مجلة حكمة
التفكير في المعتقد الديني والسياسة - طلال أسد / ترجمة: فاطمة الشملان - حكمة

التفكير في المعتقد الديني والسياسة – طلال أسد / ترجمة: فاطمة الشملان


منذ عقد القرن المنصرم، منح التشاحن الاجتماعي المتولد من وجود أعداد كبيرة من المهاجرين المسلمين في أوروبا وتهديد الإرهابيين المسلمين باعثا جديدا للخوف من الدين المسيس. لم تنبثق “الحركات الأصولية” العنيفة والمتعصبة من العالم الإسلامي فحسب (بالرغم من أنها الأكثر إرعابا في الغرب) لكن انبثقت من الهند وإسرائيل والولايات المتحدة أيضا. إن القيم العلمانية للديمقراطية الليبرالية واقعة تحت الحصار. أو هكذا تخبرنا وسائل الإعلام الغربية في الغالب. وأستجاب الأكاديميون الذين يدرسون الدراسات الدينية بحماسة، واجدين في ذلك فرصة ليعرضوا علاقة بين خبراتهم والأمور العامة. ما الذي يمكن فعله فيما يخص مخاطر المعتقد الديني على الديمقراطيات الليبرالية؟

يمكن للمرء أن يسأل بشكل عام أكثر: ما هي الروابط بين الوعد العلماني لديمقراطية ليبرالية والشروط لمعتقد شخصي في السمو؟ لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال بالطبع، لأن الدين الحديث قد عوق وساعد القيم “الليبرالية” على السواء، ولأن القيم الليبرالية أكثر تناقضا وإبهاما مما يُعترف به أحيانا. لكني أود أن أستهل بأسئلة أخرى: ما هو “الدين”؟ وكيف عُرّف بالطرق تلك؟ وما هي بعض عواقب جعل المعتقد مركزيا في التعريف؟ سأتوجه لتلك الأسئلة عن طريق مناقشة بعض جوانب عمل تشارلز تايلور، عصر علماني (A Secular Age) والذي يحاج فيه بأنه لا يمكن سرد العلمانية كقصة طرح بسيطة (أي التخلص التدريجي من الخرافات والتعصب) بل يجب أخذ الصيغة باعتبار إعادة الصنع التاريخي حيث بات خيار المعتقد وعدمه متساويا وبحالة من الحماية المتساوية في الدولة الديمقراطية الليبرالية. أود التفكير بأبعد من هذه النقطة المهمة جدا، إلا أني سأحاول أن أفعل ذلك بالنظر إلى الاعتبار المبهم للمعتقد كما تعامل معه تايلور وبعض الأنثروبولوجيين. سأحاج بأهمية دارسة الحس من أجل التعرف على الطرق التي يمكنها بناء المدركات والسلوكيات الاتي هن مختلفات عن المعتقدات. سأشير بعدها لعمل إثني التوصيف والذي تعلق بموقع الإنصات في المشهد السياسي المعاصر في القاهرة: المشهد الصوتي الأخلاقي (The Ethical Soundscape) لتشارلز هيرتشكيند. سأختم ببعض الأسئلة عن الروابط بين المدركات والسياسة.

لقد بات معروفا الآن بأن المفهوم الحديث عن الدين كمادة لدراسة منظمة أمر قريب العهد نسبيا. بالطبع إن مصطلح (religio) قديم جدا، إلا أنه لا يملك الحس الذي انبثق في بداية العهود الحديثة من حوالي القرن السابع عشر عن الفكرة التي تبلورت تدريجيا ضمن المفكرين الأوربيين بأن في كل مجتمع أناس يعتقدون بالكائنات الخارقة، أخبروا قصصا عن أصل الكون وعما يحصل للروح بعد الموت؛ بأن في كل مجتمع أناس أسسوا شعائر للتعبد وأذعنوا لخبراء في تلك الأمور؛ وبهذا لم يكن الدين أمرا امتلكه المسيحيون وحدهم.

كتب المشككون منذ زمن عن أصل الدين. إلا أن ما كُتب لم يكن عن مفهوم الدين الملغز لأغلبهم بل عن انبثاقه فقط. تألف منذ التنوير على الأقل نهج واحد مهم لفهم الدين فيما يسميه الأنثروبولوجيون “سيسيولوجيا الخطأ”. كان السؤال الرئيسي هو: ما الذي أدى إلى معتقدات مغلوطة كهذه في المقام الأول؟  إن اختبار فرضيات المعتقد في هذا الأمر- وبذلك مغلوطاتها -يميل إلى الاعتماد بشدة على أيديولوجية اللغة المبسطة التي تسند كلا من الصفة الغير منطقية في عبارات عقائدية دينية وصفة القناعة الدينية الغير عقلانية. أفسح اختراع “سيسيولوجيا الخطأ” لفهم الدين من قبل أنثربولوجيين فيكتوريين المجال في النهاية لنهج آخر، حيث أثار سلسلة مختلفة من الأسئلة: هل الدين عالمي؟ ما هي أنواع المعتقد والممارسة الخصوصية للدين؟ ما المعاني التي تمنحها المعتقدات الدنية والممارسات للحياة؟ ما الوظائف التي يقوم بها الدين؟ سعى الأنثروبولوجيين لشرح الدين بالاستناد إلى عوامل خارجية – وذلك بالنظر إلى وظيفته الاجتماعية أو إلى معناه الثقافي. بقي مفهوم الدين نفسه واقعيا غير مدروس في هذا النهج.

وإلى حد علمي، كان معنى وغاية الدين (The Meaning and End of Religion) لويلفريد كانتويل سميث أول كتاب يقدم مسودة تاريخية لمفهوم الدين في الغرب ويقترح بأنه حديث نسبيا.1 حاج سميث بتبصر ضد مناهج الماهويين، بيد أنه في النهاية لم يتحرر هو نفسه تماما من آثار الماهوية.2 لقد سعى إلى استبدال كلمة “إيمان” عوضا عن “دين” من أجل تجنب خطر التجسيد، لكن أدت به حركته تلك إلى التركيز على الدين كتجربة عصية الوصف. ليس من الخطأ في شيء التركيز على أهمية التجارب التي يصعب التعبير عنها عند مناقشة الدين. إن صنعه للعبة لغوية معينة كقاعدة لمفهوم الدين كـ “الإيمان” هو محط التساؤل – كأن حين يكتب:” إيماني هو فعل أصنعه، بنفسي، عاريا أمام الله.”3 تبدو العبارة السابقة وكأنها تشير إلى باطنية غير وسيطة تتجلى أمام النظرة الإلهية، بحيث أن إيماني أداء (مواجهة الله)، وتجربة (لفرد حقيقي) في التو والتي تشكل ذلك الفعل كفعل إيماني.

 السبب الذي لا يمكن فيه وجود تصور عالمي للدين ليس لأن ظاهرة الدين متباينة بشكل لا نهائي – بالرغم من أن في الواقع يوجد تباين عظيم في الطريقة التي يعيش بها الناس في العالم مع معتقداتهم الدينية.4 وليس الأمر بأنه لا يوجد شيء يدعى الدين، كما اقترح البعض.5 السبب هو أن التعريف فعل تاريخي وحين ينتشر يقوم بأشياء مختلفة في أوقات وظروف مختلفة كما يستجيب لأسئلة وحاجات وضغوط مختلفة.

إن مفهوم “الدين” ليس مجرد كلمة: إنه مرتبط بالمفردات التي تجمع الأفراد والأشياء والرغبات والممارسات ببعضها في تقاليد معينة بطرق متمايزة. إن الأمر ينطبق أيضا على توأم الدين “العلمانية” التي تأتي بمدركات مختلفة لتعلب في سياقات تاريخية مختلفة: لذا فإن الممارسات المؤسساتية وردود الفعل النفسية التي تُعرّف اللائكية (laïcité) في فرنسا المعاصرة غريبة في مجملها عن تلك التي تُعرّف “فصل الكنيسة عن الدولة” في الولايات المتحدة اليوم.

أن تُعرّف هو أن تنكر بعض الأشياء وتقر أخرى. تعريف ما هو الدين ليس ممارسة فكرية تجريدية فحسب؛ إنه ليس ما يقوم به الأنثروبولوجيون والباحثون الآخرون فقط. إن فعل تعريف (أو إعادة تعريف) الدين منغمس في نزاعات وقادة، مرتبط بمقلقات ومُرضيات، متأثر بتغير المفاهيم المعرفية والاهتمام، متعلق بانضباطيات مؤسساتية.6 استخدمت الإدارات الاستعمارية في الماضي تعاريف للدين لتصنيف وضبط وتنظيم ممارسات وهويات الأفراد. مطلوب اليوم من الليبرالية الديمقراطية إعلان موقفها عن الوضع القانوني لتعاريف كهذه وبذلك توضح الحصانات المدنية والإلزامات.7 حين تُنتَج تعاريف للدين، فإنها تقر أو تنكر استخدامات معينة لمفردة تملك دلالات عميقة لمنظومة الحياة الاجتماعية وفرص التجربة الشخصية. ولهذا السبب تحديدا تُستحضر الخبرات الأكاديمية في عملية الوصول إلى قرارات قانونية عن أمور دينية.8 في كل تلك الوظائف القانونية، لا تعمل الديمقراطية الليبرالية (سواء في البلد أو خارجها في مستعمراتها) عبر العلمانية فقط، إنها تتطلب أن يؤخذ المعتقد كجوهر للتدين. ولذا يحتاج الإبهام لهذا الاعتبار أن يُجلى.

