مجلة حكمة

المسالة الدينية-السياسية بين الدولة الدينية و الدولة الدين – السيد ولد أباه

فصل (المسالة الدينية-السياسية) من كتاب (الدين والهوية)


يخترق الفكر الإسلامي المعاصر اليوم صدام حاد حول المسألة الدينية ـ السياسية في ما وراء الاتفاق الظاهر حول مطلب “الدولة الإسلامية” والنبذ الجلي لمقولة “العلمانية”. و الأطروحة التي ننطلق منها هي أن مفهومَيْ “الدولة الإسلامية والعلمانية” يحجبان هذا التباين الواسع في النظر للمسألة السياسية – الدينية، سواء في مقاربتها التحليلية ـ التاريخية أم في النظر لطبيعة الدولة الراهنة ونمط شرعيتها وصيغ الاندماج فيها. وليس من همّنا وضع تحديدات نظرية دقيقة لهذين المصطلحين، بل سننطلق من تناولهما الإشكالي لضبط خيوط المسالة في أبعادها الحاضرة، في ما وراء الصدام الأصولي ـ العلماني المتفجر حالياً. ويمكن أن تميز داخل الفكر الإسلامي المعاصر بين اتجاهات ثلاثة متمايزة في النظر للمسألة:

– اتجاه يحصر نموج الدولة الإسلامية في أشكالها التاريخية، أي دولة الخلافة والدولة السلطانية بالاستناد إلى المرجعية الفقهية الوسيطة.

– اتجاه يسعى إلى أسلمة الدولة الوطنية الحديثة، أي إضفاء الشرعية الدينية على هياكلها المؤسسية البيروقراطية، مع تصويب منظومتها القيمية التشريعية.

– اتجاه يتبنى الدولة الحديثة ونمط العقلنة السياسية، التي تقوم عليها من منطلق تصورها الإجرائي الأداتي، الذي لا يتناقض جوهرياً مع المرجعية الإسلامية، بل يقبل شتى المقاربات القيمية. والواقع أن الفرق شاسع بين هذه التصورات الثلاثة، في منحيين بارزين على الأقل:

أولهما: طبيعة الدولة ذاتها: هل هي إمامة شرعية أم أداة تنظيم إجرائية أم تجسيد لقيم جماعية مشتركة؟

ثانيهما: طبيعة علاقة الدين بهذه الدولة: هل هي نظامه المؤسسي، الذي لا هوية له خارجه أم هي نظام بشري تحكمه قيم دينية أم أداة تنظيم اجتماعي له منطقه الداخلي، الذي لا يتعارض مع أي منظور ديني أو عقدي؟

أولا: دولة العقيدة أو دولة الأمة؟

هل كان النموذج التاريخي للدولة الإسلامية نموذجاً عقدياً يماثل الدولة الدينية، التي عرفتها العديد من المجتمعات في التاريخ القديم والوسيط، أم هي دولة الجماعة المسلمة وليست لها في ذاتها طبيعة دينية؟ لا شك أن هذا السؤال قد شغل الفكر العربي ـ الإسلامي المعاصر أكثر من أي سؤال آخر. ودون الخوض فيه بالتفصيل، نلاحظ إجمالاً أن أغلب وجوه الفكر الإسلامي المعاصر وإن أكّدت صراحة ووضوحاً على غياب الدولة الدينية في الإسلام، إلا أن تصوراتها لشأن الحكم لا تخرج إلا نادراً عن أحد نموذجين، هما: إما نموذج “الخلافة ” بحسب مقاييس السياسة الشرعية الوسيطة أو الأحكام السلطانية، أو نموذج “الحاكمية الإلهية”، أي الدولة التي يحكمها القانون الإلهي وتصبح فيها السيادة والشرعية للنص المنزّل لا الأمة الشارعة.

وبالرجوع إلى الكتابات التأسيسية في الفكر الإسلامي المعاصر للمسألة الدينية السياسية، لدى الجيل الأول من الإخوان المسلمين(1) نلاحظ أنها بلورت لأول مرة المفهوم السياسي للإسلام (شعار الإسلام دين ودولة) لكنها لم تخرج في الغالب عن الأُطر النظرية للأحكام السلطانية. فحسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين، لم يركز في أدبياته على الشأن السياسي، الذي لم يفرد له في أعماله سوى رسالة مختصرة حول نظام الحكم، يجمل فيها دعائم هذا النظام في ثلاث هي مسؤولية الحاكم ( كمسؤول عن الرعية) ووحدة الأمة واحترام إرادتها. ويكتفي البنا في عرض أفكاره بالاستناد إلى مفاهيم وشعارات عامة تحض على العدالة والشورى دون أن يحدد الموقف من طبيعة النموذج، الذي بدأ يتشكل في عصره، أي الدولة الوطنية الليبرالية، من حيث إشكالات الشرعية والتنظيم السياسي والعلاقة بالمجتمع. ومن الواضح أن مرجعية البنا الفكرية لم تخرج عن الأحكام السلطانية في نظرته لهذه الدولة ذات الخلفية والطبيعة المغايرة. فلئن كان يقف عند طبيعة النظام الدستوري النيابي للدولة الحديثة، ولا يرى فيه إجمالاً ما يتعارض مع الإسلام، إلا أنه ينظر إلى هذه التحولات الحديثة من منظور اصطلاحات الماوردي (وزارة التنفيذ ووزارة التقويض ومشورة أهل الحل والعقد)(2). ولعل تلميذه عبد القادر عودة هو أول من بلور النظرية الإخوانية للسلطة في كتابه المشهور “الإسلام وأوضاعنا السياسية” الصادر عام 1931. ولئن كان عودة يرجع في تصوره للدولة الإسلامية المنشودة للأحكام السلطانية ( دولة الخلافة الحارسة للدين والمقيمة لمصالح العباد) إلا أنه يدشن المقاربة النموقراطية للشأن السياسي السائدة لدى الإخوان حالياً، أي التركيز على الجوانب المتعلقة بالقوانين والحدود الجنائية واعتبارها مصدر شرعية الدولة المسلمة. يقول عودة:

” إن الإسلام يُلزم الناس بإتباع ما أنزل الله ويوجب عليهم أن يتحاكموا إلى ما جاء من عند الله ويحكموا به وحده دون غيره، وليس لذلك معنى إلا أن الحكم هو الأصل الجامع في الإسلام، والدعامة الأولى التي يقوم عليها الإسلام.. إن الإسلام ليس عقيدة فقط، ولكنه عقيدة ونظام، وليس دنياً فحسب ولكنه دين ودولة”(3).

