مجلة حكمة
الغزالي بين حب الفلسفة كرهه للفلاسفة

الغزالي بين حب الفلسفة وكُره الفلاسفة – محمد أيت حمو

العقل الحجاجي - جداول
غلاف الكتاب

فصل (الغزالي بين حب الفلسفة وكُره الفلاسفة) من كتاب: (العقل الحِجاجي بين الغزالي وابن رشد: دراسات ومراجعات نقدية لفلسفتي الغزالي وابن رشد) عن دار جداول؛ تأليف: محمد آيت حمو


لقد شكلت مكانة الغزالي في تاريخ الفلسفة مادة دسمة لاختلاف الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة بين من يعلي من شأنها، ومن يحط من قدرها. ومع ذلك، فإن هذا الاختلاف حول منزلة الغزالي في تاريخ الفلسفة ينتصب دليلا على الحضور المعرفي القوي للغزالي حتى عند أشهر معارضيه، وفي مقدمتهم ابن رشد الذي لم يسلم من تأثيره. فقد بنى الغزالي فلسفته على النص الديني تماما مثلما بناها على النص الفلسفي اليوناني ثانيا، محتكما إلى عقله تارة وقلبه مرة. فهو متكلم النقل، وفيلسوف العقل ومتصوف القلب،…فيلسوف العظمة والعصامية والاعتداد بالنفس، فهو عصامي أنى قلبته، عصامي كيفما جئته، عصامي بين المتكلمين وعصامي بين الفلاسفة وعصامي بين المتصوفة. يندفع إلى الحقيقة التي يسعى إليها اندفاع السيل المنحدر من عل الذي يجرف كل ما يقف في طريقه من نصوص الوصاية الأرسطية والوصاية الفقهية. ملا سمع الدنيا وبصرها، ورزق من الشهرة في حياته، والخلود بعد مماته ما لا يكاد يقارنه فيه فيلسوف آخر من فلاسفة الاسلام. ازدادت شهرته اتقادا بعد مماته، وتناوله كثير من مؤيديه ومعارضيه، حتى إننا لو جمعنا المصنفات حول مدونات الغزالي لألفنا بذلك مكتبات خاصة بالغزالي !!! وهذا دليل على كثرة اشتغال الباحثين به وعلى عبقريته وإلهامه للمفكرين على مر السنون.

يستهل المستشرق الانجليزي المقتدر وات Watt كتابه الموسوم بـ«المثقف المسلم» بالإشارة في بداية مقدمته إلى الصعوبات التي تعترض الدارس لفكر الغزالي، معددا مثلا غزارة كتاباته، وكون بعض الكتب التي تعزى إليه ليست بتاتا من مؤلفاته، والتغيرات التي طرأت على موقفه خلال مسيرة حياته . ولا نغالي إذا قلنا بأن هذه الصعوبات التي ذكرها وات Wattوغيرها من الصعوبات التي لم يذكرها ـ وما أكثرها ـ تجعل الباحث في الإنتاج الفكري للغزالي كالسائر فوق حقل من الألغام.

ولا غرابة في ذلك، ما دام أن هذا الرجل يشكل محطة حاسمة في نقد الفلسفة، هذا النقد الذي عرف “مع الغزالي نقلة كمية وكيفية، لعل من أسبابها أمران:

الأول، أن الغزالي، استقرت على عهده الموسوعة الفلسفية المشائية منظمة ومنسقة ومختصرة، في لغة مشرقة أحيانا، بفضل أعمال ابن سينا، فانكب على دراستها وتأملها. …فلابن سينا يرجع الفضل في إتقان لغة الغزالي أداة البناء والمخاصمة، ولابن سينا يرجع الفضل في تمكنه من مذاهب أرسطو في الالهيات.

