مجلة حكمة

اللامساواة والتحديث: لماذا من المرجح أن يكون للمساواة عودة؟ – رونالد إنجليهارت / ترجمة: فاطمة الشملان

jf16_cover_sub
(مجلة فورن أفيرز، عدد يناير 2016)

خلال القرن الماضي، رسم التفاوت الاقتصادي في العالم المتقدم منحنى بشكل (U) – مبتدئا بصعود، منحنيا بانخفاض ثم صاعدا بحدة مرة أخرى. في 1915، حصل الواحد في المائة من الأمريكيين الأغنى على حوالي 18 بالمائة من مجموع الدخل الوطني. انحدرت حصتهم في الثلاثينيات وبقيت أقل من عشرة بالمائة خلال السبعينيات، لكن بحلول 2007، ارتفعت إلى أربع وعشرين في المائة. بالنظر إلى ثروة الأسرة المعيشية عوضا عن الدخل، باتت زيادة التفاوت أعظم من خلال الحصة التي يتشارك بها أعلى عُشر بالمائة لتتصاعد إلى اثنين وعشرين بالمائة مقابل تسعة بالمائة قبل ثلاثة عقود. في 2011، تحكم أعلى واحد بالمائة من الأسر الأمريكية في أربعين بالمائة من مجمل ثروة الأمة. ومع أن حالة الولايات المتحدة مفرطة، إلا أنها بعيدة عن أن تكون فريدة: الكل ماعدا بعض الدول في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث البيانات موجودة، تعرضت لصعود في تفاوت الدخل (قبل الضرائب والتحويلات) خلال فترة 1980 إلى 2009.

لقد اشتهر تفسير الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي لهذه البيانات عن طريق المحاجة بأن الميل تجاه التفاوت الاقتصادي صفة وراثية للرأسمالية. إنه يرى منتصف عقود القرن العشرين، التي خلالها انحدر التفاوت، كاستثناء للقاعدة، أُنتجت أساسا عن طريق صدمات عشوائية- الحربان العالميتان والكساد الكبير- التي أدت بالحكومات إلى تبني إجراءات أعادت توزيع الدخل. لقد انحسر تأثير تلك الصدمات الآن، الحياة تعود إلى طبيعتها مع القوة الاقتصادية والسياسية مركزة في يدي أوليغاركية.

لقد تم تصحيح عمل بيكيتي في بعض التفاصيل، لكن زعمه بأن التفاوت الاقتصادي يتصاعد بسرعة في غالبية الدول المتقدمة هو جلي الدقة. بيد أن غالب ما يفتقده تحليل الموضوع، مع هذا، هو المدى الذي ارتبط به كلا الانهيار الأولي والصعود اللاحق للتفاوت خلال القرن الماضي مع تبدلات في موازنة السلطة بين النخبة والجموع، مُساقة بعملية التحديث الجارية.

في مجتمعات الصيد والجمع، يملك الكل واقعيا المهارات المطلوبة للمشاركة السياسية. كانت الاتصالات كلامية، الإشارة إلى الأشياء التي عرفها الشخص مباشرة، صنع القرار غالبا ما تم في مجالس القرية التي شملت كل ذكر بالغ. كانت مجتمعات قائمة بالقسط نسبيا.

أدى ابتكار الزراعة إلى مجتمعات رابضة تنتج طعاما يكفي لدعم نخب متخصصة في المهارات العسكرية والاتصالات. جعلت الإدارات المثقفة تنسيق إمبراطوريات كبيرة تحكم الملايين من الأشخاص ممكنا.  تطلب هذا البعد الأكبر من السياسة مهارات متخصصة، شاملة القدرة على القراءة والكتابة. لم تكن الاتصالات الكلامية كافية للمشاركة السياسية: كان يجب على الرسائل أن تصل عبر مسافات شاسعة. لم تكن الذاكرة البشرية قادرة على تسجيل وعاء الضريبة أو قوة عاملة عسكرية لأعداد كبيرة من المقاطعات: كانت الحاجة إلى سجلات مكتوبة. وكانت الولاءات الشخصية غير كفاية لتماسك امبراطوريات كبيرة: كان على الأساطير المُشرعة أن تُعمم عن طريق مختصين دينيين وأيديولوجيين. لقد شق هذا فجوة عريضة بين طبقة حاكمة متمرسة نسبيا والجمهور بالمجمل، الذي تضمن في الأساس رعاعا أميين متفرقين يفتقرون إلى المهارات المطلوبة لتسيير السياسة عن بعد. بالتزامن مع هذه الفجوة، تصاعد التفاوت الاقتصادي دراماتيكيا.

