مجلة حكمة

خارِطة المذابح: كيف يتفاعل التاريخ مع الحاضر في أستراليا – سيريدوين دوفي / ترجمة: قيس عبداللطيف


من نيويورك إلى كيب تاون إلى سيدني، أجساد التماثيل البرونزية لرموز إمبراطورية الرجل الأبيض –كريستوفر كولومبوس، سيسل رودس، جيمس كوك– لطّخت بالبراز، رشّت بالألوان، غمّست أيديها في طلاء لونه أحمر. بعضها تمّ إسقاطه وتحطيمه. إن ما حدث لهذه التماثيل –التي تمثّل قادة ‘الرجال البيض المستعمرين’ في حقبٍ مختلفة، في شارلوتسفيل وأماكن أخرى– فتح النقاش حول الأفعال السياسية المتمثلة في إعادة إحياء ذكرى هؤلاء الرجال الذين هم شخصيات تاريخية مسؤولة بصورة مباشرة عن ارتكاب الفظائع. لكن عندما تتحطّم هذه التماثيل، كيف يمكن إعادة ذكرى هذه الفظائع بدلاً من قمع ذكراها [كما يحدث الآن]!.

طوال مسيرتها لم تفكّر المؤرخة ليندال ريان في شيء آخر [عدى هذا]. في أواخر التسعينات وبداية الألفية الجديدة، وجدت ريان نفسها في الخط الأمامي للصراعات التي عرفت لاحقاً –في أستراليا- باسم “حروب التاريخ“، مناوشات، تراشق بالكلمات، ونزاعات طويلة حول المصادر وأيها الصحيح، وفي الغالب كانت هذه الحروب حرباً مذاعة على وسائل الإعلام المحليّة. النقاش الأكبر كان حول إذا ما كانت الأدلة موجودة على أن السكان الأصليين تمّ تعذيبهم وذبحهم بأعداد مهولة أثناء عملية (الإحتلال الإستعماري) لأستراليا، في الفترة بين أواخر القرن الثامن عشر وحتى العشرينات من القرن العشرين، أم أنه ليس هناك أدلة –ريان وأخرون جادلوا لإثبات وجود الإدلة فيما رفض المؤرخون والسياسيون المحافظون هذا الطرح، وحتى أولئك الذي قبلوا الأدلة على حقيقة حدوث هذه المجازر على نطاق واسع، قبلوها على مضض وجادلوا طويلاً -في بعض الحالات ما يزال الجدال مستمراً حتى اليوم- حول عدة نقاط، أبرزها: العدد الدقيق للسكان الأصليين الذين قتلوا أثناء مقاومتهم للمستوطنين البريطانيين، قيمة وموثوقيّة الحكايا المروية شفاهياً في مواجهة التاريخ المدوّن كتابةً. ولم يتمّ الوصول إلى هدنة أو منطقة دافئة في هذه النزاعات التي أسماها الكاتب -ابن السكان الأصليين لاستراليا- ألكسيس رايت بـ”حرب رواية القصص (storytelling war) الأسترالية المتأصلة”. (في أكتوبر من العام 2017 رفض رئيس الوزراء الأسترالي –الأسبق- مالكولم تورنبول التوصيات الرئيسية لمجلس الإستفتاء الذي عيّنته الحكومة. وهذه التوصيات كانت ما خلص إليه المجلس بعد 6 أشهر من المشاورات مع أبناء مجتمعات السكان الأصليين في أستراليا وجزر مضيق توريس، والذين طالبوا بتأسيس صوت دائم للسكان الأصليين داخل البرلمان إضافة إلى الدفع بالإجراءات في مشروع “حقيقة القول عن تاريخنا” إلى الأمام).

في العام 2005، وفي خضم النزاعات العلنية حول تاريخ أستراليا، وقعت يد ريان على عملٍ بحثي للمؤرخ وعالم الإجتماع الفرنسي جاك سيملان. بعد مجزرة سريبرينيتشا التي حدثت في العام 1995 في البوسنة، كان هناك إهتمام متجدد من العلماء والدارسين الأوروبيين لمحاولة فهم المجازر كظاهرة. ولقد عرّف سيملان المجازر بأنها عملية قتلٍ عشوائية لأشخاص أبرياء وغير مسلحين خلال فترة زمنية محددة، وقد وصّف المجازر بأنها أعمال مخططٌ لها بعناية –أي أنها ليست أفعالاً لحظيّة أو أحداثاً تنشأ على هامش الحروب- يتمّ تغليفها بالسرّية بشكل متعمّد ومنظّم عبر التخلص من الجثث وترهيب الشهود. هذه التعريفات من سيملان دفعت ريان إلى إعادة النظر في دراسة سابقة لها أجرتها عن حرب جزيرة تازمانيا، والتي نشأت بين المستعمرين البريطانيين والسكان الأصليين في أوائل القرن التاسع عشر. وبإعادتها النظر خلصت ريان إلى أن المجازر التي ارتكبها المستعمرون بحق أبناء السكان الأصليين لم تكن 4 مجازر وإنما في الواقع كانت أكثر من 40 مجزرة.

