مجلة حكمة
تسليع الطبقة العاملة الليبرالية

الليبرالية الجديدة: تسليع الطبقة العاملة – سالم الشهاب


تقديم

يختلف تعريف السلعة من قاموس لآخر، فهي “المنتج الذي تتم صناعته بغرض البيع أو المبادلة” حسب معاجم كامبيرد وأوكسفورد إلا أن لـ كارل ماركس رأياً مختلفاً. بحسب كتاب ماركس “رأس المال” فإن السلعة هي الشيء الخارجي -ـ  عن إطار الوعي ـ  والذي يقوم من خلال جودته وكفاءته بإرضاء الحاجات الأساسية للإنسان بجميع أنواعها، ثم تتم مبادلته بعد ذلك مقابل شيء آخر. كلا التعريفان للسلعة لا يخرجان عن الإطار الفيزيائي للشيء، إلا أن هذا التعريف بدأ بالخروج عن إطاره التقليدي المألوف من خلال الممارسات والسياسات الليبرالية الجديدة. لم تكتفي الليبرالية الجديدة بالتعدي على المفاهيم والمصطلحات بأشكالها السابقة، بل إنها تعدت على مبادئ النظريات الليبرالية التقليدية مثل الحرية والكرامة الإنسانية في خصائصها الحالية. من المفارقات المضحكة التي ذكرها نوم تشومسكي في إحدى محاضراته أن الليبرالية الجديدة لم تعد جديدة الآن (مرت على بداية ممارساتها عقود من الزمان) وليست بليبرالية أيضا ! (لانحرافها عن المبادئ الأساسية لليبراليات الكلاسيكية)

تسليع الطبقة العاملة

هنالك نوعان للنماذج التحليلية للطبقة العاملة مقابل الإنتاج (أ) الطبقة العاملة ذات القيمة الإنتاجية الغير خاضعة للقياس الكمي (ب) العاملة كسلعة يمكن قياسها بعدد ساعات العمل. في حين يعتمد الاقتصاديين الماركسيين على النموذج الأول في التحليل، يقوم الطرف الآخر بتبني النموذج الثاني. فلو نظرنا إلى أبرز النماذج الليبرالية في دراسة وتحليل المدخلات والمخرجات الاقتصادية مثل “تابع الإنتاج كوب ـ دوغلاس” أو “نظرية النمو” لروبيرت سولو، لوجدنا أنها تتجاهل العامل الاجتماعي والنفسي للطبقة العاملة، بل إنها تقوم بتسليع قوى الإنتاج وحصر قيمتها في عدد ساعات العمل، كآلة، مع الإدعاء الضمني لمعتنقي هذه النماذج بأن التطور التكنولوجي قادر على استبدال العمالة البشرية بآلات ومكائن بذات الجودة. يتكون نموذج النمو الاقتصادي لسولو من مجموعة من المدخلات أو العوامل مثل رأس المال، العمالة، وكفاءتها التي عرفت بالتطور التكنولوجي لاحقاً، وحاز روبيرت سولو إثرها على جائزة نوبل للاقتصاد عام١٩٨٧. يبدو التساؤل التالي لكارل ماركس في محله، فلو فرضنا أنه تم استبدال جميع العمال في المصانع بآلات تقوم بذات الوظيفة، من سيقدم على شراء تلك السلع أو الخدمات التي يوفرها رأس المال؟ وكون هؤلاء العمال أصبحوا دون وظائف وبالتالي من دون أجور، هل تستطيع تلك الآلات حينها أن تحل محل المستهلك؟ بالطبع لا. هنا يظهر زيف هذا الإدعاء وتظهر حاجة رأس المال للعمال ودفع الأجور بشكل واضح. يشكل الأفراد الذين يقدمون على الانتظام بسوق العمل حزمة أخلاقية واجتماعية في آن واحد، فهم نتاج ثقافات وبيئات مختلفة ساهمت في تشكيل مهاراتهم وهوياتهم التي يتطلبها سوق العمل، وتجريد هؤلاء الأفراد من تلك الحزم ليس إلا تجريداً لهم من إنسانيتهم. لا يقتصر التسليع على قوى الإنتاج في التطبيقات العملية الليبرالية، والليبرالية الجديدة تحديداً، فهي تقوم بتسليع ما تسنى لها من موارد طبيعية وخدمات كانت قد تقاضت في الأساس استحقاقتها من خلال مختلف الأنظمة الضريبية. (ضريبة الدخل، ضريبة القيمة المضافة)

