مجلة حكمة

الماركسية بوصفها نظرية محدودة: حوار مع لوي آلتوسير / ترجمة: هشام عقيل صالح


         [أجرت هذا الحوار روسانا روساندا، مديرة الصحيفة الشيوعية ”البيان“ [Il Manifesto]، مع لوي آلتوسير في 1978، تعقيباً على ما دار في مؤتمر البندقية (السلطة والمعارضة في المجتمعات ما-بعد-الثورية) الذي عقد في 1977. ترجم أسد حيدر هذا الحوار إلى الإنكليزية ونشره في المجلة الإلكترونية (Viewpoint Magazine) في 14 ديسمبر 2017[1]. يأتي هذا الحوار ضمن ملف معنون بـ (أزمة الماركسية)، الذي يحتضن مشاركات عديدة لمفكرين ماركسيين (مثل: بولانتزاس، وباليبار، وغلوكسمان) حول الجدل الدائر للأفكار التي نوقشت في هذا الحوار، ومؤتمر البندقية، وندوات أخرى.]

مقدمة روسانا روساندا:

         أصر آلتوسير، في نوفمبر 1977، في مؤتمر البندقية حول (السلطة والمعارضة في المجتمعات-ما-بعد-الثورية)، بأن ليس لماركس أية نظرية حول الدولة. في مارس، اقترحت صحيفة ”البيان“ على آلتوسير بأن يطور هذا الإقرار، الذي لم يباح به بعد مؤتمر البندقية، آخذاً في الحسبان النقاش الذي حصل في إيطاليا حول اليسار، وبالتحديد النقاش الذي دار في مجلة (Mondoperaio)، وحتى الحوارات التي أجريت مع غيوليانو آماتا وبيترو إنغراو، والكتابات الحديثة التي نشرها بياجو دي جيوفاني في مجلة (Rinascita).

         لهذا الغرض قدمنا لآلتوسير قطعتين من الأسئلة. الأولى، تعلقت بمسألة الدولة في التجارب الثورية الموجودة اليوم؛ أما الثانية فهي تتعلق أكثر بالنقاش الإيطالي، وبالتحديد النقاش النظري الدائر حول النطاق السياسي. سألنا الفيلسوف الفرنسي عن رأيه حول الأطروحة القائلة بضرورة ”صيرورة الحزب دولةً“، وحول العلاقات في هذه الحالة التي تُخلق ما بين الدولة والحزب الخاضعة للصراعات الاجتماعية وأشكال صراعها. ما يهمنا الآن هو الانتقال، وأن نفكر ديكتاتورية البروليتاريا – و”نقد السياسة“ الذي يذيلها- وقضية تحلل الدولة، التي تبقى تاريخياً من غير أي حل. أيمكن لمجتمع ملتزم لمبدأ ”اللاتوازن“، حتى بعد تغير الطبقة المسيطرة،  والثورة اللانهائية، كما يقر ماو تسي تونغ، أن يعيش من دون ”قواعد اللعبة“، أو الأعراف، أو قانون تأسس وتمزق في لحظة صراع- بثمن النجاح في التعبير لا عن ”الوسط“، ولا ”اليمين“، ولا ”اليسار“، أيّ تلغيز الديالكتيك الاجتماعي الحقيقي؟ ألا يظهر القانون، الدولة، بذلك كشكل من تسوية اجتماعية تتدخل في كل مرحلة، ومن ضمنها المرحلة الانتقالية؟ لكن إذا كان هذا هو الحال، فكيف ومتى يمكن إلغاء الدولة؟ وما هو السبب الذي يجعلنا نعتقد أن في الشيوعية لن يكون ”المنتجون“ بحاجة إلى وساطة سياسية عامة؟

         روسانا روساندا: أثناء مشاركتك في البندقية، أعلنت إن ليس لماركس أية نظرية للدولة. أنا أعتقد ذلك أيضاً، رغم أن أجزاء لتحليل الدولة المعاصرة موجودة بشكلها المتطور لدى لينين، وكنوع من نظريةمضادة: ماذا يجب ألا تكون الدولة الاشتراكية عليه. هذه المناظرة تتعلق بالدول الاشتراكية والحياة السياسية في مرحلة الانتقال إلى الشيوعية. أتنتقل هذه الحياة عبر الحزب، الذي يصبح دولة، حتى بوسائل ديالكتيكية داخلية؟ أو إذا كانت التناقضات باقية، هل تحتاج أن يتم التعبير عنها سياسياً؟ بكلمات أخرى، أيمكن لمجتمع تناقضي (ماو) أن يبقى خارج قواعد اللعبة؟

 

         لوي آلتوسير: سؤالكِ هذا مطروح بطريقة تتضمن سلسلة كاملة من الفرضيات حول النظرية الماركسية، والدولة والمجتمع المدني، وتحلل الدولة، والسياسة أيضاً.