“غالبية المؤرخين من أبناء جيلي نشأوا مع فكرة أن عمليات قتل السكان الأصليين (Aboriginal people) كانت محدودة جداً –أقرب ما تكون لعمليات فردية- مثلها مثل مقتل بعض المستوطنين عندما يكون هناك نزاع حول المال [الغنائم] أو النساء”، هذا ما قالته لي ريان مؤخراً، عندما إلتقيتها في معرض فنّي بحيّ كينغر كروس النابض بالحياة في سيدني، حيث كانت على وشك أن تبدأ الحديث للجمهور. ريان، البالغة من العمر 74 عاماً، صاحبة الشعر الأبيض القصير المشذّب، والطريقة الهادئة البطيئة والمدروسة في الكلام، وكل هذه الإنطباعات ستتلاشى سريعاً عندما تبدأ الكلام عن المجازر. لقد أدركت ريان بمجرد أن بدأت عمليات بحثها حول الموضوع أن عدداً من أقرانها يعيشون في حالة إنكار عميق للماضي. “هناك أناس سيقولون لي: لن نعرف أبداً عدد المجازر التي ارتكبت أو كم قتل من السكان الأصليين، إذاً، فما الفائدة المرجوة من محاولات البحث! لكن نفس هؤلاء الناس لن يقولوا أبداً نفس الشيء عن الحرب العالمية الأولى أو الثانية”.

مقرّ عمل ريان يقع في مركز تاريخ العنف في جامعة نيوكاسل، على الساحل قريباً من سيدني. قبل سنوات قليلة ماضية، تقدّمت بطلب للحصول على منحة بحثية لتبدأ العمل في مشروع طموح جداً: رسم خريطة لكل مواقع المجازرة التي أرتكبها المستعمرون الأستراليون، وجعل هذه الخارطة متاحة على موقع تفاعلي على شبكة الإنترنت. وفي هذا السياق فإن راين تعرّف المجزرة بأنها عمليّة القتل العشوائي لـ6 أشخاص مسالمين أو أكثر. وبما أن السكان الأصليين لأستراليا كانوا يميلون للعيش في تجمّعات سكّانية قوامها حاولي 20 شخصاً، إذاً فإن فقدان 6 أشخاص أو أكثر في عملية قتل واحدة –هي مذبحة كسورية- عادة ما تؤدي إلى انهيار المجتمع بأكمله.

بعد حصولها على المنحة أمضت ريان أربع سنوات من الأبحاث المضنية، لكن الخريطة التي تعمل عليها لم تصبح جاهزة أو حتى قريبة من ذلك. وحتى هذه اللحظة، الخريطة تتضمن أكثر من 170 مجزرة ارتكبت بحق السكان الأصليين في شرق أستراليا إضافة إلى 6 مجازر راح ضحيتها المستوطنون، جميعها حدثت في الفترة بين عامي 1788 و1872. وبحسب تقديرات ريان فإن عدد المجازر الكلي بحق السكان الأصليين يتجاوز الـ500 مجزرة، بينما المجازر بحق المستوطنين هي أقل من 10 مجارز. (ريان لم تقم بالبحث بعد عن أي مجازر ارتكبت بحق السكان الأصليين لجزر مضيق توريس، الذين يختلفون ثقافياً وإثنيّاً عن السكان الأصليين لليابسة [أرض أستراليا] لكنهم يتشاركون وإياهم ذات التاريخ من المعاناة من الإستعمار). في يوليو من العام الماضي، قررت ريان وفريقها البحثي الصغير أن الوقت قد حان لنشر الأجزاء المكتملة من الخريطة [التي يعملون عليها] على الإنترنت. وخلال 4 أشهر كان للموقع الإلكتروني أكثر 60 ألف زائر. وعلى العكس من مخاوف ريان، حاز الموضوع على تغطية واسعة من وسائل الإعلام –كانت في معظمها وسائل إعلام أسترالية محليّة-، لكن لم تكن هناك أي استجابة علنية من الشخصيات المحافظة.

