مجلة حكمة

الفن والاكتئاب – سارة كوفمان

download-1
سارة كوفمان

مجلة الجابري – العدد الثالث / ترجمة: عبدالسلام الطويل


 أليست الكتابة عن الفن مهمة مستحيلة ؟ ما الفن على العموم ؟ هل يمكن أن نحمل نفس الخطاب حول الفن “التمثيلي”، وحول الفن “الحديث” ؟ وهل كل مجال من هذين المجالين هو بالفعل كل متجانس ؟ هل يمكن أن نتحدث ـ فضلا عن ذلك ـ عن الموسيقى، وعن الهندسة المعمارية، وعن النحث، وعن الصباغة، وعن الشعر، وعن السينما، وعن التصـوير الفوتوغرافي، إلخ. بنفس الطريقة ؟ هل هناك نمط من الفن يمكن أن ننظر إليه بعين الامتياز ويمكن أن يعمل كنموذج، كمثال ؟

كل هذه الأسئلة تستند على قناعة أولية مفادها أن هناك أعمالا فنية، وتصنيفا تراتبيا للفنون، الأمر الذي يفترض أن السؤال الأولي : ما الفن؟ سؤال محلول وهو سؤال مفحم، هو الآخر، بالافتراضات الميتافيزيقية.

أريد فقط أن أبيّن هنا على كون أن “سؤال الفن” هو ما يجبر، ربما، على تحريك هذا النوع من علامات الاستفهام، وعلى فك مفاهيم النموذج والمثال، وأنه سؤال يلزم التوسل ـ على نحو عام جدا ـ بكل نسق التعارضات الميتافيزيقية التي يستند عليهـا الخطاب الفلسفي الكلاسيكي حول الفن، وذلك التعارض بين الفن والطبيعة، بين المحسوس والمعقول، بين الشكل والمضمون بين السطح والعمق، بين الظاهر والواقع، بين الدال والمدلول، إلخ.

جعلُ الفن سؤالا فلسفيا، جعلُ خطاب حول الفن يخضع لهذا النسق من التعارضات، أليس [معنى] هذا هو استعادة سيطرة الفلسفة التي كانت تريد دائما أن تخضع الفن للوغوس وللحقيقة ؟ والتي كانت تضع دائما، وعلى نحو كاشف، فنون اللغة والشعر في قمة المراتب ؟

1 ـ بديل الفن
يجعل هيجل، مثلا (إذا كان الأمر يجدر هنا بمجرد مثال) من الفن لحظة لنمو العقل تجد اكتمالها وبديلها[1] في الدين.

يتم تعريف الفن كتعبير حسي عن العقل. ومعيار التعبيرية (الذي يكون ـ من حيث شرط إمكانيته ـ هو التعارض بين الشكل ـ المادة المحسوسة ـ والمضمون ـ المعنى الفكرة ـ العقل) هـو الذي يُسَوّغ تصنيفا تراتبيا للفنون التي تذهب من الأقل روحية إلى الأكثر روحية : في الرتبة الدنيا يوجد الفن المعماري الذي هو من حيث الشكل، مادة البناء، الكتلة الآلية الثقيلة، ليس له مع مضمونه، العقل، الله ـ إلا علاقة خارجية خالصة، فهو إذن غير جدير بإظهاره وتجسيده، والإبانة عنه. الفن المعمـاري هو فن رمزي يكتفي بتلميح بسيط إلى العقل، مع تـهييئه للطريق نحو تعبير مطابق بإعداده لمواد البناء الخارجية. في قمة هذه التراتبية يوجد الشعر، الفن الأكثر روحية : المادة المحسوسة، الصوت المتمفصل، لا يشكل فيه رمزا، لقد صار مجرد علامة على المضمون، على التمثل، على الجوانبة الروحية. إنه محروم بذاته من كل قيمة جوهرية : ولكن الشعر أيضا، الذي هو المثل الأعلى للفن، اكتماله، هو ختامه في نفس الوقت، حينما يمحي الشكل كليا، كمادة، لحساب قيمته التعبيرية الروحية، حينئذ فإن الفن الذي يكون عليه أن يمثل المضمون الموضوعي في شكل محسوس، يختفي باعتباره كذلك ليجد الشعر اكتماله وبديله في النثر.

لذلك فإن الفنون الوسيطة، النحث، الصباغة، الموسيقى التي يبقى الشكل فيها محسوسا، هي التي، وإن كانت أقل رتبة من الشعر، فهي تتوافق أفضل مع متطلبات “اللحظة” المخصوصة للفن في أن تكون هذا الوسيط الذي يمكن من الكشف عن الروحية في حضن الطبيعة ذاتـها.

“على المحسوس أن يكون حاضرا في العمل الفني، ولكن مع هذا التقييد المتمثل في أن الأمر يتعلق فقط بالمظهر السطحي، بالظاهر المحسوس […] ما يريده العقل هو الحضور المحسوس الذي يتعين عليه أن يبقى محسوسا، ولكن عليه أيضا أن يتخلص من ثقل المادية. لذلك يرتقي المحسوس في الفن إلى حالة الظاهر الخالص بالتعارض مع الواقع المباشر للأشياء الطبيعية. إنه ليس بعد فكرا خالصا، ولكن، بالرغم من طبيعته المحسوسة، فإنه لم يعد واقعا ماديا خالصا”.[2]

يكون الشكل والمضمون في النحث متطابقين تماما : لا يعبر الشكل المادي في حد ذاته عن أي شيء، إنه يعكس فقط عمقا حميما مثلمـا أن النحث لا يمكن من تمثيل مضمون روحي دون أن يعطيه شكـلا محسوسـا سهل المنال على الحدس ؟ في الصباغة يكون الفن متحررا من العنصر المادي ويلحق المضمون تخصيصٌ أقصى : مجاله هو حيـاة الروح، كل ما يهزها، كل ما يسعى لأن يتجسد في الفعل. أما الموسيقى فتعـبّر عن الياطنية التجريدية والروحية للإحساس، ومادتـها تكون أقل “مادية” من الصباغة : الصوت الذي يطرب الإحساس هو عنصـر شبه روحي إنه مثالية المادي نفسـه الذي يجد اكتماله في “الصـوت المتمفصل”، مادة بناء الشعر.