  1. إنها ليست صدفة أنني واجهت صعوبة مع كلمة ”الشمول“ [complessivo]، مع مفهوم ”الكل“، الذي يرتبط بفكرة ”العمومية“. بعد تلميحات معينة يبدو لي بإمكانك أن تميزين فكرة أن النظرية الماركسية هي قابلة لتشمل كلية سيرورة معينة التي هي في الواقع تحددها كنزعة: بما أن الشيوعية هي نزعة في المجتمع الرأسمالي.

         أعتقد أن النظرية الماركسية هي ”محدودة“: بمعنى أنها محدودة بتحليل نمط الإنتاج الرأسمالي، ونزعته التناقضية، التي تفتح لنا احتمالية الانتقال إلى إلغاء الرأسمالية واستبدالها بـ ”شيء آخر“ الذي يظهر سلفاً بشكل ضمني في المجتمع الرأسمالي. أعتقد أن النظرية الماركسية هي العكس المباشر لفلسفة التاريخ التي ”تشمل“ المستقبل الكلي للإنسانية، والتي بذلك ستكون قادرة على تعريف ”غايتها“: الشيوعية، بشكل إيجابي. النظرية الماركسية (إذا تركنا على جنب اغراء فلسفة التاريخ التي خضع لها ماركس أحياناً، والتي هيمنت على الأممية الثانية والفترة الستالينية بطريقة مدمرة) هي كامنة ضمن، ومحدودة بـ، المرحلة الراهنة: الاستغلال الرأسمالي. كل ما يمكنها قوله حول المستقبل هو الامتداد السلبي والمشتت للنزعة الراهنة، النزعة نحو الشيوعية، الموجودة في سلسلة كاملة من ظواهر المجتمع الرأسمالي. من الضروري إطلاقاً أن نلاحظ أنه على أسس المجتمع الراهن وحدها يمكن تفكير الانتقال (ديكتاتورية البروليتاريا) والتحلل النهائي للدولة. تلك هي مجرد تلميحات مستخرجة من النزعة الراهنة، التي هي مثل كل نزعة عند ماركس، يتم التصدي لها وقد لا تتحقق، ما لم يجعلها الصراع السياسي واقعية. لكن هذا الواقع لا يمكن التنبؤ به بشكله الإيجابي؛ فقط في سيرورة الصراع تظهر الأشكال المحتملة على السطح، ويتم اكتشافها، وبذلك تصبح واقعية.

         أعتقد أنه من الضروري جداً التخلص من الفكرة القائلة إن بإمكاننا أن نجد في تعبيرات معينة لدى لينين، وغرامشي أيضاً، تلميحاً بأن النظرية الماركسية هي نظرية ”شاملة“ وقادرة على أن تحل محل فلسفة التاريخ بشكل ملموس، وبذلك تكون قادرة على تفكير مشاكل غير موجودة فعلاً، بشكل تتنبأ ظروفها وحلها. النظرية الماركسية هي نظرية محدودة، وأنه على أساس وعيها بمحدوديتها يصبح بإمكاننا أن نطرح كل قضايانا الرئيسية.

         نضيف: حتى فيما يتعلق بالمجتمع الرأسمالي، والحركة العمالية، النظرية الماركسية تبوح تقريباً بلا شيء حول الدولة، أو الأيديولوجيا، أو السياسة، أو منظمات الصراع الطبقي. إنها ”نقطة عمياء“ التي بلا شك تبوح بالحدود النظرية التي واجهها ماركس، كما لو كان مشلولاً بالتمثيل البورجوازي للدولة، والسياسة، إلخ، إلى درجة أنه قام بتكرارها في شكل سلبي فحسب. نقطة عمياء أو منطقة محظورة، النتيجة هي هي. وهذا مهم، بما أن النزعة نحو الشيوعية تجد نفسها مسدودة (أو غير واعية بنفسها) في كل شيء يتعلق بهذه ”المناطق“ أو تلك القضايا.