في المعرض الفني [بحي] كينغز كروس، تم إطفاء الأضواء، وظهرت الخريطة معروضة على شاشة عملاقة، تبيّن الصورة الجليّة لأستراليا –القارة التي أعلن البريطانيون عند وصولهم إليها أنها أرضاً فضاء ليست ملكاً لأحد، وبالتالي فإن لهم الحق بامتلاكها-. وتنتشر على امتداد أراض ولايات الساحل الشرقي تلك النقاط الصفراء التي تتجمع متقاربة في غالب الأحيان. نقاط تمثّل كل واحدة منها موقع مجزرة ارتكبت بحق السكان الأصليين.

البيانات على الخريطة لا تزال بحاجة إلى تحسين –وهذا عائد -جزئيا- لمحدودية التمويل المالي، إضافة إلى الخطأ المعترف به من قبل ريان والمتمثل في أنها كانت ترى أنه يجب عليها أن تنتهي من الأبحاث [بشكل كامل] أولاً، قبل أن تزوّد مارك براون -رسام الخرائط في مشروعها- بالبيانات ليقوم بمعالجتها إلكترونيا وتضمينها الخريطة وقبل أن تراجع المعلومات مع بيل باسكو –الخبير بعلم الإنسانيات-الرقمية. ومع ذلك فإن جودة الخريطة لا يمكن إنكارها. ريان تنقُر على إحدى النقطة الصفراء والتي تمثّل واحدة من خمسة مذابح في منطقة بُحيرة جاك سميث، شرق ولاية فكتوريا في الجنوب الشرقي من أستراليا، تُـفتح صفحة جديدة تظهر عليها لقطة جوية من نظام المعلومات الجغرافية GIS، لقطعة أرض زراعية تتاخمها الأدغال ومطلّة على شريط رقيق من رمل شاطئ المحيط. وفي الصورة هناك قسم صغير مظلل باللون الأصفر، يحدد دائرة قطرها 5 كيلومترات هي الأرض التي وقعت عليها عمليات القتل. وتوضّح ريان أن الإحداثيات الدقيقة لأماكن وقوع المجازر لم يتم تحديدها، تقول: “بالنسبة للكثير من جماعات السكان الأصليين لا يفضّل أن يتمّ تحديد المواقع بدقّة، بدافع الإحترام لما يعتبرونها أماكن محرّمة احتضنت الفظائع، ولكن أيضاً لحماية هذه المواقع من عمليات التدنيس التي قد تتعرض لها إذا ما تمّ تحديدها بشكل واضح”. وبعض هذه المواقع هي ممتلكات خاصة أو أراضي تستخدم لعمليات التعدين، والبعض الآخر منها تقع في قاع السدود والخزانات المائيّة، لأن الكثير من تلك المجازر حدثت في مخيّمات وتجمعات سكّانية قريبة من روافد الأنهار.

على اليسار من شاشة العرض كان هناك رسم بياني يفهرس تفاصيل تلك السلسلة من المذابح [الخمسة] التي نفّذت في العام 1843. لغة مجموعة السكّان الأصليين (الضحايا): براتوالانغ (Brataualang). قتلى السكّان الأصليين: 60 (في كل واحدٍ من المواقع الخمسة المحددة). قتلى المستعمرين: صفر. الأسلحة المستخدمة: بنادق بوردي مزدوجة الفوّهة. تفاصيل الهجوم: عشرون رجلاً يمتطون الجياد، يعرفون باسم “فرقة التّل”، يقودهم أنغوس ماكميلان. وفي مربّع على الشاشة حمل عنوان “الحكاية”، هناك هذه التفاصيل المتفرّقة التي شكّلت قصّة مروّعة: كان ماكميلان -وهو مستوطنٌ محلّي- وجماعته من الفرسان –وجميعهم من الأسكتلنديين- قد استمروا ولسنوات بمهاجمة مخيّمات السكّان الأصليين دون أي رادعٍ أو عقاب. وفي هذه الحادثة، قاموا بمهاجمة خمسة مخيّمات على مدار خمسة أيام. في أحد المخيّمات قفز الناس هرباً إلى قاع إحدى البحيرات القريبة، لكنّ ماكميلان وجماعته انتظروهم وبمجرّد أن اخرجوا رؤوسهم من المياه ليتنفسوا أطلقوا النار عليهم. أحد الناجين كان صبياً تلقى طلقة في إحدى عينيه، قبضته الفرقة وتمّ اجباره على أن يقودهم إلى بقيّة المخيمات الأخرى. ويشير النّص إلى أنه “تمّ العثور على بقايا رفاتٍ بشرية في كلٍ من هذه المواقع، وفي مناسباتٍ عديدة”، وكما تقول ريان: “إن موجة الهياج الوحشي هذه تتلاءم ومعايير (مجازر الإبادة الجماعية)”.

