مجلة حكمة
المجتمع المدني: محاولة تعريف وتحديد - عبد الحي أزرقان

المجتمع المدني: محاولة تعريف وتحديد – عبد الحي أزرقان


يمكن القول إن المجتمع المدني هو ذاك الإطار الاجتماعي الخاضع لنظام معين ينضبط له الأفراد المكونون له، دون أن يتم ذلك نتيجة سلطة قهرية. حيث يلتزم الفرد بمجموعة من الضوابط في سلوكه اليومي بشكل إرادي نظرا للاقتناع الذي يحصل عنده بأهميتها بالنسبة للسير الجيد للحياة الجماعية التي توافق إلى درجة كبيرة مصالح الفرد المنتمي إلى هذا المجتمع وأهدافه وطموحاته. وبثبوت هذا النظام داخل المجتمع المدني يمكننـا القول إنه يتمتع باستقلالية نسبية عن المؤسسات المشكلة للدولة، لأنه لا يتوقف عليها دائما في مواصلة سيره والحفاظ عليه. كما يتمتع باستقلالية أيضا عن الأهواء والميول الفردية، لأنه يتوفر على كامل الحصانة كي لا يتزعزع مع ظهورها ولكي يقف في وجهها لدحضها. قد يقال طبعا إن كل مجتمع يتوفر بالضرورة على هذا النظام الداخلي الذي لا يحتاج إلى تدخل الدولة للحفاظ عليه، كما أنه يتغلب على تلك المبادرات الفردية الـهادفة إلى خلخلته، والناجمة عن النزوات والأهواء. يتوفر كل مجتمع بالضرورة على العنصر الضامن لنظامه يصطلح عليه على العموم، بعد دوركهايم، بالقهر الاجتماعي. فهل المقصود بـ المجتمع المدني توفر هذا العنصر، أي القهر الاجتماعي الضامن للسير التلقائي للمجتمع ؟

لا يمكن القول بـهذا الترادف لأن ما يميز المجتمع المدني لا ينحصر في حصول عنصر القهر الاجتماعي. وتكمن المسألة الأساسية في المجتمع المدني فيما عبرنا عنه أعلاه باستقلاليته النسبية عن الأفراد وعن مؤسسات الدولة. إنه يعبر عن تطور مجتمعي تصبح فيه العلاقات الرابطة بين العناصر الفردية تراعي مصالح كل هذه العناصر بدون استثناء، بل وتسمح لـها بالمساهمة في فحص هذه العلاقات وتطويرها وتغييرها. إذ يمكن لكل تشكيلة اجتماعية أو فئة أو جهة، المساهمة في تسيير وسطها، فتتعدد بذلك مراكز القول والفكر والفعل. الشيء الذي يسمح بالحديث عن المساواة داخـل المجتمع المدني . وربما كانت هذه المساواة هي العنصر الأساسي المكون له، والمميز له عن المجتمعات القائمة على القهر الاجتماعي وحده. صحيح أن مفهوم المساواة خلق ويخلق أسئلة كثيرة تذهب إلى حدود نفيها، أو على الأقل إلى البرهنة على حمولتها التضليلية أو الإيديولوجية. غير أن التساؤلات والانتقادات التي واجهتها فكرة المساواة عبر التاريخ لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى المبرر لتجاوز المفهوم حينما يتعلق الأمر بـ المجتمع المدني .

حقا إن فكرة المساواة فكرة قديمة في تاريخ البشرية، ويمكن القول بكل سهولة إن أي مجتمع يقر، بالضرورة وبشكل صريح، بمبدأ المساواة بين أفراده أمام هيئة معينة. فالمجتمعات البدائية تقر بمبدأ تساوي أفراد العشيرة أمام آلـهتها، وأمام شيوخها، كما أن المجتمعات المتطورة يتساوى أفرادها أمام مشرعي قوانينها والساهرين على تنفيذ تلك القوانين. وهناك مجتمعات أخرى يتساوى أفرادها أمام خالقها وخالق الكون الذي تقطنه، وأخرى تتساوى أمام القانون، وأخرى تتساوى على المستوى الاقتصادي، لأنه هو المستوى الحق الذي يستدعي المساواة، أو المستوى الحق الذي تصبح فيه المساواة ذات معنى. إن المجتمع الذي لا يقر بالمساواة بين أفراده، في جانب معين في الحياة الإنسانية، مجتمع زائل بدون منازع. إذ يبقى السؤال الخاص بالمساواة التي نتحدث عنها بصدد المجتمع المدني مطروحا ومشروعا.

سنعمل على ذكر مجموعة من النقاط التي تجعل في نظرنا فكرة المساواة التي يدافع عنها منظرو المجتمع المدني أكثر مصداقية وأكثر مشروعية من تلك التي نجدها في المجتمعات الأخرى ذات الطابع العشائري أو الديني أو الاقتصادي. وربما كانت المفارقة التي تطبع المساواة السائدة داخل المجتمع المدني هي أساس مصداقيتها ونجاعتها. ونتحدث هنا عن المفارقة لأن الأمر يتعلق فعلا بمساواة صورية (تساوي الأفراد أمام القانـون) ما دام الأفراد يتساوون أمام مجموعة من القواعد والمسطرات.(1) غير أن هذه الصورية قادرة على إعطاء نتائج ملموسة وإيجابية لا تتمكن غيرها من المساواة من تحقيقها حتى ولو تعلـق الأمر بالمساواة الاقتصادية.

