلى أولوياتها وبرامجها. ففي فترة الستينيات تلخصت مطالب غالبية الجماعات النسوية بإنهاء الاحتكار على مستوى الوظائف والقضاء على التمييز الجنسي في الوظائف والترقيات والأجور، وتقليص المهام المسندة للمرأة داخل المنزل وخارجه، إضافة إلى تشريع الاجهاض، ومضاعفة برامج المساندة الاجتماعية لتنشئة الأطفال، والرعاية النهارية، والحدّ من التمييز ضد المثليّات في ميادين العمل والشارع.

  وتحققت معظم هذه المطالب لنساء الطبقة العليا والطبقة الوسطى، وتمكنَّ من الالتحاق بالمهن المهمة كالقانون والطب بأعداد كبيرة، إلى جانب تعهد الحكومة بمساواة الأجور بين الجنسين عند شغل الوظيفة ذاتها. وأصبح الإجهاض حقاً شرعياً للنساء ما دُمن يملكن تكلفته، وأضحى كذلك تقليص المهام داخل المنزل وخارجه متوفراً للنساء العاملات من الطبقة العليا والوسطى من خلال توفير المال الكافي لتغطية تكاليف مراكز الرعاية النهارية الباهظة، واستقدام الجليسات من السويد والسلفادور، وتشغيل نساء الطبقة العاملة لسد حاجتهن ــ أي نساء الطبقة العليا والوسطى ــ ومساعدتهن بالأعمال المنزلية الروتينية مقابل أجور بخسة.

    وتعود نوعية المطالب، وإمكانية الحصول عليها، وانحصار منفعتها بالطبقات العليا، إلى ظروف سوق العمل، وعدم كفاءة الفقراء ..إلخ، وقد تكرر هذا المشهد في الستينيات مع مطالب أخرى تتعلق بالبيئة ورفاهية الحياة حيث لامجال لتحقيقها مالم يكن الفرد ثرياً بما فيه الكفاية ليتمكن من تحمل تكاليف المياه النظيفة، والمرشحات الهوائية، والدجاج العضوي، وليتمكن من السفر إلى المناطق الخلّابة، وتحمل تكاليف دراسة أطفاله للفنون. ولكن هذه ليست نسوية، ولا يمكن تسميتها بذلك. وكما قالت “بيل هوكس”: “إذا كانت النسوية لجميع النساء بلا استثناء، فيجب أن تكون ثورية، ويسارية..”

    ويبدوا هذا الدرس أشبه بمعركة مريرةٍ في وجه الشابات اللواتي يتطلعن اليوم بجدية إلى مستقبل نسوي، ويبدو أن مناهضة الأوليغارشية العالمية أمرٌ غير منطقي وخيالي للكثير منهن. وهذا يدفع الشابات إلى تبني النموذج النسوي المنطوي على التقسيمات الطبقية الاجتماعية والذي ترتبط فيه المطالب والتطلعات ارتباطاً وثيقاً بالطبقة مادام يوحد صفوف النساء على جميع الأصعدة.

    وما دامَ اليسار يرزح تحت وطأة التمييز الجنسي لن تسترعي المنظمات والحركات اليسارية اهتمام الشابات بل سيعزز الثقافة القدرية حيال فكرة التغيير الاجتماعي. وعلينا مقاومة هذه القدرية.

٥/ لورا: يبدو لي أنّكِ متفائلة بعض الشيء بقدرة النسويات على تقوية نمط العلاقة ومدّ الجسور بين ضفتي “النسوية” و ”اليسار” مقارنة مع البعض منا كنسويات يساريات؛ أودّ أن أعلم كيف توصّلتِ لذلك؟

     ليندا: مبدئياَ دعيني أوضِّح أنّ كوني متفائلة للغاية بالحركة العمالية في البلاد لا يعني أنني قدريّة لهذه الدرجة.

     إنّ اتحاد العمال الأمريكي، ومجلس المنظمات الصناعيةAFL-CIO أدرك ما يجب استيعابه عن العنصرية والتمييز الجنسي، وعرفَ أن القوى العمّالية مختلطة ومتعددة، وأن الحركة النقابية إما أن تتهيأ لمواجهة تلك الحقيقة، أو تنهار. وأصبح العديد من النشطاء داخل الحركة العمالية اليوم مدركين لذلك، وقاموا بتأسيس ورشات عمل لمناهضة التمييز الجنسي والعنصرية ورهاب المثلية داخل منظمات التدريب؛ وفرضوا التمييز الإيجابي الذي يمنح الأفضلية عند التوظيف للنساء والسود، وطبّقوا نظام الحصص [كوتا] لضمان التمثيل العرقي والجنسي في المؤتمرات والمجالس الوطنية. واجتهدوا لإنشاء النقابات داخل القطاعات التي تشغلها النساء عادةً إضافة إلى السود والملونين ــ الأقليات ــ من القوى العاملة.

    وبرغم امتيازات النقابات العمالية على صعيد النفوذ، والتنظيم، والموارد، وكذلك القدرة على الوصول للملايين من الطبقات العمالية، لايزال النضال المناهض للتمييز الجنسي والعنصرية يواجه نزالاً شرساً، وتغالب المكاسب فيه الخسائر، فالمشهد ليس وردياً في أغلب السياقات، ولكن الحركة النقابية بشكلها التقليدي الذي يلبي احتياجات الطبقات العليا فقط من العمال، والذي كان حكرًا على الرجال البيض، في طريقها لتصبح من مخلَّفات الماضي.

    ولو أمعنا النظر سنجد أن النقابات لا تمثل الحل الشافي والترياق العجيب، كما أنها لا تطرح أجندة اشتراكية، لكنها تعمل بالشكل الذي يخدم متطلبات المرحلة، وتشكِّل في رأيي ذريعةً ومصدراً لا ينضب لتطبيق الديمقراطية التي تخلق بدورها سلطة إضافية وضمانة كافية لمستوى معيشي لائق يسمح بفضله الشعوب بالتركيز على جودة الحياة بدلاً من الصراع للبقاء على قيد الحياة.

   وحسبما أعتقد أننا ــ نحن مفكرو أو مثقفو اليسار النسوي ــ ننتمي غالباً إلى الطبقة الوسطى، وليس بمقدورنا أن نتزعم النزال القائم لتحقيق الوعد بالعدالة الاجتماعية نيابةً عن الدولة. في حين أنهم وحدهم أولئك الذين نشأوا في زمن النضال والصراعات الداخلية ( حملة عمال النظافة [JfJ]، وحملة [العاملين بالتمريض المنزلي] المكونة في أغلبها من الأيدي العاملة من النساء السود، وغيرها من الحملات المحلية الهامّة) باستطاعتهم تحقيق الوسيلة الكفيلة بحسم هذه الصراعات، وتحقيق العدالة.

    ويعدّ انبثاق الحركات المناهضة للحروب والرأسمالية ضمن بنية تنظيمية تحكم تلك الحركات التي لم تكن حاضرة في المسار الحركي على أيامنا، من الأمور المبشِّرة والواعِدة بالنسبة لي، إلى جانب الارتقاء بمستوى الوعي لذيول ومشاكل الطائفية، وقنوات التواصل المفتوحة والأجندات المشتركة بين الجماعات داخل الولايات المتحدة وخارجها. إضافة إلى استلام العديد من النساء مناصب قيادية. وبالتالي، المرحلة بالنتيجة هي مرحلة مبادرةٍ وعمل، ولا مجال فيها للقدرية.

 

المصدر