ريان التي تعلّمت الدروس من “حروب التاريخ”، فوضعت لنفسها معايير صارمةً من أجل إدراج مجزرة إلى الخريطة. المعيار الرئيسي هو قوّة الدليل: 3 نجمات تعني أن هناك دليلاً قوياً عالي الجودة أخذ من مصادر مختلفة، في حين أن نجمة واحدة أو نجمتين تعني أن الدليل مأخوذ عن مصدر أو مصدرين لهما الموثوقية، وإن كانت المصادر تملك صفة “التواتر” فإنها تحصل على المزيد من الترحيب. وقد قالت ريان في حديث لها موجه للحاضرين في المعرض أن معظم الأدلة المستخدمة في الخريطة هي من: “مصادر من ذوي البشرة البيضاء” عاصروا تلك الأحداث –مقالات الصحف والتقارير الرسمية-، مفضّلة إياها على مصادر السكّان المحليين، مثل التاريخ المنقول شفاهيّاً و الذاكرة الجمعية. (بعض شهادات السكّان المحليين أخذتها عنهم مصادر بيض البشرة بشكل حرفي في الحالات النادرة التي أدلى فيها الناجون منهم بإفادات للجهات الرسمية أو للمبشرين. لكنّ السكّان الأصليين ظلّوا لفتراتٍ طويلة محظورين من الإستدعاء للشهادة في المحاكم ضمن الإجراءات القانونية). وكما لاحظ المؤرخ إيان كلارك في عمله الريادي الخاص بتأريخ مذابح حرب الحدود، فإن العديد من الأماكن المنتشرة في كل أنحاء البلاد سمّوها [أي القتلة] بأسماء بقيت شكلاً من أشكال الأدلة التي تدينهم: منزل القتلة (Murderers Flat)، مصب المذبحة (Massacre Inlet)،وادي القتل (Murdering Gully)، الجدول المسكون (Haunted Creek)، وادي المسلخ (Slaughterhouse Gully).

خلال العام الماضي، عرضت ريان نسخة من مسودة الخريطة في المعهد الوطني لدراسات السكان الأصليين لأستراليا وجزر مضيق توريس، في كانبيرا. ردود الفعل كانت إيجابية إلى حد بعيد، غير أنه تمّ الاقتراح عليها أن تستخدم لوناً مغايراً للأحمر الذي اختارته للون النقاط، حيث أن الأحمر يعتبر مقدساً عند الكثير من الجماعات ولا ينبغي أن يرتبط حصراً بالموت. ومع استمرار ريان في المضي قدماً للبحث في مجازر أخرى قررت أنها ستعتمد بشكل أكبر على مصادر معلومات السكّان الأصليين. إنها تأمل أن تتوسع الخريطة لتشمل المجازر التي لم تنقل عبر الأدلة المدوّنة كتابة وإنما عُرفت وتم تناقلها عبر ذاكرة وقصص أحفاد كل من الضحايا، الناجين ومرتكبي الجرائم كذلك. فمنذ أن أطلقت مشروع الخارطة بشكل علني، سمعت ريان من أكثر من 500 شخص، من السود والبيض، والكثير منهم من أبناء مناطق ريفيّة، أنهم يملكون معلومات عن تفاصيل مجازر لم يتم تضمينها الخريطة. بيل باسكو [أحد معاوني ريان] قال لي أن الكثير ممن اطلعوا على الخريطة لأول مرة، غرقوا في حالات من الصدمة لدرجة أنهم اضطروا أن يشيحوا أنظارهم بعيداً عنها، لكن بالنسبة له هذا هو المغزى من إعادة تمثيل هذه الفظائع على خريطة. يقول: “الناس الذين كان أسلافهم على علاقة بهذه الأحداث يعرفون مسبقاً ما جرى، لكن الأمر يصبح شخصياً بالنسبة للجميع، لأنك أصبحت تستطيع أن ترى الفظائع التي حدثت في أماكن قريبة منك، أو المناطق التي ترعرعت فيها”.

