مجلة حكمة
الفكر الديني والعاطفة العلمانية

الفكر الديني والعاطفة العلمانية: انقسام غير قابل للقياس – صبا محمود / ترجمة: إبراهيم الفريح

الفكر الديني والعاطفة العلمانية
الفصل الأول من كتاب (هل النقد علماني؟ التجديف والإساءة وحرية التعبير)

يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط


لا بد أن تتحمل أي مناقشة أكاديمية للدين في الوقت الحاضر، المهاترات الصاخبة التي أصبحت السّمة المميزة لهذا الموضوع اليوم. فقد أبرزت أحداث العقد الماضي (بما فيها أحداث 11 سبتمبر/أيلول والحرب اللاحقة على الإرهاب، وصعود السياسة الدينية عالميًا) ما كان في وقت ما انقسامًا كامنًا بين الرؤيتين الدينية والعلمانية. حيث يَفترض الكتّاب والباحثون من كلا الجانبين، في هذا الانقسام انقسامًا غير قابلٍ للقياس بين المعتقدات الدينية الراسخة والقيم العلمانية. وفي الواقع، غالبًا ما يُنظر إلى سلسلة من الأحداث الدولية، وخاصة تلك المتعلقة بالإسلام، على أنها دليل إضافي على انعدام قابلية القياس هذه.

وعلى الرغم من هذا الاستقطاب، فقد حاولتْ بعض الأصوات المتأمّلة في الجدل الحالي، إظهار كيف أنَّ الدين والعلمانية ليست جواهرَ ثابتة أو أيديولوجيات متعارضة بقدر كونها مفاهيم اكتسبت أهمية معينة مع ظهور الدولة الحديثة والسياسة المصاحبة – وهي أيضًا مفاهيم معتمِدة على بعضها البعض، ومرتبطة بالضرورة في تحوّلاتها المشتركة وظهورها التاريخي. ومن هذا المنظور، فقد أصبحتْ، باعتبارها عقلانية علمانية، تُحدّد القانون، وطريقة الحكم، وإنتاج المعرفة، والعلاقات الاقتصادية في العالم الحديث، بل وحوّلت في الوقت ذاته المفاهيم والمثل والممارسات ومؤسسات الحياة الدينية. فالعلمانية هنا تُفهم ليست بأنَّها مجرد فصل عقائدي للكنيسة عن الدولة؛ ولكن أيضًا باعتبارها إعادة صياغة للدين بطريقة تتوافق مع الأحاسيس الحديثة وأساليب الحكم. فإعادة التفكير في الدين هي أيضًا إعادة التفكير في العلمانية ومزاعم امتلاكها للحقيقة، ووعودها بالمنافع الداخلية والخارجية.

وفي حين أنَّ هذه التأملات التحليلية عقّدت حالة النقاش الأكاديمي حول الدين والعلمانية، فقد طَعن فيها أولئك الباحثون الذين يخشون من كون نمط التفكير هذا يحوْلُ دون إجراءات فعالة ضد تهديد «التطرف الديني» الذي يلازم عالمنا اليوم. فمن خلال تأريخ حقيقة الفكر العلماني ومساءلة مزاعمه المعيارية، يُمهِّد المرء الطريق أمام التعصب الديني ليسيطر على مؤسساتنا ومجتمعنا. بحيث يجد المرء نفسه على منحدر زلق من مخاطر دائمة الحضور «للنسبية». فإطارنا الزمني للعمل يتطلب اليقين والحكم بدلًا من إعادة التفكير النقدي في مزايا العلمانية. وكان هذا واضحًا في المناقشات التي تجلَّت حول حظر النقاب في فرنسا في عام 2004، كما كان واضحًا في المبررات التي أحاطت بنشر الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية المسيئة لمحمد في عام 2005 وفي 8002  فثمة من جادل بأنَّنا إذا لم ندافع عن القيم وأساليب الحياة العلمانية، «فإنَّهم» (المتطرفون الإسلاميون في كثير من الأحيان) سيستولون على حرياتنا ومؤسساتنا الليبرالية. والاختيار واضح في هذه الصياغة: إما أن يكون المرء ضد القيم العلمانية أو معها. فالمأزق الأخلاقي – كما يؤكدون – لا يُحَلّ من خلال التأمل، بل من خلال الدفاع القوي عن القواعد والمعايير الأخلاقية التي تُعتبر ضرورية للسبل العلمانية للحياة والسلوك.

أود في هذه المقالة أن أسائل هذه الطريقة التي تُصوّر الصراع على أنَّه بين الضرورة العلمانية والتهديد الديني. وبادئ ذي بدء، يعتمد هذا التوصيف الثنائي على تعريف معين «للتطرف الديني»، تُحشد فيه أحيانًا سلسلة من الممارسات والصور التي يُقال إنها تهدد النظرة الليبرالية العلمانية: من الانتحاريين، إلى النساء المحجبات، إلى الحشود الغاضبة التي تحرق الكتب، إلى الوعّاظ الذين يضغطون لإدخال نظرية «التصميم الذكي» (intelligent design) في المدارس. وغني عن القول، أنَّ هذه المجموعة المتنوعة من الصور والممارسات لا تنبع من منطقٍ ديني واحد، ولا تنتمي اجتماعيًا إلى تشكيل سياسي مُوحَّد. والمسألة التي أود التأكيد عليها هي أنَّ هذه الأوصاف المزعومة «للتطرف الديني» تُغلّف مجموعة من الأحكام والتقييمات بحيث أنّ تقييدها بوصف معين، هو أيضًا للحفاظ على هذه الأحكام. فوصف الأحداث التي تُعتبر متطرفة أو خطرة سياسيًا، غالبًا ما يكون غير مختزلٍ في الأحداث التي ترمي إلى وصفها فقط، ولكن، الأهم من ذلك، ارتكازها أيضًا على مفاهيم معيارية للذات، والدين، واللغة، والقانون، وهي مشحونة بأكثر مما تسمح به الدعوة لعمل سياسي حاسم.

أود أن أستعرض في ما يلي، هذه القضايا من خلال عدسة الجدل حول الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية. فردّ فعل الجمهور في كلا الجانبين، المسلمين وغير المسلمين، على نشر الرسوم الدنماركية لمحمد (في البداية في عام 2005 ثم أعيد نشرها في عام 2008) هو مثالٌ على المواجهة بين الرؤيتين الدينية والعلمانية اليوم، لا سيما في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية. فبعد النشر الأول للرسوم، وفي حين كانت المجادلات الصاخبة والمحرّضة مشتركة في كلا الجانبين، فقد بدا حتى المعلّقون الأكثر هدوءًا، متفقين على أنَّ هذا طريق مسدود بين القيمة الليبرالية لحرية التعبير والتابوهات الدينية. حيث رأى البعض أنَّ استيعاب الأخيرة سيكون من خلال تقديم تنازلات في الأولى، ورأى آخرون أنَّ استيعاب الجميع ضروري للحفاظ على أوروبا متعددة الثقافات والأديان. يفترض كلا الحكمين أنَّ ما على المحك هو المأزق الأخلاقي بين ما يعتبره مجتمع الأقليات المسلمة فعلَ تجديفٍ، وما تعده الأغلبية غير المسلمة ممارسةً لحرية التعبير، وخاصة التعبير الساخر، الضروري جدًا للمجتمع الليبرالي. وهذا الإجماع بين المعسكرين المتعارضين تحديدًا، هو ما أود زعزعته في هذه المقالة، من خلال توجيه انتباهنا إلى المفاهيم المعيارية المغلّفة ضمن هذا التقييم حول ما يشكّل الدينَ والذاتية الدينية الملائمة في العالم الحديث. آمل أن أبيّن أنَّ الالتزام بتفسير الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية على أنَّها تجسيد للاشتباك بين مبادئ التجديف وحرية التعبير هو قبول بمجموعة من الأحكام المسبقة حول نوعية الضرر أو الإساءة التي تسببت بها الرسوم الكاريكاتورية، وكيف يمكن معالجة هذا الضرر في مجتمع ديمقراطي ليبرالي. كنت مضطرة إلى حدٍ ما لكتابة هذه المقالة بسبب اللجوء الفوري إلى اللغة القانونية من قبل أولئك الذين عارضوا الرسوم الكارتونية، وأولئك الذين سعوا لتبرير تلك الأعمال عبر الصحافة في أوروبا والشرق الأوسط. ويظل كلا الموقفين، على الرغم من الاختلافات الجدلية، متجذرين في سياسة الهوية (الغربية مقابل الإسلامية) التي تمنح الدولة والقانون امتيازًا بوصفهما المحكّم النهائي للاختلافات الدينية. أودّ في الصفحات التالية أن أسائل هذا التقييمَ لنجبر أنفسنا على التفكير الناقد حول المسائل الأخلاقية والسياسية التي يُغفل عنها، عند اللجوء المباشر للقانون لتسوية هذه المنازعات. وسوف أربط حجتي في الخاتمة بمناقشة أوسعَ لكيف يمكننا أن نفكر بعلمانية النقد المفترضة في المجال الأكاديمي اليوم.

تجديف أم حرية تعبير؟

هزّت ردة فعل المسلمين على الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي محمد – خاصة في أعقاب نشرها الأول – العالم[1]. وكان هذا في جزء منه بسبب المظاهرات الحاشدة التي اندلعت في عدد من الدول الإسلامية، والتي تحوّل بعضها إلى عنف، ويعود في الجزء الآخر إلى ردة الفعل اللاذعة بين الأوروبيين على اعتراضات المسلمين على الرسوم، الذين لجأ كثيرٌ منهم إلى أعمال عنصرية سافرة، وإلى الإسلاموفوبيا التي استهدفت المسلمين الأوروبيين. ومن الواضح أنَّ شيئًا حاسمًا جدًا كان على المحك في هذا الجدل نظرًا لحماس كلا الجانبين، الأمر الذي بدوره يدعو إلى تفكير أعمق بكثير مما تسمح به الادعاءات البسيطة للاختلاف الحضاري، والدعوات إلى اتخاذ إجراءات حاسمة.

وعلى الرغم من حجم التعليقات على هذا الموضوع، فقد دار الكثير من الجدل المتعلق بالرسوم الكاريكاتورية حول قطبين اثنين؛ فمن جهة كان هناك أولئك الذين زعموا أنَّ غضب المسلمين كان لا بد له أن يُضبط ويُخضع لبروتوكولات حرية التعبير التي هي سمة المجتمعات الليبرالية الديمقراطية، والتي لا تستثني أي كائن أو شخصية، مهما كانت مقدسة، من أن تُصوَّر، أو تُرسم، أو يُسخر منها. في حين زعم منتقدو هذا الموقف من الجهة الأخرى بأنَّ حرية التعبير لم تكن أبدًا مجرد مسألة ممارسة للحقوق، ولكن يستتبعها مسؤولية مدنية بحيث لا تثير الحساسيات الدينية أو الثقافية، لا سيما في المجتمعات الهجينة والمتعددة الثقافات[2]. أدان هؤلاء النقاد الحكومات الأوروبية لاستخدامها معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بمعاملة المسلمين، لكون انتهاك الرموز المسيحية تُنظّمه قوانين التجديف في دول مثل بريطانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، وألمانيا[3]، ولكون وسائل الإعلام أيضًا، في كثير من الأحيان، تسمح باستيعاب الحساسيات اليهودية – المسيحية[4]. وبالنظر إلى أنَّ معظم المسلمين يعتبرون الرسم التصويري للنبي إما محرمًا أو تجديفًا، فقد عزا هؤلاء النقاد العرضَ المبتهج، ونشر الرسوم، إلى الإسلاموفوبيا التي تجتاح أميركا الشمالية وأوروبا في أعقاب أحداث 11 سبتمبر[5]. وبالنسبة للبعض، فإنَّ هذا مُذكِّرٌ بالدعاية المعادية للسامية الموجهة إلى أقلية أخرى في التاريخ الأوروبي، والتي كانت أيضًا في وقت ما قد صُوّرت على أنَّها استنزاف لأراضي أوروبا ومواردها[6].