إن أهم خاصية تميز المساواة داخل المجتمع المدني من غيرها هي قيامها على علاقات تنسج بالدرجة الأولى على مستوى أفقي، كما أن تطورها يرتبط بالدرجـة الأولى بإحلال العلاقات الأفقية محل العلاقات العمومية، قصد وضع نـهاية لـهذه الأخيرة أو على الأقل تقليصها إلى أقصى حد. وهذا يعني أن المجتمع يوجد في مستوى واحد، ولا يمكن لأي فرد من أفراد المجتمع أن يدعي تفوقا معينا في مجال معين يسمح له بالانفراد بامتيازات معينة، وباحتلال مراتب خاصة به دون غيره. كما لا يمكن لفرد من الأفراد الشعور بتدن ما لا يسمح له سوى بالخضوع لمن يفوقه مكانة، وبتلبية أوامر من نشأ مؤهلا لذلك، وبخدمة حاجيات وطموحات من جعلته الطبيعة أو القدر أو التاريخ الخ… أهلا للسيادة . لا نقصد هنا طبعا غياب مثل هذه المفاهيم كليا ، أي الأوامر و الامتثال والسيادة . إنها تظل قائمة في إطار المجتمع المدني بشكل لا يثير أدنى شك . غير أن هذه المفاهيم نجدها هنا تقوم على أسس مغايرة لتلك التي نجدها في المجتمعات التي لا ترقى إلى مستوى المدنية. ما هي إذن نتائج سيادة المستوى الواحد، أو المستوى الأفقي، في تنظيم العلاقات داخل المجتمع ؟

ـ أولهما يكمن في القضاء على عنصر القرابة كأساس للتنظيم المجتمعي ، و بالضبط كأساس لتصرفات الفرد إزاء الآخرين وإزاء المؤسسات المكونة لمجتمعه . حيث لا يسمح الانتماء العائلي ، من حيث المبدأ ، بتوجيه حاجيات الفرد و أهدافه وطموحاته. فالعائلة لا تؤهل أفرادها لامتيازات معينة أمام ما يعتبر داخل المجتمع مجموعة من الضوابط تلعب دور الأسس اللازمة لضمان النظام و التوازن . و بقدر ما أن العائلة لا تؤهل فإنها أيضا لا تحرم أفرادها من الاستفادة بكل ما تسمح به هيآت المجتمع من خدمات وضمانات و امتيازات . هكذا تتميز إذن المساواة التي يقوم عليها المجتمع المدني عن تلك التي تنادي بها المجتمعات التي تبقي على التمييز العائلي . فنحن نعلم ، والتاريخ مرجعنا في هذا الباب ، أن كثيرا من المجتمعات تقر فعلا بتساوي أفرادها أمام مؤسساتها، و لكنها تحرص كل الحرص على أن تكون عائلات معينة هي التي تتحكم في الاقتصاد ، و أن تكون أخرى هي وحدها التي تنفرد بما يخص الحكم . كما أنها تذهب إلى جعل العنصر العائلي أساسا في مجال الحصول على المعرفة . و يطلعنا التاريخ أيضا على مجتمعات كانت تنادي بالمساواة أمام الإله ، و لكنها تحرص في الوقت ذاته على إدراج العنصر العائلي كأساس للتمييز في هذا الإطار أيضا لتجعل عائلات معينة تحتل مرتبة أفضل من غيرها فتمنحها امتيازات في علاقتها بالكائن الإلهي ، و من ثمة في علاقتها بباقي العائلات المكونة للمجتمع . و إذا كان التاريخ القديم هو الذي يمدنا بهذه النماذج من المجتمعات ، فإن التاريخ المعاصر يقدم لنا أمثلة من المساواة التي هي مجرد شعارات يكشف الواقع المادي عن زيفها . و خير مثال في هذا الصدد هو ما عبرنا عنه أعلاه بالمساواة الاقتصادية . فكم من مجتمع بلغ فيه التنظير للمساواة الاقتصادية أوجه ، و عرف فيه التنظيم تطورا هائلا ، و لكنه ظل مع ذلك بعيدا عن طموحاته لأنه أعطى و يعطي مكانة لأفراد (ثم عائلات) جعلتهم يتمتعون بظروف مادية خلقت بينهم وبين من يمثلون من المجتمع هوة يمنع عمقها حصول أدنى درجات المساواة بينهم في مختلف مجالات الحياة . هكذا ينقلب هذا النظام بدوره من مستوى أفقي إلى مستوى عمودي ينتفي فيه المستوى الواحد لأفراد المجتمع. لهذا ركزنا أعلاه على مسألتين أساسيتين في المجتمع المدني : التوصل إلى إرساء المستوى الواحد (المستوى الأفقي) ، ثم إنجاز التطور دائما في إطار هذا المستوى الواحد ، أو الحفاظ على التطور في إطار المستوى الأفقي .