الثاني ـ وهذا ما يبدو مستغربا ـ استشراف الغزالي آفاق تتعدى طور العقل، مما جعله يختم جل المسائل، التي يخاصم فيها الفلاسفة، بالحكم بأن العقل عاجز عن الإحاطة بمعطيات الألوهية. فلا نجد لدى المتكلمين السابقين عليه ـ عدا ابن حزم ـ دعوى من هذا القبيل، وإن كان هذا الأخير يطلقها في اتجاه معاكس لما فعل الغزالي، فابن حزم يعادي كل دعوى غنوصية. فقد كان المتكلمون يخاصمون أبدا من منطلق العقل، ويعتقدون أن المذاهب التي يخاصمون، فسادها راجع لخللها، لا لعجز العقل عن أن يبني حقيقة في أمور الألوهية. لكنهم يختلفون في هذا، لاختلاف انتماءاتهم المذهبية. أما الغزالي فقد تعدى ذلك” .

فإذا أخذنا كتيب «المنقذ من الضلال» الذي هو أشبه بسيرة ذاتية كما يحلو لـ«وات «Watt القول وتكرار القول في كافة مؤلفاته ، فإننا نجد حجة الإسلام يعترف بتعدد فرق الفلاسفة، ولا ينكر اختلاف مذاهبهم، ومع ذلك فقد حاول ـ في هذا الكتيب- أن يحصر أصنافهم في الدهريين الذين أنكروا الصانع، والطبيعيين الذين جحدوا الآخرة، والإلهيين الذين لازمتهم بقايا من رذائل كفر هؤلاء رغم ردودهم عليهم أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي . “وما مؤلف الغزالي الشهير “تهافت الفلاسفة” الذي كفر فيه الفلاسفة إلا شهادة وفاة لفلسفة المشائين في المحيط الإسلامي السني. وما رد ابن رشد الذي لا يقل شهرة “تهافت التهافت” إلا محاولة يائسة للإبقاء على الأرسطية بغرض التأسيس لعقلانية إسلامية تمتد بجذورها في فلسفة المشائين”.

بيد أن تصنيف الغزالي الثلاثي السابق لا يجدي في درء وصمة «الكفر» التي تشكل القاسم المشترك أو الناظم القار الذي يظل، وفي كل التصنيفات المومى إليها، موحدا بين الفلاسفة الذين حصر حجة الإسلام علومهم في الأقسام الستة الآتية: رياضية ومنطقية و طبيعية وإلهية وسياسية وخلقية. وإذا كان الغزالي قد أعطى لكل قسم حقه من الإبانة، فإن الجدير بالانتباه في هذه الأقسام الستة هو موقفه من الإلهيات التي يرى أنها استأثرت بالقسط الأوفر من زلات الفلاسفة، فكلامهم في الإلهيات يحبل بالغث والزؤان. كيف لا، وقد احتج على الفلاسفة بحجة اختلافهم في الإلهيات قائلا: ” لا تثبت ولا إتقان لمذهبهم عندهم، وأنهم يحكمون بظن وتخمين من غير تحقيق ويقين. ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون ضعفاء العقول. ولو كانت علومهم الإلهية متقنة عن البراهين، نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية “.

فما هو الفيلسوف والفلسفة المقصودين بالنقد في كتابات الغزالي ؟
إن قول الغزالي يتميز عن أقوال السابقين في هذا الصدد، فمن الفيلسوف بإطلاق إلى فيلسوف بعينه. “من الأعم إذن، إلى العام، فالخاص، فالأخص. من الفلاسفة بإطلاق، دهرية وطبيعية وإلهية، إلى الفلاسفة الإلهيين الذين ردوا بجملتهم على الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم من المؤمنين، إلى الفيلسوف المطلق والمعلم الأول الذي رد على باقي الإلهيين من المعاصرين والسابقين، إلى الفارابي وابن سينا، باعتبارهما خير من نقل علوم أرسطوطاليس، وخلصها من دنس الشوائب. فلا الدهرية المنكرون للصانع موضوع كلام الغزالي في التهافت . ولا الطبيعية المنكرون البعث موضوع كلام الغزالي أيضا. فكلاهما رد عليه الالهيون. بل حديث الغزالي في التهافت، … وليس كلامه مع كل الالهيين، بل مع أرسطو، كما نقل مذاهبه الفارابي وابن سينا فقط “.