يفترض الباحثون والآخرون على السواء بأن المعتقد، في كلٍ من السر والعلن، يُعبر عنه في مهابة الشعيرة. ولهذا يميل الفيكتوريون كما الأنثربولوجوين التطوريون آنذاك والآن إلى تفسير الشعائر كطرق “سحرية” للتعامل مع صعوبات البيئة الطبيعية. تبنى اللاهوتيون البروتستانتيون الذين كانوا أيضا طلبة “الدين الأولي”، كروبرتسون سميث، نظرة تقتضي بأنه يتطلب من ” المسيحية الحقة” أن تتجرد من “السحر الكاثوليكي” أي الخرافات؛ ما كان يهم هو المعتقد الحق. لكن رأى الأنثربولوجيون فيما بعد أن كل هذا كان خطأ منهجيا. لن تُعتبر الشعائر كطرق بدائية للتكيف مع الطبيعة كما ادعوا. امتلكت الشعائر كأفعال وظيفة اجتماعيا في حد ذاتها. اقترح بعض الأنثروبولوجيون أمثال إدموند ليتش بأن الشعائر لم تكن أفعالا أدواتية على الإطلاق؛ لقد رمزت الشعائر إلى شيء، معنى ثقافيا تواصليا. ولذا كان إيعاز الاعتبار الحديث لـ “المعتقد” إلى ما كان يطلق عليها الشعوب البدائية عند الفيكتوريين التطوريين كما لعديد من خلفاءهم الأنثربولوجيين حاسما لمفهوم الشعيرة. سواء اتخذت هيئة أعراف كونية أو كانت ثقافية التعريف، سواء كان يجب إعادة تشكيلها من شروحات يقدمها الممارسين أو مقروءة في الأفعال الاجتماعية والترتيبات بالرجوع إلى النظريات الغربية للمغزى، فإن فكرة المعتقد كانت مركزية لفهم النشاطات التكرارية المصنفة كشعائر ومراسم.

أصبحت “الشعيرة” كعنصر من الدين، فئة نظرية خاصة من “فعل ذو معنى”. في الوقت الذي علّم جون أوستن باحثيه بأن استخدام الكلمات هو وسيلة لعمل الأشياء،10 أخذ التوجه الرمزي للشعيرة عمل الأشياء كتعابير للمعاني- وإن يكن انغماسا ما قبل التأملي في التصورات الاجتماعية أو منظومات الرموز. يمكن أن تُرى التصورات الاجتماعية عند الأنثربولوجييين المنجذبين للتوجه الرمزي كمعتقدات لم يُعرب عنها بعد.

 قام العديد من الأنثربولوجيين الذين توجهوا لسؤال المعتقد بفعل ذلك عبر جدلية العمومي مقابل النسبي حيث كان الاهتمام المعرفي والتركيز الأساسي منصبا لتضمين معانٍ في الشعيرة. وبذلك لاحظ مالكوم رويل في مقالة له قرئت بشكل واسع بأن “أداء العقيدة [المسيحية] هو فعل شعيرة بمثل تعقيد ورمزية وتكثيف أي فعل شعائري آخر وبالتالي هو عرضة بالمثل للفئات المستحدثة، كتحليل تيرنر لرمزية الشعائرية على سبيل المثال.”12 أشار رويل بأن العقيدة المسيحية تتكون من نوعان من حس المعتقد- الاعتقاد في شخص إلهي (المسيح الحي) والاعتقاد بأن حدثا مقدسا قد حصل (الصلب والبعث). توحد كلاهما رمزيا في التلفظ الشعائري (أداء) العقيدة، أي لحظة مخصوصة لظاهرة عامة.

أخذ الأنثروبولوجي موريس بلوخ الأداء اللغوي بحد ذاته كنموذج لفعل رمزي، وحاج بأن “الشكلية” ذاتها للمواعظ (كما في رسمية السلوكيات المهذبة) حاسمة للتحكم الاجتماعي والهيمنة السياسية. كان للتواصل الشكلي – بما فيها الشعيرة الدينية والمواعظ السياسية – أن تُرى كحرمان من الاختيار، وبالتالي خضوعا للسلطة التقليدية.13 بما أن السلطة التقليدية، في منظور وبر المؤثر هي واحدة من أنماط ثلاثة للهيمنة المشروعة، وبهذا عزز هذا التوجه عن الشعيرة فكرة أن الفرد المستقل بحاجة إلى أن ينعتق من التقاليد والتشبه بالماضي الذي تطالبه منه أو منها – وأن تختار معتقدها الخاص.

يتردد صدى الادعاء بأن للشعيرة عملا اجتماعيا قمعيا بنظرة أن على الدين الليبرالي أن يتخذ في الأساس صيغة الإيمان الخاص مصاحبا الرفض البروستانتيني التاريخي للشعائرية الكاثوليكية كذلك. فقد أعيد تعزيز الاعتبار المعروف جيدا بأن الشعيرة ليست غير عقلانية فحسب بل عبر ميزة كونها رمزية أيضا وبالتالي منفصلة عن الباطنية ومعارضة للسياسة التي تقدرها الديمقراطية الليبرالية.  إلا أن الاعتبار بأن الشكلية هي بالضرورة صيغة خارجية من القسر لهو أمر مُختلَف عليه، ذلك بأنه حين فقط تصبح الصيغ عناصرا في استراتيجية غوفمانسيكية فإنها حينها تخدم كوسيلة للتحكم بالآخرين.14 إن التأثيرات مختلفة بحسب المدى الذي تساهم فيه بالصيغ العامة وفي صنع وإعادة صنع الذات في عالم اجتماعي، أي بمعنى آخر، حيث الصيغ الخارجية هي أجزاء من فرديات نامية. وفي هذا السياق، ما يتعلم الفرد المتجسد قوله وفعله، كيف يتعامل مع الصيغ السلوكية واللفظية في علاقته مع الآخرين، هو مركز إمكانياته الأخلاقية وليس مجرد فرضا خارجيا.15 فباختصار، إذا المرء لا يفكر بالشعيرة كنشاط يحرم الخيار عبر فرض شكليات ولكن كهادفة لموائمة السلوك، المدركات والمواقف، يمكن له أن يرى تكرار الصيغ كشيء غير الانصياع الأعمى للسلطة، أن موائمة أداء شكلي (سواء كان التهذيب أو التبجيل) لا يتطلب فقط تكرير النماذج السابقة بل الابتداع في تطبيقهم في ظروف مناسبة أو جديدة. أي بمعنى آخر، بالرغم أن في مستوى معين قد لا تسمح تنمية الشكلية المناسبة الضرورية للقيم الأخلاقية بخيار لا محدود، إلا أنها تتطلب ممارسة التقدير. فمثل قواعد النحو، الصيغ في توها إمكانيات ومحدودات ضرورية من أجل الفكرة الأصلية والتصرف.

قدّم مارسل موس أكثر تبصر مثمر في دارسة الشعيرة. في مقالته المشهورة المعنونة “تقنيات الجسد”(1934) حيث تجاهل الانقسام بين الدين والعلمنة- لم يستثمر في بناء فئة تسمى شعيرة كعنصر من كل يدعى دين؛ كان مهتما بالتبحر في الطريقة التي تشكلت بها السلوكيات، سواء مقدسة أو مجدفة. والأهم، يطرح أسئلة دون الإشارة إلى الإيمان. ليس لدى موس اهتمام بنهج التجربة أو مسألة خيار الفرد ولكن في النمط الذي به الجسد البشري، كشيء وجودي، يفعل ويُفعل به. يشجع عمله الفكرة بأن المدركات العلمانية والتجارب (كالدينية) تتطلب ظروفا “اجتماعية-نفسية-بيولوجية” مخصوصة، حيث تلك السلوكيات والرغبات المتمايزة التي تحويها العلمنة كتنظيم سياسي تقتضي مسبقا تشكيلات مخصوصة للحس. ويجب أن يكون جليا على المستوى الاجتماعي أنه حينما يشكل بعض الحس الثقافي جزءا من المشاريع الانضباطية المنظرة، فإن الآخرين ينبثقون من قبيل صدفة تقارب قوى سياسية – اقتصادية عدة ومن الخطط التنظيمية – في الصناعات الحديثة، الأسواق الضخمة، المدن الكبيرة، والنقل والاتصالات الحديثة وأخيرا في أتون الحرب الحديثة. لذا بالطبع الأفكار، بما فيها الدينية، أكثر أهمية للتفكر في الأخلاق والسياسة في المجتمع الليبرالي الحديث، لكنها مرتبطة بالمشاعر والحس في طرق متعددة وغير متوقعة.