إن قرار ريان في التركيز حالياً على الأبحاث الأرشيفيّة عوضاً عن المحاورات المجتمعيّة دفعها إليه القيود التي فرضها عليها الوقت ومسائل التمويل، لكنها في الوقت نفسه تعتقد أن الأستراليين البيض –الذين يشككون في المجازر التي ارتكبت على نطاق واسع- بحاجة إلى مواجهة حقيقة الأفعال البشعة التي ارتكبها أسلافهم –القضاة وأعضاء الحكومة المفوضين من التاج لأدارة المستعمرات، والمستوطنين الذين كتبوا عن “الإبتهاج بالقتل” في مجلّاتهم ومراسلاتهم-. وقد لاحظت ريان خلال “حروب التاريخ” أن المنكرين لوقوع هذه الجرائم ابتكروا طرقاً للحط من قدر كل الأدلة على المذابح ، أياً كان مصدرها. “كانوا يقولون أشياءً مثل: حسناً، كيف يمكنك الوثوق بدليل قادم من شهادة مدان؟ فهم مجبولون على الكذب. الأمر ذاته عن شهادات أعضاء شرطة السكان الأصليين، كما يقولون أحياناً أن النساء لا يخبرن الحقيقة. إضافة إلى أن الجنود العاديين الذين لم يكونوا ضباطاً لم تكن لديهم الفرصة ليعرفوا تفاصيل الأحداث بدقة”. وهذا النوع من الطرح لن يبقي سوى مصادر من فئتين من البيض هم أكبر الرابحين من تغطية هذه الجرائم: الضباط الذين أصدروا الأوامر والمستوطنون الذكور الذين نفذوها.

إن ريان تعمل كذلك مع مؤرخين من جنوب إفريقيا وكندا والولايات الأمريكية المتحدة لدراسة المجازر من منظور مقارن. ذات الرجال الذين تعرضوا لوحشية الحروب واسعة النطاق في أوروبا –خلال حروب نابليون على سبيل المثال- هم الذين أصبحوا المستعمرين المتوحشين للعالم الجديد. (أنغوس ماكميلان [ورد ذكره سابقاً] هرب من اسكتلندا خلال عمليات الإخلاء القسري للمرتفعات الشرقية من سكانها). وفي عشرينات القرن التاسع عشر، المجازر في جزيرة تازمينيا وولاية فكتوريا كانت تنفّذ عادة عن الفجر، لإعطاء الجناة ميزة المفاجأة –وهم الذين يستخدمون أسلحة مثل بنادق المسكيت والتي عادة ما تكون رديئة وتطلق بشكل عشوائي-. عندما أصبح هناك أسلحة أكثر تطوراً مثل بنادق الإطلاق المتعدد [التي يمكن إعادة حشوها سريعاً بالذخيرة] التي تمّ تصنيعها للمرّة الأولى خلال الحرب الأهلية الأمريكية [1861-1865] وانتشرت في جميع أنحاء العالم، تغيّرت طبيعة العنف ضد السكان المحليين. فبحلول ثمانينات القرن التاسع عشر، كانت المجازر ترتكب في غالب الأحيان في وضح النهار. إن الحميمية المفزعة للعنف لَسمةٌ أخرى مشتركة بين المجازر، كذلك إستراتيجية “فرّق تسد” التي قامت على تجنيد قبائل من السكان الأصليين في قوّات الشرطة المحلّية بقيادة ضباطٍ بيض وإجبارهم على تنفيذ عمليات القتل.

بينما كان الناس يتجاذبون أطراف الحديث بعد فراغ ريان من الكلام، تحدّثتُ مع أليشيا لونسديل، فنانة شابة من شعب ويرادجوري [أحد قبائل السكان الأصليين في أستراليا] ابنة بلدة مودجي الريفيّة، والتي كانت تعرض أعمالها الفنّية في المعرض. لونسديل ذات الشعر الأصهب المجعّد والإبتسامة التي تظهر فلجّة في المنتصف بين أسنانها، كانت قد أحضرت إلى المعرض عملها الفنّي “حجارة بلا قصص“. وقد حثّتني على زيارة متحفها المحلّي، حيث تم جمع تلك الأدوات الحجرية مكوّنة كتلة واحدة، لتعطي الزائر الشعور كما لو أنه في أرض وقوع مجزرة. قالت: “لم يكن هناك من شيء يشير إلى من أين أتت هذه الأدوات، إلا اسم من تبرّع بها لتكون ضمن مجموعة المتحف، كُتِب: (مجموعة أدوات حجريّة تمّ التبرع بها من قبل السيّدة براون)”. مودجي اليوم هي بلدة سياحية، ولكن المجازر وعمليات الإزالة القسرية التي حدثت تقريباً دمّرت مجتمع السكان الأصليين هناك. وقالت: “إن الأمر ليس مجرّد حكاية في كتاب تاريخ أو نقاط على خريطة، إنه مايزال يؤثر على الناس حتّى اليوم”. تضيف: “حتى على صعيد هوية الساكن الأصلي المهزوزة وغير الواضحة أو أولئك الذين لا يعرفون من هم أو من أين جاءوا فإن السبب يعود إلى المجازر”.