وقد سعى يوسف القرضاوي في حتمياته، التي صدرت منذ نهاية الستينات، إلى تفصيل هذه الأطروحة من خلال ثقافته الفقهية الواسعة وأسلوبه التعبوي المبسط. فبالنسبة للقرضاوي لا يستقيم المشروع الإسلامي دون دولة تحتضنه، وهذه الدولة هي التي تحكمها الشرائع الإسلامية. ولئن كانت كتابات القرضاوي الأولى قد تزامنت مع أعمال الأخوين سيد قطب ومحمد قطب، إلا أنها اختلفت عنها في التركيز على هذا البُعد التشريعي الفقهي، في حين أرست حاكمية قطب تصوراً راديكالياً انقلابياً للنظام الإسلامي، يقوم على القطيعة مع المجتمع الإسلامي المنحرف (جاهلية القرن العشرين) ومع الحداثة الغربية التي لا يرى فيها إلا غزواً وافداً مرفوضاً” فالإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات .. مجتمع اسلامي ، ومجتمع جاهل.. المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يُطبق فيه الإسلام، عقيدة وعبادة، شريعة ونظاماً، وخلقاً وسلوكاً.. والمجتمع الجاهلي هو الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه (4).

وقد سار الخطاب السياسي للحركات الإسلامية في الاتجاهين، فانتهى في صيغته “المنفتحة” إلى نمط من الأحكام السلطانية بالمنظور الجديد ( رفع الشورى إلى مبدأ الوجوب والإلزام مع قبول النظام النيابي ولو في ظل حكومة تحكم بالإسلام بحسب التصنيف المذكور). وانتهى في أكثر صيغه انغلاقاً إلى الإرهاب الأصولي الراديكالي المدمر (نموذج التحالف بين حكومة طالبان وتنظيم القاعدة). إن ما نريد أن نبنيه هنا هو أن الفكر الإسلامي المعاصر تأرجح بطريقة ملتبسة ما بين مقاييس الأحكام السلطانية في نظرتها للدولة، التي كانت مؤطرة بتجربة دولة الخلافة أو الدولة السلطانية والتصورات القانونية للدولة الحديثة، دون تبين خيوط الفصل بين نموذجي الدولة و استتباعات هذا الفصل المنهجية والنظرية.

نلمس هذا التأرجح جلياً في تحديد طبيعة النظام السياسي في الإسلام: هل يشكل مقوِّماً من مقوماته الذاتية وأصوله العقدية أم هو إطار لتنظيم شؤون المجتمع المسلم وضرورة سياسية واجتماعية وليس أصلاً عقدياً أو التزاماً شرعياً ؟ فالإسلاميون المعاصرون وإن شكلت أدبيات السياسية الشرعية مخزونهم الفقهي، الذي يتسلحون به، نادراً ما يقفون عندها في تحديد مبحث الإمامة، الذي يقصر عن القول بالدولة الإسلامية التي هي الطبعة الإسلامية للدولة القومية الحديثة. ويرجع الإشكال إلى طبيعة النظرة الراهنة للنموذج التاريخي للدولة الإسلامية، التي تعبر تلك الأدبيات عنه. ولا يمكن بداهة فصل المسألة الدينية ـ السياسية عن المناخ العقدي والسياسي للصراعات التاريخية الحادة، التي مزقت الأمة منذ نهاية الخلافة الراشدة (5).

لقد أفضى هذا السياق التصادمي إلى تحطيم الحاجز بين العقدي والإيديولوجي في التصورات الدينية للمسألة السياسية (6). ولنشر هنا إلى أن التراث السياسي الإسلامي الوسيط يتوزع إلى ثلاث مدارس متمايزة، هي: الفلسفة السياسية والآداب السلطانية والأحكام السلطانية. أما المبحث الفلسفي، فلا يختلف عن مألوف الفكر اليوناني في نسخته الافلاطونية أساساً، وإشكاليته هي رسم المدينة الفاضلة، التي تنسجم والنظام العقلي للوجود وغايتها هي تحصيل السعادة الفردية والجماعية (7). أما الآداب السلطانية المستوحاة في الغالب من التراث الفارسي، فتندرج في سياق أدبيات مرايا الحكام بما تتضمنه من نصائح عملية لتدبير الحكم وافتكاك السلطة والحفاظ عليها (8).