  1. الفرضية الثانية تتعلق بالـ ”سياسة“. يبدو لي أن غرامشي قام بتلغيز، فضلاً عن إيضاح، هذه النقطة العمياء عند ماركس، عبر الإبقاء على التقسيم البورجوازي القديم ما بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، حتى لو أنه أعطى معنىً آخر لمفهوم المجتمع المدني (منظمات خاصة للهيمنة، وبذلك خارجة عن ”نطاق الدولة“ المتماثلة مع ”المجتمع السياسي“). أعتقد أن هناك رابطاً ما بين مفاهيم المجتمع السياسي، والدولة، ووظيفة ”العمومية“ (التي تأتي ضد ”الخاص“) في إشكالية المناقشات الإيطالية، وأن مفهوم كهذا يرجعنا إما إلى أيديولوجية وممارسة المفاهيم البورجوازية للسياسة، أو إلى مثالية ”كونية“ الدولة التي تحقق ما هو ”كوني“ أو ”عمومي“ لبشرية متحررة نهائياً من الاستغلال، وتقسيم العمل، والاضطهاد (حاكم/محكوم)، التي تعلق بها ماركس لفترة طويلة؛ على الأقل في أعماله عندما كان شاباً، التي استلهمها من فويرباخ.

         حقيقة أن الصراع الطبقي (البورجوازي والبروليتاري) يضع الدولة كموضوعه من الآن فصاعداً، لا تعني أن على السياسة أن يتم تعريفها بالعلاقة مع الدولة. بمثل الطريقة الواعية التي عرض بها ماركس كتابه (رأس المال) بوصفه ”نقداً للاقتصاد السياسي“، علينا أن نتمكن من تفكير ما لم يقم به: ”نقد السياسة“ كما هي مطروحة من قبل المفهوم الأيديولوجي والممارسة البورجوازية. إنها وجهة نظر البورجوازية التي تقيم الحد ما بين ”المجتمع السياسي“ و”المجتمع المدني“، أعني أن هذا التقسيم هو أساسي للأيديولوجيا والصراع الطبقي البورجوازي. يمكن للمرء أن يقول إنها من وجهة نظر البورجوازية نجد أن الدولة يتم تمثيلها بوصفها ”نطاقاً“ منفصلاً عن كل شيء آخر، منفصلاً عن المجتمع المدني (سواء أكان بالمعنى الذي يطرحه هيغل أو غرامشي)، خارجاً عن المجتمع المدني؛ بينما الدولة كانت دائمآً داخلة بشكل عميق بالمجتمع المدني، ليس فيما يتعلق بالمال والقانون وحسب، ولا بأجهزتها القمعية وحسب، بل أيضاً بأجهزتها الأيديولوجية ( بعد تفكير عميق، أعتقد أن يمكنني، على الرغم من تحليل غرامشي الفطين، أن أبقي على الأجهزة الأيديولوجية للدولة، لتوضيح أن الهيمنة تُمارس عبر أشكال، حتى إذا كان ”أصلها“ عفوي، متداخلة وتم تحويلها في الأشكال الأيديولوجية التي لها علاقة عضوية بالدولة؛ يمكن للدولة أن ”تجد“ هذه الأشكال، وهذا ما يحدث دائماً في التاريخ: أنها لم تتوقف أبداً عن تدخيلها-توحيدها في أشكال تقر الهيمنة).

         كل شيء يحدث كما لو كانت السياسة، عبر حقيقة أن الدولة (وهذا صحيح) هي الموضوع المطلق للصراع الطبقي، تم اختزالها في نطاق موضوعها. ضد هذا الوهم، الذي ابتكرته الأيديولوجيا البورجوازية والمفهوم الذي يختزل السياسة بموضوعها، فهم غرامشي جيداً بأن ”كل شيء هو سياسي“، وبذلك لا يوجد هناك ”نطاق للسياسة“، وإذا كان الانقسام ما بين المجتمع السياسي (أو الدولة) والمجتمع المدني يحدد الأشكال المفروضة من قبل الأيديولوجيا والممارسة البورجوازية للسياسة، فإن لا بد من الحركة العمالية أن تتخلص من هذا الوهم، وأن تبتكر لنفسها فكرة آخرى حول السياسة والدولة.