بالنسبة للكثير من الليبراليين والتقدميين الناقدين للإسلاموفوبيا التي تجتاح أوروبا المعاصرة، فإنَّ الغضب الإسلامي على الرسوم يثير مشكلات معينة؛ ففي حين أنَّ البعض منهم قد أدرك العنصرية الكامنة وراء هذه الرسوم، إلا أنّ البعد الديني لاحتجاج المسلمين بقي مثيرًا لقلقه. وهكذا، فحتى عندما كان هناك إدراك بأنَّ الأحاسيس الدينية الإسلامية لم تُستوعب استيعابًا ملائمًا في أوروبا، وُجِد عجزٌ عن فهم معنى الضرر الذي عبّر عنه الكثير من المسلمين. يُمثّل الناقد السياسي البريطاني طارق علي، هذا الموقف في مقالٍ كتبه في لندن ريفيو أوف بوكس (London Review of Books)؛ فقد أطّر علي تصريحاته برفض الادّعاء بأنَّ الرسم التصويري لمحمد يُشكّل تجديفًا في الإسلام، لأن صور محمد لا تعد ولا تحصى، ويمكن العثور عليها في المخطوطات الإسلامية وعلى النقود عبر التاريخ الإسلامي. ثم يواصل ساخرًا من الأسى الذي أعرب عنه العديد من المسلمين من رؤية هذه الصور أو السماع عنها: «أما بالنسبة «للألم» الديني، فهذه تجربة، برحمته، استعصت على الكفار مثلي، وشعر بها فقط المقدسون من مختلف الأديان، الذين ينقلونها لأتباعهم، أو السياسيون الذين هم على اتصال مباشر بالروح المقدسة: بوش وبلير وأحمدي نجاد، وبطبيعة الحال، البابا وآية الله العظمى. هناك العديد من المؤمنين، وربما هم الأغلبية، لم تؤثر فيهم إساءات الصحيفة الدنماركية اليمينية»[7]. فحسب رؤية علي، فإنَّ المسلمين الذين يعبّرون عن الألم عند رؤية النبي مُصوَّرًا على أنّه إرهابي (أو عندما يسمعون عن مثل هذه الرسوم)، هم مجرد بيادق في أيدي الزعماء الدينيين والسياسيين.

وأعرب آرت سبيجلمان (Art Spiegelman) عن حيرة مماثلة عندما كتب في مجلة هاربر (Harper): «إنَّ الجانب الأكثر إرباكًا في هذه القضية برمتها، هو لماذا ركَّزت جميع المظاهرات العنيفة على الرسوم الكاريكاتورية البليدة بدلًا من التركيز على صور التعذيب المرعبة التي تُعرض بانتظام على قناة الجزيرة، وعلى شاشات التلفزة الأوروبية، وفي كل مكان باستثناء وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة. ربما لأن تلك الصور للانتهاك الفعلي لا تمتلك تلك الهالة السحرية للأشياء الغيبية، مثل الرسوم الكاريكاتورية اللعينة»[8]. بلورت هذه الآراء الإحساس بأنَّ القضية المثيرة للجدل في الرسوم الدانماركية هي صدامٌ بين قيمٍ ليبرالية علمانية وتدين غضوب. يردد ستانلي فش (Stanley Fish) في افتتاحيةٍ لصحيفة نيويورك تايمز هذا الرأي حتى وهو يناقض الحكم. فبالنسبة له، فإنَّ فهم الجدل كله فهمًا أفضل، يكون من حيث التباين بين معتقدات ـ «هم» الدينية المترسخة ومبادئ ـ «نا» الأخلاقية الليبرالية الهزيلة، التي لا تتطلب أي ولاءٍ متأصّل أبعد من التأكيد على المبادئ المجرّدة (مثل حرية التعبير)[9].

أود أن أجادل بوجوب إعادة النظر في تأطير القضية على هذا النحو نظرًا لتعامي هذا التأطير عن المزاعم الأخلاقية القوية المكتنَفة ضمن مبدأ حرية التعبير (ولا مبالاتها المصاحبة بالتجديف) فضلًا عن النموذج المعياري للدين الذي تُرمّز. ففهم الإهانة التي تسببت بها هذه الرسوم ضمن مفردات العنصرية وحدها، أو من حيث اللادينية الغربية، هو قَصْرٌ لمعجمنا إلى مفاهيم مقيدة للتجديف وحرية التعبير – القطبين اللذين سيطرا على النقاش. حيث يفترض كلا المفهومين – المرتكزين على مفاهيم قانونية للحقوق وعقوبات الدولة – أيديولوجية سيميائية تُربط فيها الدوال بطريقة تعسفية بمفاهيم، بحيث يكون معناها مفتوحًا لقراءة الناس، وهي قراءة تنسجم مع اصطلاح خاص مشترك بينهم. فما قد يبدو رمزًا للطرب واللهو للبعض، قد يفسره آخرون على أنَّه تجديف. وسوف أشير فيما يلي إلى أنَّ هذا الفهم الفقير للصور والرموز والعلامات يُطبّع مفهومًا معينًا للموضوع الديني المحجوب في عالمٍ من المعاني المُرمّزة، ويفشل أيضًا في استصحاب الممارسات الوجدانية والمجسَّدة التي من خلالها يرتبط الفرد بعلامة معينة – وهي علاقة تتأسس على التمثيل (representation) وتتأسس أيضًا على ما أسميه التعلق والتعايش. ومن اللافت للنظر أنَّ الرفض الصامت الكبير والسلمي بين الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم أُدرج بسهولة ضمن لغة سياسات الهوية والتعصب الديني، والاختلاف الثقافي/الحضاري. فلم تحظ الكيفية التي يمكن للمرء أن يُظهر من خلالها نوعَ الضرر الذي تسببت به الرسوم، ولا سؤال ما هي الممارسات الأخلاقية والتواصلية والسياسية الضرورية لتوضيح هذا النوع من الضرر، سوى باهتمام ضئيل. تلك الفجوة هي أكثر ما يثير الحيرة، نظرًا لمدى تعقيد مفاهيم الضرر النفسي، والجسدي، والتاريخي التي تتخلل الآن الخطاب القانوني والشعبي في المجتمعات الليبرالية الغربية. تأمّل – على سبيل المثال – التحولات في مفاهيم المُلكية، والضرر الشخصي، والتعويضات في القرن الماضي وحده.

وأود أن أوضَّح منذ البدء (لئلا يُساء فهمي) أنَّ هدفي هنا ليس تقديم نموذجٍ أكثر موثوقية لفهم غضب المسلمين بسبب الرسوم: ففي الواقع، كانت الدوافع للاحتجاجات الدولية غير متجانسة بشكل ملحوظ، ويستحيل تفسيرها من خلال سرد مسبب واحد[10]. بدلًا من ذلك، فإنَّ هدفي من متابعة مسار التفكير هذا، هو دفعنا إلى التأمل في: لماذا لم يحظ ما يُشكَّل الضرر المعنوي في عالمنا العلماني اليوم، سوى بنقاش محدود في السجالات الأكاديمية والعامة؟ ما هي شروط الوضوح التي تجعل بعض المطالبات الأخلاقية واضحة وغيرها صامتة، أين يمكن جعل لغة العنف في الشوارع، ضمن مصفوفة العنصرية والكفر، وحرية التعبير، ولكن الادعاء بما يسميه طارق علي بازدراء «الألم الديني» ما يزال مُربكًا، إنْ لم يكن غير مفهوم؟ ما هي التكاليف المترتبة على اللجوء إلى القانون أو الدولة لتسوية هذا الخلاف؟ كيف يمكن أن نستفيد من الأبحاث العلمية الحديثة حول العلمانية لنُعقِّد المناقشة، بدلًا من أن تكون سجالًا جدليًا وحادًا حول المكان المناسب للرموز الدينية في مجتمع ديمقراطي علماني؟

الدين والصورة واللغة

جادل و.ج. ت ميتشل (W. J. T. Mitchell) أنَّنا بحاجة لأن نفترض أنَّ الصور أجسامٌ جامدة، وأن نفترض أيضًا أنَّها كائنات متحركة تمارس قوة معينة في هذا العالم. ويؤكد ميتشل أنَّ هذه القوة لا ينبغي أن تُختزل إلى «التفسير»، ولكن أن تُتناول باعتبارها علاقة تربط الصورة بالمشاهِد، الذات بالموضوع، في علاقة تحويلية للسياق الاجتماعي الذي تتجلى فيه. وهو يجادل: «إنَّ المجال المعقد للتبادل البصري ليس مجرد نتيجةٍ ثانويةٍ للواقع الاجتماعي، ولكنه نشاط تأسيسي له. فالرؤية لا تقل أهمية عن اللغة في كونها وسيطة في العلاقات الاجتماعية، وليست مختزلة إلى اللغة، أو العلامة، أو الخطاب. فالصور تريد حقوقًا متساوية مع اللغة، لا أن تُحوَّل إلى لغة»[11].

إصرار ميتشل على أنَّ تحليل الصور لا يكون على غرار نظرية اللغة أو العلامات، هو إصرار مُثْرٍ؛ لكونه يذكّرنا بأنَّ الأشكال السيميائية لا تتبع كلها منطق المعنى، أو الاتصال، أو التمثيل[12]. ومع ذلك، تشيع على نطاقٍ واسع فكرة أنَّ الوظيفة الأساسية للصور والرموز والإشارات هي توصيل المعنى (بغض النظر عن هيكل العلائقية التي يستقر فيها الذات والموضوع)، وكانت بالتأكيد نهجًا سائدًا في الكثير من الخطاب حول الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية[13]. يتتبع ويب كين (Webb Keane) في كتابه الأخير المسيحيون المعاصرون (Christian Moderns) الجينالوجيا المتراكبة لهذا المعنى للأشكال السيميائية والمفهوم الحديث للدين[14]. وهو يتبع عددًا من الباحثين الآخرين في الإشارة إلى أنَّ المفهوم الحديث للدين، كمجموعة من الافتراضات بمجموعة من المعتقدات التي يُسلّم بها الفرد، يعود ظهوره إلى ازدهار البروتستانتية المسيحية وعولمتها اللاحقة. ففي حين كانت الحركات التبشيرية الاستعمارية هي الناقلة للعديد من الأصول العملية والعقائدية للمسيحية البروتستانتية إلى أجزاء مختلفة من العالم، فإنَّ جوانب من الأيديولوجية السيميائية البروتستانتية أصبحت ضمن الأفكار الأكثر علمانية لما يعنيه أن تكون عصريًا. وأحد الجوانب الحاسمة لهذا الفكر السيميائي هو التمييز بين الموضوع والذات، وبين الجوهر والمعنى، والدال والمدلول، والشكل والجوهر[15]. وأصبحت مجموعات التمييز هذه جزءًا من المفاهيم الشعبية الحديثة للكيفية التي تعمل بها الصور والكلمات في العالم، منفكّةً عن اهتماماتها الأولى: العقائدية واللاهوتية. إحدى هذه الصيغ واضحة في نموذج فرديناند دي سوسير للّغة (Ferdinand de Saussure)، التي تفترض تمييزًا ثابتًا بين عالم اللغة وعالم الأشياء (المادي أو المفاهيمي)، وبين العلامة والعالم، وبين الكلام والنظام اللغوي. وكما يجادل كين، فإنَّ المرء يجد عند سوسير انشغالًا لا يختلف تمامًا عن ذلك الذي حرَّك كالفن (Calvin) والمصلِحين البروتستانت الآخرين: ما أفضل السبل لإقامة التمييز بين العالم الغيبي للمفاهيم والأفكار المجردة، وبين الواقع المادي لهذا العالم.

أثار علماء الأنثروبولوجيا التاريخية الانتباه إلى الصدمة التي عانى منها الدعاة التبشيريون عندما التقوا للمرة الأولى بمواطنين غير مسيحيين ينسبون السلطة الإلهية للعلامات المادية، وغالبًا ما ينظرون إلى الأشياء المادية (وتبادلاتها) بوصفها امتدادًا وجوديًا لأنفسهم (وبالتالي إذابة التمييز بين الأشخاص والأشياء)، بل وكانت الممارسات اللغوية بالنسبة لهم لا تدلّ على واقع فحسب، ولكن أيضًا تساعد في إنشائه (كما هو الحال في استخدام الطقوس الخطابية لاستدعاء أرواح الأجداد أو الوجود الإلهي)[16]. أود أن أشير بأنَّ للهلع الذي شعر به المبشرون البروتستانت المسيحيون من العواقب الأخلاقية التي تتبع الافتراضات المعرفية (الإبستيمولوجية) المحلية، أوجه شبه مع الارتباك الذي عبّر عنه العديد من الليبراليين والتقدميين في نطاق رد فعل المسلمين على الرسوم اليوم، وفي عمقه[17]. تنبع أحد مصادر هذا الارتباك من الأيديولوجيا السيميائية التي عززت شعورهم بأنَّ الرموز الدينية والأيقونات هي شيء، وأنَّ الشخصيات المقدسة، مع كل الاحترام التعبّدي التي قد تثيره، هي شيء آخر. والخلط بينهما هو ارتكاب لخطأ تصنيفي، وفشل في إدراك الربط الاعتباطي للدلالات والرموز، بالمجردات التي أصبح البشر يجلّونها ويعدونها مقدسة. وكما يفهم أي إنسان عاقل، فإنَّ الرموز – مثل الصليب – ليست تجسيدًا للإلهي، ولكنها تقوم مقامه فحسب من خلال فعل الترميز والتفسير البشري. وبناءً على هذه القراءة، فإنَّ المسلمين الغاضبين بسبب الرسوم الكاريكاتورية يبرزون ممارسة قرائية خاطئة، مقوِّضين التمييز الضروري بين الذات (الوضع المقدس المنسوب إلى محمد) والموضوع (الرسوم التصويرية لمحمد). فغضبهم، بعبارة أخرى، هو نتاج خلط جوهري حول مادية شكل سيميائي معين، مرتبط اعتباطيًا، وليس بالضرورة، بالسمة المجردة لمعتقداتهم الدينية.[18]