ـ و تكمن ثاني نتائج سيادة المستوى الواحد داخل المجتمع المدني فيما يمكن تسميته بإعادة الاعتبار للفرد و من ثمة للإنسانية كقيمة أخلاقية. إن الطعن في العلاقات العائلية كأساس للتنظيم المجتمعي يؤدي إلى إعطاء الأهمية لكل الأفراد المكونين للمجتمع، إذ ننتقل من التمييز بين الناس من عنصري الأصل و الدم المنحصرين في العائلة إلى عناصر أخرى ذات طابع شمولي ، لأنها تتجاوز العائلة نحو الطبيعة (كالقدرات ، و المؤهلات الطبيعية عند الفرد ، و مدى ترجمته لهذه المؤهلات على مستوى الواقع المادي ، أي على مستوى العمل). و بهذا يكون المجتمع المدني أكثر خصوبة و أكثر غنى من غيره من المجتمعات لأنه يسمح لكل طاقاته بالمساهمة في الفعل والفكر و ذلك في مختلف المجالات . فلا يمكن حرمان فرد ما من ممارسة نشاط إبداعي معين ، كما لا يمكن حرمانه من ولوج مجال معين إن هو برهن على امتلاكه لما يقتضيه المجال من تجربة و معرفة . إننا نتجاوز هنا النقاش السائد بصدد هذه النقطة و الذي يساهم في عرقلة تطور المجتمع المدني أكثر مما يفتح آفاقا جديدة . صحيح أن المؤهلات الفردية لا تتوقف عند حدود الطبيعة لأنها سرعان ما تنمو أو تنطفئ كليا ، و ذلك حسب المحيط الذي يترعرع فيه هذا الفرد . فإذا كان الفرد ينتمي إلى وسط ميسور مثلا فإن مؤهلاته ستعرف تطورا مرموقا، و من ثمة ستسمح له بالتسلق في السلم الاجتماعي للاستمرار في الانتماء إلى العائلات الغنية . و إن كان ينتمي إلى عائلة فقيرة فإن هذه المؤهلات تتحول إلى مصدر إحباط لأن صاحبها لا يتوفر على الشروط المناسبة للذهاب بعيدا فيما هو مؤهل إليه طبيعيا ، فيستقر بذلك في إطار طبقته كي يكرس وضعا لا مجال للحديث فيه عن المساواة . لقد كانت هذه الملاحظة أساس التوجه المنادي بالمساواة على المستوى الاقتصادي و الطعن كليا في فكرة التفاوت الطبيعي . إننا لا ننكر فعلا أهمية هذه الملاحظة ، و لكن لا ينبغي التسليم بصحة النتائج عند صحة كل ملاحظة . كما أنه لا ينبغي أن تمنعنا صحة ملاحظة معينة من إمعان النظر و تعميقه في الموضوع الملاحظ . هناك عنصر إيجابي في نظرنا لا يجب إغفاله حينما نتحدث عن المجتمع المدني ، و عن تركيزه على المؤهلات الطبيعية ، و عن إعادة الاعتبار للفرد ، ألا و هو إقصاء عنصر القرابة بشكل واضح كأساس للتنظيم الاجتماعي ، و بهذا يكون في استطاعة الفرد ، رغم كل ما يمكن قوله عن الظروف المادية ، التحرك من فئة لأخرى ، و من وضعية لأخرى . و نعتقد أن الغافل لأهمية هذه النقطة لا يدرك عمق مبدأ التحريم الدموي، أي منع مجموعة من المجالات داخل المجتمع ، على من ينتمي إلى مجموعة من السلالات ، و من ثمة فهو لا يقدر الخلل الذي يعاني منه المجتمع نتيجة هذا التمييز.

إن المجتمع الذي حصل فيه التطور إلى مستوى المدنية هو أيضا مجتمع المسئولية. و إذا كان الاستحقاق هو أساس التسيير في إطار المجتمع المدني فإن المسئولية تشكل بدورها إحدى القواعد المتينة لضبط التسيير ، و هي في الحقيقة عبارة عن نتيجة عكسية للاعتراف بالاستحقاقات الفردية . ثم إذا كان من حق الفرد مزاولة كل نشاط تخوله له مؤهلاته فإن من واجبه أيضا التزام الحدود التي يرسمها له الإطار الذي يتم فيه النشاط . فسواء أتعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة يكون الفرد مجبرا على الامتثال إلى كل القواعد المنظمة لهذين النشاطين . و تأتي هنا مسألة إيجابية و ثمينة جدا لا ينتبه إليها منتقدو المساواة ، الذين لخصنا فكرتهم أعلاه ، و هي تساوي كل الأفراد و كل الجهات في امتثالها إلى القواعد التنظيمية . فلا يمكن للانتماء العائلي و لا الفئوي أن يخول لصاحبه المس بالقواعد المنظمة . فالتوصل إلى هذا المستوى من التنظيم داخل المجتمع يعبر عن تطور فائق في مختلف بنياته . و لا يقر المجتمع في هذه الحالة بتساوي الأفراد في الفضيلة فحسب ، و إنما يقر كذلك بتساويهم في الرذيلة أيضا . و إذا كان يعتبر أن الانتماء العائلي أو الطبقي لا يعفي من الامتثال للقواعد العامة المنظمة للمجتمع فذلك معناه أن الإنسان المنتمي إلى ما يسمى بالعائلات الراقية يميل بدوره إلى اللامسئولية و الفوضى و الظلم و الشر . بمعنى آخر إن الحصانة فردية و اجتماعية ، و حتى إن كانت لديها مصادر أخرى فإن المجتمع لا يعتمد عليها في سيره . و تفيد الحصانة الفردية انحصارها في المسئولية التي يحملها الفرد على عاتقه ، و توقفها عند حدود ما لديه من وعي و ثقافة و أخلاق . و يفيد طابعها الاجتماعي سهر المجتمع ، من خلال القوانين التي يسنها ، على ضمان الاستقرار و الاطمئنان و السير العادي لبنياته . و ما دام هناك تساو في المسئولية فلابد أن يكون هناك تساو في المتابعة الخاصة بالتخلي عن المسئولية أو تجاوزها . إن مصير المستهتر بالقانون و المتلاعب به واحد ، سوء أتعلق الأمر بالغني أو بالفقير ، بالمدني أو البدوي ، بالعالم أو بغير العالم .