ناقش المنتقدون الليبراليون والمدافعون عن الدين كظاهرة عالمية بعضهم الآخر عن آثار الاعتقاد الديني على الأخلاق الحديثة والسياسة. كان اعتبار “الاعتقاد” مركزيا لكلا قطبي الجدال، مُعتبَرا في الوقت ذاته كامتياز (قدرة الشخص اختيار معتقده) وخطر (تحريض الاعتقاد على العنف والتعصب). إن الخطوة الأولى لفهم الأرض المشتركة لمواقف الطرفين هو في مراجعة المذهب اللوكي الكلاسيكي للحرية الدينية والذي يوضح بعضا من المصطلحات الأيديولوجية الرئيسية في هذه الجدلية.

وفقا لمحاجة حديثة، لا يجب الإكراه في المعتقد لأن ذلك يذل كرامة الشخص الفردي. لعل المنظور الأكثر شيوعا هو لا يمكن الإكراه في المعتقد. ذلك بالطبع كنه نظرية جون لوك للتسامح وأحد أجزاء أصل العلمانية. تستقر النظرية على علم نفس ديني جديد   ومفهوم جديد للدولة الذي بدأ بالانبثاق في القرن السابع عشر لأوروبا. مما سمح للوك بالإصرار على أن محاولة الأمير لإكراه معتقد ديني_ بما فيه الاعتقاد بآثار الخلاص للممارسات الدينية_ كان غير عقلاني لاستحالته. وكل ما يمكن لتلك القوة من ضمانه هو امتهان غير صادق للإيمان وامتثال خارجي. وبذلك – كما مضت المحاجة ولا زالت – يجب أن توجه القوة الموظفة من حكومة مدنية فقط لضمان مصالح عامة موضوعية: حماية الأرواح، الأعضاء والممتلكات. واجه بعض الفلاسفة الليبراليين المثال الحرج عن غسل الدماغ عبر المحاجة بأن ذلك يخلق فقط معتقدا غير أصيل، مهما كان مُتمسَكا به بإخلاص.16 تتألف الأصالة، كما يقولون، من قدرة الشخص على اختيار معتقداته والفعل وفقا لها. تعزز فكرة المعتقد بتلك الطريقة فكرة الفرد المستقل. لكن هل الإصرار على معتقد أصيل مختلف جدا عن مخلص، أي أن الزائف هو الذي يعني القيام بقول شيء بعاطفة دون اختيار ولذا يجب أن يُلفظ زائفا؟ إذا ما قالت واحدة بأنها تفعل شيئا ليس لعدم وجود بديل منطقي ممكن ولكن لعدم وجود خيار أخلاقي (مثل مقولة لوثر “هنا أقف: لا يمكن أن أفعل غير ذلك”) ماذا يتبع الأخلاق والسياسة بتوصيم هذا الفعل بالزائف؟17

في الواقع بالطبع، يمكن لقوى خارجية أن تجعل الأشخاص يعملون أو يحجمون من عمل أشياء، ويمكن أن يقنعوهم بأن يثقوا بمعلومات متقطعة كحقيقة: ذلك ما يهمله الانضباط والإنماء المنظم للمدركات (أي الوعي وردود الفعل تجاه الأفراد والأشياء). لذا بالرغم من الإصرار بأن المعتقدات لا يمكن تغييرها من الخارج بدا أنه يقول شيئا تجريبيا عن ” الحياة الشخصية” (فردانيتها، استقلاليتها، وموقعها بأنها غير متاحة للآخر)، هو في الحقيقة جزء من خطاب سياسي عن “الخصوصية”، أي ادعاء بالحصانة المدنية فيما يخص الإيمان الديني الذي عزز فكرة الدولة العلمانية ومفهوما مخصوصا للدين.18

يصف تشارلز تايلور في عصر علماني (2007) التشكل التاريخي للمجتمع العلماني الحديث الذي يمكن فيه صنع الادعاء بمعتقد شخصي والدفاع عنه. وبالرغم من خلو الكتاب تقريبا من أي شيء عن الدولة الديمقراطية الليبرالية،19 فإن تايلور يتفهم أن المسيحية الغربية المعاصرة، مع التزامها بحق المرء باختيار دينه – أو رفض الدين ككل – يعتمد عليها. (حقيقة أن “الدين” هنا عنى بوضوح “المسيحية الغربية”، ليس بالمناسبة حدا فُرض ذاتيا لأن صادف أن أوروبا في موضوع الدراسة ببساطة؛ ولكن لأنها أيضا المعيار لحكم وتقييم الأديان الأخرى، العلمانيات، والمعضلات الحديثة.) حقيقة أن البشر اعتبروا بديهيا على أنهم “حيوانات ذاتية التأويل” – وهو منظور فصله تايلور بعبقرية في منشورات سابقة – يساعد في شرح بأن هذا كان في الأول وفي الأخير تاريخا فكريا.20

يستهل الفصل الأول من الكتاب بالعبارة الآتية:” إن أحد الطرق لوضع السؤال الذي أريد الإجابة عليه هنا هو كالآتي: لماذا كان من المستحيل تقريبا عدم التصديق بالله في، فلنقل، 1500 ميلادية من مجتمعنا الغربي، بينما يجد العدد منا في ال 2000 بأن ذلك ليس سهلا فحسب بل لا مناص منه.” (صفحة 25) يجيب تايلور على هذا السؤال بتعقب الإصلاح الذي أدى إلى “تصورات اجتماعية” منتقلة من السمو إلى الجوهر، مولدة في النهاية تعددية دينية حيث يمكن فيه اختيار المعتقد بحرية (أو يُتخلى عنه).

إلا أن اعتبار الاعتقاد الذي يعتمد عليه تايلور في هذا المجال غير واضح تماما. فبادئ ذي بدء، هناك السؤال القديم بالتعرف على الاعتقاد كحالة ذهنية. كان رودني نيدهام أول من محص بشكل نقدي طيف تعرف الإثنوغرافيين الأنغلوفونيين على المعتقدات الدينية للأشخاص الذين درسوهم.21 لقد تساءل، ما الذي يُقدَّم للقارئ بالضبط حين يدعي الإثنوغرافي بأنه يكتب عن الحالة الباطنية للمؤمنين؟ كانت إجابته تشكيكية: لأن تلك الحالات يُحتم التعبير عنها اجتماعيا – عبر اللغة – فإنه لا وجود لحالات باطنية عالمية. لم يجد الكل تلك الإجابة حاسمة، لكن دراسة نيدهام أشارت للانتباه إلى العلاقة اللسانية بين التجربة وتأويلها.

كيف يمكن التعرف على الاعتقاد – خاصة فيما يسمى “الديانات العليا” (وهو اعتبار من القرن التاسع عشر استشهد به تايلور)؟ مسيحيو القرون الوسطى على سبيل المثال، غالبا ما رفضوا المذاهب الأرثوذوكسية (كخلود الروح، النشور، الحلول، ولادة العذراء والتطهير) بالرغم من أنه ليس واضحا ما إذا كان يعني هذا رفضا للمعتقدات الدينية بذلك أو تبني معتقدات دينية بديلة. الصعوبة هي هذا: ما الذي يحتسب كمعتقدات دينية؟ هل على المعتقدات أن تُشجب من قبل الكنيسة اللاتينية للقرون الوسطى على أنها ابتداع (superstitio) وبالتالي اعتبارها معتقدات علمانية؟ أو هل يجب أن تُعلن دينية على المعيار المتاح من قبل النقاد التنويريين الذين تعد كل الأديان لهم خرافة؟ هل النية بالمضي في فعل مخصوص حاسم لتدينها؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف ومن يمكنه البت به؟ من الواضح أن سؤال كيف يجب فهم ظاهرة المعتقد التي يكتب عنها المؤرخون لسؤال معقد.