ومن الفلسفة بإطلاق إلى الالهيات، “من المدارس الفلسفية في تقاطعها مع مباحث الفلسفة يتحدد موضوع الخصومة، إنه إلهيات أرسطو كما فهمها وبسطها الفارابي وابن سينا. فدون هذين الطرفين لا مبحث مقصود بالخصومة، فإن حصل فبالعرض. ولا فيلسوف مقصود بالخصومة، فإن حصل فبالعرض. … فالغزالي لا يرد مذاهب الفلاسفة في كل المسائل، بل يحكم بموافقة مذاهبهم في مسائل لما أفادته الملة، وبإمكان بعض مذاهبهم في مسائل لأنها لا تخالف الملة، لكنه يعجزهم عن الوفاء بما ذهبوا إليه إنطلاقا من مجموع مذاهبهم مادة وأدلة”.

إن الفلسفة، حسب التعريف المشهور، هي محبة الحكمة وتعبر عن جوهر الأشياء وكنه الموجودات. فلماذا لا يتفق الفلاسفة بشأن الحقيقة الواحدة؟ !
هكذا يضع الغزالي الفيلسوف خصومه الفلاسفة أمام الجدار، وينتقد الفلسفة. “وعندما نقول:(نقد الفلسفة)، فنحن نعني الإلهيات وما يعلق بها من الطبيعيات، وأحيانا جوانب في المنطقيات. أما باقي أجزاء الفلسفة فلم تظفر من نقد الكلام باهتمام فاحص، وإنما هي أحكام عامة تأخذ وترد اعتمادا في الغالب على حجج تفيد الظنون مثلما هو الشأن في التعاليم. عدا النجوم التي أدرج المتكلمون في كتبهم أبوابا لرد القول بأحكامها، أو أفردوا لها في التأليف ما يبطلها ” . فليست هناك فلسفة واحدة في الإلهيات، بل فلسفات متعارضة ومتصارعة. ولنتذكر هنا كتاب المعلم الثاني الموسوم بـ«الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطوطاليس» الذي دافع فيه ـ حسب بعض الباحثين ـ عن وحدة الفلسفة لمعاندة رجال الدين القائلين بأنه ليست هناك فلسفة واحدة، بل فلسفات مختلفة بالرغم من أن هذا الموقف ـ أي وحدة الفلسفة ـ قد لا تقبله الحساسية الفلسفية المعاصرة التي جوهرها الاختلاف.

لقد أبان الغزالي عن محدودية الأنطولوجية اليونانية، وسبق الفلسفة الحديثة في هذه المهمة الجليلة والجسيمة، وبذلك يكون الغزالي قد مهد لثورة الكوجيتو وللثورة العلمية، وهذا ما كان يملأ قلب ابن رشد غيضا وحنقا، لا يليق بأهل الفلسفة.” وفي الواقع، ما كان يحرك المشروع الفكري للرجلين ابن سينا والغزالي هو اشتراكهما كل بطريقته الخاصة في انتقاد الأنطولوجية الإغريقية وإظهار حدودها، وذلك قبل وولف وكانط. لقد أراد ابن سينا والغزالي كلاهما أن يؤسسا رؤية جديدة للوجود والعلم تختلف عن رؤية اليونان لهما. وقد مضى الغزالي أبعد من مشروع ابن سينا حيث بنى نظرته إلى الموجود والمعرفة على أساس تقويض مفاهيم الماهية والبرهان والعلية والذاتية والعقل والفيض، وكل ذلك على أساس فلسفة عرضية جائزة قائمة على الإرادة والخلق من عدم. ونعتقد أن النظرة العرضية والواحد كانت وراء النظرة التاريخية لابن سينا حيال أرسطو، فكان بذلك أقرب إلى نداء التاريخ من ابن رشد. … لقد ظل ابن رشد محافظا، يدافع عن الميتافيزيقا والعلم اليونانيين بما يحملانه من طابع ذاتي ضروري. إن انتقاد ابن رشد لابن سينا والغزالي هو انتقاد لمحاولتهما الانفصال عن اليونان وتجاوزهما إلى فلسفة أخرى لها أصول مغايرة للأصول اليونانية. فقد اشتركا معا في تأسيس أنطولوجيا عرضية قائمة على الامكان، وهي تلك الأنطولوجيا التي يمكن اعتبارها تمهيدا لثورة الكوجيتو وللثورة العلمية التجريبية. إن جرأة الرجلين في انتقاد فلسفة الأوائل وتقديم بدائل لها هو ما كان يغيظ أبا الوليد الذي لم يكن في نيته أبدا أن يبعد عن تأثير الفلاسفة اليونانيين. … وإذا كان الغزالي قد انتقد ابن سينا بسبب خروجه عن دائرة علم الكلام وسقوطه في أحضان الفكر اليوناني، فإن ابن رشد انتقده بسبب انحرافه عن مسار التفكير الأرسطي الحق وسقوطه في خط الفكر الكلامي “.