كل فن، كيفما كان مستواه التراتبي، يعبر إذن عن العقل على نحو أقل أو أكثر تطابقا، أقل أو أكثر روحية. إنه دائما لغة تتحدث إلى العقل مهما كانت صامتةِ، غايته، وهي مصدر كل رفعته ونبله، تتمثل في كونه يتوجه إلى العقول، يتحدث إليها [غايته]، وهي مرآة العقل، مضاعفه أو شبهه، تتمثل في أن يوقظ فينا، صدى للعقل، “إن المحسوس المجسد ـ الـذي يعبر فيه مضمون ذو جوهر روحي عن نفسه ـ يتحدث إلى الـروح أيضا، والشكل الخارجي ـ الذي يصير من خلاله سهلَ المنال بالنسبة لحدسنا وتمثلنا ـ ليس له من هدف إلا إيقاظ صدى في روحنا وعقلنا”.

من خلال منظور كهذا، فإن مجد الفن يتمثل في أن يختفي كفن للإبانة عن العقل المستلب في الطبيعة، وأن يجعلنا، نتذكر أنفسنا كعقول فيما وراء استلابنا في مباشرية الرغبة.

2 ـ تاريخ الأشباح والجثت
يبدو جيدا أن للخطاب الفلسفي حول الفن، هو أيضا، كغاية أن يجعلنا ننساه، أن يحجبه، أن يضمن البديل المسيطر لحساب العقل والحقيقـة. لماذا إذن هذه الإرادة في الحجب إذا لم يكن الفن يقلق “العقل” بغرابة، يزعجه كشبح، كطيف Unheimlich[3] يتمرد على الاعتقال في المسكن العائلي (Heimlich) العائلي جدا، للعقل ؟ لم ذلك إن لم يكن العقل مع الفن أمام “فُضْلة” لا يمكن رفعها ؟

جثت، أشباح، أطياف هائمة في المابين، ليست بالحية ولا بالميتة، ليست بالمحسوسة ولا بالمعقولة، ليست بالحاضرة ولا بالغائبة، ولكنها حاضرة بالأحرى حضورا يعطي الانطباع الضال بغياب، غائبة بغياب يصدر عنه احتشاد باهـظ يشغل بكامله النظـر الذي يستحسنه. لا يتعلق الأمـر مع الفن بإبطال مجرد للواقع (الأمر الذي سيكون قابلا أيضا للسيطرة عليه) ولكن بإلغاء لأضحيته، بالمعنى الذي يقول فيه باطاي بأن الأضحية تقتل الضحية، تقتلها ولكنها لا تـهملها [4] يتعلق الأمر بانزلاق للواقع، بالعمـل على تعليقه حيث تضيع كل مباشرته : إنه هنا دون أن يكون هنا، بلا واقعية لا مكترث، خال من المعنى. لذلك فإن الفن يلغي لدى المشاهد كل إحساس مقرر أو متوقع. فمشهد الموت مثلا، مقدما في مضاعفه، أي مرسوما، يصير قابلا للاحتمال أو غير مثير. مع غياب معنى الشيء المرسـوم وصمته يتماثل فتور للشعور (Une a – pathie) لدى المشاهد أو على الأقل تحويلا لمؤثراته ذات القيمة التطهيرية : يحس بالمتعة فيما يثير الفزع أو الرعب في الحياة العادية، يحتمل ما لا يحتمل ؟ أو إنه يبقى لا مكترثا بما يمكن أن يثير البهجة ؟ إنه لا يهتم بوجود الشيء المرسوم الذي، وقد انفصل في انعزال مشرق، يصير متغيرا بسحر الفن إلى طبيعة صامتة، كيفما كان الموضوع : ذلك ما يلمح له كانط بطريقته حين يؤكد أن الجميل هو مصدر متعة “منـزهة عن الغرض” (desinteressé)، أو أيضا، إنه غائية “بدون غاية” إن التهيج (La pathos) اللامعقول الذي يثيره الفن هو عكس جوهره المفارق، للمضاعف نفسه ، لهذا الجبار (Colossos)[5] القائم مقام الجثة الغائبة، “حضور غريب وغامض هو علامة على غياب أيضا”، لاعبا على واجهتين في نفس الوقت، وهو، في اللحظة التي يظهر فيها بأنه حاضر ينكشف كما لو أنه ليس من هنا، كما لو أنه ينتمي إلى مكان آخر يتعذر بلوغه… غير قابل للإدراك لهذا السبب ذاته، ومخادع للغاية. ككل مضاعف : “في مضاعف المرأة المحبوبة تحت القناع المضلل لافروديت، فإن بيرسيفون الغير القابلة للإدراك هي التي تظهر”. في رواية هوفمان رجل الرمل، يكتشف الطالب فاتا نبيل وراء كمال خطيبته أولامبيا مجرد إنسان آلي بعينين ثابتثين ميتتين، لم تكن لـها من حياة أخرى إلا تلك التي أرادت أن تقدمها له[6]، والتي، ككل مضاعف، كانت قد افترست حياة “نموذجها”، كانت قد امتصت آخر قطرة من دمائه.