نسجل مرة أخرى تجاوز المجتمع المدني لعنصر القرابة في تصديه لمن استخف بنظامه ، و من هنا يأتي الطابع الدائري لمراكز المراقبة بداخله . فكل مراقب يخضع لمراقب آخر بجواره . و يعمل المجتمع المدني على الإكثار من مراكز المراقبة و لكن هذه المراقبة تكون دائما في مستوى أفقي و ليس عموديا . إن الناظر من فوق يمكنه دائما خلق امتياز لنفسه و تستير جوانب من مركزه تتسع مع مرور الوقت لتطمح بذلك إلى الانفالات من المراقبة ، و الانفراد من ثمة بالتسيير . أما المراقبة التي تتم على المستوى الأفقي فإنها تتنافى مع هذا المنحنى لأن المراقب يظل دائما واضحا بالنسبة للمراقب الآخر، وهكذا دواليك . هذا بالإضافة إلى أن المراقبة تظل ، حينما تكون أفقية ، ذات طابع جماعي . إنها لا توكل لفرد بعينه وإنما لمجموعة بأكملها . فبقدر ما تؤدي المراقبة التي تتم عموديا إلى القهر و الاستبداد و الدكتاتورية بقدر ما تؤدي المراقبة التي تتم أفقيا إلى التعاضد و الالتحام و الديمقراطية .

يبقى أن نشير إلى نقطة أخرى بالغة الأهمية تتحقق داخل المجتمع المدني و هي التطور العرفي . فإذا كان التنظيم داخل المجتمع المدني يعتمد على تعميق المستوى الأفقي فإن هذا الأمر يجعله يعطي أهمية بالغة للجانب المعرفي . و إعطاء الأهمية للمستوى الأفقي لا ينفصل عما يسميه الفلاسفة بمبدأ المحايثة . لقد كان الفلاسفة منقسمين دائما عبر التاريخ إلى صنفين : صنف يبحث في تفسيره للوجود و الإنسان عن مبادئ متعالية ، و صنف يبحث عن معنى الكون انطلاقا من مبادئ محايثة؛ بمعنى أن هناك صنفا يستمد قوانين التسيير من خارج الكون ، وصنفا آخر يستمدها من داخل الكون. و ما دام أن التأمل الفلسفي لم ينفصل أبدا عن الفعل الإنساني فإن القوانين المتوخاة كانت تعني كذلك هذا الفعل الذي يشكل التنظيم الاجتماعي محوره الأساسي . إن الاعتماد على مبدأ المحايثة يجعل الدارس لقوانين المجتمع يعمق نظرته باستمرار عبر تمسكه بالجزئيات المكونة لهذا المجتمع ، دون تفضيل مستوى على سواه ، و دون تفضيل جانب على غيره . إنها تجعله يتتبع السير الفعلي للأحداث و الظواهر ليرصد ما لعب أو ما يمكن أن يلعب الدور الحقيقي في التسيير و التوجيه . و لا أحد يمكن أن ينكر الطابع التجديدي و التطوري لهذا النوع من النهج المعرفي ، لأن ارتباط صاحبه بما هو كائن يجعله يتتبع باستمرار التغيرات الطارئة على المستوى الواقعي للأحداث . ثم إن الدارس و الفاعل معا يقتنعان بكون المعرفة الملازمة للتطور الحقيقي للأشياء مسألة أساسية للتمكن من مسايرة هذا التطور .