كتب ديفيد هارفي في كتابه الليبرالية الجديدة “تسليع الأشياء يفترض وجود حقوق ملكية لكل الأشياء والعمليات والعلاقات الاجتماعية، وأن بالإمكان وضع ثمن لها، والمتاجرة بها وفق شروط عقد قانوني. كما يفترض أن يعمل السوق موجهاً ـ ونظاماً أخلاقياً ـ ملائماً لكل أشكال الفعل الإنساني.”ولا يقتصر التسليع على القوى البشرية العاملية بل إنه يمتد إلى أبعد من ذلك، يضيف هارفي “إن تسليع الثقافة والتاريخ والجنس؛ وتسليع الطبيعة باعتبارها مناظر أو استجمامات علاجياً تجتذب السياح؛ وانتزاع أجور عن احتكار الإبداع والأصالة والتفرد (لأعمال فنية، مثلاً) توازي كلها وضع ثمن لأشياء لم يجر أبداً إنتاجها كسلع في الواقع. تظهر هذه المعالم للأنظمة الرأسمالية بشكل واضح في الولايات المتحدة، فتجد أن زيارة الأماكن الطبيعية والتي لا تتجاوز المتعة في زيارتها إلى أبعد من النظر إليها أصبحت سلعاً يتم المتاجرة بها. هنا يظهر الانحراف الواضح لمفهوم السلعة عن شكلها التقليدي، من كونها إحدى مخرجات دورة الإنتاج في المصنع، إلى كل ما يمكن بيعه وتسويقه شرط أن تكون الإيرادات التشغيلية لها مجدية من الناحية المالية.

تعزيز الثقافة الاستهلاكية كمحفز لنمو الاقتصاد

إن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء والتفاوت المتزايد في متوسط دخول هاتين الطبقتين الاجتماعيتين له العديد من المنافع في توجيه الاستثمار والاستهلاك، كما ذكر جون بيلامي فوستر/ فرد ماغدوف في كتابهما “الأزمة المالية العالمية وأزمة الرأسمالية”. إن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر أحد الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، إذ أن المبادرات الليبرالية الجديدة دخلت في حيز التنفيز من بداية الثمانينات من تخفيض لضرائب الطبقات الغنية في ولاية رونالد ريغان ومحاربة النقابات العمالية وزيادة لساعات العمل، يقابله زيادة طفيفة ـ أو انخفاض-ـ  في مستويات الأجور التي لا تنعكس في ارتفاع للقدرة الشرائية للمستهلك عند خصم معدل التضخم. في الفترة ما بين عامي ١٩٩٤ـ-٢٠٠٤  حدث انخفاض للأجور بشكل عام في الولايات المتحدة قابله ارتفاع كبير في معدلات الاستهلاك للفرد، هنا يتساءل  فوستر وماغدوف “كيف حصل هذا التناقض ـ أي انخفاض الأجور الحقيقية يقابله ارتفاع في الاستهلاك ـ وكيف يمكن تفسير ذلك؟”

يكملان “إن الإجابة الواضحة أو الجزء الكبير منها الذي يطفو على السطح هو أنه في فترة ركود الأجور ينفق العاملون وعلى نحو متزايد مبالغ أكثر من مداخيلهم وذلك عن طريق الاقتراض للوفاء بحاجاتهم (أو في بعض الحالات يصبح الاقتراض نوعاً من محاولات يائسة لتحسين مستوى المعيشة). والجدير بالاعتبار أن التوسع الاقتصادي الحالي أدى إلى زيادة الديون الاستهلاكية”. يضيفان “.. إن النتيجة هي ارتفاع نسبة الديون الاستهلاكية الكلية بالنسبة للدخل المتاح (الدخل بعد خصم الضرائب) .. إن نسبة الديون الاستهلاكية الحالية بالنسبة للدخل المتاح للمستهلك قد كانت أكثر من ضعفين على مدار ثلاثة العقود الأخيرة التي ارتفعت من ٦٢٪ عام ١٩٧٥ إلى أكثر من ١٢٧٪ عام ٢٠٠٥. وإن هذا يرجع إلى حد ما إلى الانخفاض التاريخي لسعر الفائدة الذي ساعد في خدمة تلك الديون في السنوات الأخير على الرغم من ازدياد معدلات الفائدة حاليًا.