وأما الأحكام السلطانية فهو جانب الإمامة وشروطها وموانعها ونواقضها. وإذا استثنينا الجانب الفلسفي، الذي لم يكن له تأثير يذكر في التجربة التاريخية للمجتمع الإسلامي ( لأسباب لها علاقة بخلفية نشأة وحضور المبحث الفلسفي في السياق الإسلامي) فإن السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية لم تتجاوز في الغالب إضفاء الشرعية البُعدية على تجارب شديدة التمايز والاختلاف، من حيث تركيبة الحكم وعلاقة السلطة بالمجتمع الأهلي، في حين لم تعن مرايا السلاطين ونصائح الملوك بمبحث الشرعية وإنما اكتفت بالجانب العملي التدبيري الصرف. فما يميّز إذن الأحكام السلطانية هو تحديدها لشرعية الدولة، التي لا خلاف حول وجوبها بأنها “موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” حسب عبارة الماوردي الشهيرة (9). ولا يدخل في اهتمامنا الحالي عرض أحكام الإمامة، كما وردت في كتب الفقه والسياسة الشرعية، وإنما سنكتفي بالتعرض للجانب المتعلق بتصور الدولة، من خلال الملاحظات التالية:

1-لئن اعتبر الفقهاء أن نصب الإمامة واجباً، إلا أنهم اختلفوا في طبيعة هذا الوجوب، هل هو بالشرع أو العقل أو هما معاً. كما اتفقوا على أن الإمامة “موضوعة” وليست “توقيفية” وأنها ليست من أصول العقيدة ( على خلاف الشيعة). وينم هذا التصور عن وعي ضمني بانفصال السياسي عن الديني في الهوية والمرجعية، والتقائهما في المقصد والوسيلة، على خلاف التصور الذي يجعل السياسة من محددات الدين نفسه.

ومن هنا ندرك زيف النظرية التي بنى عليها برنارد لويس قراءته للتصور الإسلامي للحكم، وفحواها هو أن الإسلام دين سياسي، تشكل الدولة مقوماً عضوياً فيه. فبالنسبة له يأخذ الإسلام من اليهودية فكرة القانون الإلهي المنظم لكافة شؤون البشر وإن كان يختلف عنها في بعده الجهادي الرسالي ( وجوب نشر الرسالة في العالم ولو بالقوة)، كما يختلف عن المسيحية التي يقترب منها روحياً في كونه أقام دولة ولم ينجح في تأسيس كنيسته. ويخلص لويس من هذه القراءة التصنيفية إلى أن المجتمع الإسلامي منذ بداية العهد النبوي وطيلة تاريخه ظل مجتمعاً له طبيعة مزدوجة سياسية ودينية، لا انفصام بينهما (10). فما غاب عن لويس هو أن البنية العقدية والخلفية للإسلام لم تنتج بذاتها نموذجها السياسي المحايث لها، حتى ولو كان من الخلف إنكار تشابك الديني والسياسي في رهانات معقدة، سنشير إلى بعضها. وحاصل الأمر، أن أدبيات السياسية الشرعية نفسها حتى ولو كانت اعتبرت نصب الإمامة فرض كفاية على الأمة، إلا أنها نظرت للدولة في طبيعتها القهرية التحكمية التي لا يمكن دمجها في البعد الديني نفسه.(11).

لهذا السبب المحوري، ظل الانفصال قائماً طيلة التاريخ الإسلامي بين المؤسستين الدينية والسياسية، ولم تندمجا في شكل مؤسسي جامع. ولذا لا يمكن النظر إلى الانفصال الحالي بأنه مستحدث وناتج عن التأثر بالعلمانية الغربية. بل إن رضوان السيد يخلص من دراساته المعمقة للفكر السياسي الإسلامي الوسيط وتجربة الدولة السلطانية، إلى أن تاريخ السلطة الإسلامية مع الشريعة “هو تاريخ صراعي أو نزاعي أفضى إلى إنفصال السياسة عن الفقه وأحياناً عن الشريعة، وقيام مجالين أحدهما سياسي والآخر شرعي، وقد سلّم كل من الطرفين للآخر بمجالة واستمر التجاذب على أطراف المجالين حسب توازن القوى والظروف” (12). وغالباً ما يصل الصدام ذروته في مراحل التأزم، مع الحفاظ دوماً على خط توازن هش بين الاستناد العام لمرجعية الدين ( من لدن الحاكم) وقبول الفقهاء لشرعية الحاكم حفظاً للسلم واتقاءً للفتنة.