بدأ مختصو القرون الوسطى بالتعرف على المعضلة عبر ترجمة الكلمات اللاتينية التي نفترض الآن أنها تتوافق مع الإنجليزية الحديثة لـ “معتقد” (أو الفرنسية “coryance”).22 فلتأخذ كلمة “infidelitas” والتي غالبا ما تفسر ببساطة جدا كـ “عدم اعتقاد”. كانت infidelatis طبيعيا تستخدم في سياقات علمانية كالمواثيق، القوانين والسرديات التاريخية؛ وكانت تعني عادة نقض عقد أو عهد، التصرف بشكل غير أمين أو انتهاك ثقة أحدهم. لم يكونوا الـ infidels ببساطة أولئك الذين فشلوا في التمسك بالقناعات الأرثوذوكسية؛ كانوا أولا وأخيرا أولئك الذين تصرفوا بغير أمانة بطريقة ما، أو أولئك الذين، عبر أفعال الخيانة أو سوء الحظ، لم يعودوا جزءا من العلاقات التي ربطت الله والمسيحيين اللاتينيين ومليكهم ببعض. امتلكت الكلمة المسيحية اللاتينية credere المُصيّرة إلى “معتقد” في الإنجليزية حسا أخلاقيا عوضا عن أبستمولوجيا، وتعني “الوثوق بأحدهم” أكثر من “الاقتناع بأن مقترحا حقيقي.” ولذا تقتبس دوروثي ويلتك، التي كتبت عن هذا الموضوع، حالة أودي فاوري الفلاحة اليافعة التي جيء بها أمام محاكم التفتيش: كانت غير قادرة، كما تقول، لـ credere in Deum. ما عنت به، كما تشير ويلتك، ينبثق من السياق المفصل: لقد أخذت وجود الله كأمر مسلم به. وبسبب يأسها لم ترى في القربان الإلهي أي شيء عدا كونه خبزا، ولأنها وجدت نفسها تصارع أفكارا مقلقة عن الحلول، فإنها فقدت الأمل في رحمة الله. ليس من الواضح بأن مذهب ظهور جسد الرب على هيئة خبز موضع مسائلة هنا؛ وما معبر عنه بالتأكيد هو علاقتها الكظيمة معه كنتيجة لعدم قدرتها الخاصة على رؤية أي شيء عدا خبز. أي بالمختصر، إنه ليس مفهومنا الحالي عن المعتقد (بأن شيئا حقيقيا) هو ما كان غائبا في المجتمع قبل الحديث بل الكلمات المترجمة كذلك كانت منغمسة في علاقات اجتماعية وسياسية فارقة، ومُعربَة عن أحاسيس فارقة؛ فهم كلهم عيشوا أولا ثم نُظِّر عنهم ثانويا فقط. من المرجح جدا أن تايلور سيتفق مع هذا، لكن حينها على المرء أن يقول بأن ما هو على المحك أساسا في قصة العلمانية هو تغير فيما أسماه ويتغينستين “طريقة حياة” بأكملها، حيث فهم التجربة اليومية والتصرف لا يستلزم التأويل. ليس الأمر أن عدم الاعتقاد كان مستحيلا في نقطة ما من التاريخ وبذلك محتمل جدا في نقطة أخرى منه عوضا عن أن كلمة “معتقد” باتت تستخدم بطرق راديكالية مختلفة في الحالتين، مشيرا إلى توجهات تُعاش بشكل مختلف. ولذا يتساءل المرء ما إذا كانت قصة العلمانية من الأفضل أن تروى ليس كانتقال من تصورات “السمو” إلى “الجوهر” التي يؤول عبرها الأفراد تجاربهم بل كسلسلة من الانتقالات الغير منظرة بطرق المعيشة. إذا ما أخذ المرء السبيل الأخير فعليه أن يتجاوز قصة كيف أن تصورات كـ “الربوبية” أدت إلى “الإنسانية”، كيف تم المضي بالإصلاحات الأيديولوجية، وذلك عبر السؤال عن كيف نشأ ” الدافع لرفع المجتمع بأكمله إلى معايير أعلى” (تايلور، صفحة 63) – أي النزعة ذاتها للإصلاح.

تايلور ليس مهتما بشكل رئيسي بالطبع بالمعتقدات كنظريات بل كيف تتكسب التجربة الحية حسها ومقبوليتها. يريد أن يعدد كيف أن ” السياق المجمل للفهم الذي تأخذ فيه تجربتنا الأخلاقية والروحانية والدينية مكانها” تغير تدريجيا: كيف أن “الذات الإسفنجية” قبل الحديثة – التي لا تفرق بين ذاتها والقوى في محيطها (وبالتالي تخلط السبب الداخلي بالخارجي) – أفسحت المجال لـ ” الذات الصادة” الحديثة التي تتخذ “حدا واضحا بين الذهن والعالم وحتى بين الذهن والجسد.” (يتساءل المرء كيف يمكن اعتبار حالة الهيام أو حالة الفجيعة – أو حتى الإصابة بالشك – كتجربة للذات “الصادة”. لا أعني التلميح إلى أن الذات الحديثة لا تختلف حقا عن الذات “قبل الحديثة”. إنما نقطتي هي ببساطة أن انشطار “الصادة” و “الاسفنجية” لا تلتقط التعقيد المركب للذوات في علاقتها مع العالم، لمفاهيم الداخل والخارج، للطريقة التي يعمل بها الحس في ثقافات وطبقات ولحظات وفترات مختلفة.) يقول تايلور، بأنه حين يحاول الفرد الحديث “الغير مفتون” استعادة شيء يُشعر بأنه فقد تاريخي، أي تجاوز “الانهاك الحديث” الذي يعد نتيجة إصلاح مشوه، فإنه يسعى للافتتان مجددا عبر اختيار واحدة من المعتقدات الروحانية المعروضة. يمكن للمرء أن يقترح أن تايلور تجاهل بعمله هنا مع تعريف بداهي للدين باعتبار معتقدات – مسيحية – متسامية23 ، الافتتان المفروض من قبل الثقافة العلمانية الاستهلاكية على حياة الفرد – والافتتان المماثل بالعلم الحديث والتكنولوجيا.24 كان الافتتان كحالة موضوعية عن الكون في قبضة “أسباب مغلوطة” (خرافات) دوما اهتماما رئيسيا للأرثوذوكسية. وفي الحديث، الافتتان بالحياة العلمانية ليس غائبا، إنما شُخصنت كحالة من الجذل والبهجة.

وعلى أي حال، يستنتج المرء في نهاية الكتاب الحس الجلي لتايلور بأن المسيحية المعاد تشكيلها ستحفظ قيم فضائل الحداثة الليبرالية دون إنهاكها. لا يمكن للمرء العودة للخلف لأنه لا وجود للعصر الذهبي: أي يجب إعادة تصور المسيحية الحقة. يمكن أن تشرح هذه الثقة في فرص إصلاح قويم نبذ تايلور لأولئك الذين يعتبرون الحياة الحديثة تحمل صفة مأساوية – أي أولئك الذين وعوا بشكل قاس على استحالة حل غموس إنساني مسدود جلبه المرء بأفعاله العمياء وبالأشياء المحيطة بالمرء التي لا يمكن التحكم بها وبغدر التأويل.25

لكن قبل المضي أود أن أفرق بين الحس والتأويل من أجل توصيف “الاعتقاد” (بأن شيئا كذلك) كفئة تحليلية، وسأفعل ذلك عبر التنويه لتفريق روبن جورج كولينغود بين الشعور والحس في كفة والتفكير (والاعتقاد) في الأخرى. حيث يوضح كولينغود بأن في الأخيرة فقط من المعقول الحديث عن حدوث فشل لأن الشعور ليس نشاطا توجهيا.26 لا يوجد شيء في الشعور والحس يمكن القول بأنه يشكل خطأ؛ الأفكار – والمعتقدات كالأفكار – يمكن لها أن تناقض بعضها، لكن الشعور والحس لا يمكنهما ذلك إلا إذا ما جُعلا موادا للتأويل (التفكير)؛ فالاثنين تحليليا مختلفين. يمكن للمرء بالطبع أن يكون مخطئا في سبب ما يشعر به، ولكن في القبض على الأسباب يكون المرء في ميدان ما يسميه كولينغود “التفكير” بالمقارنة مع “الشعور“. وكما أفهم تايلور، فإن التجربة المؤولة للإنسان الحديث تحديدا هي التي تؤدي إلى صفته الاختيارية. وبينما صحيح أن فكرة الاعتقاد في قصة تايلور لا تملك دائما حس الاقتراح، إلا أن مركزية اعتبار ” التفسير” من الذات الصادة في هذه القصة تبدو بأنها تستبق افتراض شيء قابل لأن يُعبّر عنه – إن لم يكن مُتقرح حينها في صيغة سرد.

