مجلة حكمة
قيمة الفلسفة العربية وعلومها

قيمة الفلسفة العربية وعلومها: حوار مع داغ نيكولاس هيسه – حاوره: محمد الرشودي

محمد الرشودي
حاوره: محمد الرشودي الفلسفة العربية

English Version – نسخة PDF

مقدمة

ضيفنا هو الفيولوجي والفيلسوف د. داغ نيكولاس هيسه، محاضر ألماني في الفلسفة العربية والإسلامية وتاريخها في جامعة فورتسبورغ، وحائز على جائزة ليبنز (Leibniz Priz) لعام 2016 من مؤسسة البحث الألمانية، وهي جائزة تُمنح للعمل الاستثنائي، وتبلغ قيمتها 2.5 مليون باوند. اعتبرت اللجنة -وقبلها العديد من المراكز العلمية- أن د. هيسه قد وفّق إلى بداية جديدة في رؤية تاريخية بصيرة للنهضة الأوروبية. تمكن د. هيسه بطرق تحليلية طورها بنفسه من الكشف عن العلائق المتشابكة بين الغرب والشرق من القرون الوسطى إلى عصر النهضة في الفلسفة واللاهوت والعلوم التطبيقية عند المسيحيين-اللاتينيين، والعرب، واليهود، وبخاصة في مجالات الطب والفلك والرياضيات. من بين تلك الطرق برامج كمبيوترية تتعرف على تعابير لغوية غريبة، ثم تردها إلى مصدرها الأول (العربي غالبا كما في مشروعه).

         درس د. هيسه الفلسفة وتاريخها في جامعة غونتن، ودرس في قسم لغات الشرق الأوسط وحضاراته في جامعة ييل، وقدم أطروحته في الدكتوراه “مقالة ابن سينا في النفس في الغرب اللاتيني” في جامعة لندن، ثم درس فنون العصور الوسيطة وأول العصر الحديث وعلومهما في جامعة توبنغن، كما درس اللغة اللاتينية في نفس الجامعة، وهو متقن للألمانية -لغته الأم- والعربية والإنجليزية والعبرية واليونانية القديمة. هو حاليا محاضر في الفلسفة وتاريخها في جامعة فورتسبورغ، وهي أحد الجامعات الرائدة عالميًا في البحث العلمي.

         نرحب بالد. هيسه في مجلة حكمة، وسعداء بتقديم قامة مثلك إلى القارئ العربي من خلال ورقتك في موسوعة سانفورد للفلسفة حول تأثير الفلسفة العربية والإسلامية في الغرب اللاتيني، والآن من خلال هذه المقابلة الأولى لك عربيًا.

         سبق وأن اطّلعت على الحوار الذي أجريته مع ROROTOKO حول كتابك “النجاح والجحود: الفلسفة العربية وعلومها في عصر النهضة”، والتي غطت في جملتها جانب النجاح من القصة، ولهذا سيغلب في حوارنا هذا جانب الجحود منها.

سؤال: كيف أصبحت مهتما بـ الفلسفة العربية والإسلامية خاصة وأثرها على الغرب؟

عندما كنت طالبًا يافعًا في جامعة غونتن، كنت شديد الانغماس بالفيلسوفين الإغريقيين أفلاطون وأرسطو، إلا أني كنت أصاب بالإحباط من الواقع الماثل أمامي حيث أن الكثير من البحوث سبق وأُنجزت لهذين العَلَمين إلى الحد الذي جعلني أشعر بأنه لا يمكن كتابة شيء جديد حولهما. تذكرت في هذه المرحلة، ومن خلال قراءتي لكتب التاريخ، ومن خلال قراءتي لكتاب اسم الوردة لأمبرتو إيكو، أن العرب قرأوا للفلاسفة الإغريق، وأن الفلاسفة العرب بدورهم قد قُرأت أعمالهم في العالم اللاتيني خلال القرون الوسطى، وهنا رأيت الفرصة مواتية لدراسة فصل من التاريخ الفكري، والذي لم يُدرس بعد دراسة كافية، فيمكن البحث فيه والإنجاز واكتشاف الكثير.