ثبت هذا التفاوت طوال التاريخ وفي بداية عصر الرأسمالية. في البداية، أدى التصنيع إلى استغلال وحشي للعمال، بأجور منخفضة، أيام عمل طويلة، دون قوانين عمالية، وقمع لمنظمة اتحادية. في النهاية مع هذا، ضيقت الثورة الصناعية الفجوة بين النخب والجموع عن طريق إصلاح المهارات السياسية: قربت المدنية الناس؛ تركز العمال في المصانع، مسهلين التواصل؛ وضعهم الانتشار العام للقراءة والكتابة على اتصال بالسياسة الوطنية، تلك كلها أدت إلى حراك اجتماعي. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ربحت الاتحادات حق التنظيم، ممكنين العمال من المفاوضة إجمالا. أعطى تمدد الوكالة الانتخاب لناس أكثر مما سبق، وحركت قائمة الأحزاب السياسية اليسارية الطبقة العاملة للكفاح من أجل مصالحهم الاقتصادية. كانت النتيجة انتخاب حكومات تبنت أنواعا عديدة من السياسات- ضرائب تدرجية، ضمان اجتماعي، وحالة من الرفاه الشامل- الذي سبب بانحدار التفاوت لغالبية القرن العشرين.

إلا أن انبثاق مجتمع ما بعد الصناعي، غير اللعبة مرة أخرى. نجاح حالة الرفاه الحديثة جعلت من إعادة 1التوزيع أكثر تبدو أقل إلحاحا. انبثقت قضايا غير اقتصادية تخطت حدود الطبقة، باستمالة سياسات الهوية والبيئية بعض الناخبين الأكثر ثراء إلى اليسار، بينما دفعت القضايا الثقافية الطبقة العاملة إلى اليمين. حجمت العولمة وتخفيض التصنيع من قوة الاتحادات. والمعلومة التي ساعدت الثورة على تحقيقها هي الرابح يستحوذ على الاقتصاد. لقد أعطبا معا القاعدة السياسية لسياسات إعادة التوزيع، وأثناء ما سقطت تلك السياسات من التفضيل، صعد التفاوت الاقتصادي مرة أخرى.

اليوم، لا زالت تُصنع المكاسب الاقتصادية في الدول المتقدمة، لكنها تذهب بشكل رئيسي لهؤلاء الذين في أعلى قمة توزيع الدخل، بينما أولئك في الأسفل قد رأوا دخلهم الواقعي إما يركد أو حتى ينضب. الأغنياء في المقابل، قد استخدموا صلاحياتهم لنحت سياسيات ستزيد تركيز الثروة أكثر، غالبا ضد رغبة ومصلحة الطبقات المتوسطة والدنيا.  لقد أظهر العالم السياسي مارتن غايلنز على سبيل المثال بأن الحكومة الأمريكية تستجيب بانتباه شديد لتفضيلات أكثر عشرة بالمائة من مواطني الدولة المقتدرين الذي ” تحت أغلب الظروف، تبدو تفضيلات الغالبية العظمى من الأمريكيين لا تحظى بوقع أساسا على أي من السياسات التي ستقوم الحكومة أو لا تقوم بتبنيها.”

لأن الميزات تبدو تراكمية، لهؤلاء الذين ولدوا في عوائل أكثر ترفا، ممنوحين تغذية ورعاية صحية أفضل، تحفيزا فكريا أكثر وتعليما أفضل، ورأس مال اجتماعي للاستخدام في الحياة القادمة، هناك ميل طويل الأناة للغني أن يغتني أكثر والفقير كي يُترك. يعتمد المدى الذي يسود فيه هذا الميل، مع هذا، على قادة الدولة السياسيين والمؤسسات السياسية، والذي في المقابل يعكس الضغوط السياسية المنبثقة من القوى الحركية الشعبية في النظام السياسي بالمجمل. المدى الذي به يتصاعد أو يتناقص التفاوت الاقتصادي، بمعنى آخر، هو سؤال سياسي جوهريا.