يذكر كولينغود القارئ بأن كلمة “شعور” استخدمت للإشارة إلى مدى من الحلات الجسدية، بما فيها الأحاسيس (حار/بارد، قاس/لين، مضيء/ معتم، إلخ) والعواطف (ألم أو متعة، غضب، خوف، غيرة، إلخ)، والذين صُنفوا بشكل متعدد في المواد المنشورة مؤخرا عن الموضوع. إن الحس والعاطفة ليسا مترادفين، كما يمكن للإحساس بالرؤية والسمع أن يكونا؛ أي أنهما تركيبيا مجتمعان. ولذا فإن تجربتنا في العالم جزئيا حسية – عاطفية وجزئيا فكرية، ولكن بما أن الأخطاء تُصنع فقط على مستوى التفكير والتأويل وليس على مستوى الشعور، على المرء ألا يفترض إطارا تأويليا لابد ودائما أن يرافق الحس والشعور. صحيح أننا في الطبيعة نرى الأشياء كشيء، ولكننا أحيانا نجفل من رؤية أو سماع شيء لا يمكننا فهمه. إننا نحس العالم قبل التحول لتأويله، إن الظروف التي تؤدي للاعتقاد ليست متاحة دائما.

كيف يمكن أن يحصل في مجتمع رأس مالي حديث أن يعيش المسيحيون وغير المسيحيين، المعتقدين وغير المعتقدين نفس الحياة تقريبا؟ أو بطريقة أخرى: إلا إن كنت تعرف أحدا جيدا لا يمكنك التكهن ما إذا كانت معتقدة أو لا من مجرد الطريقة التي تعيش بها؛ ماذا يقول هذا عن المعتقد الديني؟ يمكن لأحد الإجابات أن تكون بأن الاعتقاد الديني حيث يوجد ضمن الحديثين عميق جدا للدرجة التي يملك فيها في أفضل الحالات رابطا طفيفا جدا مع السلوك المُلاحظ. أحيانا ينكر الرابط بمجمله، كهذه العبارة المقتبسة لرئيس وزراء أونتاريو في صحيفة محلية: ” قال السيد ماكغوينتي ’ إني صنعت قرارات كرئيس تُعارض معتقدات في ديني الشخصي ‘منوها على دعمه للزواج المثلي والإجهاض. ’ إن كاثوليكيتي، إيماني الشخصي، لا يحدد موقفي. ‘”27   هذا يقترح أن ليس حيادية الحالة الديمقراطية الليبرالية هي ما تحمي المعتقد بل فصل الاعتقاد عن السلوك هو ما يسمح بهذا النوع من الحيادية. وإذا كان الأمر كذلك، يمكن للمرء أن يكتسب تبصرا إلى كيف يمكن أن يؤخذ الاعتقاد في المجتمع الحديث على أنه حالة داخلية، خاصة – وبذلك مقام مصيري للحرية.

إن عدم وجود ذكر للأزمة العالمية في قصة تايلور، والتي تهدد العالم اليوم، لأمر يستحق التفكر: التغير المناخي، عسكرة الفضاء والمرض، تصاعد الفقر والمطالبة المستديمة لنماء اقتصادي، الانتشار النووي، الحرب والإرهاب؛ حيث تظهر كلمة “أزمة “في كل النص فقط للإشارة إلى فقدان المعنى الشخصي، إلى الحاجة لمعتقد خلاصي. لكن ماذا إذا كانت الليبرالية الديمقراطية، التي تضمن للمسيحيين وغير المسيحيين حقهم لاختيار معتقدهم الخاص، غير قادرة على مواجهة الأزمة العالمية – لأنها، كما قال النقاد غالبا – اخترقت كصيغة حكومية المصالح الخاصة وتقبلت بشكل استثنائي قوى الشركات، لأنها تفضل أو على الأقل تسمح بامتداد عقلية السوق إلى كل العلاقات الاجتماعية، ولأن يسهل دفع مواطنيها إلى الارتياب الوطني؟ ماذا إذا كانت الليبرالية الديمقراطية 28 لا تعيق نشوء الفضائل الضرورية للتعامل مع الأزمة العالمية فحسب لكن أيضا (وهو الأكثر أهمية لجدليتنا الحالية) تعطل باستمرار الظروف التي يعتمد عليها ما يسميه تايلور “ الحس بالامتلاء”؟ وماذا إذا كانت، بشكل تعاكسي، هي تحديدا الشعور المستدام بالتعطيل، بالريبة، التي تغذي كل من قوة الليبرالية الديمقراطية ووعد الإصلاح الليبرالي؟

ومن أجل سبر كيف الدين، المعتقد والسياسة مربوطين ببعضهم، نحتاج أن نستفسر ليس في المشاهد المؤسساتية فقط، بل طرح عدة أسئلة أيضا عن الجسد، أحاسيسه، وتصرفاته. ونحتاج لهذا إثنوغرافيات للجسد البشري – تصرفاته تجاه الألم، الضرر الجسمي، التحلل والموت، وللنزاهة الجسدية، النماء والاستمتاع كذلك، للظروف التي تعزل الأشخاص والأشياء من أو تربطهم بشدهم ببعضهم. ماهي بنية الحواس – السمع، الرؤية، الشم، اللمس، التذوق – التي تعتمد عليها تصرفات ومدركات مخصوصة؟  كيف تأخذ الإدراكات الحسية شكلها (سواء عبر مشاريع أو تطورات طارئة) وتجعل من الطرق القديمة في التعامل مع العالم (التجارب القديمة) والصيغ السياسية القديمة أمرا ليس ذو علاقة؟ سيحتاج الباحثون في محاولة للإجابة على هذه الأسئلة بالطبع إلى هيكلة تأويل للمساعدة في التعرف على الحواس وتعبيراتها، لكن الأحاسيس نفسها لا تتطلب بالضرورة معانٍ لها.29 سيفهم الباحث بأنه من الممكن لإنسانة بشكل غير متوقع أن تقابل شيئا ما يحولها، بأن يُقبض عليها عبر حواسها بقوة (سواء ملازمة أو متسامية) دون الحاجة لتأويل أي شيء.

لقد أخذ المؤرخ الأنثروبولوجي ألين كوربين معضلة تغيير إدراكات عن العالم المرصودة بحواس إنسانية مختلفة – السمع، البصر، اللمس – دون أن يكون مهتما بشكل رئيسي بالتأويل.30 وبذا فإن دراسته، القذارة والعبق

(The Foul and the Fragrance)،31 تتعقب الخطابات المتشابكة بعمق على الظرف المتشنج للجموع المتمدنة، ظروف الأمراض المعدية، وممارسات النظافة الفردية في المجتمع الفرنسي بالقرن الثامن والتاسع عشر. كانت أحد العواقب الحتمية لهذه الظروف، كما لاحظ كوبين، هو تركيز مضاف على أولوية الرؤية الواضحة: “كان هناك اهتماما متزايدا بالنور في المساكن الخاصة، كما في الأماكن العامة؛ كان هذا ميلا عظيما في التصرفات بمنح غلبة غير متنافس عليها للمرئي.” (154) يوضح كوربين بأن ليس دائما الأفكار نفسها هي التي تغيرت فورا وإنما الصيغة الجديدة من الإدراك المصنوع لـ “ تعصب جديد لواقعية تقليدية.”(155-6) فعلى سبيل المثال، لاحظ بأنه حتى نهاية القرن الثامن عشر كانت العطور المبنية على الحيوانات (كالمسك) تستخدم من قبل النساء لإبراز روائحهن، ولكن في القرن التاسع عشر ومع الاهتمام الجديد بالنظافة الشخصية، أقصيت تلك العطور لصالح أخرى يمكنها تمويه رائحة الجسد بينما في الوقت ذاته تستحضر تعريضا خفيا للأنوثة.32 لم تكن تلك المشاعر تأويلات (حيث لا يمكن للفرد إخطاء الإحساس والأثر؛ يمكنه فعل ذلك فقط عبر التفكير بهما). ولكنها مع ذلك جزء مما منحته التجربة – وبذلك هي متاحة للتأويل.

تَهِب التقلبات في الإدراك الحسي تجربة الناس الآخرين والأشياء للعواطف مركبة (المقلقات والمتع)، وهي ليست وظيفة لما يحس فقط بل كيف. إن التنسيق الجديد للأحاسيس المرتبطة بأنماط جديدة من العيش ساهمت في جانب من الفردانية التي يمكن لنا التعرف عليها إلى حين كعلمانية: “جلبت تقنيات التهوية الأفراد إلى مواجهة جديدة مع الروائح الجسدية للشخص نفسه بالقدر الذي أقرت به الحاجة إلى المسافة بين الأجساد ومنح الحماية ضد روائح الأناس الآخرين، وبذلك مساهمة بشكل حاسم على نشوء نرجسية جديدة.”(95) إذا كان كوربين محقا، فمن الممكن إذن أن هذه النرجسية، هذا الحب لنقاء المرء ونزاهته، عززت الفكرة بأن تجارب المرء الشخصية ومعتقداته تحدد في النهاية من هو في العالم.