         فيما يتعلق بالدولة، أنها مسألة عدم اختزال وظائف الدولة إلى النطاقات الظاهرة لأجهزتها وحدها: الدولة كانت دائماً ”متسعة“ وأنه من الضروري جداً أن نفهم هذه النقطة ضد هؤلاء الذين يجعلون من هذا ”الاتساع“ حدثاً معاصراً وعظيماً. إنها أشكال هذا الاتساع التي تغيرت، لا مبدأ الاتساع نفسه. ببساطة أغلقنا أعيننا لمدة طويلة إلى الفترة الأخيرة حول حقيقة اتساع الدولة، التي هي تأسيسية بالنسبة إلى الدولة الملكية المطلقة (هذا إذا لم تكن أبعد من ذلك) والدولة الرأسمالية.

         فيما يتعلق بالسياسة، أنها مسألة عدم اختزالها إلى أشكال رسمية تقرها الأيديولوجيا البورجوازية كسياسية: الدولة، والتمثيل الشعبي، والصراع السياسي حول حيازة سلطة الدولة، والأحزاب السياسية، إلخ. إذا دخلنا إلى هذا المنطق وبقينا فيه، لن نخاطر أن بالسقوط في ”القماءة البرلمانية“ وحسب، بل فوق كل شيء آخر في الوهم الحقوقي للسياسة: بما أن السياسة يتم تعريفها عبر الحق السياسي، وهذا الحق يحدد (وفقط يحدد) أشكال السياسة التي يتم تعريفها عبر الأيديولوجيا البورجوازية، المتضمنة في نشاط الأحزاب.

         إنها هنا ليست مسألة ”توسعة“ السياسة القائمة، بل معرفة كيف نستمع إلى السياسة في مكان حدوثها. في الوضع الراهن هناك نزعة مهمة في قيد التبلور، وهي إبعاد السياسة عن حالتها البورجوازية الحقوقية. التقسيم القديم ما بين الحزب/النقابة الآن يضع في اختبار قاس، ومبادرات سياسية غير متوقعة كلياً تنشأ خارج الأحزاب، وحتى خارج الحركة العمالية (مثل البيئية، والصراع النسوي، والصراع الشبابي، إلخ)، في تشوش عظيم بلا شك، لكنها يمكن أن تكون ذات فائدة. الـ ”التسييس العمومي“ [generalized politicization] الذي يتحدث عنه إنغراو، على ما يبدو لي، هو علامة لما هو ضروري تفسيره كتشكيك وحشي وفعلي للأشكال البورجوازية الكلاسيكية للسياسة. وفقاً لوجهة النظر هذه، إيطاليا هي الأولى في نشوء هذه المبادرات. كما أنني بسهولة أفسر الصعوبة الكبرى للحزب الشيوعي الإيطالي في الإندماج أو حتى التواصل مع تلك الحركات الجديدة كعلامة تبين أن تم وضع المفهوم الكلاسيكي للسياسة ودور الأحزاب في محل الشك. وبطبيعة الحال، هذا سيجعل الشكل التنظيمي للحزب الشيوعي، المتأسس على النموذج البورجوازي للجهاز السياسي (مع برلمانه الذي يناقش، و”قاعدته“، وقيادته التي، مهما كان، لها الوسائل أن تبقى في محلها، وتضمن، بأسم أيديولوجية الحزب، هيمنة ”خطها“). من الواضح أن هذه العدوى الفعلية لمفهوم الأيديولوجيا البورجوازية للسياسة هي النقطة التي سيتم فيها تقرير مستقبل الحركة العمالية.

  1. لهذا السبب أنا لست مرتاحاً من صيغ من هذا النوع: ((الشكل النظري للـ ”نطاق السياسي“ في الفترة الانتقالية. لنعترف أنه لا بد أن يمر عبر الحزب الذي يجعل من نفسه دولة..)). في الواقع، يبدو لي أنه من المستحيل القبول بهذه الفكرة (التي دافع عنها، على ما أعتقد، غرامشي في نظريته حول الأمير الحديث، التي تتبنى فكرة أساسية، بلورها ماكيافيلي، للأيديولوجيا البورجوازية حول السياسة). إذا جعل الحزب نفسه دولة، النتيجة هي: الإتحاد السوفيتي. قلت لفترة طويلة، لأصدقائي الإيطاليين، على الحزب أن لا يعتبر نفسه أبداً، في المبدأ، ”حزباً حكومياً“- حتى لو يمكنه، في ظروف معينة، أن يشارك في الحكومة. في المبدأ، على الحزب، وفقاً لغايته السياسية والتاريخية، أن يقف خارج الدولة في كلا من: الدولة البورجوازية وبشكل أكثر في الدولة البروليتارية. على الحزب أن يكون أداة تدمير الدولة البورجوازية، قبل أن يصبح، شيئاً فشيئاً، أحدى أدوات تحلل الدولة. الصفة الخارجية السياسية للحزب فيما يتعلق بالدولة هو المبدأ الأساسي الذي يمكننا أن نستخرجه من النصوص الشحيحة لماركس ولينين حول هذه المسألة. من دون هذه الإستقلالية للحزب (وليس للسياسة) في علاقته بالدولة، لن نخرج أبداً من الدولة البورجوازية؛ مهما أردنا ”إصلاحها“.