وجزء مهم من هذه الأيديولوجيا السيميائية ينطوي على فكرة أنَّه باعتبار الدين هو في المقام الأول اعتقاد بمجموعة من الافتراضات التي يُسلّم بها الفرد، فهو في الأساس مسألة اختيار. وحين يُسَلَّمُ بحقيقة مثل هذا التصور عن الدين، وبالذاتية المصاحبة، فإنَّه يترتب على ذلك أنَّ المواطنين الأصليين والمسلمين الضالين ربما يمكن إقناعهم بتبني ممارسة قرائية مختلفة، تلك التي لا تكون فيها للصور والأيقونات والإشارات أي عواقب روحية في حد ذاتها، ولكن يُعزا لها مثل هذا الوضع من خلال مجموعة من الأعراف الإنسانية. وكانت القوة التحويلية لهذه الرؤية على وجه التحديد، هي ما دفع المبشرين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لتنفيذ المشروع التعليمي لتدريس المواطنين الأصليين موادَ للتمييز تمييزًا صحيحًا بين الجمادات، والبشر، والألوهية. ويبدو أنَّ هذه الرؤية هي نفسها ما يؤثر في الدعوات المتداولة في أوروبا اليوم للمسلمين بأن يتوقفوا عن أخذ الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية على محمل الجد، وأن يدركوا أنَّ صورة (محمد) لا يمكن أن تنتج ضررًا حقيقيًا بالنظر إلى أنَّ حيّزها الحقيقي هو في باطن الفرد المؤمن، وليس في العالم المتقلب للرموز المادية والعلامات. وبعبارة أخرى، فالأمل بأنَّ ممارسة قرائية صحيحة يمكن أن تُثمر عن ذوات مذعنة، يعتمد اعتمادًا حاسمًا على اتفاق مسبق حول ما ينبغي أن يكون عليه الدين في العالم الحديث. وغالبًا ما يَغفل عن هذا الفهم المعياري للدين ضمن الليبرالية، ويتغاضى عنه، معلقون مثل ستانلي فش (كما في الاقتباس السابق) عندما يزعمون أنَّ الليبرالية هزيلة في التزاماتها الأخلاقية والدينية.

العلائقية والذات والأيقونة

أود أن أنتقل الآن إلى فهم مختلف للأيقونات؛ وهو الفهم الذي كان مؤثرًا بين المسلمين الذين شعروا بالإهانة بسبب الرسوم، وأيضًا له تاريخ طويل وثري ضمن تقاليد مختلفة، بما في ذلك المسيحية والفكر اليوناني القديم. وباختصار فيما يتعلق باستخدامي لمصطلح الأيقونة (icon): فهو لا يشير ببساطة إلى صورة، ولكن إلى مجموعة من المعاني التي قد تشير إلى شخصية، وجود سلطوي، أو حتى خيال مشترك. وبحسب هذه الرؤية، فإنَّ قوة الأيقونة تكمن في قدرتها على السماح للفرد (أو للمجتمع) بأن يجد نفسه ضمن بنية تؤثّر في كيفية تصرف المرء في هذا العالم. فمصطلح أيقونة في نقاشي، يتعلق بالصور ويتعلق أيضًا بشكل من أشكال العلائقية التي تربط الذات بالموضوع أو الخيال.

أدهشني الضرر الشخصي الذي عبَّر عنه كثير من المسلمين الملتزمين حال سماعهم عن الرسوم أو رؤيتهم لها عند نشرها الأول. وفي حين أدان العديد ممن قابلتهم المظاهرات العنيفة، فقد أعربوا مع هذا عن شعور بالحزن والأسى[19]. وكما قال شاب مسلم بريطاني:

لم يعجبني ما فعلته تلك الحشود الغاضبة من إحراقٍ للمباني والسيارات في أماكن مثل نيجيريا وقطاع غزة. ولكن ما أزعجني حقيقة هو عدم فهم أصدقائي العلمانيين المطلق (الذين هم بالمناسبة ليسوا بيضًا جميعًا، فالعديد منهم من باكستان وبنغلاديش) لشعور الناس من أمثالي بالإساءة لرؤية النبي يُهان بهذه الطريقة. شعرت أنها كانت إهانة شخصية! وفكرة أننا ينبغي أن نتجاوز هذه الإساءة تُغضبني أكثر: إذا كانوا لا يشعرون بالإهانة من الكيفية التي عُرض بها المسيح (بعضهم بطبيعة الحال شعر)، فلماذا يتوقعون أنَّنا يفترض أن نشعر بالشيء ذاته؟ فالنبي ليس ميل جيبسون أو براد بيت، إنَّه النبي!

كنت أُجري بحثًا ميدانيًا في القاهرة، مصر، عندما أُعيدَ نشر الرسوم الكاريكاتورية في سبع عشرة صحيفة دنماركية وحفنة من الصحف الأوروبية والأميركية في فبراير/شباط 2008. وفي حين خُفّف صوت المظاهرات هذه المرة، فقد سمعت عبارات مماثلة تعبر عن الأذى والإهانة والجرح عبّر عنها مجموعة متنوعة من الناس. قال لي رجل مسن في الستينات من عمره «سيكون شعوري بالجرح أخف لو كانت السخرية من والديّ. وأنتِ تعلمين كم هو صعب أن يُقال أشياء سيئة عن والديك، وخصوصًا إن كانوا أمواتًا. ولكن أن يُزدرى النبي ويُساء له بهذه الطريقة، فهذا أكبر من أن يُحتمل»

العلاقة الحميمية مع النبي المُعبر عنها هنا، كانت موضوعًا للعديد من دراسات الباحثين في الإسلام، وهي كذلك متموضعة بوضوح في الأدب التعبّدي الإسلامي المتعلق بمحمد وعائلته القريبة (أهل البيت)[20]. ويُعد محمد في هذا الأدب نموذجًا أخلاقيًا تؤخذ أقواله وأفعاله على أنَّها وصايا، وأيضًا باعتبارها سبيلًا لإعمار العالم، جسديًا وأخلاقيًا. فأولئك الذين يعلنون الحب للنبي هم ليسوا ببساطة مجرد متّبعين لنصائحه ووصاياه إلى الأمة (التي توجد في شكل أحاديث)، ولكنهم أيضًا يحاولون محاكاة كيف يلبس، ويأكل، وكيف يتحدث إلى أصدقائه وخصومه، وكيف ينام، ويمشي، وهلم جرا. وسبل محاكاة السلوك النبوي هذه ليست مستمرة بوصفها وصايا، بل فضائل يحاول المرء من خلالها تمثّل شخصية النبي في نفسه، كما كانت[21]. ويجب أن يُسلّم بالطبع أنَّ محمدًا هو شخصية بشرية في العقيدة الإسلامية، ولا يشارك في الجوهر الإلهي، فهو ذات للتبجيل أكثر من العبادة[22].

المسألة التي أود أن أؤكد عليها أنَّ علاقة المسلم المتدين بمحمد ضمن تقاليد التقوى الإسلامية، ليست قائمة على نموذج تواصلي أو تمثيلي بقدر تأسسها على نموذج تمثُّلي؛ فمحمد، حسب هذا الفهم، ليس مجرد اسم يشير إلى شخصية تاريخية معينة، ولكنه علامة لعلاقة تشابه. هو بالتالي شخصية ملازمة في نموذجيته المستمرة في نظام الدلالة هذا، وليس علامة مرجعية منفصلة عن الجوهر الذي تدل عليه. وربما يُفهم شكل الاتصال الذي أصف هنا (بين المسلم المتدين وشخصية محمد المثالية) فهمًا أفضل من خلال المفهوم الأرسطي للعلاقة (schesis)، الذي استخدمه لوصف أنواع مختلفة من العلاقات في المقولات (Categories)، وهو المفهوم الذي وضّحه في وقت لاحق الأفلاطنيون الجدد (مثل فرفريوس (Porphyry)، أمونيوس (Ammonius)[23]، وإلياس (Elias)[24] ويعرّف قاموس أكسفورد الإنكليزي schesis بأنَّها «الطريقة التي يرتبط بها شيء بشيءٍ آخر». ويفرّق الباحثـون في هذا بين استخدام أرسطـو لـ schesis وبين استخدامه لـ Pros ti في كون schesis تُجسّد شعورًا بالتجسد الإحلالي والقرب الحميمي الذي يصبغ هذه العلاقة. وأقرب مشابه لها في اللغة اليونانية هو hexis وفي اللاتينية habitus، وكلاهما يدلان على حالة جسدية أو مزاجية تؤسس طريقة معينة للعلاقة.

ما يتصل بحجتي هنا، هو المعنى الذي أُعطي لـ schesis خلال الجدل التمردي الثاني (حوالي 787) عندما استخدمها معتنقو الأيقونية (iconophiles) – غير المفاجئ ربما – للرد على الاتهامات بالوثنية، وللدفاع عن مذهبهم في وحدة الجوهر. يُوضّح كينيث باري[25] (Kenneth Parry) في كتابه عن فكر معتنقي الأيقونية البيزنطيين أنَّ مفهوم أرسطو للعلائقية أصبح حاسمًا للدفاع عن الصورة المقدسة من قبل اثنين من معتنقي الأيقونية الكبار، القديس تيودور والبطريرك نيكفورس   (Nikephoros). وكما يبين باري، فإنَّ الأمر المشترك في خطابهم بين الصورة والنموذج، ليس جوهرًا (بشريًا أو إلهيًا) ولكن العلاقة بينهما. وتستند هذه العلاقة على مشترك لفظي وأقنوم (hypostasis): الصورة والإله هما اثنان في الطبيعة والجوهر، ولكنهما متطابقان في الاسم. فالهيكل التخيّلي المشترك بينهما هو ما يعطي شكلًا لهذه العلاقة. وحسب تعبير المؤرخة ماري خوسيه مونزين (arie-José Mondzain)، «أنْ تكون (صورة)، هو أن تكون في علاقة حية». فمصطلح schesis الأرسطي يلتقط هذه العلاقة الحية، لما له من دلالات نفسية وعاطفية عميقة، ولتأكيده على الألفة والحميمية باعتبارها جانبًا ضروريًا للعلاقة.

ما يهمني في تراث معتنقي الأيقونية هذا، ليس الصورة بقدر مفهوم العلائقية (relationality) الذي يربط الذات بموضوع التبجيل. صيغة العلاقة هذه، معمولٌ بها في عدد من تقاليد العبادة، وغالبًا ما تتعايش بشيءٍ من التوتر مع الأيديولوجيات المهيمنة الأخرى للتصور والممارسة الدينية في كثير من الأحيان[26]. حيث اعتمدت الديانات الإبراهيمية الثلاث مجموعة من المفاهيم والممارسات الأرسطية والأفلاطونية الرئيسية التي كانت تُعدَّل تاريخيًا، في كثير من الأحيان، لتناسب المتطلبات اللاهوتية والعقائدية لكل تقليد[27]. وهذه الأفكار والممارسات في الإسلام المعاصر بعيدة عن الانقراض، حيث أُعيد تشكيلها في ظل ظروف أنظمة إدراكية وأساليب حكم جديدة – إعادة تشكيل تتطلب انشغالًا جادًا مع أهمية هذه الممارسات التاريخية في الوقت الحاضر[28].

تلتقط schesis بجدارة كيف تُوصف علاقة المسلم المتدين بمحمد في الأدب التعبّدي الإسلامي، وأيضًا كيف تُعاش وتُمارس في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي. بل حتى إنّ المدونةَ الموحَّدة تمامًا للسنّة (السجل الموثوق لأفعال النبي وأقواله)، تتأرجح بين ما يُقرأ كأوامر واضحة، من جهة، وبين وصف السلوك النبوي، من الجهة الأخرى؛ شخصيته وعاداته التي تُفهم على أنها مُثُلٌ لتكوين حاجات المرء الأخلاقية والوجدانية. فبالنسبة لكثير من المسلمين الأتقياء، هذه الممارسات والفضائل المتجسدة، توفر الركيزة التي يمكن أن ينال المرء من خلالها سجية التقوى والالتزام. مثل هذا الحلول بهذا الشكل (كما يشير له مصطلح schesis) هو نتيجة للمحبة التي تربط المرء بالشخصية الكتابية من خلال الشعور بالحميمية والرغبة. وبناءً على هذا، فهي لا تعود إلى إكراه «القانون» لأنْ يحاكي المرء سلوكَ النبي، ولكن بسبب الصفات الأخلاقية التي ينمّيها المرء وتجعله يتصرف بطريقة معينة.ومعنى الضرر المعنوي الذي ينبثق من هذه العلاقة بين الذات الأخلاقية والشخصية المثالية (مثل محمد) مختلفٌ تمامًا عن تلك التي يشير لها مفهوم التجديف. فمفهوم الضرر المعنوي الذي أصفه هنا، ينطوي بلا شك على شعورٍ بالانتهاك، ولكن هذا الانتهاك ليس نابعًا من افتراض الاعتداء على «القانون»، ولكن من مفهوم اهتزاز كينونة المرء التي ترتكز على العلاقة التبعية مع النبي. فبالنسبة لكثير من المسلمين فإنَّ جريمة الرسوم المرتكبة ليست ضد الحظر الأخلاقي «أنَّك يفترض ألا تُصوّر محمدًا»، ولكن ضد بنية العاطفة؛ هابيتوس (habitus) يطاله الضرر. ويتطلب هذا الجرح فعلًا أخلاقيًا، ولكنّ لغته ليست قانونية وليست في الاحتجاج في الشوارع، لأنها لا تنتمي إلى نظام اللوم والمساءلة والتعويضات. وإنما الإجراء المطلوب هو ضمن بنية العاطفة، والعلاقات، والفضائل، التي تُهيئ المرء لاعتبار فعلٍ معين بمثابة انتهاك في المقام الأول.