في القط مور (Le chat Murr) لهوفمان، يقارن الرسام إتلينجر (Etlinger) نفسه بنسر : “أنا النسر الأحمر وأرسم حينما أتناول وجبة من الأشعة الحمراء. أتمكن من الرسم حينما أحصل على صباغة من دم ساخن”.[7]

ليس ثمة من مضاعف دون افتراس، دون قطع لما يمكن أن يعرف، بدونه، كحضور ممتلئ مكتف بذاته : المضاعف يرجئ الأصلي من ذاته، يحرقه، يغري ويقلق ما يمكن أن يتطابق ـ من غيره ـ مع نفسه على نحو بسيط، ويسمي، ويصنف تحت هذه المقولة المعينة أو تلك.

مع الفن لا يكون لنا شأن مع “مملكة الموتى” التي تتعارض على نحو بسيط مع العالم الواقعي للإحياء. الفن يقلب التعارض بين هذين العالمين، يجعلهما ينـزلقان الواحد في الآخر. حينئذ يجتاح الظل الشكل الحي “نفسه” (إذا ما كان بإمكان هذا أن يبقى قابلا للتعرف عليه بما هو كذلك). هذا الانـهيار المجمد لكل المقولات المتعارضة ولكل معنى ثابت هو الذي يفتن ويفزع : مثل رأس الجورغون. يذكر فيرنان أن بيرسيفون كانت ترسلـه إلى لقاء أولئك الذين كانوا يدعون الدخول أحياء إلى مملكة الموتى.
مع الفن تقوم الفتنة : “يمكننا القول عن كل من هو مفتون بأنه لا يرى أي شيء واقعي، أي شكل حقيقي ، ذلك أن ما يراه لا ينتمي إلى عالم الواقع، ولكن إلى المجال المبهم للفتنة”.[8]

هذه الفتنة بالغرابة المقلقة للفن هي نفسها تلك الفتنة التي تثيرها الجثة، هذا المضاعف للكائن الحي الذي يشبه تماما إلى الحد الذي يختلط معـه دون أن يكون هو مع ذلك، أشد منه مهابة، أكثر تجبرا، هـو الـذي في هذه المعركة مع أخيه قد حاز النصر، تبوأ مكان من افترسـه فصار بذلك كأنه ممجد.

لنقرأ نص بلا نشو هذا، الفاتن هو الآخر : “لا تشبه الصورة الجثة لأول وهلة، غير أنه يمكن للغرابة الجثتية أن تنتمي أيضا للصورة. إ ن ما نسميه جثة ميت ينفلت من المقولات العامة : شيء ما هنا أمامنا، والذي ليس هو الكائن الحي شخصيا، ولا هو بحقيقة ما، ولا هـو نفس ذلك الذي على قيد الحياة، ولا هو أحد آخر، ولا شيء آخر… حدث مدهـش […]، في هذه اللحظة التي يكون فيها حضور الجثة أمامنا للمجهول هي نفس اللحظة أيـضا التي يبدأ فيها المتوفى المأسوف عليه يشبه نفسه […] نعم، هو نفسه، الكائن الحي العزيز، ولكنه مع ذلك ـ [شئ أكثر من ذلك]، إنه أوسم، وأكثر مهابة، تذكاري سلفا وهو نفسه على نحو مطلق للحد [الذي يبدو فيه] مضاعفا من ذاته، متحدا بالأبـهة اللاشخصية لذاته بالتشابه وبالصورة […] الجثة والانعكاس يسيطران على الحياة المنعكسة يبتلعانـها، يتطابقان معها جوهريا مع تحويلها من قيمتها الاستعمالية والحقيقة إلى شئ يتعذر تصديقه ـ شئ غير قابـل للاستعمـال [غير اعتيادي inusuel] ومحايد. وإن كانت الجثـة شبيهة جدا، فذلك لأنـها تكون في لحظة معينة هي الشبه بامتياز، شبه بالكامـل، وليس شيئا آخر أكثر من ذلك. إنـها الشبيهة لدرجة مطلقـة، مثيرة ومدهشة. ولكن هي تشبه من ؟ إنـها لا تشبه شيئا”[9].

من أجل الانفلات من هذه الفتنة المرعبة التي يثيرها انزلاق الواقع وانزلاق كل المقولات التي تصير، من حيث تماثلها، محرفـة (يوضح أفلاطون في السفسطائي كيف أن جنس الآخر يأتي لإفساد الهوية الذاتية للفكرة انطلاقا، وليس هذا صدفة، من سؤال السيمولاكو، الشبه، هذا الجنس الناقل على نحو خاص)، من أجل الانفلات من هذا الـهلع المتمثل في وجود تأمل فلسفي، وتمرئي (une spécularisation) لا نـهائي، فـي غايات للسيطرة[10] : لم تتمكن مينيوفا (Perçée) من الانتصار على المدوسة (Méduse) إلا حينما جعلتها تتأمل صورتـها في المرآة. التأمل الفلسفي شبيـه بالمرآة المغروية للصور الأشد إثارة، والأكثر لا إطاقة. من دون هذا التأمل تتعرض الفلسفة للموت والفيلسوف للجنون.