         إن استقلالية الحزب هذه عن الدولة هي التي تسمح لاحتمالية (أو حتى ضرورة) ما يسمى رسمياً بالـ ”تعددية“. هناك كل أفضلية لوجود الأحزاب في عملية الانتقال: هذا قد يكون أحد أشكال هيمنة الطبقة العاملة وحلفاءها- لكن على شرط واحد، أن يكون الحزب مختلفاً عن غيره، أيّ، جزء من الجهاز الأيديولوجي السياسي للدولة (النظام البرلماني)، ولكن أساساً خارجاً عن الدولة عبر نشاطه ضمن الجماهير، يدفع في الجماهير الفعل الذي يعود إلى تدمير أجهزة الدولة البورجوازية، وتحلل الدولة الثورية الجديدة.

         الفخ الأساسي هو الدولة: سواء أكانت تحت الأشكال السياسية للتعاون الطبقي في ”الشرعية“ القائمة، أو تحت الشكل الأسطوري للـ ”الحزب-الذي-في-صيرورته-دولة“. أقول أسطورية من وجهة النظر النظرية، بينما هي للأسف واقعية جداً في البلدان ”الاشتراكية“.

         أعلم أنه ليس من السهل تبني موقعاً سياسياً كهذا: لكن من دونه ستكون استقلالية الحزب في خطر غير قابل للإصلاح، ولن تكون هناك أي فرصة للهروب من المخاطرة في الوقوع إما في التعاون الطبقي، أو إما الحزب-الدولة وعواقبه.

         لكن إذا تمكنا من تبني موقعاً كهذا، سيتم وضع المسائل التي يثيرها الاشتراكيون الإيطاليون في مكانها الصحيح. بلا شك، من الضروري أن الدولة الانتقالية تتابع وتفرض ”القواعد“ الحقوقية ”للعبة“ التي تحمي الشعب و”المعارضين“. لكن إذا كان الحزب مستقلاً إلخ، فأنه سيحترم ”قواعد اللعبة“ التي يعتبرها المتحدثون عنها، وفقاً للأيديولوجيا البورجوازية الكلاسيكية، ”نطاق السياسة“- أثناء ممارسة السياسة في النطاق الذي يقرر كل شيء: في حركة الجماهير. إن تدمير الدولة هو ليس قمع كل قواعد اللعبة، بل تحويل حقيقي لأجهزته، بعض منها مقموعة، بينما البعض الآخر منها يتم خلقها؛ كلها تخضع للتثوير. إنها ليست قصر ”قواعد اللعبة“ أو قمعها (كالاتحاد السوفيتي) التي ستجعل من الممكن التعبير عن عمل الجماهير الشعبية: فإن قواعد اللعبة كما هي تفهمها الأيديولوجيات الكلاسيكية هي جزء من لعبة مختلفة تماماً، لعبة أهم بكثير من الحق؛ كما يعلم بوبيو جيداً. إن حافظ الحزب على استقلاليته الطبقية ومبادرته للعمل، سيكون له كل شيء ليكتسبه ولا شيء ليخسره في ملاحظة وفرض قواعد اللعبة. لكن حالما يفقد استقلاليته الطبقية ومبادرته للعمل، فإذن ستخدم ”قواعد اللعبة“ مصالح مختلفة تماماً عن مصالح الجماهير الشعبية.