سؤال: يقول البعض بأن الغرب كان غارقًا في بحور الجهل والظلام حتى بلغته الفلسفة العربية وعلومها وأضاءت له الطريق. بينما يرى آخرون أن “العلماء العرب” لم يكونوا إلا مجرد ناقلين لعلوم الإغريق. ما هو موقفك من هذه المسألة؟

أعجبني سؤالك هذا، اتفق معك بأن الناس تنزع إلى تشكيل رأي متطرف بدل أن تنبري للبحث التاريخي الرصين، فكلا الموقفين يمثلان تبسيطا ثبت خطأه في البحوث العلمية. أولًا، كان يوجد فلاسفة وعلماء غربيون مهمون، بل ولامعون حتى، في الغرب قبل وصول المصادر العربية، مثل بيتر أبيلارد (Peter Abelard). ثانيًا، العلماء العرب لم يكونوا مجرّد ناقلين لعلوم الإغريق، مثلما أن علماء الإغريق لم يكونوا مجرّد ناقلين لعلوم بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة في الفلك والهندسة. كل العلماء بنوا على أعمال من سبقوهم، إلا أن الفروق بينهم تكمن في الجودة والأصالة. وفي هذ الصدد، نجد الكثير من العلماء العرب الكلاسيكيين مثيرون جدًا للإعجاب في جودتهم وأصالتهم وتأثيرهم، وسنجد بالطبع علماء عربًا آخرين يعيدون ويكررون ما قاله سلفهم، وهذه ظاهرة نجدها في كل الثقافات.

سؤال: قلت في كتابك “النجاح والجحود” بأن “الثقافة العربية كانت مصدرًا ثقافيًا موازيًا للإغريقية والرومانية في المرتبة”، هل لنا بتوضيح أكثر لما قصدته هنا؟

ما قلته حول الثقافة العربية بصفتها مصدرًا ثقافيًا موازيًا للإغريقية والرومانية في المرتبة كان في معرض ثقافة الجامعة الغربية في أواخر القرون الوسطى، فمنذ القرن 13 حتى القرن 16، كان طلاب الجامعات الغربية يقرأون نصوصًا كثيرة مترجمة إلى اللاتينية كتبها كُتّاب عرب، خصوصًا في الطب والتنجيم والفلسفة. وهذا ما قصدته بقولي أن الثقافة العربية كانت مصدرًا ثقافيًا موازيًا للثقافتين الإغريقية والرومانية (الوثنية) في المرتبة. إلا أن هذا لا يصدق على مناحٍ ثقافية أخرى في العصور الوسطى كالأدب أو الأخلاقيات أو الدين، حيث كان للمصادر القديمة أهمية أكثر بكثير من المصادر العربية.

سؤال: لكنك ذكرت في معرض آخر في ذات الكتاب، “إن هذا الكتاب يحكي عن استيلاء غربي واعٍ على الفكر العربي”. فكيف، إذًا، كانت الثقافة العربية موازية للإغريقية والرومانية في المرتبة؟

كان تناول العلوم العربية في عصر النهضة استيلاءً واعيًا لأنه لم يخفى على الطلاب أنهم كانوا يقرأون نصوصًا كتبها كُتّاب بأسماء عربية اصطبغت بصبغة لاتينية مثل ابن سينا (Avicenna)، وابن رشد (Averroes)، والرازي (Rhazes)، وعلي بن رضوان (Haly Rodoan)، وغيرهم. إلا أنه كان أيضًا يوجد الكثير من التأثيرات اللاواعية في العلوم الغربية وفلسفتها. على سبيل المثال، كانت كتب الرياضيات والفلك الجامعية في عصر النهضة ترتكز بشكل كبير على المصادر العربية، إلا أن أكثر الطلبة لم يكونوا على علم بهذا.

سؤال: قلت في معرض آخر أن “عصر النهضة كان مرحلة حاسمة بدأ الغرب فيها بالانفصال عن المصادر العربية”. هل مازالت الثقافة العربية موازية لنظيريها الإغريقي والروماني اليوم؟

كان تأثير العربية في الغرب اللاتيني في قمة أوجه من القرن 13 حتى القرن 16. كان هذا وسيظل جزءً باقيًا من التاريخ الغربي حتى إن لم يُعترف به دائمًا. في الوقت الحالي، وفي عالم متصل عالميًا ببعضه البعض، في عالم نجد فيه العرب أستاذة جامعيين في نيويورك أو باريس، ونجد فيه أساتذة ألمانيين في القاهرة أو بيروت، نجد الكثير من قنوات التأثير المتبادل بحيث أصبحت عبارة مثل “مصدر ثقافي مواز في المرتبة” شبه خالية من المعنى.