3 ـ المرآة المنكسرة
لذلك فإن الجمال لا يخلو أبدا من الكآبة : يبدو كما لو أنه في حداد على الفلسفة. لا يتعلق الأمر في الفن بمجرد عمل للسلب، ولكن بعمل للحداد لا يمكن رفعه بأي جدل حاذق.

أن يتم على نحو رمزي وضع لوحة مامنا لكروز (Greuse) تمثل بكاءة معنونة بالمرآة المنكسرة.[11] يقرب ديدرو [هذه اللوحة]، في صالوناته، من لوحة أخرى لكروز [هي] الطائر الميت[12]، حتى تتعـارض مع قراءة ساذجة مؤسسة على البداهة المباشرة : فتاة تبكي من فقدان طائرها الميت يكتب ديدرو :

“لقد سبق لكروز أن رسم نفس الموضوع : وضع فتاة كبيرة بالساتان الأبيض أمام مرآة مشروخة، الفتاة تعتريها كآبة عميقة. ألا تعتقدون أنه من البلاهة الكبرى أن يتم عزو بكاء فتاة هذا الصالون، الصغيرة، لفقدان طائر إلى كآبة الفتاة الصغيرة للصالون السابق لمرآتـها المنكسرة ؟ أقول لكم بأن هذه الفتاة تبكي شيئا آخر”.

إذا ما سألتم عن هذا “الشيء الآخر” فسوف تكونون أكثر سذاجة من ذلك الذي يستند على الطائر أو على المرآة المنكسرة إلى ما يظهر “في الحقيقة” مستعادا ومسترجعا في التصوير. أما بالنسبة لديدرو فلن يجيبكم وسوف ينقض بسخرية قراءتكم “الإسقاطية” : إنـها تبكي فقدان طائرهـا “أو فقدان كل ما شئتم”. إنه يلمح على نحو أكثر عمقا، بتقريبه للوحتين، أن الأمر لا يتعلق بإجابة، بإنتاج خطاب، إن اللوحة ليست مرآة تعكس دلالة مباشرة مختفية، العقل أو الطبيعة، موضوعا ثقافيا أو طبيعيا، طائرا أو مرآة : لقد طار الطائر، والمرآة منكسرة، مشروخة، انكسار المعنى هذا هو الذي تبكيه الفتاة، الفقدان، مع المرآة والطائر، لكل إحالة، وإذن لكل خطاب، إنـها تبكي “أضحية” الذات وفقدان الموضوع الأمر الذي يثير الكآبة حسب فرويد حتى يكتمل عمل الحداد.[13]

ولكن أليس هذا معنى تعطيه للوحة ؟ سوف تكون المرآة المنكسرة استعارة على الرسم. إذن خطاب حتى وإن كان يُدين كل خطاب.

4 ـ النظام الخطابي والنظام التصويري
أليست أيضا اللوحة هي التي “تخاطب”. لا تريد اللوحة أن تقول شيئا. إذا ما كان هذا هو مشروعها، فسوف تكون في الواقع في رتبة أدنى من الكلام. وستكون في حاجة إلى أن “تتقوم” باللغة لكي يتم حصول دلالة، دلالة قابلة للتواصل بوضوح. بين النظام التصويري والنظام الخطابي فجوة لا يمكن رأبـها. هذه الاستحالة البنيوية في التعبير عن معنى ميزها الرسامون القدامى، في اللوحة، بجعل شخوصهم يحملون عصيبات ذات أطراف مجدولـة حاملة لأساطير : إنـها ما نسميه اليوم أحجبة. لكي يشرح فرويد أن الحلم هو كتابة تصويرية لها قوانينها وسننها الخاص الغير قابل للترجمة إلى أي سنن آخر، تأخذ تحديدا، وهذا ليس مصادفة، الرسم بمثابة نظم :

“ليس للحلم أي وسيلة لتمثيل العلائق المنطقية بين الأفكار التي يتكون منها […] ، هذا العيب في التعبير مرتبط بطبيعة المادة البنائية النفسية التي يمتلكها الحلم. الفنون التشكيلية، تصويرا ونحتا، مقارنة بالشعر الذي يمكنه أن يستخدم الكلام، تجد نفسها في وضع مماثل : هنا أيضا يعود أساس الاستحالة إلى طبيعة المادة المستخدمة من طرف الفنين في مجهودهما للتعبير عن شيء ما. قديما حينما لم يكن الرسم يجد قوانين تعبيره الخاصة، كان يسعى جاهدا إلى معالجة هذا العائق : كان الرسام يضع أمام فم الأفـراد الذين يصورهم شرائط يكتب عليها الأقوال التي يكابد من أجل إفهامها”[14] (الأمر الذي لم يمنع فرويد مع ذلك من تكرار المبادرة المعيدة تكييف الفلسفة باللجوء إلى تأويل يقلب الكتابة التصويرية للحلم إلى خطاب، لأنه يعرف على أية حال أن الفجوة بين التصويري والخطابي هي فجوة لن تربأ ، فهـو بتحليل “لا متناه” يعبر عن نفسه كبناء خيالي أو افتراضي، لا بل كرواية تحليلية وهو اللفظ المستعمل بالنسبة لليوناردو دي فينشي. ما يتعلمه فرويـد على أية حال هو أنه إذا ما كان ثمة خطاب حول الحلم أو حول الفن فلن يكون خطابا حاسما أو وحيد الدلالة (Univoque)، إذا ما أردت أن تحكي أحلامك وأن تؤولها، إذا ما أردت أن تجعل لوحة أو تمثالا يتكلم لكي تستخرج سرهما المستتر، يتعين عليك أن تقبل بتموج معين يجعل لغتك تنـزلق من معنى لآخر في حركة إنابة لا محدودة : المقاومة التي يعمل بـها النظام التصويري ضد الكلام ترغمك، على الأقل، على اللجوء إلى لغة متعـددة الدلالة ولا متناهية تقدم مصاهرة زائدة مع الشعر ومع الرواية وليس مع لغـة العلم الواحدية الدلالة ، أو مع لغة الفلسفة. الانزياح القائم بين التصويري والخطابي يمنع من التوقف عند هذا المعنى المحدد أو ذاك كما لو كان الكلمة الأخيرة للغز.