سألتها ما هو رأيها في نهج ريان البحثي. فأجابت: “عندما سمعت عن الخريطة للمرّة الأولى، دخلت إلى الموقع على الإنترنت وألقيت نظرة”، تضيف: “أخبرت بعض الناس في مجتمعي [مجتمع السكان الأصليين] عنها. بعضهم أخذته صدمة. كانوا يريدون أن يعرفوا لماذا المجازر التي ارتكبت بحق قبائلهم وجماعاتهم لم تكن موجودة على الخريطة. لذا، بالنسبة لي، كان مفيداً أن أسمع من ليندال اليوم. لأن هناك الكثير من مواقع المذابح التي هي معروفة في أوساط المجتمعات [مجتمعات السكان المحليين] لم تكن تتناسب والمعايير المستخدمة من قبلها”. توقفت لونسديل قليلاً لتلتقي أحد محبيها، ثمّ أكملت تقول لي: “في بعض الأماكن التي وقعت فيها مجازر في منطقتي، ما تزال هناك مشاعر سيئة تعمر عالقة في المكان”، “هناك طرقاً محددة الناس لا يقودون سياراتهم عليها. هذا لا يشعر به السكان الأصليون فقط بل يشعر به كذلك حتى أولئك الأشخاص العاديين الذين ليسوا من السكان الأصليين. نحتاج مكاناً نذهب إليه، لنحزن أو نبدي أسفنا، لكنّ أبناء السكان الأصليين عليهم أن يحددوا شكلاً لهذا التقدير”.

مؤخراً، الفنانة جودي واتسون التي ترجع أصولها إلى أحد شعوب السكان الأصليين لأستراليا، والتي تعيش في مدينة بريزبان بولاية كوينزلاند، رسمت نوعاً مختلفاً من خرائط المجازر. واتسون، البالغة من العمر 58 عاماً، هي من سلالة شعب وانيي في الشمال الغربي من ولاية كوينزلاند. جدّة جدّتها والتي كان إسمها روزي، اختبأت تحت مصد الرياح الشجري، لتنجو بحياتها من المجزرة التي ارتكبتها عناصر شرطة من السكان الأصليين في لاون هيل. لقد كانت واتسون تبحث وتحاول منذ عقود أن تصنع فنّاً حول المجازرالتي ارتكبت ضد أبناء شعبها. وفي وقت سابق من العام الماضي، عملها الفني الذي أعدته على شكل فيديو والذي حمل اسم “أسماء الأماكن” والمعتمد في الأساس على بحوث أكاديمية، تمّ عرضه في المعرض الفني الوطني الأستراليا بمدينة كانبيرا. على خريطة أستراليا ذات الحدود المهتزة والمبدلة بشكل مستمر، كتبت قائمة مرصوصة أبجدياً بأسماء المئات من مواقع المذابح و”أسماء الرجال” الجناة مرتكبي الفظائع وتعرض أيضاً صورٍ بألوان باهتة لأعمال قامت بها واتسون تصور عمليات الذبح والأسلحة التي استخدمت من “حراب وبنادق”. بالإضافة إلى الفيديو أعدّت واتسون خريطة عرضتها على شاشة باللمس يمكن أن يستخدمها الناس لعرض المستندات التاريخية المرتبطة بكل المجازر المختلفة التي تضمنها العمل الفني. هذه الخريطة اليوم، إضافة إلى مستنداتها التاريخية، أصبحت متاحة على الإنترنت ويمكن لأي شخص أن يطالعها، إضافة إلى ذلك يمكن للزوار أن ينشروا المعلومات –بما في ذلك الشائعات- عن المجازر التي يعرفونها أو التي تعرضت لها الجماعات التي ينحدرون منها.