سؤال: بعيدًا عن تاريخ الفلسفة، إلى أي مدى تكمن أهمية الترجمة بشكل عام للثقافة؟ وإلى أي مدى تتأثر الثقافة بعملية الترجمة من لغات أخرى؟

إن الترجمة بشكل عام عامل فائق الأهمية لتاريخ العالم، فقد غيّر بعض المترجمين -مثل جيروم، المترجم اللاتيني للإنجيل؛ أو مثل مارتين لوثر، المترجم الألماني- تاريخ أوروبا المسيحية. وبالطبع، فإن النقل الشفوي عامل مهم أيضًا. فنحن نعلم -مثلًا- أن هنالك الكثير مما يحفز انتقال السرد القصصي الشرقي شفويًا إلى الثقافات الغربية. ولكن حتى في مجال كهذا، فإن للترجمات النصّية أهمية أعظم، فنجد أنه كان لترجمة بيتروس ألفونسي النصّية اللاتينية اليتيمة للحكايات العربية والعبرية في أوائل القرن الثاني عشر تأثيرًا أكثر من سائر النقل الشفوي للحكايات الشرقية، فقد كان لها تأثير -مثلًا- في الروائي بوكاتشيو في كتابه الشهير “ديكاميرون“.

سؤال: هنالك ثلاثة نظريات عربية تُرجمت إلى اللاتينية في الغرب اللاتيني خلال العصور الوسطى (نظرية وحدة العقل لابن رشد، وتأويل ابن سينا الطبعاني للمعجزات، والتكوّن التلقائي)، إلا أنه لم يصبح لهن صدى إلا عند قرّاء عصر النهضة. لم تأخر حضور هذه النظريات حتى عصر النهضة؟ وهل هناك نظريات عربية أخرى استحقت حضورًا مشابهًا ولكن لم تواتها الفرصة؟

إن النظريات الثلاث التي ذكرت (حول العقل، والمعجزات، والتكوّن التلقائي) مجرد أمثلة ثلاث لنظريات عربية من بين نظريات عربية أخرى كثيرة جدًا كانت مؤثرة في عصر النهضة. أنا ملمّ بهذه الأمثلة الثلاث أكثر حيث ناقشتها في ورقة “الفلسفة العربية والرشدية” في عام 2007، إلا أننا مازلنا نحتاج إلى إنجاز الكثير من البحث في مجالات أخرى في فكر عصر النهضة، حيث كان التأثير العربي ظاهر جدًا في المنطق، وعلم الحيوان، الميتافيزيقا، والكيمياء، والشعوذة، وعلم الفلك.

         وبالطبع، يوجد عدد جيد من النظريات العربية التي لم تكن معلومة في الغرب اللاتيني، ومثاله منطق الموجهات العربي (مثل منطق الجُمل في الممكن والضروري)، أو لاحقًا في الرياضيات، مثل منهج عمر الخيّام لحل الأسئلة التكعيبية.

سؤال: بعد عزو اكتشاف الدورة الدموية لابن النفيس بدل ويليام هارفي، حاول بعض الباحثين العرب إثبات أن لابن الشاطر أيضًا السبق على نيكولاس كوبرنيكوس في اكتشاف حركة الأجرام السماوية. هل لديك أي تعليق على المسألة؟