إلحاق عنوان بخارج اللوحة على الإطار عموما هو بمثابة “أسطورة” إضافية مرصودة لدفع اللوحة ـ التي لا تتمكن مـن الكلام مـن تلقاء نفسها، لأسباب بنيوية، ولا تتمكن من أن تكون مفصحـة، ولا أن تخرج عن صمتها إلى الكلام.

هذا الانزياح بين النظام التصويري والنظام الخطابي يتيح إمكانية مضاعفة للقراءة : القراءة الأكثر شيوعا، والتي هي أيضا الأكثر “فلسفية” والأكثر انتسابا للتحليل النفسي، تقوم على محاولة ردم هـذا الانزياح بخطاب توالدي يطرح اللوحة “للمساءلة” كما لو أنه [يريد] أن يغتصب منها سرا بالعنف، سرا تحتفظ به، مدخرا بصمت واحتشام. إنه خطاب مهذار يحجب اللوحة أكثر مما يكشف عن الكلمة الأخيرة للغز، خطاب منقاد بالقلق الذي تثيره الغرابة المقلقة لـ “أصوات الصمت” هـذه (تـماما كصمت المحلل النفسي الذي يرغم “المريض” على الكلام).

إنه خطاب صاخب يغطي بضجيجه على صمت العمل الفني أغلب أدلاء المتاحف يضايقون الزوار الذين يكتفون إذا ما تمكنوا ، من إلقـاء نظرة غامضة على العنوان وعلى اللوحة قبل أن يمروا للوّحة التالية. نفس عملية التغطية تقوم بها الكاتالوغات (les catalogues) التي يلجأ إليها متفرج ما لكي يقرأ فيها وصفا موضوعيا في الظاهر، ولكنه مختلط مـع ذلك بأحكام القيمة وبالتأويلات الاسقاطية التي تخدش الصفاء المزعوم لهذا الوصف. المصادرة الضمنية لهذه المواصفات تتمثل في القول بتجانس تام بـين النظـام التصويري والنظام الخطابي الذي يمكن من الانتقال من الواحد إلى الآخر كما يتم المرور من نظام العلاقات إلى نظام آخر للعلاقات، مع الاحتفاظ بمضمون مطابق، بدون بقية. ضمن [هذا] النطاق، يمكن، بالانطلاق من هذه الخطابات، إعادة بناء، بل توليد اللوحة.

هذا النمط الأول من القراءة المهذارة يتبين أن الصباغة نفسها [=الرسم] هي التي تستدعيها حينما ” تمثل “، حينما تعمل على الإحالة على نموذج خارجي “تحاكيه”، حينما تكون الصباغة محاكاتيـة (mimetique) تكون مفصحة وتعمل على استدعاء الفصاحة. يستثير التشابه حكم مطابقـة ونسبة يقوم على مجرد بداهـة : هذا وذاك، إنه طائر إنـها فتـاة صغيرة، الخ…، تأكيد يواصل نفسه بتوصيف بياني مفترض انه يستنفذ “مضمون” اللوحة، الطيور التي تأتي لنقر العنب المرسوم من طرف (Zeuxis)، قرد (Buttner) الذي افترس مجموعة ثمينة من التاريخ الطبيعي حيث تظهر جعلان (أمثلة مذكورة من طرف هيجل حين ينتقد التصور الذي يجعل من الفن محاكاة للطبيعة)، تقوم بدورها بـهذه المطابقة مبرهنة على “سمو استنساخ” أكثر حقيقية من الطبيعة. حينما يتأمل الإنسان عملا فنيا فإنه يترك الموضوع ـ حسب هيجل ـ مستقلا، ويقف على مسافة محترمة ، أن لا يلتهمه : الشيء الجميل ليس موضوعا مرغوبا معروضا لاستهلاك شره. إن التعبير في الواقع عن خطاب حول اللوحة، معناه على نحو آخر، افتراس [ها] أيضا محاولة استهلاكها وإتلافها دون الإبقاء على بقية منها : ولكن هذا لا يقوله هيجل، يكتفي ـ ككل تقليد فلسفي ـ بنقد محاكاة الطبيعـة، هذه المهمة التافهة والمصطنعة باطلة، لائقة بدابة وليس بعقل. وهي قضية براعة أكثر مما هي مسألة خلق، إنـها تـهمل المضمون الحقيقي للفن، الجميل الموضوعي، لحساب ابتذال ذات بسيكولوجية ونرجسيتها، إنها لعبة مزهوة بنفسها وجهنمية، معرضة بالضرورة للفشل ذلك لأنـها محصورة في طرائق تعبيرها، فإنـها تنتـج أوهاما جزئيـة فقط لا تخدع إلا معنى واحدا، مكان الكائن والواقع تعطي، فقط، كاريكاتورا للحياة :

“نعرف أن الأتراك، ككل أتباع النبيّ محمد، لا يتسامحون في رسم أو إعادة نسخ إنسان أو أي كائن حي. خلال رحلة (J. Bruce) إلى الحبشـة، وقد أظهر لتركي سمكة مرسومة فدفع به ذلك أولا إلى الدهشـة، ولكن لحظة بعد ذلك حصل منه على الجواب التالي : “إذا ما وقفت هذه السمكة ضدك يوم القيامة قائلة : لقـد جعلت لي جسدا، ولكن لم تـهبني روحا حية، فكيف ترد على هذه التهمة؟”.