كما أنه لا أحد ينكر في الحقيقة الارتباط الوثيق الكامن بين التطور الهائل الذي حصل في بعض العلوم (في العلوم العامة) المهتمة بالتسيير و التنظيم المجتمعيين و بين تطبيق مبدأ المحايثة .لقد عرف التنظير في مجالي السياسة و الاقتصاد مثلا تطورا كبيرا انطلاقا من نهاية القرن السادس عشر ، أي مع بداية الاهتمام بالمكونات الواقعية لهذين المجالين ، إذ انشغل المفكرون السياسيون بالطبيعة البشرية المادية و ما تجسده من علاقات فعلية بين الناس . كما طرحوا مختلف العوامل الموضوعية التي تؤثر في هذه العلاقات ، و كذلك الأشكال والأنماط الواقعية التي تأخذها هذه العلاقات . فحتى اهتمامهم بالمواضيع ذات الطابع المتعالي تم بالدرجة الأولى انطلاقا من موقعها داخل المحيط المادي ، أي من التركيز على بعدها العملي . و لعل تناول ماكيافيل و هوبز و سبينوزا مثلا للدين أكبر دليل على هذا التوجه . لم تعد الحقيقة موضوع هؤلاء المفكرين في التحليلات التي قدموها بصدد الدين ، كما كان يفعل السابقون عليهم ، و إنما أصبحت النجاعة هي هاجسهم الأساسي في ذلك. و يصدق القول نفسه على مجال الاقتصاد ، إذ لم يرق إلى مستوى العلم ، أو على الأقل لم يأخذ هذه التسمية ، إلا عند ما عمد المفكرون إلى وضع إطار خاص بهذا الميدان المعرفي ، إطار لا يخرج عن المكونات التي تساهم بشكل مباشر في الوضع الاقتصادي ، و تلعب دورا في التأثير عليه، و برسوخ هذه النظرية تحرر الاقتصاد من الإرادات الخفية و المتعالية ، كما تحرر من الصدفة و القدر، ليركز على الإنتاج المادي و الرأسمال و الاستهلاك و النقود والربح و الفائض إلى غير ما هنالك من العلاقات الموضوعية التي تنسج انطلاقا من هذه المعطيات المادية. لقد أدى التطور الحاصل في المجالين إلى ضرورة تحديد اختصاصات أخرى داخل كل واحد منها ، وذلك لم يكن نتيجة استحالة أو صعوبة إلمام الشخص الواحد بكل المعطيات، وإنما نتيجة مقتضى تمليه طبيعة المجتمع التي أصبحت تتطلب المزيد من المعرفة . إن التطور المعرفي مسألة حتمية حينما يأخذ الفكر مسار المحايثة ، و خير دليل على ذلك التطور الذي حصل في المجتمع المدني ذاته على المستويين المادي و المعرفي معا .

يعتبر كتاب هيجل مبادئ فلسفة الحق محطة أساسية في مسار تطور المجتمع المدني إذ، يحدد إطارا دقيقا يميزه عن التكتل البشري الصرف ، و عن المؤسسات السياسية الصرفة ، ليطلق عليه اسم المجتمع المدني . و يمكن القول في نظرنا إن الدراسات اللاحقة لهيجل حافظت على التجديد الذي صاغه فيلسوف الجدل للمجتمع المدني ، سواء أتعلق الأمر بانتقاده أو بتطويره . لقد كان تناول المجتمع المدني من طرف المحدثين ، ابتداء من القرن السابع عشر ، يتم للدفاع عن فكرة تنظيم العلاقات الإنسانية في استقلالية تامة عن أي سلطة غير السلطة النابعة من هذا المجتمع الذي يراد تنظيمه . و لهذا السبب كان تناوله يتم دائما في تقابل مع المجتمع الطبيعي أو الحياة الطبيعية . ولقد كان المنظرون يدافعون عن استقلاليته عن السماء، و على إضفاء الطابع الأرضي على ما كان ينحو إلى الاستقلال عنها حتى يتحكم الأرضي في نهاية المطاف في كل شيء ، بما في ذلك ما هو سماوي . إن هاجس المنظرين للمجتمع المدني قبل هيجل كان منصبا على مسألة طبيعة السلطة : أرضية \سماوية . و لهذا السبب تم التركيز دائما على المؤسسات التي تنبني عليها الدولة ، تلك المؤسسات التي ستجعل السلطة تتغلب على الشر الأرضي الإنساني لتحقيق الاستقرار و التوازن و الاطمئنان ، بدل التركيز على نشر الخير والعدالة و المدينة الفاضلة. و مع تطور المجتمع الغربي ، أي مع إرساء أسس السلطة الأرضية و مؤسساتها ، و بدأت مسألة الحرية تنضاف إلى مسألتي السيادة و التوازن. و بدأ التفكير في الوسائل (المؤسسات) التي يمكنها أن تضمن أكبر قدر من الحرية الفردية دائما في إطار مؤسسات السلطة الأرضية. و ربما كان هيجل في نظرنا هو أبرز فيلسوف جسد هذه الفكرة .

تكمن أهمية هيجل في كونه أول مفكر غربي ينتبه إلى التطور المجتمعي الذي حصل في أوربا إلى حدود بداية القرن التاسع عشر . فلقد تمكن من رصد التغيير الذي حصل في عصره حيث احتل في نظره عنصر المصلحة مكانة عنصر القرابة ، وهذا ما عبرنا عنه سابقا بالانتقال من النظرة العمودية للمجتمع إلى النظرة الأفقية . لقد حصل تراكم كبير في الثروات عن طريق التجارة و الصناعة ، كما حصل تراكم مواز في المعارف العلمية فرض في البداية سلطة أرضية على مستوى أجهزة الدولة ، ليفرض فيما بعد سلطات وسط المجتمع مستقلة إلى حد ما عن السلطة المركزية ، سلطات في أمس الحاجة إلى السلطة المركزية لكنها في أمس الحاجة أيضا إلى توجيهها و التأثير عليها، أو على الأقل إلى عدم الخضوع لها بطريقة عمياء .