والملاحظ أن الفقهاء انتبهوا في عصور تفكك الخلافة، إلى تعريف السياسة الشرعية بأنها تحقيق العدل وضمان المصلحة العامة، ولو خالفت ظاهر الشرع.فابن القيم ( المتوفي عام 751هـ) يُقر صراحة باختلاف منطق السياسة عن منطق الشرع، ويسوّغ الخروج عن النصوص لحفظ المصالح الضرورية، قياساً على آراء وتجارب الصحابة، قائلاً: ” وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع: فغلط وتغليط الصحابة.. فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه” (13).
فالفقهاء وإن أكدوا ضرورة انقياد الحاكم للشرع، وحددوا شرعية السلطة بهذا الامتثال، إلا أنهم أقروا، في الآن نفسه، بأن الحكم غلبة وقهر وقوة، وأن دولة الخلافة الحقّة مثال لا يتحقق إلا بالمعجزة الإلهية، فهي نوع من الطوبى التي تشكل نموذجاً أعلى وليست خياراً عملياً متاحاً.
وهكذا جمع الفقهاء ـ كما بيّن العروي ـ بين النزعة الأخلاقية الطوبائية والاتجاه الذرائعي الواقعي دون تناقض، لأنهم أدركوا “أن مجرد التحليل الفعلي يظهر أن الخلافة تعني في الحقيقة تجاوز الدولة، وبالتالي تجاوز الحيوانية في الإنسان.. إن واقعيتهم تتأصل في طوبائية دفينة: بما أن الخلافة تستلزم أن يصبح الإنسان غير الإنسان، فلا بد من العيش في انتظار المعجزة داخل دولة شرعية، أي دولة تطبق الشرع، وهذا موقف عام، غير متعلق بنوع خاص من الشرع”.(14)
2-إن الحديث عن علاقة الدولة السلطانية بالدولة الإسلامية المنشودة (كما هو الشأن في الخطاب الإسلامي المعاصر) لا يستقيم إلا بتبين الفارق الجوهري بين طبيعة الدولة السلطانية نفسها، من حيث المنطق والتركيبة و الصلة بالمجتمع الأهلي والدولة الحديثة التي تشكل في ما وراء هويتها العقدية، أو الحضارية نموذجاً سياسياً مغايراً يعبّر عن أفق تاريخي مختلف.
فالدولة الإسلامية الوسيطة لم تختلف من حيث تركيبة الحكم عن النموذج الإمبراطوري (الفارسي ـ الروماني) الذي ورثته، واستوعبته في أدائها التدبيري.
وهذا النموذج الذي دعاه ميشال فوكو بالرعوي (أي يقوم على استعارة الحاكم الراعي المسؤول عن رعيته) يتأسس على تصور افرادي لعلاقة الحكم، يحتفظ فيه الحاكم بالسلطة المطلقة، وفق تنظيم هرمي تراتبي غير مقيّد (15).
وإذا كان عبد الله العروي قد اعتبر أن العناصر المكونة للدولة الإسلامية الوسيطة هي ” الدهرية العربية” و “الأخلاقية الإسلامية” و “التنظيم الأسيوي”(16) في حين أرجع الجابري مكوناتها إلى ثالوث آخر هو “القبيلة و “العقيدة” و”الغنيمة”(17) إلا أن هذه المميزات لا تعني اختلاف النموذج التاريخي للدولة الإسلامية عن البراديغم الرعوي، كما تجلي في المقاربة الإطلاقية للحكم المبررة بالعلاقة الإفرادية المباشرة بين السلطان وكل عنصر من عناصر رعيته، وبالتالي وجوب الخضوع للحاكم بصفته المسؤول عن رعاية وضمان مصالح كل فرد من قطيعه.
بيد أن هذه العلاقة الإفرادية، وإن كانت أرست نظاماً هرمياً اطلاقياً مغلقاً، إلا أنها اختزلت، في الآن نفسه، دائرة التحكم خارج مجال السلطة السياسية، فأعطت هامشاً واسعاً للمجتمع الأهلي الذي احتفظ بأدوار إدماجية هامة اقتصادية وثقافية ( الأصناف والحرف ومؤسسات الوقف والعلم والطرق الصوفية…) (18).
فالنظام السياسي الذي يستأثر بإدارة العنف وبسلطة القرار التنفيذي محدود التأثير في دوائر المجتمع الأهلي، وفي مقدمتها الدوائر التي تسيطر عليها المؤسسة الدينية. ومن هنا أمكن القول مع وجيه كوتراني بواقع الانفصال ما بين الأمة والدولة في التاريخ الإسلامي، أي أن ” الأمة كإطار انتماء عقائدي وفكري وسلوكي للجماعة لم تندمج اندماجاً عضوياً في الدولة” (19).
وحاصل الأمر أن علاقة الدين بالسلطة في نموذج الدولة الإسلامية الوسيطة تتحدد في اتجاهين، هما من جهة انبناء الحكم على الشرعية الدينية ( الدولة الداعية الحاضنة للهوية العقدية للأمة التي قامت في كل الفضاء الآسيوي- المتوسطي الوسيط) ومن جهة ثانية انفصال المؤسسة السياسية عن المؤسسة الدينية، وانفصال الأمة عن الدولة في التركيبة الاجتماعية في سياق رهانات تجاذبية وتشابكية معقدة، طبعت محطات التاريخ السياسي الإسلامي.