لم يعد الصراع اليوم بين الطبقة العاملة والمتوسطة؛ إنه بين نخبة ضئيلة والغالبية العظمى من المواطنين. ذلك يعني أن الأسئلة الحاسمة لسياسة المستقبل في العالم المتقدم ستكون كيف ومتى سينمو حس من المصلحة العامة لدى الغالبية. كلما زاد استمرار الميول الحالية، كلما زاد تصاعد الضغط لمعالجة التفاوت مرة أخرى. علامات حراك كهذا ظاهرة بالفعل، مع الوقت، العواقب العملية ستكون كذلك ظاهرة.

لا علاقة للمال بالأمر:

في أول ثلثي القرن العشرين، نزع ناخبو الطبقة العاملة في الدول المتقدمة إلى دعم أحزاب اليسار، ونزع ناخبو الطبقة الوسطى والعليا لدعم أحزاب اليمين. مع تلازم الانتساب الموالي بالطبقة الاجتماعية، وجد الدارسون بشكل غير مفاجئ، أن الحكومات تنزع إلى ملاحقة السياسات التي تعكس المصالح الاقتصادية لدوائرهم الاجتماعية السياسية الانتخابية.

خلال مضي القرن، تغيرت كلا من طبيعة الاقتصاد وسلوكيات وتصرفات العامة. أفسح مجتمع صناعي المجال لما بعد الصناعي، وعرضت الأجيال التي نشأت في مستويات عالية من الأمان الاقتصادي والجسدي خلال سنواتهم التشكيلية طريقة تفكير “ما بعد المادي”، واضعين تأكيدا أكثر على الاستقلالية والتعبير عن الذات. بينما أصبح ما بعد الماديين عديدين في الجمهور، فإنهم أتوا بقضايا جديدة إلى السياسة، مؤدين إلى انخفاض في الصراع الطبقي وصعودا في الاستقطاب السياسي المعتمد على قضايا غير اقتصادية (كالبيئة، المساواة الجندرية، الإجهاض، والهجرة).

حفز هذا على ردة فعل بحيث انتقلت قطاعات من الطبقة العاملة إلى اليمين، معيدة ترسيخ قيم تقليدية بدت أنها معرضة للهجوم. زيادة عليه، غيّر تدفق الهجرة، خاصة من دول ذات دخل منخفض بلغات، ثقافات، وديانات مختلفة، التكوين الإثني للمجتمعات المتقدمة صناعيا. يمثل صعود الأصولية الدينية في الولايات المتحدة وحركات راهبو الأجنبي الشعبية في دول أوربا الغربية ردة فعل ضد التغيرات الثقافية السريعة التي يبدو أنها تنخر قيم وأعراف اجتماعية أساسية- شيء منذر على الخصوص للجماعات المتزعزعة في تلك الدول.

كل هذا قد وتر بشدة نظم الأحزاب القائمة، الذين أُسسوا في عصر حين كانت القضايا الاقتصادية مهيمنة وكانت الطبقة العاملة القاعدة لدعم التغيير الاجتماعي السياسي. اليوم، معظم القضايا الحامية تنزع لأن تكون غير اقتصادية، ويأتي الدعم للتغيير من قبل ما بعد الماديين، أكثرهم من الطبقة المتوسطة في الأصل. الاستقطاب السياسي التقليدي تمركز على اختلاف وجهات النظر بخصوص إعادة التوزيع الاقتصادي، مع الأحزاب العمالية في اليسار والأحزاب المحافظة في اليمين. منح انبثاق قيم متغيرة وقضايا جديدة بعدا ثانيا للاستقطاب الموالي، مع ما بعد الماديين في قطب وأحزاب المتسلطة وراهبو الأجنبي في القطب المقابل.

لم تختفي القضايا الكلاسيكية الاقتصادية. لكن انحدر بروزها النسبي للمدى الذي في نهاية الثمانينيات أصبحت فيه القضايا الغير اقتصادية أكثر بروزا من القضايا الاقتصادية في حملات الأحزاب السياسية الغربية. بديهية طويلة الأمد في علم الاجتماع السياسي هي أنه ينزع ناخبو الطبقة العاملة لدعم أحزاب اليسار وينزع ناخبو الطبقة المتوسطة لدعم أحزاب اليمين. كانت هذه وصفا دقيقا للواقع حول 1950، لكن الميل قد نما أضعف بتروٍ.  ينزع صعود قضايا ما بعد المادية إلى تحييد الاستقطاب السياسي المعتمد على الطبقة. القاعدة الاجتماعية لدعم اليسار قد أتى من الطبقة المتوسطة بشكل تصاعدي، حتى أن حصة جوهرية من الطبقة العاملة قد تحول دعمها إلى اليمين.