الشم، على عكس النظر، حاسة لا فعالة؛ أي لا يمكن إيقافها عند الرغبة كما يمكن للنظر. (هذا ليس القول بأن خاصية الشم لا يمكن تنميتها.) يمكن لها في محيط من النجاسة أن تسبب قلقا. هناك بعض الصدى بين بعض التوجهات الحسية المنبثقة التي يشير لها كوربين والمحاجات المصنوعة من قبل الأنثروبولوجية ماري دوغلاس في كتابها النقاء والخطر (Purity and Danger) سنة 1966. حيث يعتمد اعتبار التلوث، كما ادعت هناك، على الاعتقاد بأن نظاما من الفئات نُقضت أو دُلّهت: إن “عدم النظافة“، في عبارتها الشهيرة، “هي أمر خارج مكانه.” لذا فإن شعائر النقاء محاولات لاستعادة النظام الثلاثي للجسد الحي والمجتمع والكون الذي نُقِض. وهنا تساعدنا دوغلاس في رؤية لماذا نرجسية كوربين يمكن أن تكون انحرافا للريبة – لأنها تحديدا البحث القلق لمعنى نظامي في عالم يُعتقد باحتوائه لتهديد خفي لنقاء المرء الشخصي، ولنظامه، مما يجعله مرتابا. يمكن لهذا أيضا مساعدتنا في شرح التوق للإصلاح – المحرك لتصحيح نظم تُعتبر بأنها في خطر مستديم.

يبدو لي تشديد كوربين على عواقب الإدراكات الحسية الجديدة كجزء من عالم الأشياء المتغيرة التي لا يمكن السيطرة عليها مهما لأنه يضع في السؤال محاولة تفسير التحولات بالإشارة إلى العاقبة الغير مقصودة للإصلاحات الفكرية. بالطبع إن السلوكيات والمدركات تُنمى عمدا في الجسد من قبل مؤسسات وحركات اجتماعية. لكن سواء مغروسة أو غير مقصودة، فإن الأحاسيس (التي نأخذ حسها عادة كمسلمة) مركزية للحياة العامة التي يشارك فيها الناس، إلى الطريقة التي يدعمون، يذعنون، يقاومون، أو يبقون غير مبالين بقوى الحياة السياسية.33 إن الحياة العلمانية الحديثة ليست ببساطة الوصي على حق المرء الشخصي للاعتقاد كما يختار هو؛ إنها تواجه مدركات وسلوكيات مخصوصة، وتضع قيمة أعلى على بعضها مقابل الأخرى. ومع هذا حصلت الأحاسيس على تركيز أقل من عمل المعتقدات في دراسة السياسة. ما جاء ليناقش بشكل متزايد هو الالتزام: الالتزام في إنماء السلوكيات وكذلك تنظيم تصرف الفرد بالمثل من قبل السلطات. لكن مهم أيضا أن الالتزام بمعنى الإنماء الواعي للتصرف والمعتقد ليس الشيء نفسه كالتحول الغير مقصود في مركز الإحساس الموصوف من قبل الأنثروبولوجيين والمؤرخين مثل كوربين.

كثيرا ما تفشل القصة المألوفة عن دور الالتزام في تكوين الحضارة في تتبع كل الآثار المتباينة للالتزام، سواء المقصودة أو غير المقصودة. ولكن بافتراض أن الالتزام مركزي للقصة، فإننا نواجه سؤالا محيرا حين نتأمل ما يسمون بالـ “الأصوليين” في الشرق الأوسط المعاصر. ولذا وبالرغم من القول إن الفرد الملتزم في أوروبا-أمريكا الرمز الفارق للحداثة وحريتها، فإن وجود الالتزام في حياة المسلم عموما وفي الحركات الإسلامية خصوصا يؤخذ عادة في الغرب كدليل على العكس تحديدا. يُنظر لوجود قوانين للسلوك (الملبس، السيرة، الصلوات اليومية، إلخ.) وإنماء المدركات (كالتحكم بالعواطف في الحديث والتصرف تجاه الآخرين وتوقير نحو الصوت المقدس) كقيود وقمع. ذلك مثال عما تحذر ضده محاجات التسامح تحديدا: إذا ما فرضت مرجعية دينية أو سياسية أعرافا للتصرف ومذهبا على الفرد، وإذا ما كان هذا الفرض مقبولا، إذن لابد أن تكون هذه حالة من “معتقد صادق لكن زائف.” لكن هناك اختلافا واحدا أن التزام المسلمين الورعين مرتبط بحس قوي وإحاطة بحضور إلهي. ولذا أقترح عوضا عن التوجه لسلوك كهذا بالتنويه للمعتقد (في هذه الحالة المعتقد الزائف أو “الوعي المغلوط”) يمكن للمرء أن يتساءل عن كيف نميت الحواس الجسدية أو كيف شُكلِّت في عالم لا يمكن التحكم به بشريا، ومن ثم في أي سياسيات تُجعل هذه التشكيلات ممكنة أو عصيبة.

يقودني هذا إلى دراسة من قبل أنثروبولوجي حاول صياغة الأسئلة في إثنوغرافيته عن القاهرة بهذه الطريقة: المشهد الصوتي الأخلاقي لتشارلز هيرتشكيند. إن دراسة هيرتشكيند الأحادية الموضوع ليست لاعتبار الأفكار والمعتقدات بل تحليل لتبادلات انتمت لطريقة مخصوصة من الحياة. إنه يسأل كيف شكلت ممارسة هائلة الشعبية في الاستماع للخطب بالقاهرة المعاصرة المدركات الدينية وما كان بعض عواقبها في السياسة. فعبر التاريخ الإسلامي، كان حضور خطبة الجمعة جزءا مهما من تشكيل الفرد المسلم.  يحلل هيرتشكيند استقبال الخطب على أنها عملية نشطة، حيث ينمي المستمع المؤمن قدرته على الحضور. لم يعد الاستماع للخطب محصورا في مسجد الجمعة بالقاهرة الحديثة، ولم تعد تجربة واحدة كل مرة. يمكن الاستماع للخطب المسجلة الآن مرات عدة، في سياقات متمدنة عديدة، ودون رقابة. يصف هيرتشكيند هذا بعبارة جذلة “التزاما غير ملتزم.”

أثرت الخطابة السياسية والترفيه الإعلامي على أنماط الخطب وبذا صنعت روابطا جديدة مع مؤسسات الحياة الوطنية والمجتمع الإسلامي المتجاوز للقومية (الأمة). لقد نمت هذه الحركة جزئيا كردة فعل على محاولات الدولة المصرية لقمع الإخوان المسلمين الذين يشكلون أكثر معارضة شعبية جدية ضدها. يصف هيرتشكيند على اعتبار الحركة، كيف دعمت ممارسة الاستماع إلى الأشرطة مدركا صوتيا معارضا لهوس الدولة بالتحكم المكاني ولمحدثي النعمة الذين تقهقروا إلى مجتمعاتهم النظيفة المرتبة والمبوبة. احتوت هذه المعارضة على صراع لا ينتهي عن كيف يجب أن يُعاش “الإسلام الحقيقي.” وبذا ما أسماها هيرتشكيند شعبية – مضادة هي مساحة إسلامية من البعد الأخلاقي عن النظام الإسلامي- العلماني المتجانس. يقول لنا على سبيل المثال بأن العديد من الإسلاميين يعتبرون نظام الالتزام الشخصي كمساعد لنشوء ردة فعل يمكنها أن تهاود إن لم تفسخ بالكامل مغريات الثقافة النيوليبرالية الاستهلاكية. إن الحركة ليست ليبرالية بالطبع، لكنها تروج وتدافع عن الفردية المستقلة حيث يُشجع الفرد دائما على صنع خياراته الذاتية؛ إن هدفها في المقابل هو تشكيل أفراد أخلاقيين قادرين على العمل في السياسة الوطنية والتي لا يمكن التكهن بمستقبل تطورها.

ومنذ أن عمل هيرتشكيند دراسته في ذلك المحيط، انبثقت حركة معارضة عُرفت بـ كفاية. إن كفاية تتداخل مع الشعبية – المضادة التي يصفها هيرتشكيند وتجمع عناصر اجتماعية عدة سوية – مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وليبراليين علمانيين، نساء ورجالا، خبراء واتحاديي عمال –  في تحالف ضد فاشية الدولة النيوليبرالية. لا يعني ذلك وجود اتحاد سعيد لكل تلك العناصر، بل أن جمهرة صعبة الرد قائمة كأساس من مدرك سياسي. إن ما يجمع العلمانيين الليبراليين والإسلاميين سوية – بالرغم من عدم الارتياح المتبادل – ليس معتقدهم تحديدا، بل تصرفهم المعارض، شعورهم المشترك بأن الظروف في مصر لا تطاق، حسهم بفظاعة الدولة وعنفها تحديدا. يتحدثون عن معارضتهم ليس كشيء اختاروه وإنما كانوا مجبرين على اتخاذه. إن هذا الوضع ليس سلبيا بالمطلق؛ إنه يمنح أيضا مساحة من التفاعل والتفاوض اليومي. إن التدخلات الحصيفة والغير حصيفة لنفوذ الدولة الأمريكية والقبضة الخانقة لنظام مبارك على النظام السياسي – الاقتصادي، يجعل من الغائية مستحيلة واقعيا. يظل ما يحمله المستقبل غامضا. لكن التدين للأفراد المسلمين المرتبطين بهذه الحركة، والذين قابلتهم، هو نمط غالبا غير مستقر باطنيا بيد أنه متحضر خارجيا. يسعى هذا التدين إلى إنماء مشاعر مواءمة للاهتمام المشترك داخل المجتمع، وفي هذا المعنى يمكنها أن تدعى روحا ديمقراطية الخُلُق. إلى أي مدى نُمي هذا الأمر بنجاح ضمن عدد مهم من الناس هو بالطبع مسألة أخرى، لكن نقطتي هي أن المعتقد بمعنى القناعة الخاصة لم يكن له علاقة بالأمر كثيرا.