ثانيا: فصل الدين عن الدولة أو فصل السياسة عن الدين؟

لاحظنا أن وجوه الفكر الإسلامي المعاصر قد تعودت على تناول شرعية الدولة الحديثة وعلاقتها بالدين من منطلق أدبيات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية.
وعادة ما يفضي هذا التناول إلى نعت الدولة الحديثة بالعلمانية التي تعني في السياق التداولي الإسلامي المعاصر نبذ الدين وإقصائه من الشأن العام.
ومع أن الحوار محتدم راهنا في الساحة الفكرية والسياسية العربية حول موضوع “العلمانية” وعلاقتها بالدين إلا أن هذا المفهوم غالبا ما يحجب الأسئلة الحقيقية التي تطرحها المسألة الدينية السياسية في الدول الحديثة.
فهل تعني العلمانية فصل الدين عن الدولة أم فصل السياسة عن الدين؟ أم إقصاء الدين من المجال العام؟ وكيف يمكن النظر إلى تفصيلات هذه العلاقة بحسب تباين وتنوع السياقات التي طبقت فيها النظم العلمانية؟
لا يبدو أن هذه الإشكالات قد لقيت اهتماماً جاداً في الساحة الفكرية العربية، حيث الصراع الإيديولوجي على أشده حول سبل ضبط العلاقة بين الديني والسياسي في مسلك تدبير الحكم.
وإذا تركنا جانبا الكتابات التبشيرية المتطرفة بالعلمانية، التي برزت منذ نهاية القرن التاسع عشر في قالبين فكريين، هما من جهة النزعة الوضعية المبسطة الداعية لاستبدال المنقول الديني بالمعقول التجريبي، ومن جهة أخرى النزعة التنويرية التاريخية في نظرتها للدين كمرحلة عقلية متجاوزة تتصادم وقيم الحرية والعقد الاجتماعي(20) ورجعنا إلى الكتابات الأكثر رصانة وعمقاً، أمكننا التمييز داخل الاتجاه العلماني العربي بين مقاربتين: صدامية تقوم على فكرة القطيعة بين الدين من حيث هو معتقد وسلطة والدولة من حيث هي مؤسسة الانتظام الإنساني المشترك وتوفيقية تقوم على قدرة الدين الإسلامي على استيعاب العلمنة من داخل نسقه العقدي والرمزي على غرار الديانات الأخرى.
أما المقاربة الأولى فيمثلها أقوى تمثيل عزيز العظمة، الذي يوظف عدة مفهومية مركبة وصلبة في الدفاع عن إقصاء الدين من الشأن العام وليس من السياق السياسي وحده.
ففي كتابه الأهم “العلمانية من منظور مختلف”(21) يخلص في تعريفه للعلمانية ورصده لحقول انطباقها وتتبعه لمسار نشأتها ولتحولاتها، أنها أوسع من تضاد الدين والدولة، وأن لها أوجها متعددة من بينها الابستمولوجي العلمي ( نفي الأسباب الخارجة عن الظواهر الطبيعية والتاريخية) ومن بينها التاريخاني الغائي ( تأكيد تحول التاريخ دون كلل) ومنها المؤسسي القانوني (الفصل التام بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية) ومنها الأخلاقي والقيمي(ربط الأخلاق بالتاريخ والوازع بالضمير بدل الإلزام والترهيب بعذاب الآخرة).(22).
ويُنهي العظمة كتابه بدفاع حاد عن الخيار العلماني بصفته المسلك الوحيد للديمقراطية، قائلا:” لا استعادة لأسس الديمقراطية إلا بانفكاك الفكر والحياة عن الارتهان بالمطلق، والغيب مطلق المطلق، أي أنه لا استعادة لأسس الديمقراطية إلا بالعلمانية”.(23).
أما المقاربة الثانية فيمثلها أجلى تمثيل محمد الشرفي في كتابه “الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي” (24) والفكرة الأساسية التي يدافع عنها الشرفي هي الفصل في الإسلام بين الجانب العقدي التعبدي الثابت والجانب التشريعي المؤسسي، الذي هو البعد التاريخي المتغير، الذي يحيل إلى سياق ماضوي لا قداسة له وليس مرتبط عضوياً برسالة الإسلام.
ويخلص الشرفي من استعراضه لتجربة الخلافة ونظام الدولة في السياق التاريخي الإسلامي، إلى أن التصور الإسلامي للحكم قابل لاستيعاب النظام العلماني، الذي لا يعني أكثر من الفصل الوظيفي بين الشأن الديني والشأن السياسي: “وما ينجم بوضوح مما تقدم أنه من ناحية لا يمكن أن تتوفر الحرية ولا الديمقراطية بدون الفصل بين سياسي الأمور ودينها، ومن ناحية أخرى أن الدولة الإسلامية، التي لم تذكر في القرآن ولا السنة هي مؤسسة ابتدعها الإنسان فاستعمل الدين لغايات سياسية” (25).
بيد أنه يُقر أن تخلّي الدولة عن وظيفتها في رعاية الدين وإقامته غير مقبول في السياق الإسلامي، ولذا اقترح قيام سلطة دستورية رابعة تدير شؤون الدين، على أن يكون الفصل محصوراً في صلب الدولة بين الوظيفة الدينية والوظائف السياسية (26).
ومن الواضح هنا أن الاتجاه العلماني العربي يتأرجح بين مقاربة “رخوة” تحصر العلمانية في الفصل الوظيفي بين الدين والدولة، بالاستناد عادة إلى أطروحة على عبدالرازق القائلة بأن الدولة ليست من مقتضيات الدين ولاشرائعه (27) ومقاربة “صلبة” تتوسع في إطلاق العلمنة لتشمل الفصل الكامل بين الديني والسياسي.
ونلمس التذبذب ذاته في الخطاب الإسلامي حول العلمانية، الذي يتأرجح بين النظر للعلمنة بصفتها فصلاً مرفوضاً بين الدين والدولة لا يستقيم مع التصور الشمولي للإسلام والنظر إليها كرؤية شاملة للكون تقوم على التصور العقلاني المادي للطبيعة وللمجتمع.
فالتصور الأولي هو السائد لدى الكتاب الإسلاميين، الذين يذهبون إلى أن العلمانية نتجت عن صراع الكنيسة والدولة في الغرب المسيحي، فكانت الحل الأمثل لهذا الصدام الذي لم يقم في المجال الإسلامي.
فبالنسبة لهم تتناقض العلمانية ومبدأ شمولية الإسلام واشتماله على أحكام الدين والدنيا، ولا يمكن أن تتأقلم مع الشرعية الدينية.
يُبيّن القرضاوي هذا الرأي بقوله: “إن العلمانية بمعيار الدين مرفوضة، لأنها دعوة إلى حكم الجاهلية،أي إلى الحكم بما وضع للناس، لا بما أنزله الله، أنها دعوة تتعالم على الله جل جلاله! وتستدرك على شرعه وحكمه” (28). ولئن كانت بعض وجوه الفكر الإسلامي التي تتبنى الرؤية التجديدية المنفتحة قد بلورت تمييزاً بين “العلمانية الإلحادية” و “العلمانية المسلمة” إلا أن تشبثها بفكرة شمولية الإسلام واشتماله لأمور الدولة والسياسة قد أفضى بها إلى رفض مقولة الفصل بين الدين والدولة، ولو سعت لتضييق الحيز السياسي في الإسلام (29).
أما التصور الثاني فنلمسه لدى عبد الوهاب المسيري، الذي كتب أهم عمل فكري إسلامي حول العلمانية (30) ميّز فيه بين “العلمانية الجزئية” التي تكتفي بالفصل بين الدين والدولة، و”العلمانية الشاملة” التي تتسع لتشمل كل ظواهر الحداثة الغربية في أبعادها “المادية العقلانية (التسلع والتشبؤ والترشيد والاغتراب والتنميط) وفي صياغاتها الفكرية المتنوعة (الماركسية والوجودية والنازية والصهيونية والتفكيكية..).
و يخلص المسيري في استكشافه لمسار العولمة إلى القول: “والنماذج الفكرية العلمانية .. تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة في المادة ( الطبيعة أو الإنسان أو التاريخ) ولذا فهي، أي المادة مرجعية نهائية مادية، مركز مطلق أو مركز يشكل مصدر التماسك في الكون والمجتمع، ويزوده بالهدف والغاية، ويشكل أساس وحدته”(31).
فإذا كانت المقاربة الدنيا ( القرضاوي) قادت إلى نفي العلمانية باسم شمولية الدين، فإن المقاربة القصوى (المسيري) أفضت إلى نفي العلمانية باسم شموليتها (عدم اكتفائها بفصل الدين عن الدولة، بل القطيعة مع الدين واستبداله برؤية كونية ومغايرة).
إن ما نريد أن نشير إليه في هذا الاستعراض المقتضب للتصورات العلمانية والإسلامية للمسألة الدينية السياسية المعاصرة، هو أن الخطابين المتناوئين يتفقان في ثغرتين أساسيتين:
أولاهما: اختزال علاقة الدين والسياسة في الطابع المؤسسي للدولة، أي نمط اشتغالها وهياكلها الدستورية والتشريعية (المقاربة الرخوة).
وثانيتهما: مصادرة تماهي الحداثة والعلمنة، دون تبيّن الرهانات المعقدة والمتباينة لعلاقة الديني بالسياسي في المجتمعات الحديثة ( المقاربة الصلبة).
ولنبادر بالتنبيه هنا أن السمة المميزة للدولة الحديثة هو أنها تأسست على مقاربة جديدة للسلطة ولعلاقة الشأن العام بالجسم الاجتماعي، قوامها التصور القانوني الإجرائي للمجموعة السياسية بصفتها تعبيراً عن علاقات تعاقدية، تستمد شرعيتها من داخل النسق المجتمع نفسه.
فالدولة من هذا المنظور ليست سوى أداة تنظيمية للنوازع الفردية المتصادمة، ولم تعد إطاراً شاملاً لتكريس قيم الفضيلة وتحقيق السعادة حسب التصورات اليونانية والوسيطة التي اعتمدتها الأدبيات السياسية الإسلامية.
بيد أن هذا التحول قد أفضى إلى نتيجتين، تبدوان متعارضتين، هما: تقويض الطابع المطلق الشمولي للدولة باختزال مبدأ التنظيم السياسي في إجرائية التعاقد العرضي، واستبدال المطلق الديني الذي كان هو أساس شرعية الدولة الوسيطة ( بمختلف ألوانها) بالمطلق السياسي، أي الولاء للأمة بمفهومها القومي والرمزي.