في الواقع بحلول التسعينيات، كان انتخاب الطبقة الاجتماعية في أغلب الديموقراطيات أقل من نصف القوة عن الذي كان في الأجيال السابقة. في الولايات المتحدة، انخفض جدا بحيث لا لم يكن هناك مجال لانحدار أكثر واقعيا. أصبح الدخل والتعليم مؤشرات أكثر ضعفا لتفضيلات الشعب الأمريكي السياسية مقارنة بالتقى أو موقف الشخص من الإجهاض أو الزواج المثلي: بهوامش عريضة، هؤلاء الذين عارضوا الإجهاض وزواج المثليين دعموا مرشح الرئاسة الجمهوري على المرشح الديموقراطي. تحول الناخبون من استقطاب طبقي القاعدة إلى استقطاب قيمي القاعدة.

عهد الآلة

في عام 1860، تم توظيف غالبية القوة العاملة الأمريكية في الزراعة. في حلول 2014، أقل من إثنين في المائة تم توظيفها هناك، بالتقنية الحديثة للزراعة الممكنة لحصة ضئيلة من الجمهور لإنتاج طعام حتى أكثر من ذي قبل. مع الانتقال لمجتمع صناعي، اختفت واقعيا الوظائف في القطاع الزراعي، لكن لم يؤدي هذا إلى بطالة أو فقر واسع النطاق، لأنه كان هناك صعودا ضخما في التوظيف الصناعي. بحلول القرن الواحد والعشرين، خفضت الأوتوماتيكية والتوريد الخارجي رتب العمال الصناعيين إلى 15 في المائة من القوة العاملة- لكن هذا أيضا لم يؤدي إلى بطالة وفقر واسع النطاق، لأنه تم الاستعاضة عن خسارة الوظائف الصناعية بصعود دراماتيكي في وظائف قطاع الخدمات، والذي يشكل الآن ثمانين في المائة من القوة العاملة الأمريكية.

في داخل قطاع الخدمات، هناك بعض الوظائف المرتبطة بتكامل مع ما سُمي ” اقتصاد المعرفة”- المُعرّف من قبل الدارسين والتر بويل وكايسا سنيلمان ك ” انتاج وخدمات معتمدة على نشاطات معرفية مركزة التي تساهم في الخطى المتسارعة للتقنية والتقدم العلمي.” بسبب أهميتها الاقتصادية، المعرفة الاقتصادية جديرة بأن تنفصل كفئة مستقلة عن باقي قطاع الخدمات، إنها تتمثل بما يمكن أن يُعرَّف ” قطاع التقنية الحديثة”، والذي يشمل كل من يعمل في المعلومات، المالية، التأمين، الخدمات المهنية، العلمية، والتقنية من فئات الاقتصاد.

يظن البعض أن قطاع التقنية الحديثة سينتج عددا كبيرا من الوظائف المرتفعة الدخل في المستقبل. لكن لا يبدو أن التوظيف في هذا المجال يتزايد؛ قد كانت حصة القطاع من مجموع التوظيف ثابتة أساسا منذ حوالي ثلاثة عقود ماضية. على العكس من التحول من مجتمع زراعي إلى صناعي، بمعنى آخر، صعود مجتمع المعرفة لا يولد العديد من الوظائف الجديدة الجيدة.

بداية، فقد فقط العاملين الغير ماهرين وظائفهم للأتوماتيكية. اليوم، حتى مهن المهارة العالية يتم الاستلاء عليها عن طريق الحواسيب. تستبدل برامج الحاسوب المحامين الذين اعتادوا أن يعملوا الأبحاث القانونية. يتم تنمية نظم محترفة يمكنها أن تصنع تشخيصات أفضل وأسرع من الأطباء. مجالات 2التعليم والصحافة في طريقها لأن تصبح أتوماتيكية. وبتزايد يمكن أن تُكتب برامج الحاسوب نفسها عن طريق الحواسيب.