في العديد من مجتمعات السكان الأصليين كان للأعمال الفنّية وظائف متعددة، مثل أن تكون مصادر تاريخيّة، وسيلة لحفظ الثقافة والمعتقدات الروحية –الدينية-، وطريقة لتدوين خرائط أراضيهم. إن هناك تقليداً راسخاً لرسم خرائط توضح أماكن ارتكاب المجازر عبر الفن، وقد ظهر هذا في لوحات مشهورة لفنانين عدّة من أبناء السكان الأصليين مثل روفر توماس، كويني ماكينزي، رستي بيترز، وآخرين غيرهم. لقد أرادت واتسون لمشاهدي مقطع الفيديو الفني الذي أبدعته أن يدركوا أن أي خريطة [من هذا النوع] لهي عمل يجب أن يطرح في نفوسهم التساؤلات، أن يقودهم للتفكير ويدفعهم للتجاوب جسدياً معه. وقد أخبرتني بحكاية نفرٍ من أقاربها الذين وبعد أن شاهدوا الفيديو، إلتفتوا إليها مرتسمة على وجوههم علامات الضيق، وقالوا: “أين؟ لم تكن هناك أي مجزرة؟”.

جوناثان ريتشاردز، المؤرخ الذي يعمل لصالح جامعة كوينزلاند والخبير في تاريخ شرطة السكان الأصليين، عمل على الخرائط التي انشئت من قبل كلٍ من واتسون وريان. وقد أخبرني أن أكبر تحدٍ تقني واجه هذه الخرائط هو عمليّة مطابقة البيانات التاريخيّة مع إحداثيات نظام التموضع العالمي (GPS)، قائلاً: “وأنا على دراية بحقيقة أننا بتحديدنا موقع مجزرة على خريطة في الوقت الحالي يعني أننا قد نشير إلى منزلٍ أو ساحة خلفيّة لأحد الأشخاص الذين ليس لهم أي صلة بالواقعة أو العنف بشكل عام. لذا فإن الحذر تجاه هذا الجانب ووضعه في الإعتبار كان أمراً مهماً وحساساً”. إن النسخة الإلكترونيّة من خريطة واتسون ليست عمليّةً إلى حدٍ ما –ومرّة أخرى هذا يدل ويعيدنا إلى ضعف التمويل لهذا النوع من المشاريع، وإلى مقدار الوقت الهائل الذي يتطلبه العمل على الخرائط سواءً على صعيد البحث التاريخي أو العمل التقني والفني- (إنها [أي واتسون] أيضاً تملك فريقاً صغيراً جداً يعمل معها)، ولكن، بالنظر إلى كلتا الخريطتين نجد أنهما تسمحان لهذا الجانب من تاريخنا المشترك [كأستراليين] أن يصعد ويطفو على السطح وأن تسلّط عليه الأضواء. وكما أوضحت لي واتسون عندما حادثتها هاتفياً قبل مدّة، أنها تأمل أن توظّف مؤرخاً يطوف أستراليا مسافراً إلى المناطق التي تظهر في عملها الفنّي-التأريخي “أسماء الأماكن”، وأن يتواصل خلال رحلته مع المجتمعات والناس في كل واحدٍ من المواقع على حدة، ليجمع حكاياهم عن المذابح . ولقد أخبرني ريتشاردز أن بحوثه غيّرت من الطريقة التي ينظر بها إلى الطبيعة من حوله، يقول: “في الواقع، الطريق الذي أقود عليه سيارتي من بريزبان إلى كيرنز في هذه الأيام، أصبح بالنسبة لي مجرّد مسار متصل من أماكن ارتكاب مجازر”.

بحسب جينيفيف غرايفز، الفنانة التي تنحدر من السكان الأصليين –والتي تعمل على رسالة دكتوراة عن “تخليد ذكرى العنف الأسترالي”- فإن هناك حوالي عشرين نصباً تذكارياً، أغلبها صغير جداً، مقامة في مواقع المجازر التي ارتكبت بحق السكان الأصليين. تقول غرايفز إن غالبيتها أنشأت من قبل السكان على أساس طبيعي: ممر مشاة منحوت أو لوحة محفورة على صخرة، وهكذا.

واتسون وريان تأملان أن تمثّل خرائطهما نصباً تذكارياً رقمياً يمكن الوصول إليه بسلاسة ويحظى بالرواج الكافي، وليس عرضةُ للتدنيس. فمثلما تعرّضت تماثيل قادة ‘الرجال البيض المستوطنين’ إلى الإستهداف مؤخراً، فإن العدد القليل من النصب التذكاريّة العامة التي تحيي ذكرى تاريخ السكان الأصليين قد ظلّت تتعرض للتخريب ولسنوات.