وقد أبدع العقل السياسي الحديث للتغلب على هذه المفارقة مفاهيم محورية مثل السيادة والتمثيل والشخصية، وهي كلها تعبيرات عن الحاجة الموضوعية للوساطة المطلوبة بين ذرات الجسم السياسي المشتتة بعد انهيار الوحدة الأصلية للكيان السياسي التي كان مرتكزها هو الدين.(32). ومن الواضح أن الأنموذج القانوني الذي أفرز هذه المفاهيم، تحول من سمته الإجرائية المحضة ( أي تنظيم علاقات القوى بين المجتمع مع الحياد الشامل إزاء شتى التصورات والأنساق القيمية) إلى طابع قيمي إيجابي، غذته الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، التي هي أساس التصورات العلمانية السائدة. فالدين من هذا المنظور هو، في آن واحد، العامل الخارجي المقصي، لأن مبدأ الشرعية مستمد من داخل نمط الاجتماع المدني والأفق الرمزي الحاضر بصفة ملتبسة من خلال السمة الإطلاقية للكيان السياسي.

ولقد تفطّن سراة الفكر الليبرالي الحديث الى أن المرور من المطلق الديني إلى المطلق السياسي يقتضي تحويل الدولة إلى دين يؤدي كل الوظائف العقدية والإدماجية والرمزية للديانات. فاعتبر كانط أن دولة المواطنة القائمة على الحرية تحقق الجوهر الأخلاقي للدين في حدود العقل (33) في حين رأى هوبز أن السلطة المطلقة للدولة “تضمن سيطرة الرب في الأرض وتحقق القوانين الإلهية المطلقة”(34). في الوقت الذي ماهى سبينوازا بين “الدين الحق” والمتناسق مع نظام الوجود” و “الحق الطبيعي” من منطلق وحدة الإله والطبيعة (35). أما روسو فقد تحدث عن “الديانة المدنية العمومية” أي ديانة المواطنة التي لئن كانت متميزة عن المعتقدات الدينية، إلا أن لها قداستها(36). أما هيغل فقد اعتبر الدولة الليبرالية الحديثة التجسيد التاريخي للمطلق الديني، والتحقيق الفعلي لقيم الحرية المسيحية.(37) من هذا المنظور يبيّن كارل شميت أن العلمانية لا تعني في الحقيقة الفصل بين الدين والدولة، وإنما تحويل المفاهيم اللاهوتية إلى مقولات سياسية إجرائية، حيث يتحول ” الحاكم السيد” (الدولة) إلى “الإله المطلق”. فالمقاييس المحايثة لا تتناقض ضرورة مع القيم الدينية المتعالية، بل هي ترجمة لها في النسق السياسي المعاصر (38). وعادة ما تخلط المقاربات السائدة حول العلمانية ما بين اتجاهات ثلاثة، ليست مقترنة بالضرورة.

– العلمنة بصفتها فصلاً مؤسسياً بين الدوائر الدينية والزمنية.
– العلمنة بصفتها مظهراً لتراجع وانحسار المعتقدات والممارسات الدينية.
– العلمنة بصفتها تقهقراً للدين في الدائرة ا لخاصة 39 .