و إذا كان هيجل يتجاوز في طرحه لمبادئ الحق الحالة الطبيعية للإنسان، فذلك لا يرجع إلى قضية المنهج وحدها ، كما يحاول إقناعنا بذلك . إن الأمر راجع في نظرنا إلى التحول الذي طرأ في مجال السلطة ، وإلى عبقريته الفكرية بطبيعة الحال ، لأنه تمكن من رصد ذلك التغيير . لم يعد التقابل في مجال السلطة قائما بين سلطة الأرض و سلطة السماء حتى يوازيه تقابل بين الحالة المدنية للإنسان و حالته الطبيعية ، وإنما أصبح التقابل قائما بين سلطة الدولة و سلطة المجتمع . وسيستمر في الحقيقة هذا التقابل إلى يومنا هذا في صور متعددة، تلتقي أحيانا مع الطرح الهيجلي و أحيانا أخرى تتعارض معه ، إلى درجة أن التطور الذي حصل في المجتمع المدني بعد مبادئ فلسفة الحق ظل منحصرا في السياق الهيجلي إما لدعمه و تطويره و إما لانتقاده و تجاوزه .

لا ينبغي طبعا فهم التقابل هنا بمعناه القوي كما هو الشأن في المرحلة الأولى السابقة على هيجل . ربما ينبغي الحديث حينما يتعلق الأمر بهيجل على التكامل بين المجتمع المدني والمؤسسات الدولية ، فلجوؤنا إلى كلمة تقابل جاء بالدرجة الأولى لإبراز مرحلة ما قبل هيجل و مرحلة ما بعد هيجل، لأن الأمر يتعلق فعلا في كلتا الحالتين بالتقابل و أحيانا بالتعارض. يبقى أن الاختلاف في الاصطلاح لا يمكن أن ينفي الاتفاق فيما يخص الموضوع، وهو إدراك هيجل لأول مرة لمجال تتحقق فيه مشاريع هائلة من صنع الحريات الفردية وفق الأهداف والرغبات الفردية لمختلف الناس المكونين للمجتمع ، و لكنها تأخذ مع ذلك، أي المشاريع، أبعادا اجتماعية و عقلية تلتقي تماما مع القيم التي من أجلها تأسست الدولة. إنه مجال يلتقي مع الدولة من حيث الأهداف، ولكن مصدر تشكله بعيد عن الدولة لأنه نابع من الأفراد . معنى هذا أن هناك التقاء بين أهداف الأفراد المكونين للمجتمع و أهداف الدولة الساهرة على طمأنينتهم، وأن هناك تطورا واضحا في ممارسة الدولة ما دام أن أهدافها تخدم في غيابها. و إذا تم مثل هذا التطور فإنه سيكون من اللازم إعادة النظر في الدولة و المجتمع المدني معا. ينبغي إعادة النظر في الدولة لتحديد دورها من جديد ما دام أن تحقيق ما هو عام وشمولي أصبح يتم من غير تدخل إرادتها . هل سيعني هذا مثلا الاستعداد للتخلي عنها؟ (و نعتقد أن هذا السؤال الرئيسي الذي كان يهم هيجل) أم أنه ينبغي التخلي عن إحدى مهامها فقط وإدراج اهتمامات أخرى لم تكن تؤخذ بالحسبان من قبل ؟ هناك في نظرنا جانب مهم في الهيجلية ، ينبغي تطويره بخصوص العلاقة بين الدولة و المجتمع المدني ، يجعلها تتجنب الاتهام الذي منيت به فيما بعد وهو منحاها الكلياني . لقد كان يعاب على فكر هيجل في المجال السياسي دائما قوله بضرورة تجسيد الفرد لأهداف الدولة لأنها لا تشكل في نهاية المطاف سوى أهدافه هو . و كان يذهب أصحاب هذا الانتقاد ، و على رأسهم ماركس ، إلى أن الوحدة التي يقول بها هيجل وحدة زائفة ، لأن الدولة تجسد أهداف طبقة معينة دون غيرها ، ومن ثمة تدخل فكرة وحدة الأهداف في الإيديولوجيا .

يبقى أن المسألة في نظرنا أعمق من هذا بكثير ، و ذلك لأن هيجل لا يراعي التطور في بعده الواحد ، البعد الخاص بالدولة، و إنما ينتبه كذلك و بالخصوص إلى ما أصبح يوازي تطور الدولة على مستوى المجتمع ، ليدفع به إلى الأمام من جهة، و من جهة ثانية ليحافظ على الطابع الشمولي و العمومي الخاص بمكونات المجتمع المدني . هكذا يبدو أن دور الدولة لا يمكن الاستغناء عنه لأن الأساس في التنظيم داخل المجتمع المدني يظل ، رغم الإيجابيات التي حققها و سيستمر في تحقيقها ، مرتبطا بما هو مادي محض و مصلحي محض . لا يتوفر هذا الأساس على الضمانات الكافية لتطوير الطابع الشمولي الذي يعرفه المجتمع المدني إلى المستوى العقلي و الروحي المطابق لهذا الشمولي. لا يكمن عمق فكر هيجل في نظرنا فيما يخص الجانب السياسي ، في دفاعه عن وحدة مصالح الدولة والأفراد الذين تمثلهم و في ضرورة تجسيد الفرد للعام الذي تمثله الدولة. إنه يمكنه في تأكيده على أن التطور الذي يتحقق على مستوى المجتمع المدني لا يمكنه أبدا الاستغناء عن دعم الدولة له كضامن وحيد لبعده العقلي و الروحي. و هي أطروحة يصعب ألا نسلم بها إلى حدود عصرنا هذا .

