مجلة حكمة
القيصر الجديد: صعود وحكم فلاديمير بوتين - ستيفن لي مايرز / ترجمة: بندر الحربي

القيصر الجديد: صعود وحكم فلاديمير بوتين – ستيفن لي مايرز / ترجمة: بندر الحربي

the new tsar القيصر الجديد: صعود وحكم فلاديمير بوتين - ستيفن لي مايرز / ترجمة: بندر الحربي
غلاف كتاب (القيصر الجديد: صعود وحكم فلاديمير بوتين)

قدَّم ستيفن لي مايرز، مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز السابق في موسكو، والمتخصص في الشؤون الدولية في هذا الكتاب الصادر مؤخرًا (سبتمبر 2015) حكايةَ صعود الرئيس الروسيِّ فلاديمير بوتين لسُدَّة الحكم. وتعتبر هذه السيرة هي الوحيدة الكاملة باللغة الإنجليزية، والتي يكتنفها أحداثها السرية والغموض لأكثر القادة أهمية في التاريخ الحديث. تروي عن طفولته، ورحلته من الفقر المدقع في لينينغراد، إلى صعود نجمه في جهاز المخابرات السوفيتي، والأحداث العالمية ذات الصلة؛ مثل أحداث 11 سبتمبر، والحرب في جورجيا في عام 2008، وكذلك ضم شبه جزيرة القرم 2014، والصراع الدائر في كلٍّ من أوكرانيا وسوريا.

قام بوتين بالعديد من الإصلاحات للروس مثل: التخفيضات الضريبية، وتوسيع الملكية التي أعادت تشكيل إمكانات الملايين من الروس الذين عانوا طويلًا من تجربة الديمقراطية التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي ورافقتها الجريمة والفقر وعدم الاستقرار. ولكن من ناحية أخرى، بشَّر باستبداد جديد، وقسوة في قمع الثورات وسحْق المعارضة، ورغم ذلك لا يزال يتمتع بدعم واسع النطاق من الشعب الروسيِّ.

منذ وقت طويل، وفي بداية صعوده للسلطة، روى فلاديمير بوتين ذكرى نشأته أواخر الخمسينيات في الشقق المشتركة السوفياتية في لينينغراد، والتي عُرِفت فيما بعد باسم سان بطرسبرج، حيث كان هو ورفاقه الصغار يلعبون بمطاردة الفئران في ممراتِ المبنى الموحِشة، إلى أنْ حدث ذات مرة أنْ قفزَ فأرٌ محاصَر فجأة في وجهه؛ فأرعب فلاديمير الصغير، الذي ولَّى هاربًا.

تنبض هذه الحكاية بالحياة وكأنها كابوس، كانت من المفترض أنْ تسلط الضوء على النشأة القاسية لرئيس روسيا في المستقبل، ولكن في السنوات التي تلت، اختفت هذه الذكريات المخجلة من السيرة الذاتية الرسمية لبوتين.

بدلًا من ذلك، تناول الروس جرعات حِميَة منتظمة من برامج التلفزيون حول القيادة والرجولة، من غطرسة البيروقراطيين وأعضاء حكومة الأقلّيّة إلى التفوق في الرياضة، بما في ذلك آخر ألعابه الرياضية، هوكي الجليد، التي لعبها بعزيمة رائعة وهو قد بلغ الستين من عمره؛ وجعلت منه نموذجًا لرجل الأفعال، الوطني القوي الذي جلبته العناية الإلهية لتستعيد روسيا قدرَها الطبيعي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

بعد اختفاء قصة الفأر، تردَّد صدى موضوع متكرر في أحْداث مرحلة طفولة السيد بوتين وسنواته التكوينية كضابط صغير في جهاز المخابرات السوفيتي، أثناء صعوده غير المتوقع للرئاسة في التسعينيات، واستتباب الأمر له في السلطة منذ عام 2000، وهو: عدم الشعور بالأمن، والخوف من الظهور بمظهر الضعيف.

وعلى الرغم من أنه يحب أنْ يصور نفسه بأنه شابٌّ صعب المراس نشأ في لينينغراد، إلا أنه وبجهده الذاتي تعلَّم فنون الدفاع عن النفس وهو صبيٌّ صغير، لحماية نفسه من بلطجية الحيّ.

جاءت خبرته الأكثر إثارة في جهاز المخابرات السوفيتي في ألمانيا الشرقية في عام 1989 عندما تبين أنَّ الدولة السوفيتية المتصلبة، في رأيه على الأقل، أظهرت تردُّدًا في مواجهة الاحتجاجات التي أسقطت جدار برلين وفي نهاية المطاف الستار الحديدي. وعندما وصل حشد من المتظاهرين الفيلا التي كانت مقرًّا لجهاز المخابرات السوفيتي في دريسدن، واجههم وحده وبدون سلاح، وبدون أيِّ أوامر من موسكو، محذِّرًا من أنَّ مَن سيدخل ستُفتَح عليه النار؛ فقد كانت ذكرياته عن “الغوغاء” مرعبة، على الرغم من أنهم كانوا بضع عشراتٍ فقط.