فهذه الظواهر ليست بالضرورة متلازمة، مترابطة، بل تتمايز بحسب السياقات والساحات، حتى في العالم الغربي وداخل المجال الأوروبي ذاته، ولكل واحدة من هذه الظواهر محدداتها وأسبابها الظرفية.
فإذا كان التمايز بين المؤسستين الدينية والسياسية حالة عامة سائدة في كل البلدان الغربية الحديثة، إلا أن هذه الحالة لا تقتضي ضرورة تناقص أو انحسار الشعور الديني أو الممارسة الطقوسية الدينية، كما لا تعني هذه الحالة حصر الدين في الوعي الفردي. ففي بعض البلدان، حاربت الكنيسة الحداثة السياسية والثقافية فنتج عن ذلك تقلص وتراجع حضور الدين في الحياة العامة (كما هو الشأن في اسبانيا)، وفي بلدان أخرى اضطلعت الكنسية بدور محوري في مواجهة الاستبداد، فكانت طليعة تنويرية للمجتمع المدني، فشهدت صحوة دينية جلية للعيان (كما هو شأن بولندا). كما أن الفرق شاسع بين الكنيسة البروتساتنتية، التي ساهمت بدور أساسي في دفع اتجاه العلمنة، فتعايشت دون إشكال مع موجات الحداثة المتتالية، والكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الجنوبية التي لقيت مشاكل عويصة في استيعاب المفاهيم والقيم التحديثية (40).

وما يتعين التأكيد عليه هو أن العلمنة المتحققة هي العلمنة المؤسسية المتجسدة في الدولة القومية، التي اضطلعت ببعض الأدوار التاريخية للدين، خصوصاً ما يتعلق منها بالأبعاد الرمزية المشتركة، أي دائرة المقدس الجماعي الذي تحول منذ العصور الحديثة ـ كما بيّنا ـ من المؤسسة الدينية التي كانت تؤطر النسق الاجتماعي إلى الدولة التي أصبحت تؤدي الدور ذاته، في حين اضطلعت الإيديولوجيات بدور الدين العقدي، والطقوسي، في سعيها لمنافسة الديانات في معتقداتها التأويلية التفسيرية وفي ضبطها لوعي الناس ومخيلتهم. فالخطأ الجلل، الذي تقع فيه أغلب اتجاهات الفكر الإسلامي هو محاولة أسلمة الدولة الوطنية الحديثة، دون الوعي بأنها تستبطن الوظائف العمومية التقليدية للدين، وبإمكانها بسهولة تحويل شتى الدعوات الدينية إلى أحد أجهزتها الإيديولوجية الفاعلة التي توظفها في تكريس عقيدة الولاء للكيان القومي. وقد بيّن أولفيه روا في أحد أعماله الأخيرة أن التيارات الإسلامية الجديدة تؤكد- بدلاً من أن تنفي ـ الاتجاه المتنامي إلى انبثاق فصل جذري بين العقل السياسي في دلالته الكلية الشاملة كمقوم انتماء وطني لا يصطدم بالدين وحيز الانتماءات العقدية والسياسية الخصوصية، التي يشكل الوعي الديني السياسي أحد تجلياتها (41).

أي بعبارة أخرى، إنما نلمسه حالياً هو تحول التيارات الإسلامية في الوعي العام إلى مجموعات سياسية تمارس دورها التعبوي والإيديولوجي ضمن نسق الرمزية الدينية الجماعية دون أن تتمكن من وراثة المؤسسة الدينية التقليدية (الافتاء والوقف والتدريس) التي كانت تشكِّل عماد وجود الأمة الديني والثقافي. ومن الواضح أن المجموعات التي تطالب بحق المشاركة السياسية تجد نفسها مرغمة على قبول كسر احتكار الشرعية الدينية وعلى الإقرار ضمناً ومسبقاً بشرعية النظام السياسي الذي تصارع من داخله.

وهكذا يمكن القول أن هذه المجموعات تدفع بنمط انتظامها واستراتيجياتها النضالية نهج “العلمنة السياسية” باندماجها النشط في منطق العقل السياسي للدولة الوطنية الحديثة القائم على الفصل بين الوعي الديني والمجال العمومي.


المراجع

1- نساير رضوان السيد في قوله إن حركة الإخوان المسلمين شكلت اتجاها جديدا في الفكر الإسلامي عبر عنه بالاتجاه الإحيائي، الذي لا يمكن النظر إليه بصفة استمرارية أو امتدادا للإصلاحية النهضوية ( الأفغاني، محمد عبده..).. إذ إن إشكاليته ثقافية أخلاقية تتمحور حول هاجس الهوية ومحاربة التغريب. وليس التحديث والإصلاح.
راجع رضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر دار الكتاب العربي 1997 ( ص 157 ـ 170)
2- راجع : حسن البنا : مجموعة رسائل الإمام الشهيد. دار القلم (د.ت)
“مشكلانا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي: نظام الحكم” ص: ( 357-383)