  1. من الصعب علي أن أدخل في النقاش المثير جداً للاهتمام الجاري في إيطاليا (آماتا-إنغراو-دي جيوفاني) حتى لو كان لأسباب متعلقة بالسيمانتيكية السياسية. أقول إنني أجد نفسي قريباً جداً لإنغراو، حين يشدد على ضرورة وضع في الحسبان بشكل جدي لكل الحركات الجديدة التي تطورت خارج الأحزاب، وحين يلاحظ التغير في أسلوب الأحزاب (رفض النظرات الشمولية)، وحين يعلن أن مسألة الحزب السياسي الآن موضوعة بشروط جديدة. لكنني لا أتفق معه (وبلا شك أسأت فهمه) حين يبدو أنه يتحدث عن الدولة والنطاق السياسي (القائم وبشكل عام) بأنهما يؤسسان بطريقة معينة المعيار لكل سياسة، وحين يتحدث عن ”تشريك السياسة“ [socialization of politics] كما لو أنها لم تكن مسألة (كما يقول في مكان آخر) ”تسيس الاشتراكي“ [politicization of the social]، بما أن الحديث عن ”تشريك السياسة“ يفترض الوجود المسبق لسياسة قادرة على أن تُشرك نفسها [socialize itself]، وهذه السياسة التي تُشرك نفسها يمكنها أن تكون فقط السياسة في شكلها الطاغي. ما يهمني هو، في مثل الأمثلة التي يقدمها إنغراو، أن الأشياء تحدث بشكل عكسي: ليس السياسة بإتجاه الجماهير، بل الجماهير بإتجاه السياسة، وما هو أهم من ذلك، بإتجاه ممارسة جديدة للسياسة. قد يكون هذا سبب تحفظي حين أرى إنغراو يعلن أن الصراعية وتعددية الحركات ”تعطي أهمية كبرى للحظة الوساطة العامة [general mediation]“. كم يحزنني أنه يتحدث بشكل تجريدي كهذا، ويمكنه بذلك أن يعطي إنطباعاً بأنه يركز على الدولة بشكلها المجرد، من دون أن يتحدث عن تحويلها. قد تكون هذه الغرابة آتية من غرامشي، الذي كان ينزع نحو الخلط ما بين جهاز الدولة ووظائفها.

         مع مثل التحفظات فيما يتعلق بصيغ مشابهة عند دي جيوفاني (تشريك السياسة؛ انتشارية السياسة نحو ”الخاص“؛ الإنتشار الجزيئي للسياسة، إلخ.) وكذلك أطروحته حول ”إنتشار الدولة“ التي قد تكون مبهمة، والتي ترجعنا إلى ”توسعية الدولة“، وقد تخلط ما بين الدولة والسياسة (راجع ما قلناه آنفاً)، أنا قريباً منه جداً حين يستحضر ”أزمة استقلالية السياسة“؛ وفوق كل شيء آخر حين يعرف هذه السياسة: ((ما هو الشكل النظري والممارسة التنظيمية للدولة القديمة)): بما أنه يطلق على السياسة بإسمها، أشكال الهيمنة الموجودة في محلها. كما أنني أتفق معه حين يلحظ بشكل صحيح جداً بأن: ((ترفيع الوساطة السياسية ينهض من مخاطر ”الضعف“ المتضمنة في ”الإنتشار“ البسيط)). هذه هي النقطة الحاسمة: السياسة لا تنشرنفسها (المقصود: من الفوق، بدءاً بأشكال الدولة وحتى الأحزاب)، من دون أن تخاطر في السقوط في التقنياتية [technicism] أو في ”المشاركة“ التي تأتي ضد جدار سلطة الدولة (بما أن يمكنها أن تقوم بتنظيمه حتى!). ((لا يبدو أنه من الكافي الرد بشكل ”عام“ لسلطة موجودة بشكل تاريخي (هنا أيضاً العام يتم تسميته بمسماه) عبر الحكم الذاتي للإستقلاليات. النقطة الحاسمة هي لا تزال الهيمنة، التي هي معطى من قبل الشكل الكلي الذي لا بد أن يعبر تشكيل الدولة عن نفسه فيه)). الهيمنة، تشكيل الدولة: هنا هذه الكلمات التي تقول لنا، بطريقتها الخاصة، بأنه من الضروري ”فك تشفير“، مثل مقالة  دي جيوفاني ”المشفرة“، أشياء معروفة لفترة طويلة.


[1] مصدر الحوار باللغة الانكليزية:

Louis Althusser, Interviewed by Rossana Rossanda, Marxism as a Finite Theory (1978), Trans. Asad Haider, Viewpoint Magazine <https://www.viewpointmag.com/2017/12/14/marxism-finite-theory-1978/>