كنتيجة لهذه التطورات، حتى الوظائف العالية التأهيل يتم تسليعها، حتى العديد من العاملين أصحاب الشهادات العالية في قمة مدى توزيع الدخل لا يتقدمون مضيا، مع منافع من زيادة إجمالي الإنتاج المحلي محصورة لأولئك في الشعبة الرفيعة من خبراء المال، المتعهدين، والمدراء في أعلى القمة. خلال ما النظم المحترفة الأشخاص، يمكن لقوى السوق وحدها بشكل معقول أن تُنتج وضعا بحيث أقلية ضئيلة لكن سخية الدخل بشدة تُوجه الاقتصاد. بينما يملك الغالبية وظائف متقلقلة، خادمين الأقلية كبستانيين، نادلين، مربيات، ومصففي شعر- مستقبل تُنبئ به عن طريق الهيكلة الاجتماعية لسيليكون فالي اليوم.

ضيق صعود الاقتصاد الما بعد صناعي احتمالات المعيشة لمعظم العاملين الغير ماهرين، لكن حتى قريبا، بدا أن صعود مجتمع المعرفة سُيبقي الباب مفتوحا لهؤلاء ذوي المهارات المتطورة والتعليم الجيد. مع هذا، تقترح الشواهد الحديثة بأن هذا لم يعد صحيحا. بين 1991 و2003، المدخولات الحقيقية للولايات المتحدة ركدت عبر نطاق التعليم. لازال الأعلى تعليما يحصلون على مرتبات أكبر فعليا من الأقل تعليما، لكنه لم يعد مجرد العاملين الغير ماهرين متروكين.

المعضلة ليست مجموع النمو في الاقتصاد. خلال تلك السنوات، تصاعد إجمالي الإنتاج المحلي بشكل ملحوظ. إذن أين ذهب المال؟ لنخبة النخب، كرؤساء مجلس إدارة أكبر 350 شركة في الولايات المتحدة.

خلال حقبة كانت المدخولات الحقيقية حتى لمهنيين عالي التعليم، كالأطباء، المحامين، أساتذة، مهندسين، وعلماء مسطحة بشكل جوهري، تضاعف الدخل الحقيقي لرؤساء مجلس الإدارات أكثر من ثلاث مرات. النمط حتى أكثر قسوة خلال إطار زمني أطول. في 1965، كان مرتب رئيس مجلس إدارة في أكبر 350 شركة في الولايات المتحدة أكثر بعشرين مرة من مرتب العامل المتوسط؛ في 1989، كان أكثر ب 58 مرة؛ وفي 2012، كان أكثر ب 273 مرة.

 

 

يا عمال العالم، اتحدوا؟

تمكن العولمة نصف سكان العالم الهرب من مستوى معيشة ضنكة لكن مضعفة موقف التفاوض للعمال في الدول المتقدمة. بينما يساعد مجتمع المعرفة تقسيم الاقتصاد إلى بركة صغيرة من النخب الفائزين وأعدادا شاسعة من العمال الموظفين المتقلقلين. لا تظهر قوى السوق علامات لقلب تلك الميول بمفردها. لكن يمكن للسياسة أن تفعل، حيث عدم الأمان النامي والإملاق النسبي يعيد تشكيل سلوكيات المواطنين تدريجيا، خالقين دعما أكبر لسياسيات الحكومة المُصمَمة لتغيير الصورة.

هناك دلائل على أن مواطني دول عديدة أصبحوا متحسسين لهذه المعضلة. تصاعد القلق بخصوص تفاوت الدخل دراماتيكيا خلال الثلاث عقود الماضية، في استبيانات جرت من 1989 إلى 2014، سئل المستجوبون حول العالم عما إذا كانت رؤيتهم أقرب إلى الصيغة ” على المدخولات أن تكون أكثر تساويا” أو ” على فروقات الدخل أن تكون أكبر لتؤمن محفزات لجهد الفرد.” في الاستطلاعات الماضية، اعتقد المعظم في أربع أخماس ستة وخمسين دولة استطلعت بأنه احتيج إلى محفزات أكبر لجهود الفرد. في الاستبيانات الأكثر حداثة مع هذا، هبط الرقم إلى النصف، مع المعظم في فقط خمسي الدول مفضلة ذلك. خلال حقبة الخمس وعشرين سنة التي تصاعد بها تفاوت الدخل دراماتيكيا، ثمانين في المائة من العامة في الدول المُستطلَعة، بما فيها الولايات المتحدة، أصبحوا أكثر دعما لأعمال تقلل التفاوت، ومن المرجح لتلك الاعتقادات أن تحتد عبر الوقت.