3- عبد القادر عودة: الإسلام وأوضاعنا السياسية. مؤسسة الرسالة. ط9. 1997 ص:74
4- سيد قطب: معالم في الطريق دار الشروق طبعة 2000 ص 116
5- من أهم القراءات الجادة لهذه الأحداث:
فهمي جدعان: المحنة : بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام ط2 المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2000
H.DJAIT LA GRANDE DISCORDE GALLIMARD 1989
6- قدم محمد عابد قراءة تاريخية ـ إيديولوجية للتجربة السياسية الإسلامية الوسيطة في كتابه العقل السياسي ـ العربي: محدداته وتجلياته مركز دراسات الوحدة العربية ط1 1990
7- يقول الفارابي: “فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة.. والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه.”
آراء أهل المدينة الفاضلة. طبعة المكتبة الأزهرية للتراث 2002 ص 184
8- حقق رضوان السيد العديد من هذه النصوص وعالجها كمال عبد اللطيف في أطروحة بعنوان: في تشريح أصول الاستبداد : قراءة في نظام الآداب السلطانية دار الطليعة 1999
9- الماوردي: الأحكام السلطانية. المكتبة العصرية. 2001 ص 13
10- B.LEWIS L ISLAM EN CRISE GALLIMARD 2003 PP 28-52
11- ذهب برهان غليون إلى ” أن الدولة لم تكمن موجودة في الإسلام بالولادة، ولكنها كانت ثمرة الصراع العنيف، بل العملية القيصرية التي سوف يشهدها ا لمجتمع الإسلامي”
نقد السياسة : الدولة والدين. المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1991 ص 67
12- رضوان السيد: الجماعة والمجتمع والدولة. دار الكتاب العربي. 1997 ص 412
13- ابن القيم: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية مكتبة دار البيان بيروت 2005 ص 27 ـ 28
14- عبد الله العروي: مفهوم الدولة. المركز الثقافي العربي ط 5 1993 ص: 104. راجع للعروي أيضا في الموضوع نفسه.
ISLAM ET MODERNITE chap 1 centre culturel arabe 2001 pp 11-46
15- M.FOUCAULT OMNES ET SINGULATION VERS UNE CRITIQUE DE LA RAISON POLITIQUE IN DITS ET ECRITS TOME 2 GALLIMARD 2001 PP 953-980
16- مفهوم الدولة ص 92
17- العقل السياسي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. ط5 . 2004 ( ص 57-195)
18- راجع مثلا: “رضوان السيد ” الجماعات المدينية في الاجتماع الإسلامي: الأصناف: في مفاهيم الجماعات في الإسلام دار المنتخب العربي 1993 ص: 69 -97
– وجيه كوثراني: المجتمع والدولة في التاريخ العربي: مجتمع أهلي أم مدني؟ في مشروع النهوض العربي أو أزمة الانتقال من الاجتماع السلطاني إلى الاجتماع الوطني دار الطليعة 1995( ص : 85 ـ 102)
-L.GARDET LA CITE MUSULMANE VIE SOCIALE ET POLITIQUE VRIN 1976
19- وجيه كوثراني: المرجع السابق: ص 91
20- من أهم ممثلي هذا الاتجاه شبلي شميل وفرح انطون وسلامة موسى.
راجع حول هذا الاتجاه: كمال عبد اللطيف: مفهوم العلمانية في الخطاب السياسي العربي: الحدود والآفاق في : التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي افريقيا الشرق 2002 ( ص 47-85)
21- عزيزي العظمة: العلمانية من منظور مختلف. مركز دراسات الوحدة العربية. 1992
22- المرجع نفسه ص 37
23- المرجع نفسه ص 339
24- محمد الشرفي: الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي؟ نشر الفنك الدار البيضاء 2000
25- المرجع نفسه ص 173-174
26- المرجع نفسه ص 186-193
27- يقول علي عبد الرازق: “والحق أن الدين الإسلامي برئ من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبرئ من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم. وقواعد السياسية”
الإسلام وأصول الحكم. طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2000 ص 182
28- يوسف القرضاوي: الإسلام والعلمانية: وجها لوجه دار الصحوة للنشر القاهرة ط 2 1994ص 83
29- يذهب مثلا محمد سليم العوا إلى القول: “فحمل عبارة دين ودولة عند ما يوصف بها الإسلام لا يصح إلا على محمل واحد، هو وجوب اجتهاد العلماء المؤهلين لذلك في المسائل السياسية، مما يتصل بسلطات الدولة الثلات أو بما يتصل بعلاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول” النظام السياسي في الإسلام”. في حوارية برهان غليون ـ محمد سليم العوا: النظام السياسي في الإسلام دار الفكر دمشق 2004 ص 104. ويضيف موضحا رأيه: ” فيكون المراد من كون الإسلام دينا ودولة هو قبول المرجعية الإسلامية العامة التي تسمح بتعددها وتنوعها في الشأن السياسي، كما تسمح بتعددها وتنوعها في كل شأن إسلامي أخر**. المرجع نفسه ص 105
عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة(مجلدان) دار الشرق ط2 2005
30- المرجع نفسه المجلد 1 ص 237-238
31- راجع في نقد هذا التصور القانوني للدولة اعمال الفيلسوف الايطالي جورجيو اغامبن خصوصاHOMO SACER LE POUVOIR SOUVERAIN ET LA VIE NUE SEUIL 1997 PP 23-37
32- KANT LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA RAISON VRIN 1952
33- R.POLIN ;HOBBES DIEU ET LES HOMMES PUF 1981 PP 47-55
34- E.BALIBAR :SPINOZA ET LA POLITIQUE PUF 1985 PP 61-62
35- SIMONE GOYARD-FABRE POLITIQUE ET PHILOSOPHIE DANS L ŒUVRE DE J.J.ROUSSEAU PUF 2001 PP122-149
36- ERIC WEIL :HEGEL ET L ETAT VRIN 1970 PP 47-54
37- CARL SCHMITT :THEOLOGIE POLITIQUE GALLIMARD 1988 PP 46-58
38- J.CASANOVA :PUBLIC RELIGIONS IN THE MODERN WORLD CHICAGO UNIVERSITY PRESS 1994
39- PETER BERGER:LA DESECULARISATION DU MONDE UN POINT DE VUE GLOBAL IN LE REECHANTEMENT DU MONDE BAYARD 2001 PP 13-36
40- OLIVIER ROY :LA LAICITE FACE A L ISLAM STOCK 2005 PP 107-111