صحيح أن هيجل يعطي الأولوية من حيث النشأة للدولة . ثم يأتي المجتمع المدني في مرحلة ثانية من حيث الواقع، حتى و إن كان يبدو من حيث المنطق و من حيث التحليل الذي اتبعه هيجل أنه يأتي في مرحلة أولى . ونحن نلاحظ أن هيجل يؤكد على هذه المسألة بصراحة لتفادي أي خلط بصدد هذه النقطة حيث يقول : “ينتهي هذا التطور للحياة الإيتيقية المباشرة ، الذي يمر عبر تقسيم المجتمع المدني ، إلى الدولة التي تمثل الأساس الحقيقي لهذا المجتمع ، و يشكل هذا التطور لوحده البرهنة العلمية على مفهوم الدولة . و إذا كانت الدولة تبدو في هذه الحركة للمفهوم العلمي كنتيجة ، بينما تنكشف على أنها هي الأساس الحقيقي ، فإن هذه الوساطة و هذا الظاهر ينتفيان عبر اختزال كليهما في المباشرة . و لهذا فإن الدولة على العموم ، و في الواقع ، هي بالأحرى ما هو أولي ما دام أن الأسرة تتحول إلى المجتمع المدني في أحضان الدولة فقط، كما أن فكرة الدولة ذاتها هي التي تنقسم إلى هاتين المرحلتين.(2)

هناك فكرة سائدة في فلسفة هيجل لا يمكن ألا نسلم بها وهي تأكيده ، كما يتضح ذلك من خلال هذا النص و غيره ، على إيجابية الدولة بالمعنى القوي للكلمة . إنها إيجابية لأن دورها لا يتوقف عند حدود التمثيل و التنفيد كما تذهب إلى ذلك الماركسية: و هي إيجابية أيضا لأن فعلها لا يختزل في فرض السيادة و القمع و إخضاع طبقة لأخرى ، وإنما يمتد إلى نشر القيم الروحية و المبادئ العقلية التي هي أساسية بالنسبة للمجتمع إذا أردنا أن نعترف فعلا للإنسان بإنسانيته . و يبقى على أية حال أن التطور الحاصل على مستوى المجتمع بانتقاله من سيادة العلاقات العائلية إلى سيادة العلاقات الطبقية ، والناتج عن التطور الذي حصل في الهيئات المكونة للدولة الحديثة، نقول ، يبقى أن هذا التطور يفرض نفسه على الدولة ذاتها . و لهذا فإن من يختزل دور الدولة في السيادة و القمع يكون قد أغفل حصول مثل هذا التطور المجتمعي .إن المؤسسات المكونة للمجتمع المدني لها دورها الكبير في التأثير على سير المؤسسات الدولية ، بما في ذلك المؤسسة المونارشية . يصعب على المونارشي في نظر هيجل أن يكون مستبدا أو أن يتحول إلى مستبد إذا كانت سيادته تتم في إطار مجتمع ارتقى إلى مستوى المجتمع المدني . و من هنا فإن السؤال الكلاسيكي المتعلق بأحسن نظام للحكم يفقد معناه وسط مجتمع انفصل فيه المدني عن السياسي . إنه يشير بكل وضوح إلى هذه المسألة حيث يقول : “إن مبدأ العالم الحديث على العموم هو حرية الذاتية . تتطور حسب هذا المبدأ كل الأوجه الأساسية المعطاة في إطار هذه الكلية الروحية للحصول على حقوقها الخاصة بكل واحد منها . و انطلاقا من هذا المبدأ فإننا لن نكون في حاجة إلى طرح السؤال الذي لا فائدة منه ، و المتعلق بمعرفة ما إذا كانت المونارشية هي أفضل نظام للحكم أم الديمقراطية . يكفي القول إن أشكال كل الدساتير غير مكتملة إذا كانت لا تتمكن من قبول مبدأ الذاتية الحرة بداخلها ، و إذا كانت لا تعرف أن تمتثل لمتطلبات العقل المثقف”.(3)