 صحيح أن بعض النماذج الفلكية لمدرسة مراغة لعلم الفلك مشابهة جدًا لمناذج كوبورنيكوس، خصوصًا نموذجي ابن الشاطر والطوسي، إلا أن مسألة ما إذا كانت هذه النماذج قد طُوّرت بشكل مستقل وبمعزل عن بعضها البعض في فارس وأوروبا، أم أن كوبورنيكوس كان قد تأثر فعلا بعلماء الفلك من مراغة، غير مفصول فيها في الميدان البحثي، بل هي -في الحقيقة- مسألة كثر النزاع فيها. أعتقد -كما ذكرت آنفًا- في أن للنقل النصّي أهميته، فلم نجد حتى الآن أي وسيلة نصيّة تعرّف بواسطتها كوبورنيكوس على نظريات مدرسة مراغة. ومادام أن هذه الأدلة النصّية ليست بحوزتنا، تبقى فرضية الاكتشاف المستقل لهذه النماذج الفلكية المتماثلة راجحًا أكثر. وعلى كل حال، فإن شهرة كوبورنيكوس الحقيقية تعود إلى نظرية مركزية الشمس -والتي لم تُتكشف في مراغة- وليس إلى نماذجه الفلكية.

سؤال: يعدّ الغزالي عَلَمًا مُشكلًا في الفلسفة العربية ، فهو عالم بالكلام خاصم الفلاسفة بلا كلل أو ملل، ولكنه كان -في الوقت ذاته- فيلسوفًا. يجادل البعض بأن الغزالي حارب العلم والطرق العلمية في مؤلفاته، وقاد الأمة إلى التطرف الديني مما أدى إلى انحدار في العلوم العربية والإسلامية. ويعترض آخرون على هذا الزعم بقولهم أن الغزالي كان قد أُسيء فهمه. ما هو موقف د. هيسه في هذا النزاع؟

أنت على حق، من الصعب تصنيف الغزالي تاريخيًا، فقد كان عدوًا للفلسفة ومرّوجًا لها في الوقت ذاته، ونجد أن كلًا من أعماله الفلسفية ومناظراته المضادة للفلسفة قد صاغت مجادلات بديعة. سيكون من الخطأ تاريخيًا اعتبار الغزالي مسؤولًا عن التطرف الديني أو الانحدار المزعوم للعلم، ففي الواقع، غالبًا ما يجد متطرفو هذا العصر الغزالي مزعجًا بسبب كل تعقيداته للمذاهب الإسلامية! لا وجود لعقيدة بسيطة عند الغزالي.

         تبقى مسألة ما إذا كانت مناظرات الغزالي المضادة للفلسفة ذات تأثير تاريخي مهم أم لا مسألة غير محسومة، وتحتاج إلى مزيد من البحث. على كل حال، يبدو من الحكمة ألا نبالغ بأهمية الغزالي، فلقد كان يوجد الكثير من علماء الكلام المسلمين (وكذلك المسيحيين واليهود) في نفس الحقبة ممن أثروا الحوار الفلسفي وساهموا فيه.

سؤال: لفت انتباهي سطر في كتابك “النجاح والجحود” تقول فيه أن “أعمال ابن سينا كانت تشكل نقطة تحول رئيسية في تاريخ الفلسفة العربية”. ما السمات التي ميزت ابن سينا عن غيره وجعلت منه “نقطة تحول”؟

قبل ابن سينا، كان الناس يعتبرون الفلسفة إرثًا إغريقيًا يهمّ نخبة نحيلة فقط، وأصبحت الفلسفة تدريجيًا بعد ابن سينا بكل فروعها -كالمنطق، والفلسفة الطبيعية، والرياضيات، والميتافيزيقا- تلفت انتباه كل الطبقة المتعلمة في العالم العربي، ومن القرن 13 وما بعده، أصبحت الفلسفة تُدّرس أيضًا في المدارس. يوجد الكثير من الأسباب السيسيولوجية، والحِرفية، وغيرهما، التي جعلت دور ابن سينا استثنائيًا. دعني أذكر سببين اثنين فقط؛ أولًا، كان ابن سينا فيلسوفًا، وطبيبًا، ومضطلعًا بالشريعة الإسلامية وعلم الكلام. وبالتالي، استطاع الجمع بنجاح بين التراث الفلسفي الإغريقي والاتجاهات السائدة في الطب وعلم الكلام في وقته. ثانيًا، كان ابن سينا ببساطة ذو عقل فذّ، وأضف إليه موهبته العظيمة في التفكير المنطقي والمنهجي.