قد يتساءل المرء عما يحدث لهذا النمط من الضرر عندما يخضع للغة القانون والسياسة، والاحتجاج في الشوارع؟ ما هي شروط إدراكه في عالم تهيمن عليه سياسات الهوية ولغة الحقوق القانونية؟ هل يظل صامتًا وغير مدرك أم يخضع منطقهُ لعملية تحول؟ وكيف يُعقِّد هذا النوع من الإساءات الدينية مبادئ حرية التعبير وحرية الدين التي تتبناها المجتمعات الديمقراطية الليبرالية؟

الدين والعرق وخطاب الكراهية

إحدى النتائج المؤسفة لتقييم الرسوم الكاريكاتورية من حيث مسألة الـتجديف وحـريـة التعبيـر، هي لجوء المشاركين الفوري – من الطـرفين – إلى اللغة القانونية. سأستعرض فيما يلي حجّتين مختلفتين حشدهما المسلمون الأوروبيون سعيًا للحصول على الحماية مما يعتبرونه هجمات متزايدة على هويتهم الدينية والثقافية: أولًا، استخدام قوانين خطاب الكراهية الأوروبية، وثانيًا، الحالات القانونية السابقة التي أصّلتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) للحد من حرية التعبير من أجل مصلحة الحفاظ على النظام الاجتماعي. واجهت هذه المحاولات – كما سأوضّح – تحديات قوية، ليس – ببساطة – بسبب تحيز الغالبية الأوروبية ضد المسلمين؛ ولكن بسبب القيود الهيكلية الداخلية للقانون العلماني الليبرالي، في تعريفه لماهية الدين، وتحسسه الحتمي لأحاسيس الأغلبية الثقافية.

الرسوم الكاريكتورية وفقًا لكثير من المسلمين الأوروبيين، هي مثال وحشي للعنصرية التي تعرضوا لها من قبل مواطنيهم ذوي الأصول الأوروبية. وكما عبّر طارق مودود عن ذلك: «الرسوم ليست متعلقة بفرد واحد بذاته فقط؛ كما أنَّ رسمًا كاريكاتوريًا لموسى بوصفه ممولًا ملتويًا لن يكون متعلقًا برجلٍ واحد، ولكن باليهود. وكما أنَّ المثال السابق سيُعدُّ عنصريًا، فإنّ الرسوم عنصرية كذلك»[29] يطرح مودود هذه المقارنة الاستفزازية، وإنْ كانت مُبسطة نوعًا ما، مع اليهود الأوروبيين، ليطعن في النهج السائد بين كثير من الأوروبيين – التقدميين والمحافظين على حد سواء – من أنَّ المسلمين لا يمكن أن يخضعوا للعنصرية لأنهم مجموعة دينية، وليست عرقية. فمودود يجادل أنَّ العنصرية ليست مرتبطة بالبيولوجيا، ولكن يمكن أيضًا أن تكون موجهة إلى فئات موسومة ثقافيًا ودينيًا. وبمجرد أن نبتعد عن الفكرة البيولوجية للعرق، فيمكن حينها أن ندرك أنَّ «المسلمين يمكن [أيضًا] أن يكونوا ضحايا للعنصرية باعتبارهم مسلمين، مثل الآسيويين أو العرب أو البوسنيين. وفي الواقع… فإنَّ هذه الأنواع المختلفة من العنصرية يمكن أن تتفاعل… بحيث يمكن أن تتحول منشئة أشكالًا جديدة للعنصرية. وهنا… ندرك بروز شكلٍ من أشكال العنصرية المرتبطة بنقد الإسلام بوصفه دينًا، ولكنها تذهب إلى أبعد من ذلك»[30]. وفي حين أنَّ مودود لا يعالج التاريخ المتباين لعَرْقَنة (racialization) الأوروبيين اليهود، والمسلمين، معالجة وافية، فقد حظيت وجهة نظره بدعمٍ واسع بين كثير من الناس.

أثارت الحجج حول عرقنة المسلمين مخاوف بعض الأوروبيين من أنَّه إذا أُقرت هذه الفرضية أو مُنحت الاعتراف القانوني لاحقًا، فسوف تفتح الباب للمسلمين لاستخدام قوانين خطاب الكراهية الأوروبية لينظموا أشكال التعبير التي يعتقدون أنها مؤذية لأحاسيسهم الدينية، تنظيمًا مفرطًا[31]. يرفض المناصرون لحرية التعبير بحماس الادّعاء بأنَّ الرسوم الدنماركية لها أي علاقة بالعنصرية أو بالإسلاموفوبيا، زاعمين أنَّ المتطرفين المسلمين يستخدمون هذه اللغة لأغراضهم العدوانية. فقد عدَّ عدد من النقاد القانونيين، على سبيل المثال، استعمال المسلمين لقوانين خطاب الكراهية الأوروبية، حيلةً من قبل «معارضي القيم الليبرالية» الذين يدركون أنَّه «حتى يُقبلوا في النقاش الديمقراطي، فهم [يجب] أن يستعملوا خطابًا يُخفي الصراع بين أفكارهم وبين المبادئ الأساسية للمجتمعات المنفتحة»[32]. تُحذّر هذه الأصوات الليبراليين طيبي القلب، ومَنْ يومنون بالتعددية الثقافية، ألا يقعوا ضحايا لمثل إساءة الاستعمال الانتهازية هذه، لخطاب مناهضة التمييز وحقوق الإنسان، لأن هذا منذر بسوء – كما يحذِّرون – وسيؤدي إلى تطبيق «القيم الإسلامية» والتدمير النهائي لـ«أوروبا عصر التنوير»[33].

يعتمد هذا الرفض لاستدعاء المسلمين لقوانين خطاب الكراهية على حجتين: (أ) الهوية الدينية مختلفة تمامًا عن الهوية العرقية، و(ب) انعدام الدليل على التمييز العنصري ضد المسلمين في المجتمعات الأوروبية. فيما يتعلق بالأول، فهؤلاء النقاد يجادلون بأنَّ العرق هو سمة بيولوجية ثابتة، في حين أنَّ الدين هو مسألة اختيار. حيث يمكن للمرء أن يُغيّر دينه ولكن لا يستطيع تغيير لون بشرته. والرسوم الدنماركية هاجمت فقط المعتقدات الدينية[34]. ووفقًا للناقد القانوني جاي هارشر (Guy Haarscher)، باعتبار السلوك العنصري يرفض منح حق المساواة لليهود والسود «بسبب تدني منزلتهم البيولوجية [المزعومة]» فهو يخالف المبدأ الليبرالي للمساواة. أما «التجديف»، من الناحية الأخرى، فهو – كما يؤكد – «أمر طبيعي، بل وربما قيمة شافية، في المجتمعات المنفتحة»[35].

ما أود أن أستشكله هنا، هو افتراض كون الدين مسألة اختيار في نهاية المطاف: حيث يستند هذا الحكم على الفكرة السابقة، التي أشرت لها آنفًا، أنَّ الدين هو في النهاية اعتقاد بمجموعة من الافتراضات التي يُسلّم بها المرء. حين تُقَرُّ هذه الفرضية، يسهلُ التأكيد على أنَّه يمكن للمرء أن يغيّر معتقده بالسهولة ذاتها التي يمكنه فيها تغيير اختياراته الغذائية أو اسمه. وفي حين أنَّ المفهوم الإشكالي للعرق باعتباره سمة بيولوجية قد يكون واضحًا للقارئ، فإنَّ المفهوم المعياري للدين المذكور هنا يواجه بعض التحديات[36]. كنت قد بيّنت سابقًا الأيديولوجية السيميائية الملازمة التي يُرمِّزها هذا المفهوم، أما هنا فأود أن أستخلص الآثار المترتبة على هذا المفهوم حين يُرمِّز ضمن المفاهيم الليبرالية العلمانية للكلام المؤذي والحق في حرية التعبير. فالنقاد القانونيون الذين أشرت لهم، لم يسيئوا ببساطة إدراك هذا النوع من التدين الذي على المحك في ردود فعل المسلمين على الرسوم الدنماركية: بل ورددوا أيضًا افتراضات التقليد القانوني المدني الذي أصبح فيه الوضع المعرفي (الإبستيمولوجي) للمعتقَد الديني يُطرح باعتباره تخمينيًا، وبالتالي فهو أقل «واقعية» من ماديّة العرق والبيولوجيا. تجدر الإشارة إلى أنه في الحجج التي ذكرت سابقًا، فإنَّ المفهوم المعياري للدين باعتباره معتقدًا يُسّهل الادعاءات الأخرى حول ما الذي يُعد دليلًا، والمادية، والضرر المادي في مقابل الضرر النفسي أو الضرر المتخيل.

تُبين كريستي مكلور (Kirstie McClure) في مقالة رصينة بعنوان «حدود التسامح» كيف أنَّ فكرة الدين باعتباره اعتقادًا خاصًا في المقام الأول مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالظهور التاريخي لمفهوم «الضرر الدنيوي» في القرن الثامن عشر حين ظهرت الدولة الحديثة ووسعت سلطتها على مجموعة من الممارسات الجسدية (الدينية وغير الدينية) والتي عُدّت وثيقة الصلة باستقرار المجال المدني الناشئ حديثًا. ونتيجة لذلك، فقد عُدّت مجموعة متنوعة من الطقوس والممارسات الدينية (مثل التضحية بالحيوان) غير مهمة للعقيدة الدينية من أجل جعلها تحت نطاق القانون المدني. وهذا بدوره، توقفَ على تأمين قاعدة معرفية جديدة للدين ولمختلف مطالبه العقائدية للأفراد، والفضاء، والوقت. تُبين مكلور أنَّ حجة التسامح الديني في رسالة في التسامح لجون لوك، على سبيل المثال، ترتكز على نظرية المعرفة التجريبية (الإبستيمولوجيا الإمبريقية) التي تُخوّل الدولة «باعتبارها المحكّم الشرعي والوحيد في التعاملات الدنيوية. فحدود التسامح… [أصبحت] تُعرّف مدنيًا… بالتقرير التجريبي عما إذا كانت أفعالٌ وممارسات معينة مضرة ضررًا واضحًا بسلامة الدولة وأمنها أو المصالح المدنية لمواطنيها، وهذه الأخيرة تُعرّف أيضًا من الناحية التجريبية»[37]. لا شك أنَّ مفهوم الضرر قد توسع منذ وقت لوك خارج الحدود الضيقة لهذا المفهوم التجريبي، ولكن فكرة تعلّق الدين بالمسائل الأقل مادية (وبالتالي الأقل إلحاحًا)، ما تزال مهيمنة في المجتمعات الليبرالية. وهذا الزعم – للمفارقة – أثار المدافعين المعاصرين عن الدين بحيث حاولوا أن يجعلوا حقيقته ترتكز على حجج تجريبية، وبالتالي إعادة توطيد مستمرة لنظرية المعرفة التجريبية التي كانت وثيقة الصلة بسلطة النظام المدني عند لوك.

تلفت حجة مكلور الانتباه إلى الكيفية التي ارتبط فيها ظهور المفهوم الحديث للدين ارتباطًا وثيقًا بمسألة الحكم وإدارة الدولة. وفي الجدل حول الرسوم الدنماركية، حُددت بسرعة حدود التسامح من خلال القلق على «سلامة وأمن الدولة». ورُفض اتهام المسلمين بأنَّ الرسوم كانت عنصرية في كثير من الأحيان بوصفه لا يعدو أن يكون مُعبّرًا عن «الإسلام الأصولي» فقط، ولم يمض وقت طويل حتى عُدَّت انتقادات المسلمين للرسوم المسيئة تهديدًا للجوهر الحضاري لأوروبا، وأيضًا لأمن الدولة الأوروبية وللنظام العام. يُصرّ النقاد القانونيون، مثل أندروس ساهو (András Sajó) على سبيل المثال، على أنَّ قبول الاتهام بأنَّ الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية عنصرية هو تجاهلٌ للخطر الحقيقي للإرهاب الإسلامي الذي أبرزته الرسوم: «تشير الرسوم إلى وجود علاقة حقيقية مزعجة… بين الإرهاب ونسخة ناجحة جدًا من الإسلام… وإذا أصبح كلُ تعبير نقدي عرضةً لخطر التعميم… فسوف يؤدي هذا [إذن] إلى اللوم الذاتي… وإذا نجحت إعادة تصنيف نقد الدين ليصبح عنصرية، فهذا يعني… بأنه لا يمكنك انتقاد الإرهاب الديني، على الرغم من أنَّ إصبع الدين واقعيًا في كعكة الإرهاب»[38].