هناك فكرة أخرى في فلسفة هيجل تستدعي الإشارة للتأكيد على الجانب الإيجابي في نظرته إلى الدولة ، و تكمن في مسألة التجسيد التي نجدها في مختلف المواضيع التي يطرحها، وهي نتيجة في الحقيقة لجعله من مبدأ المحايثة أساس كل فلسفته . إذا كان المطلق مثلا يجسد العقل فإنه لا يجسد عقلا آخر غير العقل الإنساني ، كما أنه لا يجسد فيما يخص الحرية كائنا آخر غير الحرية الإنسانية ، و إن كان المطلق معرفة فإنه لا يخرج عن المعرفة الخاصة بالإنسان . و إن كان في ماهيته حقا فإن الأمر يتعلق بالحق السائد عند الإنسان وهكذا دواليك . و حينما يتعلق الأمر بالدولة باعتبارها تجسيدا للمطلق لا يمكنها أن تكون كذلك إلا عندما تجسد مصالح مختلف الأفراد المكونين للمجتمع الذي تسود فيه . و إذا كانت مصالح الدولة تتجسد في ممارسة الفرد الواحد فذلك لأنها هي بدورها تجسد مصالحه ، و الأكثر من ذلك أنها تسهر على التنبيه والتوعية من أجل خلق التطور داخل الوعي المصلحي الفردي ، كإسهام منها في التطور العام الذي يحصل في إطار المجتمع المدني . شيء واحد ينبغي التنبيه عليه ألا و هو أن هيجل يتحدث عن دولة محددة هي دولة عصره التي استطاعت خلق المجتمع المدني .

و تزداد مسألة التجسيد وضوحا حينما ينتقل هيجل إلى تناول المؤسسة المونارشية، إذ يذهب باستمرار إلى التأكيد على أن دور الأمير يكمن بالدرجة الأولى في تجسيد السيادة و ليس في الرمز إليها ، بمعنى الانفراد بها في مجال من المجالات . وإذا كان يجسد السيادة فذلك لأن هذه الأخيرة “لا توجد إلا كذاتية” و “الذاتية لا توجد إلا كذات” كما تؤكد الفقرة 279 . ونحن نعلم أن الذات الفعلية في الذات التي تمكنت عبر قطع مراحل متعددة من تجاوز الفردية لتصبح شمولية . و لن تستجيب المونارشية لمقتضيات الشمولية و مقتضيات الدولة المعاصرة إلا إذا كانت تسود في مجتمع تحقق فيه الشمولي بدوره على مستويات متعددة و بشكل أفقي ، أي في مجتمع أصبحت فيه المصلحة ذات طابع عمومي بدلا من الطابع العائلي. هناك علاقة وطيدة بين القوة التي يجسدها المونارشي والقوة التي مثلها الشعب و القانون من حيث فعلية مضمونها.(4) معنى هذا أن المونارشية لا تستجيب لمقتضيات العقل والمطلق إلا حينما ترتبط سيادتها بتحقق المجتمع المدني ، لأن هذا الإطار هو وحده الذي يسمح لها بلعب دور التكملة والمرافقة للتطور، و يمنعها من السقوط في الاستبداد الذي يحصل في حالة غياب المجتمع المدني ، و الذي يتنافى مع طبيعة السيادة العقلية أي المطابقة لقوانين العقل .

و لا يعني هذا طبعا أننا نؤكد على تطور المجتمع المدني وحده ، و أننا نوحد بين المونارشي و الدولة على العموم . إن المونارشية مؤسسة من المؤسسات المكونة للدولة ولا يمكنها أن تحل محلها حسب التحليل الهيجلي . لهذا فإننا لن نكون في حاجة إلى التأكيد على ضرورة ارتقاء مختلف مؤسسات الدولة إلى مستوى العقل لأنها هي المسئولة، إلى حد كبير،على ضبط الانحراف الذي يظهر داخل المجتمع المدني [J1]·

مجلة الجابري – العدد الثالث


هوامش

1) يثير كانط مسألة القانون ليفرق بفضلها بين الحالة الاجتماعية والحالة المدنية. ولـهذا فالتقابل قائم بالنسبة إليه بين الحالة الطبيعية والحالة المدنية، وليس بين هذه الأخيرة والحالة الاجتماعية. ذلك لأن الحالة المدنية تقتضي عنصرا لا يتوفر في الحالة الطبيعية التي لا تتنافى في نـهاية المطاف مع وجود مجتمع. وهذا العنصر هو بالضبط القانون. يقول كانط في ميتافيزيقا الأخلاق : “لا يمكن للتقسيم الأكبر للقانون الطبيعية أن يحصل (كما يحدث ذلك أحيانا) بين القانون الطبيعي والقانون الاجتماعي، وإنـما بين القانون الطبيعي والقانون المدني. ولا تتعارض الحالة الطبيعية فعـلا مع الحالة الاجتماعية وإنما مع الحالة المدنية، ذلك لأنه يمكن أن يوجد مجتمع في مستـوى الـحالة الطبيعية ولكنه لا يمكن أن يوجد في ذاك المستوى مـجتمع مدني (يضمن ملكي وملكك بواسطة قوانين عمومية)، مما يجعل القانون يسمى في الحالة الأولى بالقانون الخاص”.
Kant, Métaphysique des mœurs, 1er partie Doctrine du droit, Trad A. Philonenko.
Ed Vrin 1971, p. 116.
2) Hegle, Principes de la philosophie du droit, trad .Robert Derathé , Ed Vrin. 1975 Paragraphe 256, P. 257
3) Ibid Parg : 273 p. 283
4) Cf. Nancy Jean Luc, La juridiction du monarque hégélien in le politique ed Galilée