سؤال: تأخذ غالب الكتب الجامعية في الغرب، وفي غالب التخصصات، بالسردية الكلاسيكية حول تاريخ الفلسفة والعلوم، حيث يؤرخ أن الفلسفة بدأت في أثينا، ثم الامبراطورية الرومانية، ثم تبع سقوط الأخيرة قرون من الظلام، وانتهاءً بعودة الحضارة الغربية، فلا نجد لتأثير الفلسفة العربية وعلومها حضورًا. هل ترى أي تغيير قد يطرأ على هذه السردية؟ وهل تعتقد أن الوعي بالتأثير العربي على الغرب قد يخفف من حدة فوبيا الإسلام الصاعدة في الغرب اليوم؟

 بدأت الكتب الجامعية الغربية -في الواقع- تضمّن شيئًا فشيئًا فصولًا عن مساهمة العلوم العربية وفلسفتها في التاريخ الأوروبي. وفي الحقيقية، اعتقد أن جدالات فوبيا الإسلام ضد هذه الفصول متّقدة جدًا لأن هؤلاء يعلمون تمامًا أنهم اصطفّوا وحاربوا في قضية خاسرة، فمعرفة تأثير العربية يمتد شيئًا فشيئًا في أوروبا اليوم.

         إلا أنه من الأهمية بمكان -في ذات الوقت- ألا نبالغ في إنجازات العلماء العرب، وعلينا ألا ننسى أن كثيرًا منهم كانوا يهودًا أو مسيحيين، أو فرسًا أو أتراك، ولهذا نقول بأن الدراسات التاريخية والفلسفية المنضبطة مهمة جدًا للوصول إلى نظرة متّزنة عن الماضي بلا إجحاف أو مبالغة.

سؤال: قلت في لقاء سابق لك: “أدركت -كطالب للعربية- بأن أبطالي في عصر النهضة من الثقافتين الإغريقية واللاتينية كانوا -في مناسبات كثيرة- في خصام حاد مع أبطالي الجدد من علماء العربية وفلاسفتها العظام”. بأي وجه خاصم أبطالك الأولون أبطالك الجدد؟ هل لك أن تضرب لنا مثالًا على هذا؟

إن فرانشيسكو بتراركا (في القرن 14) مثال جيد على هذه المسألة، فقد كان عالمًا لاتينيًا عظيمًا في عصر النهضة، وأحد أوائل الإنسانيين، إلا أنه -مثل الكثير من الإنسانيين- هاجم الفيلسوف الأندلسي ابن رشد لأنه عدو للدين (وهو مخطئ في هذا، فابن رشد لم يكن عدوًا للدين). هاجم إنسانيون آخرون ابن رشد بسبب جهله للغة الإغريقية، ولقراءته أعمال أرسطو بالترجمة العربية فقط. ومن هنا، فقد كان أبطالي اللاتينيين القدماء مثل بتراركا، وفالا، وإراسموس في خصام مع أبطالي العربيين الجدد مثل ابن رشد أو ابن سينا. ولأني أُكنّ الإعجاب لكل هؤلاء العلماء، فقد ضايقني هذا الخصام، وحاولت في كتابي أن أسبر أغوار الدوافع وراء هذه الجدالات والفَصْل في مسوّغاتها. وكما هو الغالب في التاريخ، تُخلط الأسباب الوجيهة مع الأيدولوجيا، فقد كان الإنسانيون على حق -على سبيل المثال- في نقودهم لمحدودية ابن رشد بصفته شارحًا لأرسطو لأنه لا يجيد الإغريقية، إلا أنهم كانوا مخطئين برفضهم المتطرف لعلم العقاقير العربي، والذي ثبت بأنه لا غنى عنه في طب عصر النهضة.

سؤال: تمكنت بطرق تحليلية كمبيوترية من التعرّف على التعابير اللغوية الغريبة عند أفراد المترجمين للنصوص العربية، وتمكنت من إعادة هيكلة تأثيرهم في مدارس الترجمة الشهيرة. هل لنا بمعرفة المزيد عن المشروع وبعض النتائج التي توصلت إليها؟