مدهش كيف أنَّه من خلال طرحه للمسألة باعتبارها خيارًا بين الإرهاب الإسلامي والنقاش المنفتح، فإنَّ ساهو، مثل كثيرين آخرين، يُصوّر الرسوم الكارتونية بوصفها حقائق ضرورية لأمن الديمقراطيات الليبرالية ورفاهها[39]. فالجانب الأدائي للرسوم الكاريكاتورية الدنماركية متروك لأجل محتواها المعلوماتي، وهو الأمر الذي يختزل تلك الرسوم إلى ما لا يزيد عن خطاب مرجعي، إلا قليلًا. لا يقتصر هذا الرأي على تطبيع أيديولوجية اللغة بحيث تصبح مهمة العلامات الرئيسية هي التواصل المرجعي، ولكنها أيضًا تُسوّغ التشكيك في جميع أولئك الذين يرتابون من هذا الفهم باعتبارهم متطرفين دينيين، أو على أقل تقدير، مؤمنين بالتعددية الثقافية وطيبين لا يدركون تمامًا الخطر الذي يُمثله الإسلام للديمقراطية الليبرالية. وإضافة إلى ذلك، بقدر ما يتطلب هذا المنطق القضائي تمييزًا فئويًا واضحًا (مثل الدين في مقابل العرق)، فإنه يترك مجالًا ضيقًا لفهم سبل الكينونة والتصرف التي تتجاوز هذا التمييز. وحين يقترن القلق على أمن الدولة مع هذه النزعة للقانون الوضعي، فإنه ليس من المستغرب أن يُعدّ لجوء المسلمين لقوانين خطاب الكراهية الأوروبية زائفًا.

الدين والقانون والنظام العام

خيار المسلمين الأوروبيين القانوني الثاني، المنطقي، هو السابقة القضائية التي صدرت من المحكمة الأوروبية (ECtHR) عندما أيّدت حظر دولتين لأفلام عُدَّت مسيئة للأحاسيس المسيحية. فالاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان (ECHR) صِيغَت على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكن على عكس هذا الأخير، فإنَّ لها سلطة تنفيذ القرارات على الدول الأعضاء في مجلس أوروبا. لاثنين من قرارات المحكمة الأوروبية الأخيرة صلة بموضوعنا: حكم معهد أوتو بريمنغر ضد النمسا في عام 1994، وحكم وينغروف ضد المملكة المتحدة في عام 1997، وكلاهما حظرَ عرض أفلام وتوزيعها نظرًا لإساءتها للمسيحيين الملتزمين. ولعل من المهم أن نشير إلى أنَّ هذه القرارات لم تكن مرتكزة على قوانين التجديف الأوروبية، ولكن على المادة العاشرة من الاتفاقية، والتي تضمن الحق في حرية التعبير. والجدير بالذكر، أنَّه في حين أنَّ المادة العاشرة (1) من الاتفاقية الأوروبية تضمن كون «حرية التعبير» حقًا مطلقًا، فإنَّ المادة العاشرة (2) تسمح بتقييد ممارسة هذا الحق، إذا اقتضت ذلك القيود المفروضة من القانون، والتي يُفترض أنها ضرورية لسير المجتمع الديمقراطي[40]. من المهم أن نلاحظ أن هذا المفهوم المُنظّم لحرية التعبير في أوروبا، يتناقض تناقضًا حادًا مع المفهوم الأكثر تحررًا لحرية التعبير في الولايات المتحدة. حيث فرضت معظم البلدان الأوروبية، الخارجة من تجربة المحرقة والحرب العالمية الثانية، قيودًا شديدة على أشكال التعبير التي قد تعزز الكراهية العنصرية وتؤدي إلى العنف.

ما كان قيد البحث في قضية معهد – أوتو بريمنغر ضد النمسا، هو الفيلم الذي أنتجته المؤسسة غير الربحية، معهد أوتو بريمنغر، الذي صوّر الإله، والمسيح، ومريم بطريقة عُدّت مهينة لأحاسيس المسيحيين[41].وقد أُوقف الفيلم وصودر قبل أن يمكن عرضه بموجب المادة 188 من قانون العقوبات النمساوي[42]. استأنف المخرج القضية أمام المحكمة الأوروبية، التي بدورها حكمت لصالح الحكومة النمساوية ولم تر أنَّ الحكومة قد انتهكت المادة العاشرة من حقوق الإنسان الأوروبية. دافعت الحكومة النمساوية عن مصادرتها للفيلم «نظرًا لطابعه الهجومي على الدين المسيحي، وخصوصًا الكاثوليكية الرومانية… بل وشدَّدت [الحكومة النمساوية] على دور الدين في الحياة اليومية لسكان تيرول (Tyrol) [المدينة التي كان سيُعرض فيها الفيلم]. كانت نسبة الرومان الكاثوليك بالنسبة لسكان النمسا ككل كبيرة بالفعل 78% – وكانت تصل إلى 87% بين سكان تيرول. ونتيجة لذلك… كانت هناك حاجة اجتماعية ملحة للحفاظ على السلام الديني؛ وكان من الضروري حماية النظام العام من الفيلم»[43].أيّدت المحكمة الأوروبية هذا الحكم مجادلة بأنَّ: «المحكمة لا يمكن أن تتجاهل حقيقة كون الدين الروماني الكاثوليكي هو دين الأغلبية الساحقة من سكان تيرول. وبمصادرتها للفيلم، فإنَّ السلطات النمساوية تصرَّفت لضمان السلام الديني في تلك المنطقة، ولتجنيب بعض الناس الشعور بأنهم هدف للهجوم على معتقداتهم الدينية بطريقة غير مبررة ومؤذية»[44].

أثَّرت حيثية مشابهة، تتعلق بالأحاسيس المسيحية، في قرار المحكمة الأوروبية في قضية وينجروف ضد المملكة المتحدة، عندما أيّدت المحكمة رفض الحكومة البريطانية السماح بتداول فيلم قُضي بأنه مهين للمسيحيين الملتزمين. وضّحت المحكمة الأوروبية أنَّه في حين أنَّها رأت أنَّ قوانين التجديف البريطانية مستَهجنة، فهي تؤيد قرار الحكومة في هذه الحالة على أساس هامش الدولة لتقدير القيود المسموح بها الذي تشير له المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية. وأيّدت المحكمة قرار الحكومة بوقف تداول الفيلم كون هدف الحكومة كان هدفًا مشروعًا «حماية حقوق الآخرين»، والحماية «ضد الهجمات المهينة إهانة جدية في مسائل تُعدّ مقدسة عند المسيحيين»[45].

في حين أنّ هذه القرارات الصادرة عن المحكمة الأوروبية قد تعرضت لانتقادات لاستيعابها المشاعر الدينية على حساب حرية التعبير، فإني أودّ أن ألفت الانتباه إلى مسألة مختلفة، وهي هامش التقدير الممنوح للدولة في تحديد متى يجوز تقييد حرية التعبير وكيف. حيث تُعطي الفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية المتعلقة بحرية التعبير الدولةَ هامشًا واسعًا من التقدير لتقييد حرية التعبير إذا رأت الدولة أنها تشكّل تهديدًا «للأمن الوطني، أو سلامة الأراضي، أو السلامة العامة، أو حفظ النظام، أو منع الجريمة، أو حماية الصحة والآداب، أو حماية سمعة الآخرين وحقوقهم». يجادل حسين أقراما (Hussein Agrama) في معرض تعليقه على مركزية مفهوم «النظام العام» التي يرتكز عليها هذا التقليد القانوني، بأنَّها جزء من حقل دلالي ومفاهيمي أوسع ترتبط فيه مفاهيم الصحة والآداب العامة والأمن القومي، ويبدو المرجع دائمًا تقريبًا ثقافة الغالبية الدينية[46]. وكما يجادِلُ، فإنَّ التناقض الأساسي الذي يلازم التقاليد القانونية الديمقراطية الليبرالية هو أنَّ الجميع «سواسية أمام القانون»، ومن جهة أخرى، فإنّ هدف القانون هو استحداث النظام العام والحفاظ عليه، وهو الهدف الذي يعتمد بالضرورة على هموم غالبية السكان واتجاهاتهم[47].

وفي حين رأى بعض المسلمين الأوروبيين في أحكام المحكمة الأوروبية نفاقًا صارخًا (في كونها تستوعب المشاعر المسيحية ولكنها تتجاهل مشاعر المسلمين)، فما أود الإشارة إليه أنَّه بغض النظر عن السياق الاجتماعي الذي استُخدم فيه هذا الاستدلال القانوني، فإنه يميل إلى تفضيل المعتقدات الثقافية والدينية لأغلبية السكان. فقد لاحظ عدد من مراقبي المحكمة الأوروبية، على سبيل المثال، بأنَّه «يبدو أنَّ هناك تحيزًا في تشريعات المحكمة… نحو حماية الأديان التقليدية والمتأصلة، يقابله برود تجاه حقوق الأقليات، غير التقليدية، أو التي لا تحظى بشعبية… فالأديان المتأصّلة داخل الدولة، إما لكونها ديانة رسمية أو لكثرة أتباعها، هي أوفر حظًا في أن يُعترف بعقائدها الأساسية بوصفها تمظهرًا للمعتقدات الدينية[48]. وبالتالي فليس من المستغرب، أنَّه عندما كان دين الأغلبية هو الإسلام، كما في قضية İ.A. ضد تركيا (2005)، كان حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يتفق مع المنطق المستخدم في قرارات معهد أوتو بريمنغر ووينجروف. حيث أيّدت المحكمة الأوروبية الحظر الذي فرضته الحكومة التركية على كتابٍ عُدّ مسيئًا لغالبية السكان المسلمين على أساس أنَّه ينتهك حقوق الآخرين الذين غضبوا من انتهاك المقدسات فيه؛ وعليه، فإنَّ قرار الحكومة التركية وافق «حاجة اجتماعية ملحة»، ولم يُشكّل انتهاكًا للمادة العاشرة من قوانين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

والمحكمة الأوروبية ليست المؤسسة القانونية الوحيدة التي يؤدي فيها حرص الدولة على الأمن والنظام العام والأخلاق إلى استيعاب تقاليد الأغلبية الدينية. تأمّل، على سبيل المثال، محاكمة الردة الشهيرة لنصر حامد أبو زيد في مصر[49]. حيث حُكم على أبو زيد بجريمة الردة على أساس كتاباته الأكاديمية المنشورة. وكانت القضية قد رُفعت بناءً على مبدأ ديني يُسمّى الحِسْبَة، والذي لم يكن موجودًا في المدونات القانونية المصرية الحديثة قبل عام 1980 ولكن اُعتمد عليه في إجراءات التقاضي صراحةً ليحكم على أبو زيد بالردة. يبين أقراما في تحليله الثاقب لهذه المحاكمة أنَّه في حين أنَّ مبدأ الحسبة موجود تاريخيًا في الشريعة الكلاسيكية، فإنَّ الشكل الذي أخذته في قضية أبو زيد مختلف اختلافًا كبيرًا من حيث أنه جاء متسقًا مع مفهوم النظام العام وواجب الدولة بالمحافظة على أخلاق المجتمع المنسجمة مع التقاليد الإسلامية للأغلبية. وتحمل اللغة التي يحللها أقراما في قضية أبو زيد، تشابهًا كبيرًا مع التوسل بالنظام العام في قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أشرت لها آنفًا. وعلى رغم اختلاف السياقات الاجتماعية السياسية، فإنَّ المشترك بين الحجج القانونية المصرية، وحجج المحكمة الأوروبية، هو تقليد الحرص القانوني الفرنسي على النظام العام، وبالتالي، تفضيل القانون لأحاسيس الأغلبية الدينية.