أختم بسؤال يحتاج التفكير به. إنه سؤال قديم لكنه لم يجب عليه – في نظري – بشكل مرضي: كيف يمكن للمدرك الديمقراطي كروح أخلاقية (سواء “دينية” أو “علمانية”) أن تنسجم مع الديمقراطية كنظام سياسي لدولة؟ يتعلق الجزء السابق في نهاية الأمر بالرغبة في اهتمام مشترك، التضايق من إنزال الألم والإهانة، الاهتمام بالحقيقة أكثر من حقوق فردية مستديمة، القدرة على الاستماع وليس مجرد القول، الاستعداد لتقييم السلوك دون الحكم على الآخرين؛ أي يميل باتجاه شمولي أكثر.34 أما الجزء اللاحق فهو حريص على سيادته، يُعرف ويحمي الحقوق الفردية لمواطنيها (بما فيها حق “حريتهم الدينية”)، يشحنهم بالحماسة الوطنية، ويستحضر العقلانية البيروقراطية في حكمهم بشكل عادل؛ إنه حصري في الأساس. إن نقطتي ليست للحث بأن الاثنين غير متوافقين بالضرورة. إني أسأل ببساطة ما إذا كان اللاحق يقوض السابق – وإذا كان يفعل، فإلى أي مدى. إني أقترح أخيرا، بأن الفكرة الحديثة للمعتقد الديني (المحمي كحق فردي) هو وظيفة الدولة العلمانية وليست مدركا ديمقراطيا.

 

 

 

 


الهوامش والملاحظات:

1-لسوء الحظ لم أقرئه حين كتبت مقالتي سنة1983 عن تعريف الدين في الأنثروبولوجيا المنشورة في (in Man, N.S., vol. 18) والتي أعيد نشرها في النهاية كفصل أول في Genealogies of Religion سنة 1993، ولذا لم تتمكن من الاستفادة من تبصراها. إن مقالة جوناثان سميث الرائدة Imagining Religion: From Babylon to Jonestown (1982) لم تكن متاحة أيضا في ذاك الوقت. وحيث أن دراسات أخرى ظهرت حيث أرخ مفهوم الدين. كان من اللافت فيها:

Philip C. Almond, The British Discovery of Buddhism (1888), Peter Harrison, ‘Religion’ and the religions in the English Enlightenment (1990), Daniel Dubuisson, L’Occident et la religion: Mythes, science et ideologie (1998), and Tomoko Masuzawa’s, The Invention of World Religions (2005).

2- “On re-reading a modern classic: W.C.Smith’s The Meaning and End of Religion”, in Hent de Vries and Samuel Weber (eds.), Religion and Media, Stanford: Stanford University Press, 2001.

3- Wilfred Cantwell Smith, The Meaning and End of Religion, Minneapolis: Fortress Press, 1991 [1962], p. 191, emphasis added.

4- Robert Orsi’s Between Heaven and Earth (Princeton: Princeton University Press, 2005)

ترسم بتبصر وعطف الطريقة التي تتشكل فيها الحياة العادية للأفراد عبر مدى من الأديان، المدركات، والمواد.

5-وبهذا ” سيحافظ أغلب الأنثروبولوجيين، بأن لا وجود لشيء اسمه دين، عدا شيء من وفقط شيء من ظاهرة شبيهة بما يجده المرء في الأماكن الأخرى، والتي تذكر المعاين بطريقة نظرية غير مهمة بهذا عما نشأنا على فهمه عبر المصطلح،” موريس بلوخ، “هل المعتقدات الدينية غير منطقية؟” في

Nancy K. Frankenberry (ed.), Radical Interpretation in Religion, Cambridge: University Press, 2002, p. 13.

ما تسقطه هذه الإسمية كيف أن الأمور التي يُتعرف عليها كـ ” دين” في مكان ما تشكل أشياء (بما فيها ممارسات) تتعلق ببعضها – لكن بشكل مختلف في تقاليد مختلفة. هذا “التعلق ببعض” هو ما يجعل “الدين” حقيقيا، وتحوي السؤال المهم نظريا في كيف ولأي مدى تعابير دين ما يمكن ترجمتها إلى أخر.

6- على اعتبار إعادة بنية السينهالا البوذية بمواجهة البروتستانتية الاستعمارية في المقالة الرائعة لـ

David Scott’s fine essay entitled “Religion in Colonial Civil Society” in his Refashioning Futures, Princeton: Princeton University Press, 1999.

7- “Trying to Understand French Secularism,” in Hent de Vries and Lawrence E. Sullivan (eds.), Political Theologies, New York: Fordham University Press, 2006.

8- دراسة مذهلة حيث استدعي مؤلفها كخبير للمحكمة

Winnifred Fallers Sullivan, The Impossibility of Religious Freedom, Princeton: Princeton University Press, 2005.

9- كان بعض أكثر الأنثروبولوجيين البريطانيين تأثيرا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة متحولين للكاثوليكية:

  1. E. Evans-Pritchard, Godfrey Lienhardt, David Pocock, Victor Turner.

10-  J. L. Austin, Doing Things with Words, Oxford: Oxford University Press, 1962.

11- Jean Pouillon, “Remarks on the Verb ‘To Believe’” in Michel Izard and P. Smith (eds.), Between Belief and Transgression, Chicago: Chicago University Press, 1982 [1979]; Dan Sperber, “Apparently Irrational beliefs” in Martin Hollis and Steven Lukes (eds.), Rationality and Relativism, Oxford: Blackwell, 1982; Malcolm Ruel; Pascal Boyer, The Naturalness of Religious Ideas, California University Press: Berkeley and Los Angeles, 1994; Maurice Bloch, op. cit.

12- “Christians as Believers,” in John Davis (ed.), Religious Organization and Religious Experience, London: Academic Press, 1982, pp. 16-17.

13- Maurice Bloch, “Symbols, Song, Dance and Features of Articulation,” in The European Journal of Sociology, 1974; Political Language and Oratory in Traditional Societies, London: Academic Press, 1975.

14- Erving Goffman, The Presentation of Self in Everyday Life, New York: Doubleday Anchor Books, 1959.

15- Saba Mahmood, Politics of Piety: The Islamic Revival and the Feminist Subject, Princeton: Princeton University Press, 2005.

16- Susan Mendus, Toleration and the Limits of Liberalism, Atlantic Highlands, NJ: Humanities Press, 1989. Mendus borrows this distinction from Bernard Williams.تستعير مينداس هذا التمييز من برنارد ويليامز

17- لقد أشار علي صديق بأنه يمكن أن تعرف الأصالة دون الرجوع إلى على الاختيار إذا كان يُنظر للمعتقد كنتيجة ثانوية لتحقيقاتي التي أكتشفها لكن ليست مفروضة عبر غسيل دماغ. هذا البديل الغير تطوعي لفكرة الأصالة دون استحضار الخيار جذاب، لكني لست مجذوبا به. ما هي العلاقة بالضبط بين “هويتي” و “تحقيقاتي الذاتية”؟ هل التكهنات التي يعتمد عليها تحقيقي لي حتى لو اكتسبتها من الآخرين (الوالدين، المدرسين، المروجين، المراسلين، إلخ)؟ وإذا اختبرتهم، متي يمكنني القول بأنه فعلت ذلك بشكل كفوء جدا؟ أخيرا: هل معتقداتي حقا لي في حين أنهم مجرد ناتجين من جهد فكري؟

18- إن الادعاء الذي عزم صنعه ضد الدولة وليس ذد السوق – حيث التدخل الدعائي يستحيل إلى قهر داخلي (الرغبة بالاستهلاك) والذي يصير بعدها كشيء من الحقوق الفردية والمسئولية الشخصية. وبالطبع لا يمكن صنع الادعاء بطريقة عامة ضد الوالدين والمعلمين.