كان الكثير من الترجمات من العربية إلى اللاتينية في العصور الوسطى مجهولة، ولهذا السبب حاولت -في دراسات عديدة منذ 2010- رسم العلامات الفارقة لأساليب المترجمين المعروفة أسمائهم مثل مايكل سكوت. ولهذا الغرض استخدمت كلًا من المناهج الإحصائية الفيولوجية والكمبيوترية. تقول النتائج المبدئية حتى هذه اللحظة بأن عددًا قليلًا من المترجمين كانوا وراء ترجمات أكثر بكثير مما نعلم، مثل جون الإشبيلي، ودومينيكوس غونديسالفي في إسبانيا القرن الثاني عشر (في طليطلة وغيرها)، ومايكل سكوت في صقلّية القرن الثالث عشر وجنوب إيطاليا. كان المذكورة أسمائهم أعلامًا مهمة جدًا، وأملي أن نستطيع في المستقبل حلّ غالبية الألغاز التي لم تحل بعد حول هؤلاء المترجمين، وسنتمكن -بالتالي- من تقدير ذوي التأثير الضخم في التاريخ حق قدرهم.

سؤال: كنت تعمل منذ مدة على مشروع “المعجم العربي اللاتيني“، وهو مشروع آخر مهم، أظن أنكم أتممتم من حرف A إلى حرف C فقط، متى في ظنك سيكتمل المشروع؟ وما الذي يرجوه الفريق من هكذا مشروع؟

أطلقنا مشروع “المعجم العربي اللاتيني” في عام 2009، وهو معجم يشمل تعريفا بالمصطلحات في الترجمات العربية-اللاتينية في العصور الوسطى. وصحيح أننا أتممنا من حرف A إلى حرف C فقط، وهدفنا الطَمَوح هو أن نصل إلى حرف z بسرعة في عام 2026 عندما يتوقف تمويل مشروعنا، وهو عمل مضنٍ بلا شك.

      قد يهم قرّاء حكمة معرفة أنهم يستطيعون استخدام “المعجم العربي اللاتيني” بدون أي معرفة باللغة اللاتينية، كما يمكنهم أيضًا استخدامه كمعجم عربي إنجليزي لمصطلحات العلوم العربية وفلسفتها.

سؤال: هل يوجد -في تقديرك- أي تغيّر في شعبية الفلسفة العربية في أوروبا اليوم؟

إن للفلسفة العربية شعبية أكبر بكثير في أوروبا مما كان عليه الحال قبل عشرين سنة، وهو أمر ظاهر وجلي في الكثير من الترجمات الصادرة حديثًا في مناهج الجامعات الأوروبية للفلاسفة العرب، مثل الترجمات الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، حيث نجد الفلسفة العربية تُقرأ أكثر بكثير مما كان عليه الحال من السنوات التي كنت فيها طالبًا.

سؤال: مع أن للرازي 67 نسخة لاتينية مطبوعة، ومع أنه كان شخصية مركزية في تكوين أكثر فيلسوفين تأثيرًا في الغرب، أعني ابن سينا وابن رشد، إلا أني لم أجده يحظى بكثير من الاهتمام في أعمالك. هل هو مشروع مؤجل للمستقبل؟ أم أن هنالك سببًا محددًا للتغاضي عنه؟

هذا رصد رائع جدًا، فتأثير أبو بكر بن زكريا الرازي (Rhazes) في عصر النهضة متمحور حول نص شديد الأهمية، ألا وهو الفصل التاسع من “الكتاب المنصوري في الطب” (Liber ad Almansorem)، حيث يستعرض فيه الرازي توصيفًا للأمراض من الرأس إلى أخمص القدمين، ولقد اُستخدم هذا النص في كل مكان يُدّرس فيه الطب في عصر النهضة، كما كان الرازي أيضًا ذائع الصيت كرائد للكيمياء. بيْد أني لست خبيرًا لا في نظرية الأمراض ولا في الكيمياء، ولهذا السبب لم أضمّن تأثير الرازي بالشكل الوافي في كتابي “النجاح والجحود“، ولهذا السبب أيضًا لا يوجد الكثير من البحث حول تأثيره في الغرب اللاتيني. إن أعمال الرازي مازالت مجالًا خصبًا يحتاج إلى الكثير من البحث.

سؤال: سعدت جدًا بلقائك د. هيسه، ونختم حوارنا بسؤال حول عملك القادم، عماذا سيكون؟

آمل أن يكون كتابًا عن الترجمات العربية-اللاتينية من القرن العاشر حتى القرن الرابع عشر، ولكن مازال الطريق أمامنا طويلًا.