يمكن أن يُجادَلَ بأنَّ قضيتي معهد – أوتو بريمنغر وأبو زيد، تنقضان المبدأ الليبرالي العلماني بحياد الدولة لمراعاتهما لحساسيات التقاليد الدينية[50].ولكنّ مثل هذا الاعتراض يستند – كما أرى – على فهمٍ خاطئٍ للعلمانية الليبرالية باعتبارها تُحجِم عن الدخول في مجال الحياة الدينية. فكما تشير كثير من الدراسات الحديثة، فإنَّ العلمانية – خلافًا للفهم الذاتي للأيديولوجية العلمانية (باعتبارها فصلًا مذهبيًا بين الدين والدولة) قد استلزمت تاريخيًا تنظيم المعتقدات، والمذاهب، والممارسات الدينية وإعادة تشكيلها، مما أسفر عن مفهوم معياري معين للدين (هو إلى حدٍ كبير بملامح بروتستانتية مسيحية). فالدولة العلمانية من الناحية التاريخية لم تطوق الدين ببساطة عن طموحاته التنظيمية، بل سعت إلى إعادة بنائه من خلال سلطة القانون. وتبرز إعادة البناء هذه من خلال التوترات والتناقضات التي لا يمكن أن تُعزى ببساطة إلى عناد المتدينين (المسلمين أو المسيحيين). ويتمظهر أحد هذه التوترات في الكيفية التي غالبًا ما تتعارض فيها حرية الدين مع مبدأ حرية التعبير، وكلاهما أيَّدته المجتمعات الديمقراطية الليبرالية العلمانية[51]. وكما يتضح للقارئ، فإنَّ التناقضات التي تحدثتُ عنها هنا، ليست مجرد نتيجة لمكائد المتطرفين الدينيين الانتهازيين أو لعدم فعالية الدولة العلمانية، ولكن هي في قلب التنظيم القانوني والثقافي للمجتمعات العلمانية. والاهتمام بهذه التناقضات هو إقرارٌ بالطبيعة التحوّلية للعلمانية نفسها، والمشاكل التي أسفرت عنها تاريخيًا.

الضرر الأخلاقي ومتطلبات القانون

من المهم أن نلاحظ على ضوء حجّتي في الجزء الأول من هذا المقال، مدى ابتعاد هذه اللغة القانونية لخطاب الكراهية والحرية الدينية، عن طبيعة الضرر المعنوي الذي ناقشته في إطار مفهوم العلاقة schesis. والمسلمون الذين يودّون تحويل هذا النوع من الضرر إلى جريمة يمكن التقاضي حولها، يجب أن يحسبوا حساب الطابع الأدائي للقانون؛ فأنْ تُخضع ضررًا مبنيًا على مفاهيم للذات، والتدين، والأذى، وتوليد الدلالة (semiosis)، مختلف اختلافًا واضحًا لمنطق القانون المدني، هو إعلان لنهايته (بدلًا من حمايته). فآليات القانون ليست محايدة، ولكنها قُنّنت باستخدام مجموعة كاملة من الافتراضات الثقافية والمعرفية التي لا تبالي بالطريقة التي يمارَس بها الدين ويعاش في تقاليد مختلفة. والمسلمون الملتزمون بالحفاظ على تخييل تستند بناءً عليه علاقتهم مع النبي على التشبه والتعايش، يجب أن يقاوموا القوة التحويلية للقانون والضوابط الذاتية التي يقوم عليها.

ما أريد أن أؤكده هنا، هو أنَّ المسلمين الأوروبيين الذين يطالبون بلغة النظام العام (المنصوص عليها في قرارات المحكمة الأوروبية الأخيرة)، يتعامون عن هذه النزعة المعيارية للقانون العلماني الليبرالي لثقافة الأغلبية. فمن خلال حرصها على النظام العام والأمن، تصبح الحساسيات والتقاليد الدينية للأقلية بالضرورة أقلَّ ثقلًا من تلك التي للأغلبية، حتى في مسائل الحريات الدينية. وهي ليست مجرد تعبير عن التحيّز الثقافي، بل تأسيس للتقليد القضائي الذي تتموضَعُ فيه الحرية الدينية والحق في حرية التعبير (والذي يتجه له المسلمون الأوروبيون اتجاهًا متزايدًا الآن سعيًا للحماية). بل وبقدر ما يُنظر إلى المسلمين على أنهم يُشكّلون تهديدًا لأمن الدولة، ستخضع تقاليدهم وممارساتهم الدينية للمراقبة وللتطلعات التنظيمية للدولة التي تسود فيها لغة النظام العام بالضرورة.

ولعل من المهم لكل مهتم بتعزيز فهمٍ أكبر بين الاختلافات الدينية، أن يتجه إلى النسيج السميك وإلى تقاليد المعايير الأخلاقية والذاتية المشتركة التي توفر الركيزة للحجج القانونية (المنصوص عليها في لغة النظام العام) أكثر من اتجاهه إلى القانون. أشرتُ في هذا المقال لعددٍ من الأسباب التي توضّح لِمَ ظل مفهوم الضرر المعنوي – الذي حلّلت هنا – غير مفهومٍ في النقاش العام حول الرسوم الدنماركية، وخاصة تلك الصعوبات التي ينطوي عليها النقل عبر المعايير السيميائية والأخلاقية المختلفة. غالبًا ما يُطرح موضوع مستقبل الأقلية المسلمة في المجتمعات الأميركية والأوروبية باعتباره خيارًا بين الانصهار والتهميش. ونادرًا ما أثيرت مسألة قابلية انتقال الممارسات والمعايير عبر الاختلافات السيميائية والأخلاقية ضمن هذين الخيارين. أقرأُ هذا الإغفال، ليس بوصفه مشكلة معرفية، ولكن من حيث الفرق الذي يَسِمُ قوة العلاقات بين الأغلبية والأقلية في إطار الدول القومية. ونظرًا لهذا الفارق فقد يصبح الانصهار هو الخيار الوحيد للأقلية المسلمة في أوروبا. أما بالنسبة لأولئك المعنيين بأساليب أخرى للتعامل مع هذه المشكلة، فربما يجدر بنا تجنب التسرع في الحكم لنبدأ في تفكيك المعضلات المختلفة في مثل هذا التوقف. وفي نهاية المطاف، فإنَّ مستقبل الأقلية المسلمة في أوروبا لا يعتمد كثيـرًا على مدى توسيع علمانيـة وليبرالية بروتوكولات حرية التعبير لتستوعب مخـاوفهم بقـدر اعتمادهـا على تحـولٍ أكبـرَ لأحاسيس السكان اليهود – والمسيحيين الثقافية والأخلاقية التي تؤسس الممارسات الثقافية للقانون العلماني الليبرالي[52]. ولست متأكدة أنَّ مجتمع المهاجرين المسلمين أو الأغلبية الأوروبية مستعدون لمثل هذا؛ لمجموعة من الأسباب التاريخية والاجتماعية المختلفة.[53]

خاتمة

بدلًا من إعادة حججي الرئيسية، فإنّي أود أن أختم من خلال طرح بعض الأفكار حول اعتمادِ تحليلي على ممارسة النقد؛ العنوانِ الذي يمكن وضع هذا المقال تحته، وهو ما يميز أكثرَ ما يجاهدُ العملُ الأكاديمي لتحقيقه. من المعتاد في هذه الأيام الترويج للنقد باعتباره إنجازًا للثقافة العلمانية والفكر العلماني. وأساس هذا الاقتران هو الشعور بأنَّ النقد يعتمد على مسافة ضرورية بين الذات والموضوع، وعلى نوعٍ من المداولات العقلية، بخلاف المعتقد الديني. وغالبًا ما يقابِل هذا الفهمَ للنقد ممارسات القراءة الدينية؛ حيث تُفهم الذات باعتبارها غارقةً في الموضوعِ بحيث لا يتسنى لها أن تحقق المسافة اللازمة لممارسة النقد. يجادل مايكل وارنر (Michael Warner) في مقال مثيرٍ، أنَّ مثل هذا التصور للنقد لا يسخر من الآخر الديني فحسب، بل أيضًا، وهو الأهم، ما يزال متعاميًا عن نظم ذاتيته، وتعلقاته الوجدانية، وكذلك علائقية الذات والموضوع[54]. وهو يتتبع بعض التحولات التاريخية (في ممارسات القراءة والتأويل، وتحويل السياق «entextualization»، وتكوين المخطوطات) التي تُشكّل خلفية لظهور هذا المفهوم السائد للنقد. يحث وارنر القراء على التعرف على العمل المنهجي الذي يدخل في إنتاج ذاتية غريبة تاريخيًا، والتي ينطوي عليها هذا المفهوم للنقد.

حاولت في هذا المقال أن أفكك بعض الافتراضات التي تثبّت الاستقطاب بين التطرف الديني والحرية العلمانية، والتي يُحكم فيها على الأول بأنه غير نقدي، وعنيف، ومستبد، وعلى الأخيرة بأنها متسامحة، وساخرة، وديمقراطية. محاولتي هنا، هي لإظهار أنَّ الاشتراك في هذا الوصف من الأحداث، هو أيضًا، وفي وقت واحد، ضمان لمجموعة أفكار مُشْكِلة حول الدين، والتصور، واللغة… وربما الأهم من ذلك، ضمن عالم يتجه اتجاهًا متزايدًا نحو التقاضي، هو: ما الدور المفترض أن يكون للقانون لتأمين الحرية الدينية. وآمل أن يكون قد اتضح من حججي أنَّ المبادئ الليبرالية العلمانية لحرية الدين وحرية التعبير ليست آليات محايدة لمناقشة الاختلافات الدينية، بل ما تزال متحيّزة جدًا لبعض المفاهيم المعيارية للدين، والذات، واللغة، والضرر. ولا يعود هذا لمخالفة علمانية، بل بسبب التأثير الضروري المترتب على طبقات من الالتزامات المعرفية والدينية واللغوية، المبنية ضمن مصفوفة تقاليد القانون المدني. وتتطلب قدرتنا على التفكير خارج هذه المجموعة من القيود بالضرورة العملَ النقدي، وهو العمل الذي لا يرتكز على المزاعم المفترَضة بالتفوق الأخلاقي أو المعرفي، ولكن في قدرته على إدراك التزاماته العاطفية وتضييقها، والتي تساهم في هذه المشكلة بطرق مختلفة.

بقدر كون تقاليد النظرية النقدية متشربةً بالشك بالالتزامات الدينية (الميتافيزيقية والمعرفية)، إنْ لم يكن بتنحيتها، فإنَّه لزام علينا أن نفكر «نقديًا» بهذه التنحية: كيف ترتبط نظرية المعرفة والنقد ضمن هذا التقليد؟ وهل التقاليد المتباينة للنقد تتطلب نظرية معرفة معينة وافتراضاتٍ وجودية للذات؟ كيف يمكن أن نعيد النظر في المفهوم السائد للوقت – باعتباره فارغًا، متجانسًا، وغير محدود، ووثيق الصلة جدًا بمفهومنا للتاريخ – في ضوء طرق أخرى متعلقة بالوقت ومتعايشة معه، والتي تملأ الحياة الحديثة؟ ما هي بعض ممارسات التثقيف الذاتي – بما في ذلك ممارسات القراءة والتأمل، والانهماك، والمخالطة الاجتماعية – التي هي في صميم مفاهيم العلمانية للنقد؟ وما هي بنية هذه الممارسات، وكيف يمكن لها أن تتوافق (أو تختلف) مع ممارسات أخرى للتثقيف الذاتي الأخلاقي التي قد تؤكد مفاهيمَ معارضةً للنقد؟

لا يتطلب هذا النوع من الانشغال الذي يتضمن الإجابة عن هذه الأسئلة ببساطةٍ طرحَ «نعم» أو «لا» لسؤال «هل النقد علماني؟» فالقيام بذلك هو استبعاد للفكر، وفشل في الاشتغال بمجموعة غنية من الأسئلة ما تزال إجاباتها غير واضحة، ولا يعود هذا لارتباكٍ فكري أو نقص أدلة، بل لأن هذه الأسئلة تتطلب حوارًا مقارنًا عبر الفجوة المفترضة بين التقاليد «الغربية» و«غير الغربية» للنقد والممارسة. وهذا الحوار بدوره يعتمد على التمييز بين العمل المنطوي على تحليل ظاهرة، وبين الدفاع عن معتقداتنا في بعض المفاهيم العلمانية للحرية والارتباط. والتوتر بينهما مثمرٌ لممارسة النقد بقدر إغلاقه الضروري للعمل السياسي، ليسمح للتفكير أن يمضي قدمًا بطرق غير معتادة. وما يزال العمل الأكاديمي، في اعتقادي، واحدًا من الأماكن القليلة التي يمكن استقراء هذه التوترات فيها[55].


الهوامش:

[1]     حظرت الحكومة الفرنسية الحجاب وكذلك عرض الرموز الدينية «الظاهرة» الأخرى في المدارس الحكومية في 2004. لخلفية تاريخية عن هذا القرار وسجالاته، انظر:

Joan Scott, The Politics of the Veil (Princeton, NJ, 2007).

       وانظر الهامش 1 في الصفحة التالية فيما يتعلق بالرسوم الدنماركية.