يمكن تحليل هذه الظاهرة عن طريقة دراسة سلوك المستهلك تجاه خلق محفزات للاستهلاك عن طريق القنوات التسويقية بالإضافة للتسهيلات البنكية والائتمانية والحث الدائم على الاقتراض. حسب البيانات التي أعلنها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ارتفع ما بين عام ١٩٧٧ إلى عام ١٩٩٧ عدد مستخدمي البطاقات الإئتمانية إلى أكثر من الضعف (٦٨٪ من المواطنين) ليصل معدل الرصيد المدين لكل حامل بطاقة إلى ٤٩٥٦ دولار في نهاية عام ٢٠٠٥، تقدر إجمالي مديونياتهم ب٨٣٨ مليار دولار. “كانت الأسر من ذوي الدخل المحدود هي الأكثر تعرضاً للاقتراض النهبي أو الضار: كالقروض مقابل الرواتب، قروض السيارات، قروض الرهن العقاري وما إلى ذلك. وكافة تلك القروض في تزايد مستمر وسريع في مناخ الأزمة المالية، وفقاً لمركز الاقراض المسؤول”. هنالك العديد من القوانين والسياسات التي تفسر تراكم هذه الديون بشكل مخيف في المؤسسات المالية، أهمها قانون “غارن ساينت جيرمين للمؤسسات الإيداعية” الذي يلغي العديد من القيود والضوابط على المؤسسات المالية في عمليات التمويل على الرهانات العقارية والتمويل البديل، بالإضافة إلى السياسات النقدية المتعلقة بسعر الفائدة ورفع السقف عنها للسماح للبنوك والمؤسسات المالية بمنافسة الاتحادات الائتمانية التي كان تحصل على النصيب الأكبر من مدخرات العمال آنذاك. هنا يبدو التساؤل التالي جديراً في الحصول على إجابة؛ لماذا تقف الحكومة الأمريكية إلى جانب المؤسسات المالية ؟ صدر في عام ١٩٧١ مجموعة من التشريعات والقوانين التي تنظم تمويل الحملات الانتخابية، والتي لاحقتها العديد من الدعاوى القضائية التي نظرتها المحكمة العليا، ليصدر في عام ١٩٧٦ أول قانون يسمح للشركات بتمويل الحملات الانتخابية دون حد أعلى للتمويل، ولذلك أصبح لزاماً على جميع المرشحين تبني أجندة وقضايا المؤسسات المالية التي تقوم بتمويل حملاتهم الانتخابية. لم يكتفي ريغان بهذا، حتى إنه سمح في عام ١٩٨٣ بافتتاح أول سجن خاص بأهداف ربحية، تقوم الشركات بإدارته مقابل الانتفاع من الأيدي العاملة الرخيصة هناك من خلال تشغيلهم في عمليات التصنيع من حياكة ونجارة وحدادة. إن مجرد التفكير بأن أحدهم ـ  في مكان ما ـ يجلس مترقباً حدوث جريمة ما ليقتات من فتاتها كفيل بأن يثير الشعور بالغثيان، فانعدام العامل الأخلاقي في الاقتصادات الرأسمالية مع السياسات الليبرالية الجديدة وصل إلى مرحلة متقدمة وخطرة من إعادة لرسم تضاريس الأخلاق في مجتمعاتها من خلال إضفاء العامل الربحي عليها. لذلك، تبدو الفكرة النبيلة لآدم سميث في أن آلية السوق الحرة (أو الغير منظمة) كفيلة بدحض جميع الشرور والنزعات المتعطشة للأرباح ساذجة الآن، كون حرية الأسواق بشكلها الآنف ذكره حرية لأصحاب رؤوس الأموال في التنقيب عن الأرباح في جميع المجالات، وأن “الأيادي الخفية” باتت ظاهرة بشكل مريب الآن.

الأدلجة المنظمة

إن الآيدلوجيا حسب المفاهيم العامة هي مجموعة الأفكار والمعتقدات التي تعتنقها مجموعة من الأفراد في المجتمعات، إلا أن لسلافوي جيجيك ـ والماركسيين بشكلٍ عام ـ رأياً مغايراً. يرى جيجيك أن الآيدولوجيا يمكن اختزالها في أن يقوم أحدهم بدعوة عشيقته لشرب القهوة عنده في المنزل، مع علمه بأنها لا تحب شرب القهوة، وعلم صديقته بأنه لا يمتلك قهوة في منزله، ثم تلبي النداء وتذهب معه إلى المنزل. إن الآيدولوجيا في المثال السابق هي أن تستتر الدعوة للقاء حميمي في غطاء الحشمة، فهي بالتالي ما نعرفه ولا نريد التصريح به، أو ما لا نعرفه ونخشى معرفته، وهو تماماً ما تعامل به الشركات الكبرى المستهلكين. تقوم تلك الشركات بتعزيز النزعة الملكية للأفراد من خلال الإعلانات التسويقية لمنتجاتها، بحيث تقوم ببث تلك الأفكار الآيدولوجية من خلال وضع غطاء أخلاقي ـ غالباً-ـ  له، مثلما تقوم به بعض الشركات التي تحاول بإقناعك أن قيمة المنتجات (السيارة أو العطر) التي تقوم بشرائها تتعدى الاستخدامات الفيزيائية لها، حيث أنها تزيد من القبول الاجتماعي لمقتنيها. تصبح هنا القيمة الإنسانية للفرد مرتبطة بشكل مباشر بملكيته الشخصية، وأن التعاملات المجتمعية بين الأفراد أصبحت تبنى على قيماَ مادية مع هامش أخلاقي ضئيل.