لقد سبق لأفلاطون أن اتهم في جمهورية الفن كسيمولاكر، هذا الخطر الأقصى، هذا السم الذي، بخلطه لكل الأجناس يجعل الفيلسوف بمثابة سفسطائي، والوهم بمثابة حقيقة بالنسبة على الأقل، لأولئك الذين لا يمتلكون ترياق العقل والمعرفة : الحيوانات والأطفال والجهلة، كل أولئك الذين ينظرون “من بعيد” لقد أدانت الفلسفة دائما، وبلا جدوى، الإنتاج الشيطاني للسيمولاكر الذي يستثير l’apâté والخدعة، حكم المطابقة الوهـمية الذي يجازف برؤية انـهيار كل هوية : خطر الجنون نفسه.

يحتمي أفلاطون من هذا الخطر بتمييزه، داخل الجنس المربك الذي هو المحاكاة، بين محاكاة سيئة تنشرح بالوهم بما هو كذلك، ومحاكاة جيدة تخضع الوهم للحقيقة وللوغوس.

هذه الإدانة الفلسفية للسيمولاكر، تجد نفسها مسحوبة، في حدود معينة، من طرف ديدرو الذي يهنئ الساحر شاردات على استرداده للحقيقة، على نحو معبر جدا، في رسمه. للحد الذي لا يخدع به الحيوانات والأطفال فقط، ولكن الفيلسوف نفسه : “توجد في الصالون عدة لوحـات صغيرة لشاردان، تمثل كلها تقريبا فاكهة مع لوازم وجبة. إنـها الطبيعة نفسها، الأشياء خارج اللوحـة، وهي تنطوي حقيقة تخـدع العيـن […] يا شاردان : ليس الأبيض، والأحمر، والأسود الذي تخلطه في ملونتك: إنـها ماهية الأشياء نفسها، إنه الضوء والهواء الذي تأخذه بطرف فرشاتك وتلصقه على قماش اللوحة […] آه يا صاحبي ! إبصق على ستـار Apelle وعلى عنب Zeuxis تتم بسهولة خديعة فنان نافد الصبر، والحيوانات قضاة سيئون في الرسم. ألم نر الطيور تشج رؤوسها بمنظـورات سيئة في حديقة الملك ؟ ولكن أنتم وأنا الذين يخدعنا شاردان حينما يريد” . (“1763 Salon de”).

يتبين أن ديدرو قد استسلم للانخداع بسحر فن Greuse في الطائر الميت، لوحة ظهرت له أكثر حقيقة للحد الذي أحس فيه بحاجة لأن يقترب من يد الفتاة لكي يقبلها، وإذا ما استنكف عن ذلك، فليس لأن فعله سوف يكون عبثيا، ولكن لأنه “يحترم هذه الطفلة ويقدر ألمها” يبقى إذن على مسافة، لا يلتهمها بقبلاته، ولكنه يجري معها حوارا حقيقيا، يسألها عن معنى دموعها، يستعرض سلسلة من الافتراضـات التي يستبعدها بالتتالي لأن الفتاة تبدو في كل مرة كما لو أنها تمتنع عن الكلام، كأنـها تطعن في الإجابات. يبدو أن ديدرو ينسى أكثر فأكثـر أنه أمام فتاة مرسومة. إنه يستبدل، كالمهووس، السكينوغرافيا بسيناريو حقيقي، بدراما بورجوازية، عائلية حيث يتم بالتناوب استدعاء الخطيب والأب والأم، وكما في كل دراما بورجوازية، يتم الإعلان عن درس أخلاقي، لقد تم نسيان الطائر فمات لأن الفتاة نسيت نفسها. يستدرج الاقتصاد التصويري للوحة خطـابا هذيانيا لا يتوقف عن التوالد : تصير اللوحة ذريعة للكلام، فاتحة لقصيدة لمرثاة أو لمسرحية، مخططا لنص آخر. كأن الفتاة محاصرة بالأسئلة فهي لا يمكن لها إلا أن تصمت، لا يمكن لخطاب الفيلسوف إلا أن يكون لا متناهيا في الرسم، هذا إذا لم يرغمه على الإجابة بالتخيل في النهاية : “تكلمي، لن أتمكن من التنبؤ بك”.

ديدرو ليس مغفلا حقا، تنفجر هنا ضحكة ربما هي للخادمة التراسية[15] تذكر الفيلسوف، هذا الأحمق [وتدفعه للعودة] من السماء إلى الأرض وتجعل حدا لـهذره ولضلالاته : ضحك أمام وقار الفيلسوف الذي لا يخشى من أن يتسلى بمواساة طفلة مرسومة عن فقدان طائر مرسوم. هـذا الضحك ينسف القراءة كلها، يجعل كل الفرضيات التأويلية تافهة، يفتح على فضاء للالتباس واللعب لا يحل فقط محل قراءة ساذجة، قراءة تأويليـة، متعددة الدلالة كما يفعل فرويد، الأمر الذي ينهض أيضا على نفس منطق العلامة والـ mimesis، إنه يقطع مع كل فصاحة، إنه “يلوي عنقها”.