19-هناك مراجع قليلة تحكي عن أن الدولة الحديثة – والمؤسسات والممارسات العامة – لم يعودوا مرتبطين بإيمان في الله. تنشطر هذه النقطة في نصوص أخرى يتعامل فيها تايلور مع العلمانية على سبيل المثال:

“The Politics of Recognition,” in Multiculturalism and “The Politics of Recognition”, edited by Amy Gutmann, Princeton: Princeton University Press, 1992; “Modes of Secularism,” in Secularism and Its Critics, edited by Rajeev Bhargava, Delhi: Oxford University Press, 1998; Charles Taylor, Modern Social Imaginaries, Durham, North Carolina: Duke University Press, 2004; and also Gerard Bouchard and Charles Taylor, Building the Future: A Time for Reconciliation, Abridged Report, Government of Quebec, 2008.

20- “Embodied Agency,” in H. Pietersma (ed.) Merleau-Ponty: Critical Essays, Washington, D.C.: University Press of America, 1989, P.5.

على سبيل المثال ” بل كعضو متجسد لا يمكنني فقط أن أفعل بالأشياء، لكن الأشياء تفعل بي. إن محيطي ليس معبر عنه في مجالات من الإتاحة وعدمها فقط، بل مجالات من التهديد والأمن؛ وتلك الفروق المختلفة بالطبع متشابكة بقرب: إن سفحا تحت قدمي لا يحدد فقط مجال عدم الإتاحة فحسب بل الخطر أيضا. وذلك بسبب لأن الفعل والمعاناة متشابكان. كون محيطي ضيق نسبيا، بحيث لا يمكنني التحرك بسهولة، يجعلني أجرب ما يشبه الحبس.” المصدر السابق، 5.  والتركيز هنا أن معنى الأشياء تتوافق حسب العضو المتجسد – كما لو أن السفح المادي بإمكانه أن “يفعل بي”، وعضويتي المتجسدة تعرفت على فعل ذو معنى لي. لا أقر أن السفوح لا تعنيني.

21- Rodney Needham, Belief, Language and Experience, Chicago: Chicago University Press, 1972.

22- تعتمد تعليقاتي عن استخدامات اللاتينية في العصور الوسطى على كيف نترجم “الدين” اليوم بشكل كبير على:

Dorothea Weltecke, “Beyond Religion: On the lack of belief during the Central and Late Middle Ages” in Heike Bock, Jörg Feuchter, Michi Knecht (eds.), Religion and Its Other, Frankfurt: Campus, 2008.

لكني استشرت أيضا

Rudolf Bultmann and Artur Weiser, Faith, (Bible Key Words), London: Adam & Charles Black, 1961, Part IV. الذي يتعامل استخدام العهد الجديد

Chapter 6 of Wilfred Cantwell Smith’s Faith and Belief (Princeton: Princeton University Press, 1979).

يوفر تاريخا مفيدا للكلمة الإنجليزية “معتقد” والتي تتوافق مع نقاش ويلتك عن لاتينية القرون الوسطى.

23-” إذن يمكن تعريف ‘الدين‘لغياتنا من باعتبار ‘السمو‘، لكن يجب أن يفهم المصطلح اللاحق في أكثر من بعد. سواء كان يعتقد المرء بوكالة أو قوة ما تسمو فإن الأمر الملازم مطلوب، وهي ميزة حاسمة لـ ‘الدين‘…” المعتقد ليس كل ما هناك في الدين بالطبع ولكنه مركزي عند تايلور.

Taylor’s book, A Secular Age (p.20).

24- لا يوجد شيء “بطولي” في هذا الوعي. لأجل مناقشة محفزة للتفكير عن المعضلة السياسة الحديثة كمأساوية انظر:

Colin Campbell, The Romantic Ethic and the Spirit of Modern Consumerism, Oxford: Blackwell, 1987; and Jane Bennett, The Enchantment of Modern Life, Princeton: Princeton University Press, 2001.

25- David Scott’s study of the Haitian revolution, Conscripts of Modernity: The Tragedy of Colonial Enlightenment, Durham: Duke University Press, 2004.

26- R.G. Collingwood, The Principles of Art, Oxford: Clarendon Press, 1938, especially Chapter VIII.

يبدو لي نقاش كولينغود في هذا الموضوع أكثر إقناعا من استخدام تايلور لـ ” الرجل كحيوان تأويلي الذات،” لأن السابق يسمح لنا بالفهم دون التأويل بطريقة لا يمكن للاحق أن يفعل.

27- S.Agrell, “It’s wrong to fund private religious schools.” http://www.theglobeandmail.com/servlet/story/RTGAM.20070917.wlibs0917/BNStory/ontarioelection2007/ accessed December 8, 2008.

28- إني متردد في الحديث هنا عما يسمى “الديمقراطية الليبرالية” لسببين رئيسيين: أولا، إن مهتم بشكل رئيسي بالتركيبات التي تعبر عن المجتمعات الليبرالية الديمقراطية الموجودة واقعيا – الاقتصاديات الرأسمالية المعتمدة على النماء الغير مقيد والاستهلاكية – وليس لما يعتقد بعض المواطنين أن على ليبرالية الديمقراطيات أن تكون. ثانيا، للحديث عما يسمى ليبرالية ديمقراطية هو افتراض (خطئا أظن) بأن اللغة العامة للديمقراطية الليبرالية المستخدمة من المدافعين والناقدين للنظام السياسي واضحة وغير مبهمة، تلك المحاجة العقلانية يمكن أن تحجم بشكل قاتل التبريرات الأيديولوجية للحكام – وبذلك تذيب الدوافع (الواعية والغير واعية) المغمورة في التركيبات المؤسساتية المتواجدة.

29- إن أعمال Walter Ong خاصة:

Ramus, Method, and the Decay of Dialogue (1958) and The Presence of the Word (1967)

ذات علاقة لتلك الأسئلة لأنه كان ضمن الأوائل بتتبع التحولات من الاعتماد على السمع إلى تركيز أولي على النظر. وهو أمر أُنتقد بحق لاستذكار قصة بسيطة جدا عن مراحل التاريخ في تطور التواصل الإنساني (من الثقافة الشفهية عبر الأبجدية وإلى الإعلام الإلكتروني). في الواقع، تشابك كل من الشفهية والكتابة في الماضي والحاضر بشكل معقد. فلأعطي مثالا من النص التراثي الإسلامي، حيث أن حاستي السمع والبصر، القراءة والإلقاء متشابكين بقرب. ومن هنا يأتي معنى القرآن المتجذر عميقا في مستديمات مركبة – بعيدا عن المدارس الكبرى للتأويل التي منحت له معانيه. فإن النص الأقدم، المكتوب في مخطوطة عربية بدائية في القرن السابع الميلادي، يبدو بأنها عوملت كنوع من التدوين الموسيقي، في عجالة التسليم الشفهي الذي اعتمد على الحفظ عبر الترديد. مضت الإشارة والصوت معا ولكن ليس في أي طرق ثابت. ولأن التقاليد الشفهية كانت مستمرة فقط، كانوا قادرين على توفير إطارا ملازما للنص الخطي، وبالتالي استقبالها البحثي عبر القرون. وهو جهد تُطلب دائما لتجريد النص القرآني كمادة فكرية مؤولة من العلاقة بالصوت المشحون والجسد الحاضر مع مخزونها النامي من المحفوظات.

30-من أجل مناقشة عن الاحتمالات المنهجية والمنزلقات في هذا المجال، انظر:

“A History and Anthropology of the Senses” in Alain Corbin, Time, Desire and Horror, (1995).

31- Alain Corbin, The Foul and the Fragrant: Odor and the French Social Imagination, Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1986.

32- Corbin, p. 73.

33- Leigh Eric Schmidt, Hearing Things: Religion, Illusion, and the American Enlightenment (Cambridge, Mass: Harvard, 2000),

يتحدث هنا عن كيف إعادة تدريب الأذن المدعومة عبر مدى من النظم المتجسدة من المسيحين والربوبين على السواء. إن اهتمام شميدت الأبرز هو أن حاسة السمع حاسمة من أجل السلوكيات العلمانية ويرتبط بإعادة تدريب السمع الانتقال من القبول الغير متأمل للحواس إلى واحد حيث كل الجواس مقيمة ومنضبطة كمصادر للمعرفة الموثوقة. وهي مشار إليه أيضا من قبل

Peter Dear’s Discipline and Experience: The Mathematical Way in the Scientific Revolution, Chicago: Chicago University Press, 1995.

فعبر هذا الطباق بات معنى الاعتقاد الحديث كميزة ذهنية في الطليعة، وأصبحت ادعاءات المسيحيين بامتلاك الحقيقة في الوضع الدفاعي

34-  Stanley Hauerwas and Romand Coles, Christianity, Democracy, and the Radical Ordinary (Eugene, Oregon: Cascade Books, 2008.

تصف بعضا من تلك السلوكيات التي تفرق بين ما يسمونه الديمقراطية الراديكالية من الديمقراطية الليبرالية