في عقد التسعينيات العاصف، وعندما رافق ظهورَ الرأسمالية اضطراباتُ العنف والجريمة في سان بطرسبرج المسماة حديثًا، أرسل في إحدى المرات بناته خارج البلاد حفاظًا على سلامتهنَّ، وخلال حملة إعادة انتخاب رئيسه في سان بطرسبرج، أناتولي سوبتشاك حمل مسدسَ الهواء هو يقول لأصدقائه: “أنا أعلم أنه لن ينقذني، ولكنه على الأقل يجعلني أكثر هدوءًا.”

قال بوتين في سياق آخر: “لقد أثبتنا ضعفًا، والضعفاء يتعرضون للضرب”، كان ذلك في عام 2004، في أعقاب الحصار الإرهابي على مدرسة في مدينة بيسلان الروسية الجنوبية، التي انتهت بعد يومين ونصف، ونتج عن العملية مقتل 334 رهينة، 186 منهم من أطفال المدرسة. بالنسبة له، الهجوم – الذي وصفه بأنه مدسوس، دون دليل، دُبِّر من قبل أعداء روسيا في الخارج، وليس للإرهابيين الشيشان يدٌ فيه – وتداعياته لم تدل على مرونة أو عزيمة، بل على ضعف مطلق، فاستغل الرعبَ الذي سيطر على الشعب من جرَّاء الهجوم؛ لإحكام سيطرته على النظام السياسي.

لقد أصبح الخوفُ من الظهور بمظهر الضعف سمةً ذكيةً لسياسة السيد بوتين . والتخويف من الديمقراطيين في البلاد وزعماء العالم الذين يتعامل معهم، جعلت له شعبية واسعة وسلطة مُطلَقة، حتى في لحظات المصارحة، والتي تتم بطبيعة الحال، في سرية، يعترف المسؤولون في روسيا بالمشكلات الهائلة التي يواجهها البلد.

أشار أندريه كوليسنيكوف من مركز كارنيجي في موسكو مؤخرًا إلى أنَّ “رفْع إحدى الركبتين، هي استعارة روسية متميزة” تدل على استعادة الكرامة والعزة الوطنية؛ حيث يعتقد كثير من الروس أنهم أمضوا سنواتٍ أعقبَت انهيار الاتحاد السوفياتي جاثمين على رُكَبِهم، حتى أعادهم السيد بوتين بمفرده ليقفوا على أقدامهم مرة أخرى.

ما نجح بوتين في القيام به هو إقناعُ الروس بأنَّ الصعوباتِ التي يواجهونها الآن – وكثير منها جاءت نتيجةً لسياساته – هي دليلٌ على الجهود التي يبذلها أعداء روسيا لتصبح أمة ضعيفة.

كتب السيد كوليسنيكوف في مقال نُشر على موقع المركز: “في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، شعر الكثير من المواطنين بالإهانة من الهزيمة في الحرب الباردة”. فكان ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والتحدي المعلن للعقوبات الغربية، وتدخُّل القوة العسكرية الروسية في سوريا الآن، بمثابة ترياق لعِلل البلاد.

وخلص، إلى أنَّ أسلوب بوتين كان قويًا – في كثير من الأحيان مقارنة مع تدريباته في الجودو – لكنه يفتقر إلى الإستراتيجية؛ والدليل على ذلك أنه بعد عام ونصف من احتلال وضمِّ شبه جزيرة القرم، يعاني السيد بوتين عزلة سياسية ودبلوماسية، مع عدد قليل من الحلفاء، ويواجه اقتصادًا يذوي، متضررًا من جراء انخفاض أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية المفروضة؛ انتقامًا من مشاركة الكرملين في حرب شرق أوكرانيا.

التدخل الأخير في سوريا، بعد أكثر من أربع سنوات من بدء الحرب، يشير إلى اليأس المتزايد بشأن مصير حكومة بشار الأسد – ومخاوف الكرملين حول ما قد يعني سقوطه، وقد تكون خطوةً لصرْف الانتباه عن التدخل الروسي الكارثيِّ في شرق أوكرانيا، والتساؤلات التي تلوح في الأفق حول دورها في إسقاط الطائرة الماليزية في يوليو 2014، والتي خلَّفَت 298 قتيلًا.

وحتى الآن، وكما هو دأبُه، لايزال يتعامل مع الضعف بتجاهل، بل بتحدٍّ. وقد أفلحت هذه الطريقة، طوال سنوات حياته في مركز السياسة الروسية، والتي امتدت على مدار 15 عاما، في تحقيق أهدافه.