يمكن لتحالفات سياسية جديدة مرة أخرى، بالمختصر، أن تعيد ضبط الموازنة القوة بين النخب والجموع 3في العالم المتقدم، كون الكفاح المنبثق بين جماعة ضئيلة في القمة وغالبية متغايرة في الأسفل. لكي يصبح ائتلاف الطبقة العاملة للمجتمع الصناعي فعالا، على عمليات مطولة من الحراك المجتمعي والفكري أن تكتمل. في مجتمع اليوم الما بعد صناعي، حصة كبيرة من الجمهور ذو تعليم عالٍ مسبقا، مطلع جيد، وفي حوزته مهارات سياسية؛ كل ما تحتاجه لتكون فعالة سياسيا هو تنمية وعي بالمصلحة العامة.

هل المسلوب اليوم كافٍ لأن ينمي ما أسماه ماركس “الوعي الطبقي” ليصبح قوة سياسية حاسمة؟ من المرجح لا على المدى القصير، بسبب وجود العديد من النقاط الساخنة القاطعة للحدود الاقتصادية. مع هذا، على المدى الطول، من المرجح أن يفعل، حيث على الغالب سيستمر التفاوت الاقتصادي والامتعاض منه بأن يحتد.

لقد ساعد صعود القيم الما بعد مادية، مع الثورة ضد التغيرات التي تقدمها الما بعد ماديين كرأس حربة في إسقاط القضايا الاقتصادية من دورهم المركزي في الحراك السياسي الحزبي وتبوء القضايا الثقافية مكانها. لكن الانتشار المستمر للقيم الما بعد مادية استنزف الكثير من شغف الصراع الثقافي، حتى حين كان يضغط صعود التفاوت لعودة القضايا الاقتصادية على قمة قائمة جدول الأعمال السياسية.

خلال انتخابات 2014 الرئاسية، على سبيل المثال، كان الزواج المثلي غير مرغوب بشدة في بعض الأوساط بحيث وضع الجمهوريون الاستراتيجيون عن عمد مذكرات حظر له في تصويت الولايات الحاسمة ذات الكفة المتساوية في ولاءات الحزبين على أمل تزايد معدل المشاركة ضمن المحافظين الاجتماعيين في المستويات السفلى والوسطى من توزيع الدخل.

وكانوا أذكياء بفعل هذا، لأن الإجراءات عدت في كل حالة- كما تم في كل الأخريات مثلهم الاتي تم تقديمهن من 1998 إلى 2008. إلا أن في 2012، كان هناك خمس مذكرات جديدة في عموم الولاية على الموضوع، وعلى أربعة منهم، صوت العامة لصالح التشريع.  لازالت الانقسامات الثقافية القاطعة قائمة ولا زال يمكنها أن تحيد الانتباه عن المصالح الاقتصادية المشتركة، لكن لم يعد السابق يفوق اللاحق بشكل واثق كما اعتاد من قبل. والحقيقة بأن ليس فقط الديموقراطيين بل بضع من مرشحي الرئاسة الجمهوريين ل 2016 قد تعهدوا بإلغاء التخفيضات الضريبية على “حوافز الأداء” التي ينتفع بها المتعهدون النخبة والتي يمكن أن تكون بشيرة لأمور قادمة مستقبلا.

إن كنه العصرنة هو في الروابط ما بين الميول الاقتصادية، اجتماعية، الفكرية، والسياسية. أثناء ما تموج التغيرات في النظام، يمكن أن تقود التنمويات في محيط تنمويات في محيطات أخرى. لكن العملية لا تجري في اتجاه واحد فقط، عن طريق أن الميول الاقتصادية تحرك كل شيء آخر على سبيل المثال. يمكن أن تقود القوى الاجتماعية والأفكار الأفعال السياسية التي تعيد تشكيل المنظر الاقتصادي. هل سيحصل ذلك مرة أخرى، حيث يتحرك الغالبية الشعبية لعكس الميل تجاه التفاوت الاقتصادي؟ على المدى طويل، ممكن: يفضل العامة حول العالم بتزايد تقليص التفاوت، والمجتمعات التي تنجو هي تلك التي تتأقلم بنجاح مع الظروف المتغيرة والضغوط. بالرغم من العلامات الحالية للشلل، لازالت تملك الديموقراطيات الحيوية لتفعل ذلك.