[2]     نُشرت الرسوم في البداية في صحيفة يولاندس بوستن في سبتمبر من عام 2005. واندلعت احتجاجات كبيرة في العالم الإسلامي في عام 2006. وكانت أسباب هذه الاحتجاجات متنوعة، وادّعى العديد من النقاد بأنَّ المحتجين كانوا انتهازيين استغلتهم الحكومات الإسلامية لغاياتها الخاصة. قامت يولاندس بوستن في 13 فبراير 2008، والعديد من الصحف الدنماركية الأخرى، بما في ذلك بوليتيكن وبرلينغسكي تيدندي، بإعادة نشر كاريكاتير القنبلة في العمامة سيئ السمعة، الذي كان بمثابة بيانٍ «بالتزام حرية التعبير»، وحذت حذوها عدة صحف في أوروبا والولايات المتحدة، بعضها كان قد رفض في البداية نشرها. وزعمت الصحف بأنَّ هذا كان رد فعلٍ على اعتقال ثلاثة رجال من أصولٍ شمال أفريقية، اتُهموا بالتآمر لقتل رسام الكاريكاتير كورت فيسترجارد. أُطلق سراح أحدهم لعدم كفاية الأدلة، ورُحّل الاثنان الآخران اللذان لم يكونا من المقيمين في الدنمارك، إلى تونس. وكانت ردة الفعل على إعادة نشر الرسوم المسيئة فاترة بين المسلمين هذه المرة، وفقًا للتقارير، وظلت معظم المظاهرات سلمية.

[3]      لمثالين مختلفين لهذا الموقف، انظر:

Jospeh Carens’s essay «Free Speech and Democratic Norms in the Danish        Cartoon Controversy» in the special issue of International Migration, «The Danish Cartoon Affair: Free Speech, Racism, Islamism, and Integration» 44, no. 5 (2006): pp. 33 – 42; and Tariq Ramadan, «Cartoon Controversy Is Not a Matter of Freedom of Speech, but Civic Responsibility» New Perspectives Quarterly, February 2, 2006, http://www.digitalnpq.org/ articles/global/56/02-02-2006/tariq_ramadan. Also see Tariq Ramadan, «Cartoon Conflicts» Guardian February 6, 2006, http://www.guardian.co.uk/ cartoonprotests/story/ 0,1703496,00.html.

[4]     من بين الدول الأوروبية التي ما تزال فيها قوانين التجديف موجودة في اللوائح (حتى لو استخدمت استخدامًا نادرًا): النمسا، الدنمارك، ألمانيا، اليونان، ايسلندا، فنلندا، هولندا، إسبانيا، إيطاليا، سويسرا، والمملكة المتحدة.

[5]     على سبيل المثال، ذكرتْ صحيفة الجارديان البريطانية – بعد وقتٍ قصير من اندلاع الاحتجاجات على الرسوم الدنماركية – أنَّ صحيفة يولاندس بوستن (الصحيفة نفسها التي ألحت على نشر رسوم محمد) كانت قد رفضت نشر رسومٍ تسخر من المسيح خوفًا من إثارة «ضجة» بين الدنماركيين المسيحيين.

https://www.theguardian.com/media/2006/feb/06/pressandpublishing

[6]     انظر على سبيل المثال:

Tariq Modood’s essays in the special issue of International «Migration The        Danish Cartoon Affair: Free Speech, Racism, Islamism, and Integration»: «The Liberal Dilemma: Integration or Vilification?» pp. 4 – 7 and «Obstacles to Multicultural Integration» pp. 51– 61.

[7]     وكما قال أحد النقاد البريطانيين المسلمين، هناك أوجه شبه قوية بين كيف يُصوَّر المسلمون في أوروبا اليوم، وكيف صُوّر اليهود في ثلاثينيات القرن التاسع عشر: بوصفهم متعصبين دينيًا، أجانب، آفة على الحضارة الأوروبية. انظر:

Maleiha Malik, «Muslims Are Getting the Same Treatment Jews Had a         Century Ago» Guardian, February 2, 2007. See http://www.guardian. co.uk/commentisfree/story/0,,2004258,00. html.

[8]     Tariq Ali, «LRB Diary» London Review of Books 28, no. 5 (March 9, 2006). See http://www.tariqali.org/LRBdiary.html.

[9]     Art Spiegelman, «Drawing Blood: Outrageous Cartoons and the Art of Courage» Harper’s 312, no. 1873 (June 2006): p. 47.

[10]    وفقًا لفش، فإنَّ المبادئ الأخلاقية الليبرالية «تكمن في العزوف عن المبادئ الأخلاقية بأي شكل حاد أو مُلحّ» ولذا فإنَّ الليبراليين لا يهتمون سواءً أسادت معتقداتهم أم لا. أما المسلمون، من الناحية الأخرى، فلديهم معتقدات حادة (مهما كانت ضالة) ويعدّون تطبيقها أمرًا ضروريًا.

Stanley Fish, «Our Faith in Letting It All Hang Out» New York Times February 12, 2006; http://www.nytimes.com/2006/02/12/opinion/12fish.html?_ r=1&pagewanted=all&oref=slogin.

       رؤية فش إشكاليةٌ من عدة جهات. أولًا، تنطوي الليبرالية على مفهوم للتدينِ سلبيٍ في صياغته، وأيضًا تحمل شعورًا قويًا بحيث تتمظهر في المقام الممنوح للأساطير الدينية والنصوص والأيقونات والرموز، في الموارد الثقافية والأدبية للمجتمعات الليبرالية. يقدّم كتاب تشارلز تايلور الزمن العلماني A Secular Age (Cambridge, MA, 2007) سردًا غنيًا عن هذا النوع من التدين، يغيب عن فش. ثانيًا، يُصوِّر فش حرية التعبير والدين باعتبارهما نظمًا عقائدية، مع فارقٍ واحد: أنَّ الأول ضعيف في حين اعتنق هذا الأخير بحماس. ومن المهم أن نلاحظ بأنه لا الليبرالية ولا التقاليد الإسلامية هي مجرد اعتقاد: فكلاهما تتعلقان بممارسات كيف ترتبط الذات بأفكار مهيمنة وبصور ورموز وأحاسيس. ولا يدرك فش بسبب هذه الرؤية الفقيرة إلى حدٍ ما للأيديولوجية الليبرالية، ردود الفعل القوية والعميقة بين الأوروبيين الليبراليين العلمانيين ضد احتجاجات المسلمين.

[11]    لمراجعة نقدية حول الدوافع المتباينة وراء الاحتجاجات التي نُظّمت في عدد من الدول الإسلامية، انظر:

Mahmood Mamdani, «The Political Uses of Free Speech» Daily Times (Lahore), Feburary 17, 2006, http://www.dailytimes.com.pk/default.asp? page = 2006%5 C02%5C17%5 Cstory_17 _ 2 _ 2006 _ pg3 _ 3.

[12]    W. J. T. Mitchell, What Do Pictures Want? The Lives and Loves of Images (Chicago, 2005), p. 47.

[13]    يُكرِّس ميتشل فصلًا كاملًا لتحليل «الصور المسيئة» التي دنَّسها المشاهدون، مثل رسم كريس أوفيلي مريم العذراء المقدسة، التي عُرض في متحف بروكلين للفنون. يزعم ميتشل أنّ هذه الصور مختلفة لكونها «مرتبطة بشفافية ومباشرة بما تمثل… وثانيًا… تمتلك الصورة نوعًا من الحيوية والشخصية الحية التي تجعلها قادرة على الشعور بما يُفعل لها. فهي ليست مجرد وسيلة شفافة لتبليغ رسالة ولكنها شيء حيوي، شيء حي، كائن له مشاعر، ونوايا ورغبات وفاعلية. وفي الواقع تُعامل الصور أحيانًا بوصفها شبه ذوات – ليس مجرد مخلوقات 127.

[14]    غني عن القول بأنَّ مثل هذا الفهم للّغة طَعَنَ فيه وعقّده عدد من اللغويين والفلاسفة. لمناقشة متبصرة، انظر:

Benjamin Lee, Talking Heads: Language, Metalanguage, and the Semiotics of Subjectivity (Durham, NC, 1997).

[15]    Webb Keane, Christian Moderns: Freedom and Fetish in the Mission Encounter (Berkeley, CA, 2007).

[16]    وتستند هذه المجموعات من التمييز على تباعد بين الذات المدركة وعالم الأشياء، وهو تباعد ينظر له كثير من العلماء باعتباره السمة المميزة للحداثة. يعتمد كين على الكتابين التاليين في هذه القضية

Timothy Mitchell, Colonizing Egypt (Berkeley, CA, 1991), and Bruno Latour, We Have Never Been Modern (Cambridge, MA, 2007).

[17]    See Keane’s discussion of this point in chap. 8 of Christian Moderns; also

[18]    see Webb Keane, «Freedom and Blasphemy: On Indonesian Press Bans and Danish Cartoons» Public Culture 21, no. 1 (2009): pp. 47–76. For earlier debates, see Jean Comaroff and John Comaroff, Of Revelation and Revolution (Chicago, 1991); Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies (New York, 2008); Peter Pels, Politics of Presence (New York, 1998).

[19]    وكان الغضب الأخلاقي الذي أعرب عنه المسلمون غير مختلف عن الغضب والعاطفة التي أبداها المدافعون عن حرية التعبير. وإطلاق تسمية «الأصوليين» على المحتجين المسلمين، ترميز للحكم بأن المعتصمين هم ديماغوجيون متخلفون ورجعيون مختلفون عن الأنصار المبادئيين لحرية التعبير.

[20]    بينما استحوذت المظاهرات العنيفة ومقاطعة المنتجات الدنماركية على اهتمام العالم، فإنَّ شكلًا أكثر انتشارًا بكثير للمعارضة الإسلامية بالكاد يذكر. اشتمل هذا في مصر، على سبيل المثال، على أمسيات طويلة للعبادة مكرسة لذكر محمد في المساجد، وانتشار استخدام شعار «احنا فداك يا رسول الله!» بمعنى «نموت من أجلك يا نبي الله!» حيث يستخدم التعبير «فداك» غالبًا للتعبير عن مشاعر الحماس والحب نحو المحبوب، وفي الخطاب الصوفي يعبر به أيضًا عن معنى الهيام بالله. وقد أشاع هذه العبارة لاعب كرة قدم مصري، يمثل المنتخب الوطني، عندما كشف عن قميصٍ مطبوعة عليه هذه العبارة بشكل غير متوقع لوسائل الإعلام خلال مباراة لكرة القدم. وبعدها انتشرت كالنار في الهشيم، وقيل بأنَّها أصبحت تُعرض في المكاتب، وعلى السيارات، وشاشات الكمبيوتر، والقمصان، وهُيئت كنغمة رنين للهواتف النقالة. والعديد من أولئك الذين اعتمدوا هذا النموذج «للاحتجاج الصامت» رفضوا بشدة – عندما أجريت مقابلات معهم – أعمال العنف في المظاهرات في نيجيريا، وباكستان، وغزة، لكنهم أعربوا بالرغم من ذلك عن الألم، والضرر، والغضب على الصور.

[21]    للاطلاع على دراسة للصلة التاريخية والمعاصرة لهذه العلاقة بالثقافة الشعبية، انظر:

Ali Asaani, Celebrating Muhammad: Images of the Prophet in Popular Muslim Poetry) Columbia, SC, 1995).

[22]    تقليد الأخلاق الفاضلة، الذي يعتمد على المفاهيم الأرسطية الرئيسية، هو جزء من خطاب التقوى في الإسلام المعاصر. وقد أحيتْ النهضة الإسلامية هذا التقليد في مجموعة متنوعة من السياقات، بما في ذلك وسائل الإعلام وأيضًا في ممارسات الذات. حول هذا، انظر كتابي:

Politics of Piety: The Islamic Revival and the Feminist Subject (Princeto).

[23]    يميّز أمونيوس (Ammonius) في تعليقه على مقولات أرسطو، بين أربعة أنواع للعلاقة العلاقة بين السيد والتلميذ. بين السيد والعبد. بين الوالد والطفل؛ وبين العشاق.

[24]    schesis: وهذا المصطلح أيضًا متصل بمفهوم الفلسفة الرواقية وبممارسة «تهذيب الشخصية». انظر:

Marie-José Mondzain, «Voir L’invisible» Critique 42, no. 589 – 90

(June/July 1996).

       الطريقة التي تُبجَّل بها مريم في المسيحية تحدد الفرق بين ألوهية المسيح وإنسانية مريم.

[25]    يحدد باري مقولات أرسطو (Categories) ومقدمة فرفريوس (Isagoge) – لم يستخدما من قبل في الدفاع عن الصورة المقدسة – باعتبارهما جوهريين لحجج  مؤيدي الأيقونية المتأخرين.

Kenneth Parry, Depicting the Word: Byzantine Iconophile Thought of the Eighth and Ninth Centuries (Leiden, 1996); see esp. chap. 6 Aristotelianism.

[26]    Marie-José Mondzain, Image, Icon, Economy: Byzantine Origins of the Contemporary Image (Stanford, CA, 2004).