لم تتوقف تلك الحملات التسويقية المنظمة عند هذا الحد، حتى إنها أصبحت تحاول إضفاء الشعور بالرضى مقابل الإنفاق وحدةّ النزعة الاستهلاكية في الأسواق. عندما تقوم بشراء السلعة التي يتم تسويقها على أنها صديقة للبيئة أو على أن جزءاً من أرباحها يذهب لمساعدة الفقراء في العالم، تقوم أيضاً بشراء الآيدولوجيا من خلال هذا المنتج. فالشعور بالسخط تجاه السعر المرتفع للسلعة أصبح مشمولاً في هذا المنتج، فتذهب للاعتقاد بأن عملية الشراء تلك قادرة على جعل العالم مكاناً أفضل، وبذلك تصبح القيم الإنسانية خاضعة للتسعير كحال أي مخرج لعمليات الإنتاج والتصنيع.

ما العمل ؟

تتباين الآراء حول كيفية إعادة رسم دور الطبقة العاملة في المجتمعات والاقتصادات خاصة في الدول ذات المراحل المتقدمة من الأنظمة الرأسمالية، والتي يجب الإقرار أولاً بصعوبة انتزاع السلطة منها لإحكام سيطرتها على الموارد وأجهزة الإعلام دون خلق الوعي الطبقي اللازم لذلك. يعرف الوعي الطبقي حسب النظرية الماركسية بأنه ما يعرفه الفرد حول الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها مع إدراكه التام لمصالح تلك الطبقة، والتي لا تتسق مع الأهداف والسياسات التي يروج لها أصحاب رؤوس الأموال، وأن كل طبقة اجتماعية لها مصالح لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الطبقات الأخرى. يؤدي هذا الوعي الطبقي إلى تضامن بين أفراد الطبقة العاملة لاشتراكهم بالأهداف والمصالح، لا خلفياتهم الدينية والاجتماعية وغيرها من الانتماءات التي تخفي حقيقة الصراع في المجتمعات الرأسمالية، الصراع الطبقي. على الرغم النقد الواسع الذي لقيته هذه النظرية الاجتماعية لكارل ماركس، والاختلاف في تفسير الوعي الطبقي خلال النظرية الماركسية ومنظريها عبر التاريخ، خاصة في أعمال جورج لوكاتش وكتابه “التاريخ والوعي الطبقي”، إلا أن الاختلاف كان يدور غالباً حول المرحلة الانتقالية للنظرية من الوعاء النظري الى الإطار التطبيقي لها، وتم قبوله لاحقاً من العديد من الماركسيين كمتمم للنظرية الماركسية. قد يكون العمل الجماعي المنظم من خلال النقابات وجمعيات النفع العام والذي يساهم في تكوين النزعة التكافلية لدى أفراد المجمتع، كونه يقوم بتجريدهم ـ في الحالة المثالية ـ من النزعات الرجعية والقبلية، والتي لا تنتمي إلى الصراع الحقيقي في المجتمعات. كذلك للحملات والمنظمات التي تطالب بمزيد من الشفافية على جميع الأصعدة والمجالات، كالتي يدعو لها يانيس فاروفاكيس في أوربا، دور في كشف تناقضات الأنظمة الرأسمالية وفضح فساد القائمين على سياساتها. إن للمثقفين أيضاً دوراً مهماً في مثل هذه الصراعات الطبقية من حملات وندوات تثقيفية لبيان خطورة السياسات الليبرالية الجديدة على الطبقة العاملة، ولنتذكر دائماً أن “أولى مهام المثقفين هي إزعاج السلطات” كما يقول جان بول سارتر، لا دس الأغنيات والقصائد في أكفّ الشعوب.


المصادر:

موجز رأس المال، فريدريك إنجلز

الليبرالية الجديدة: موجز تاريخي، ديفيد هارفي

الأزمة المالية العالمية وأزمة الرأسمالية، جون بيلامي فوستر / فرد ماغدوف

دليل المنحرف إلى الآيدولوجيا، سلافوي جيجيك

مقال “كيف أصبحت ماركسياً شاذاً”، يانيس فاروفاكيس

التاريخ والوعي الطبقي، جورجي لوكاتش

نظرية النمو، مركز أبحاث جامعة شمال كارولينا