5 ـ الفصاحة المختنقة
هذا الفضاء هو الفضاء نفسه الذي أراد الفن الحديث أن يدخله من خلال إرادته في أن لا “يعبر” عن أي شيء، وأن لا “يمثل” أو “يحاكي” شيئا يمكن أن يكون موضوعا لتطابق مباشر وإلى معادل خطابي مزعوم، لا شيء يمكن أن يجعل اللوحة أو حتى أن يتركها تتكلم.

مجموعة كلها من العمليات القربانية، مميزات أسلوب كل “فنان”، تجهد نفسها هنا لاختزال العمل الفني إلى لعبة شكلية محضة، إلى سلسلـة من الآثار التفاضلية و التعديلات العرضية (Symptomatiques) للعناوين التي لا تشير إلى هذا الموضوع أو ذاك، ولكنها عبارة عن موسيقى خالصة، مجرد ألعاب إيقاعية للقوى، III, II, I Composition لكاند ينسكي مثلا، أو أيضا انتقال العنوان الذي [ينكتب] في اللوحة، يفقد وضعـه العنيف والإحالى لكي يصير عنصرا تصويريا كأي عنصر آخر : تماما كالأحلام حيث الكـلام ليس عنصرا ذا امتياز ويعمل بقيمته التصويرية أكثر مما يعمـل بقيمته الدلالية أو تسجيل عنوان ينكر التطابق الغير الملتبس، ظاهريا للصورة: كـ “حذاء” لماغريت الذي يوقع في الغرابة، يصـير غير قابل للحصر بتسجيل كلمة “Lune” [قمر] التي تمنع أي قدم من ارتدائه [الحذاء] إلا إذا كانت موجودة في القمر… أو أيضا “غليونا” معينا لماغريت الذي لن يكون في الحقيقة أبدا غليونا حقيقيا. “هذا ليس غليونا” تفسير مسجل في اللوحة تحت “غليون” مصور على قماش لوحة موضوعة على حامل، لوحة في اللوحة يوجد فوقها “غليون” آخر مُناظر، ولكنه أكثر ضخامة، إنه “نموذج”، وهو بإعادة إدراجه في اللوحة يفقد وظيفته النظمية والإحالية. إن تسجيل غليونين في لوحة واحدة يستبدل بتشابه النسخة مع النموذج علاقة تماثل، علاقة ليس من دال إلى مدلول ولكن من دال إلى دال، علاقة تفتح سلسلة استبدالية لا نـهائية ، بدون مدلول أصلي، في حركة إرجاع من الواحد إلى الآخر غير محدودة.

يكفي أن تكون، في نفس اللوحة ، صورتان مرتبطتان جانبيا بعلاقة تماثل حتى تصير الإحالة الخارجيـة إلى نموذج ـ عن طريق التشابـه ـ إحالة قلقة على الفور مترددة وعائمة. ماذا “يمثل” ماذا ؟ فيمـا تعمل دقة الصورة كمؤشر على نموذج، على “شفيع” أعظم، وحيد وخارجي فإن سلسلة التماثلات (يكفي أن يكون ثمة تماثلان حتى تكون هناك سلسلة) تبطل هذه المونارشية المثالية والواقعية في نفس الوقت. يجري السيمولاكر من الآن فوق السطح، في اتجاه قابل للارتداد على الدوام”.[16]

تعمل السلاسل، على نحو عام، على موت [المستوى] النظمي الذي يجد نفسه مسجلا في رابطة (une chaîne) متسلسلة حيث كل شيء من أشياء السلسلة يكفي نفسه بنفسه ويجد نفسه مع الأشياء الأخرى في علاقـة تكميلية، متبادلة وغير محدودة : ليس ثمة من باعث يدعو لإيقاف السلسلة[17] وإذا لم تكن أي لوحة من السلسلة إعادة إنتاج لنموذج فلن تكون “انعكاسا” لذات الفنان، لن يتم النظر لـهذا أبدا ك “أب” لنتاجه، كمنافس بطولي لله أو للأب تبعا لتصور لاهوتي أو نرجسي للفن. يعرض فرويد في الطوطم والطابو كيف أن الفضاء التقليدي للفن يحل محل الدين ويكرر الحفل الطوطمي على نحو تبايني، أي إعادة قتل الأب سوف يكون أول شاعر ملحمي رجلا قد انفصل عن الجمهور لكي يأخذ على عاتقه القتل الجماعي للأب، إنه أول بطل عامل من عوامل المتعة الجمالية يوجد فـي تماهي المتفرج مع هذا البطل ذلك لأننا قد نفذنا كلنا هـذا القتل، على نحو لا شعوري، في أحلامنا. ليست المتعة ممكنة إلا لحصول التعرف والإنكار في نفس الوقت وذلك بفضل سحر الفن، وتحمل الفنـان الواحـد للذنب الجماعي. العمل الفني من خلال هذا المنظور هو بمثابة هـدية للأم المتواطئـة دائما بحبها لقتل الأب : هذه الهدية، هي [بمثابة] “الطفل” الـذي يقدمه الابن لأمه.[18]

يضع الرسم المتسلسل حدا لهذا السيناريو الأوديي : ذلك لأن كل شيء من أشياء السلسلة تجد نفسها منـزوعة القداسة، لم تعد سوى لعبة مجرد، المتناظر ليس مع خلق إلهي، ولكن مع واحدة من “محاولات” الطبيعـة، اللاحصر لـها، والتي لا ترضخ لأي قصد ولكن للمصادفة وحدها وللضرورة. إذا ما كان ثمة طفل فهو مجهض سلفا، وفاسد : انظر، على سبيل المثال هذه البورتريهات المتسلسلة لبيكن (Bacon) حيث يبدو الوجه منهزما وشائها بطبقة عدوانية من الصباغة.