       تقتبس ماري خوسيه مونزين دفاع البطريرك نيكفورس ضد تهمة وحدة الجوهر من خلال لجوئه لحجج حول الفن: «يحاكي الفن الطبيعة دون أن يكون مطابقًا لها. بل على العكس من ذلك، يجعل الفن الشيء متشابهًا ومتماثلًا بعد أن اتخذ الشكل الظاهري الطبيعي كشكل وكنموذج… وسيكون من الضروري بعد هذا، وفقًا لهذه الحجة، أن يكون الرجل وأيقونته متشاركين بالتعريف نفسه، وأن يكونا متصلين ببعضهما كما هي الأشياء واحدة الجوهر» (ص  77).

[27]    عملُ كريستوفر بيني حول الآثار السياسية للحضور واسع الانتشار لصور الأيقونات  والآلهة الهندوسية في الهند مفيد للتفكير في بعض هذه القضايا. انظر:

Christopher Pinney, Photos of the Gods: The Printed Image and

Political Struggle in India (New York, 2004).

[28]    تتبع المسار التاريخي لهذه الأفكار مثير للاهتمام هنا. والجدير بالذكر، أنَّ مدرسة الإسكندرية أثبتت أنَّها الناقل الأهم لأعمال أرسطو إلى البيزنطيين. وعندما أغلقت المدارس في أثينا في حكم جوستنيان في القرن السادس عشر، استمرت مدرسة الإسكندرية في الازدهار أولًا في ظل النفوذ المسيحي ثم الإسلامي حتى القرن الثامن. وانتهى الحال بالعديد من ورثة هذه المدرسة من الشرّاح في بغداد، التي أصبحت مركزًا للفكر الأفلاطوني الجديد في القرن التاسع. انظر:

Parry, Depicting the Word, p. 53; and Richard Sorabji, «Aristotle Commentators» http://www.muslimphilosophy.com/ip/rep/A021

[29]    حول هذه القضية، انظر:

Charles Hirschkind, The Ethical Soundscape (New York, 2006)

       ولا سيما النقاش حول الأنظمة الإدراكية الداخلية وأوضاع السياسة والإعلام المعاصرة.

[30]    Modood, «The Liberal Dilemma» p. 4.

[31]    Modood, «Obstacles to Multicultural Integration» p. 57.

[32]    على سبيل المثال، سعت الجمعيات الإسلامية في فرنسا دون جدوى لاستخدام التشريعات المناوئة لخطاب الكراهية ضد الصحيفة الفرنسية فرانس سوار التي أعادت نشر الرسوم الكاريكاتيرية في دعمها ليولاندس بوستن.

[33]    Guy Haarscher «Free Speech, Religion, and the Right to Caricature» in Censorial Sensitivities: Free Speech and Religion in a Fundamentalist World, ed. A. Sajó (Utrecht, 2007), p. 313.

[34]    András Sajó, «Countervailing Duties as Applied to Danish Cheese and Danish Cartoons» in Sajó, Censorial Sensitivities, p. 299.

[35]    يقول ساهو، «مما لا شك فيه، بأنَّ التنميط السلبي لأعضاء مجموعة يلعب دورًا مهمًا في لغة العنصرية. ومع هذا، فقد تناولت الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية اعتقادًا دينيًا. فعلى أي أساس يمكن أن نساوي بين عرقٍ غير قابل للتغيير (لون البشرة) وبين الدين، إذا كان الدين مسألة اختيار؟»المرجع نفسه، ص. 286.

[36]    Haarscher, «Free Speech» p. 323.

[37]    التحول التدريجي في الفهم الأوروبي لليهود من جماعة دينية إلى عرق بشري على مدى القرن العشرين يضع التمييز الصارم المحدد هنا بين الهوية الدينية والعرقية موضع تساؤل. ولحجةٍ مثيرةٍ للاهتمام حول كيف أصبحت «عرقنة اليهود» في أوروبا مرتبطةً تاريخيًا بتشكل صورة العرب باعتبارهم نمطيًا متدينين/مسلمين، انظر:

Gil Anidjar, Semites: Race, Religion, Literature) Stanford, CA, 2008).

[38]    Kirstie McClure, «Limits to Toleration» Political Theory 18 no. 3 (1990): p. 380 – 81 (emphasis added).

  Sajó, Censorial Sensitivities, p. 288 (emphasis added).

[39]    Sajó, Censorial Sensitivities, p. 288 (emphasis added)

[40]    يعبّر الناقد القانوني الأميركي روبرت بوست عن وجهة نظر مماثلة عندما يقول: «تستدعي بعض الرسوم الانتقادات النمطية للإسلام. فهي تعلّق على القمع الإسلامي للمرأة؛ وعلى استخدام المذاهب الأصولية الإسلامية لتعزيز العنف؛ وعلى الخوف من الانتقام العنيف عند نشر انتقادات للإسلام. هذه أفكار استخدمها وسيستخدمها أولئك الذين يريدون التمييز ضد المسلمين… ولكنها أيضًا أفكار حول قضايا حقيقية وملحة. فالعلاقة بين الإسلام والجندر            هي مسألة حيوية ومثيرة للجدل. والعنف الإسلامي الأصولي هو مصدر قلق عام في جميع أنحاء أوروبا. والخوف من الانتقام لتجاوز التابوهات الإسلامية موجود في كل مكان… فوقف جميع المناقشات العامة للقضايا العامة الحقيقية والملحة أمرٌ لا يمكن تصوره. وإذا كانت مثل هذه القضايا ستناقش، فيجب حماية كل الآراء ذات الصلة» في:

       «Religion and Freedom of Speech: Portraits of Muhammad» Constellations 14 no. 1 (2007): pp. 83 – 84 (emphasis added). This article was republished in Sajó, Censorial Sensitivities. For my response to this piece, see http://townsendcenter.berkeley.edu/pubs/post_mahmood.pd.

[41]    تنص المادة العاشرة: (1) لكل شخص الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حرية الرأي

[42]    وحرية تلقي المعلومات والأفكار ونقلها دون تدخل من السلطة العامة، وبصرف النظر عن الحدود الدولية. ولا تحول هذه المادة دون إخضاع الدول لشركات الإذاعة والتلفزيون والسينما للترخيص.

       والمادة 10 (2) تسمح بحدود جائزة على النحو التالي:

       (2) قد تخضع ممارسة هذه الحريات، لكونها تشمل واجبات ومسؤوليات، لبعض الشكليات الإجرائية أو الشروط أو القيود أو العقوبات المنصوص عليها في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي، لصالح الأمن الوطني، أو سلامة الأراضي، أو السلامة العامة، أو حفظ النظام، أو منع الجريمة، أو حماية الصحة والآداب، أو حماية سمعة الآخرين وحقوقهم، أو منع إفشاء الأسرار، أو ضمان سلطة القضاء ونزاهته.  انظر:

http://www.hrcr.org/docs/Eur_Convention/euroconv3. html

       جادل المخرج – مثل ناشري الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية – بأنه من المشكوك فيه أن «عملًا فنيًا يتعاطى تعاطيًا ساخرًا مع الأشخاص أو الأشياء ذات الاحترام الديني يمكن أن يُعدَّ محقِّرًا أو مهينًا».

Otto-Preminger-Institut v. Austria Judgment, Eur. H. R. Rep. 19 (1994)

[43]    ادّعت الحكومة النمساوية أنَّ قيامها بضبط الفيلم ومصادرته، كان يهدف إلى «حماية حقوق الآخرين»، ولا سيما الحق في احترام المشاعر الدينية، و«منع الفوضى».

ibid., §46. Also see Peter Edge, «The European Court of Human Rights

[44]and Religious Rights» International and Comparative Law Quarterly 47 no. 3 (July 1998): pp. 680 – 87; and Javier Martinez-Torrón and Rafael Navarro-Valls, «The Protection of Religious Freedom in the System of the European Convention on Human Rights» Helsinki Monitor no. 3 (1998): pp. 25 – 37.

       Otto-Preminger-Institut v. Austria Judgment §52.

[45]    Ibid. §56.

[46]    Wingrove v. United Kingdom Judgment, Eur. H. R. Rep. 19 (1996) §57.

[47]    See Hussein Agrama, «Egypt: A Secular or a Religious State?» (PhD diss., Johns Hopkins University, 2005).

[48]    Hussein Agrama, «Is Egypt a Religious or a Secular State? Reflections on Islam, Secularism, and Conflict» manuscript, forthcoming in Comparative Studies in Society and History (2009): p. 15.

[49]    Peter Danchin, «Of Prophets and Proselytes: Freedom of Religion and the Conflict of Rights in International Law» Harvard International Law Journal 49 no. 2 (Summer 2008): p. 275. Danchin cites a number of critics of ECtHR judgments who hold this view, including Jeremy Gunn, «Adjudicating Rights of Conscience Under European Convention on Human Rights» Religious Human Rights in Global Perspective: Legal Perspectives, ed. J. van der Vyver and J. Witte (The Hague, 1996).

[50]    من المهم أن نلاحظ بأنَّه بينما استُخدم باب الردة في الشريعة الإسلامية حتى القرن الثاني عشر، فإنّ محاكمات الردة قد اختفت تقريبًا في الشرق الأوسط بين 1883 و1950. ولم تبرز باعتبارها جريمة يمكن التقاضي حولها في تاريخ الشرق الأوسط الحديث لقانون العقوبات إلا في الثمانينات. يبيّن بابر يوهانسن أنّ المفاهيم الكلاسيكية للردة لم تُدمج في قانون العقوبات في عدد من البلدان مثل السودان (1991)، واليمن (1994)، ومصر (1982)، إلا في الثمانينات، في ظل الطلب المتزايد على تدوين القانون الإسلامي (تقنين الشريعة). وباعتبار الشريعة تُطبق فقط في مسائل قانون الأحوال الشخصية، فقد أعيدَ تسجيل الردة من خلال هذه القناة في النظام القانوني في مصر.

Baber Johansen, «Apostasy in Egypt» Social Research 70, no. 3 (2003):

  1. pp. 687 –

[51]    في الواقع، هذا هو الأساس الذي اعترض بناءً عليه عدد من المنظّرين القانونيين على قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية. انظر على سبيل المثال:

Sajó, Censorial Sensitivities, and Martinez-Torrón and Navarro-Valls, «The Protection of Religious Freedom in the System of the European Convention on Human Rights».

[52]    بينما تركز حجتي هنا على التقليد القانوني الفرنسي، فإنَّ توترًا مماثلًا يلازم التقليد الأميركي أيضًا. تستقرئ وينفريد سوليفان الآثار المتناقضة للتعديل الأول (ولا سيما بند حرية الدين) في التاريخ القانوني للولايات المتحدة. وتحلل  دعوى قضائية مُمثّلة في ولاية فلوريدا رُفعت

[53]    ضد سلطة بلدية على أساس التعديل الأول لمنعها عرض رموز دينية في مقبرة عامة. كان على المحكمة عند الفصل في هذه القضية أن تميّز وتقرر ما المعتقدات الدينية الحقيقية التي يطالب بها الخصوم من وجهة نظر القانون. وبذلك فقد كان على المحكمة الاتحادية أن تنخرط في المنطق والأحكام واللاهوتية، وهي ممارسة تتناقض بشدة مع مبدأ حياد الدولة فيما يتعلق بالدين المنصوص عليها في التعديل الأول للدستور. انظر:

Winnifred Sullivan, The Impossibility of Religious Freedom (Princeton,

 NJ, 2005).

       وهناك أمثلة أخرى في تاريخ القضاء الأميركي، مثل حكم المحكمة العليا الذي يحظر استخدام نبات البيوت في الطقوس الاحتفالية للكنيسة الأميركية الأصلية. في هذه الحالة، انظر:

Vine Deloria and David Wilkins, Tribes, Treaties, and Constitutional            .(Tribulations (Austin, TX, 1999

[54]    هنا أُذكر بأنَّ الهدوء النسبي للمواقف العنصرية ضد اليهود والسود في أوروبا والولايات المتحدة ليست إنجازًا للقانون وحده (على الرغم من أنَّ القانون ساعد)، لكن الأهم أنَّه اعتمد على تحول النسيج الكثيف للأحاسيس الأخلاقية والثقافية عبر خطوط الاختلاف العرقي والديني.

Michael Warner, «Uncritical Reading» in Polemic: Critical or Uncriticaled Jane Gallop (New York, 2004), pp. 13 – 37.

[55]    ظهرت نسخة سابقة من هذا المقال في Critical Inquiry no. 35 4 (2009). أود أن أشكر مطابع جامعة شيكاغو لإذنها بإعادة طبع هذه المادة. وأنا ممتنة لتشارلز هيرشكايند، وحسين أقراما، وطلال أسد، ومايكل ألان لتعليقاتهم. وأنا مدينة خصوصًا لايمي روسيل لتوجيهها لي في المصادر اليونانية حول schesis وrelationality، وممتنة أيضًا لمارك ماكغراث لمساعدته البحثية لي بأكثر مما يتطلبه الواجب. عُرض هذا المقال في جامعة شيكاغو، وجامعة كولومبيا، وجامعة نيويورك، ومنتدى مجلس بحوث العلوم الاجتماعية المتعلقة بالعلمانية، شاكرة الحضور على تعليقاتهم واستفزازهم.