في بيرث، هناك تمثال برونزي يصوّر مقاومة المُحارب يوغان من شعب “نونغار” (Noongar) [أحد شعوب السكان الأصليين]، وهو المحارب الذي تمّ إرسال رأسه إلى إنكلترا بعدما تمّ قتله على يد مستوطنين بيض، سنة 1833. في عام 1997 [أي بعد قرابة 165 سنة] أًعيد رأسه إلى أستراليا، لكن بعد فترة وجيزة ذلك قام مخرّب باستخدام أداة كهربائية بقطع رأس التمثال. تمّ إصلاحه، لكن الرأس قطعاً مجدداً بعد ذلك. (عمليّة قطع رأس التمثال التي تمّت في العام 1997 ألهمت أرتشي ويلر لكتابة قصّة قصيرة حوّلت لاحقاً إلى فيلم حمل إسمها: اعتراف حاصد الرأس 2000. تصوّر أحداثه سفر رجلين من أبناء شعب نونغار طائفين حول أستراليا ليقطعا رؤوس كل تماثيل البرونز –التي تجسّد رمزاً من رموز الإستعمار- يجدونها أمامهم، وفي نهاية المطاف يأخُذان كل هذه الرؤوس ويُذوِبونها من أجل صناعة تمثال لأمٍ من السكان الأصليين رفقة أبنائها، يطالعون البحر من على شاطئ خليج بوتاني، أين رست سفينة القبطان جيمس كوك على الأراضي الأستراليّة لأوّل مرّة).

إن نصب مذبحة “جَدول مايُل” (Myall Creek) التذكاري وموقع حدوثها في الجزء الشمالي من ولاية نيو-ساوث ويلز بالقرب من نهر غويدير، غالباً ما يتم استحضارها كمثال نموذجي. فقد تمّ إنشاء النصب في العام 2000، بعد سنوات من الجهود “القضائية” التي عملت عليها سوي بلاكلوك -وهي أحد أحفاد ناجٍ من من مذبحة ارتكبت بحق السكان الأصليين- بالتعاون مع عددٍ أبناء مجتمعها المحلي من السكان الأصليين وغيرهم من أعراق أخرى.

في العام 1838 على أرضٍ زراعية مكشوفة ترى من فوق التلال القريبة من نهر غويدير، تمّ ذبح ثلاثين فرداً من أبناء شعب ويرّاياريئي (Wirrayaraay) ثمّ أحرقت جثثهم، في حادثة وصفتها ريان بـ”مجزرة الظروف الخاصة”. فقد كانت حالةُ استثنائيّة: لأنه بعدها اعتُقِل عددٍ من الجناة البيض ثم تمت محاكمتهم. لاحقاً، نفذ حكمٌ بالشنق بحق 7 منهم. وكما أوضح الموقع الإلكتروني المعني بتأريخ المذبحة، فإن هذه كانت هي المحاولة الأولى والأخيرة لاستخدام القانون من السلطات الإستعمارية للسيطرة على انتهاكات البيض خلال حرب التوسع الإستراليّة شمال ولايتي نيو-ساوث ويلز وفيكتوريا. وعلى كل حال فإن هذا النصب التذكاري تعرّض لعمليات تخريب هو الآخر: ففي العام 2005 نحت على لوحات معدنيّة دُقت بالقرب منه كلمات مثل: “القتل” و “النساء والأطفال” استهزاءً وسخرية بالقتلى.

وفي شهر يونيو من كل عام يجتمع أحفاد كل من الضحايا، الناجين والجناة في موقع إرتكاب المجزرة. العام الماضي واتسون حضرت تجمع إحياء الذكرى هذا. بينما كانت تحكي لي عن التجربة غيّبت العاطفة صوتها. لقد صوّرت تفاعلات هذه المجموعة من الأحفاد بينما قام غريغ هوبر –مصمم أصوات وأحد مساعديها التقنيين- بوضع مايكروفون اتصال مباشر (شبيه بالسماعات الطبّية) على إحدى الأشجار الوادي التي كانت شاهدة على أحداث المجزرة قبل أكثر من 180 سنة، وإلتقط أصواتاً مثل غرغرة المياه في أعماقها [أي الشجرة]. “وقف الأطفال طلاب المدارس بجانب لوحات الطريق أعلى التل، يقرؤون بصوت صاخب. انتصب حفيد أحد الجناة واقفاً مع إبنه وحفيده وتحدث عن عمق أسفه البالغ عما جرى”.

قالت واتسون تصف رحلتها البحثية هي ورفاقها الآخرين أمثال ريان: “لقد كان الأمر أشبه برؤية التاريخ تنحل خيوطه، ببطء. كل منّا يمسك خيطاً ويسحبه، وعندها نبدأ برؤية ما يخفيه من أسرار”.

مراجعة: بتول العسكر