تمكن هذه العمليات التي يقوم بـها الفن الحديث من “قراءة” مخالفة للفن المدعو ب” تمثيلي” يدخل الفن الحديث التصوير الماضي نفسه، “بعد فوات الأوان”، إلى صمت نـهائي ويترك الـمكان فقط إلى لعب واسع للأشكال الممكنة. لا يمكن للفن المدعوّ ب “تمثيلي” أن يتم التفكير فيـه كمجرد تكرار لنموذج سابق الوجود، ولكن فقط كمضاعف أصلـي ينسف كـل ضمانة، سواء أكانت ضمانة مطابقـة الـ “موضوع” أو مطابقة الـ “ذات”، بمضاعفته كل “واقع” ب “حضوره” الغريب والفتّان.

 

 

 

 

 


بيبليوغرافيا
BATAILLE, George : Manet, Skira
BLAýNCHOT, Maurice : l’espace Litteraire, N. R. BONNE, Jean-Claude : Le d’un fantasme, Critique, 315-316,”Histoire Théorie de l’art”.
DERRIDA, Jacques : la Verité en peinture, Coll. Champs, Flammarion.
DIDEROT : Oeuvres esthétiques, Carnier.
FREUD : L’interprétation des rêves, P. U. F.; “Deuil et mélancolie” in Métapsychologie. N. R. F.
من أجل بيبليوغرافية كما ملة عن فرويد والفن، أنظر بيبليوغرافية س. كوفمان في كتابـها : “l’enfance de l’art”، أنظر أيضا :
BELLEMIN-NOEL, Jean : Psychanalyse et littérature, P. U. F., Coll. “Que sais-je?”.
FOUCAULT, Michel : Ceci n’est pas une pipe, Fata morgana.
HESEL : l’Esthétique, Aubier.
HOFMAN, Sarah : l’enfance de l’art, Payot : Quatres Romans
Analytiques, Galilée.
HOFFMANN: l’Homme au Sable, Aubier ; le Chat Murr, N. R. F.
KANT : La Critique du Jugement, Vrin.
LACOUE-LABARTHE, Philippe : Portait de l’artiste, en
génèral, ch. Bourgois ; et “la Sceine et primitive”, “l’echo du sujet”, in le sujet de la philosophie, Flammarion.
Mimésis des artientations, Collectif, Flammarion (AGACINSKI,
DERRIDA, KOFMAN, LACOUE-LHBAR, NANCY, PAUTRAT).

* ـ هذا النص مأخوذ من كتاب Philosopher, les interrogations contemporaires
Sous la direction de C. Delacampagne et R. Maggiori Fayard 1980. pp. 415-428
.
1) إنـها الترجمة المعروفة جدا، التي يعطيها جاك دريدا كلمة Aufhebung الـهيجيلية.
2) مقدمة لعلم الجمال Introduction à l’esthétique (Aubier) كل الاستشهادات بـهيجل تحيل على هذا النص

3 ) هذه اللفظة مستعارة من فرويد. وهي، عموما، مترجمة بـ “الغرابة المقلقة”.
Cf. Freud “L’inquetante étrangeté, in Essais de pychanalyse appliquée,
N. R. F.
4 ) نحيل من أجل ذلك إلى نص باطاي الجميل جدا حول الرسام مانيه Skira.
5 ) cf,. Jean-Pièrre Vernant : “Figuration de l’invisible et catégorie psychologique du double : le colossos”, in Mythe et pensée chez les Grecs, Maspero.
6 ) cf. “L’homme au sable”, de Hoffmann, et S. Kofman : “Le double e (s)t le diable”, in Quatre Romans analytiques, Galilée.
7) cf. S. Kofman : “Vautour rouge”, in Mimèsis des articulations, Flammarion, coll. “la philosophie en effet”.
8) Maurice. Blanchot, l’espace littéraire. N. R. F.
9) (Cité par Ph. Lacoue-Labarthe in Portrait de l’artiste en géral, Coll..
Première livraison, ch. Bourgeois.
10) cf. Lacoue-Labarthe. op. Cit.
وأيضا “Typographie” in Mimésis
11) Exposé au Salon de 1763 ينتمي الآن لمجموعة Villace في لندن.
12) Oeuvre esthetipes, Carnier, p. 535.
= نحن ندين إلى جان جاك روزا وجاك دريدا بقراءة هذا النص الذي عرض له في حلقة دراسية حول الفن في الـ E. N. S. بالنسبة لعمل الحداد في الفن. نحيل أيضا على La verité en peinture وهو نص لديريدا نحيل عليه هنا باستمرار.
13 ) cf Freud : Deuil et mélancolie in Métapsychologie N. R. F.
(14 L’interpretation des rêves, P. V. F, p 261 et sq.
15) انظر كتاب أفلاطون Le théètête حيث تضحك خادمة تراسية من رؤيتها لطاليس وهو يقع في بئر بينما كان يتأمل في النجوم.
16( Michel Foucault : ceci n’est pas une pipe Fata morg.
17 ( cf. Cartouche, la lecture que mène Derrida de la serie des cercueils de carmel. In la verité en peinture.
18 ) cf. S. Kofman : L’enfance de l’art. Payot. 1970.