وقد حاول الغزالي حصر المسائل التي توجب تكفير الفلاسفة وميزها عن القضايا التي توجب تبديعهم فقط. إذ أن التكفير يظل حكرا على ثلاثة مسائل يوردها الواحدة تلو الأخرى، قائلا: “إحداها: مسألة قدم العالم و قولهم إن الجواهر قديمة، والثانية قولهم: إن الله تعالى لا يحيط علما بالجزئيات الحادثة من الأشخاص، والثالثة: إنكارهم بعث الأجساد و حشرها”.

أما القضايا التي يبدع فيها خصومه الفلاسفة، فقد حصرها في سبعة مسائل تشمل كلام الفلاسفة في الصفات الإلهية والتوحيد وغيرها من المسائل التي يرى الغزالي أن الفلاسفة يقتربون فيها كثيرا من المعتزلة. فالغزالي يضع خطا فاصلا بين الإلهيات والعلوم العقلية الأخرى التي لا يشكك في صدقها ولا يرتاب في يقينها. “يسير الغزالي في جل المسائل التي يخاصم فيها الفلاسفة على نفس النهج: يعرض قول الفلاسفة في المسألة عرضا جيدا لا يخلو من أمانة، ويرفقه بتفهيم قد يخدم غرضه النقدي، ثم يسوق الاعتراضات على ذلك القول، وهي الاعتراضات التي تطول أو تقصر حسب طبيعة المسألة والإشكالات المرتبطة بها. ويختم الاعتراض بما يشبه اللازمة في كتاب التهافت. وما يختم به هو الحكم بعجز العقل عن معرفة الأمور الإلهية معرفة يقينية قطعية لا شكوك عليها، وبأن ما ينتجه من مذاهب، وإن أمكن أن يكون صحيحا، فلا يعرف حقيقة إلا بإلهام أو وحي. لكن هذا الترتيب يختل أحيانا، وتبقى مكونات المسألة على حالها. فقد يأتي الحكم بعجز العقل في بداية الاعتراض وتنتشر مبرراته بانتشار الاعتراض. … وقد يأتي … مباشرة بعد إيجاز مذهب الفلاسفة في المسألة وقبل بسط أدلتهم على ما يعتقدون. …وبذلك فإن الثابت، في كتاب التهافت، هو تأكيد عجز العقل عن معرفة الأمور الإلهية معرفة يقينية، والتشكيك في ما يدعيه قاطعا من أدلة الفلاسفة ليفتح الباب لقول الشارع في مسألة مسألة. أما المتحول، في كتاب التهافت، فهو المسائل. فنحن في الصفحات الأولى من الكتاب، مع مسائل هي غير المسائل وسط الكتاب وآخره. لكن بقدر ما تتعدد المسائل بقدر ما يتقرر الثابت، اعتبارا للأحكام التي تتقاطر كالطوفان على مسامع من يتابع النزال، والتي مفادها تناقض مذاهب الفلاسفة وشناعتها وركاكتها وقبحها وخبالها وتحكمها وضعفها”.

وإذا كان اليقين لم يحالف الفلاسفة الذين تطاولوا على عالم الإلهيات وتخبطوا فيه «خبط الناقة العشواء في الليلة الظلماء»، فذلك لأنهم أرادوا استخدام أسلحة تفقد فعاليتها ونجاعتها و تصاب بالعطالة عندما تستعمل في «حروب» تتجاوز حدود هذا العالم، لأن حدود المنطق هي حدود العالم. ولذلك يدقق صاحبنا بعيد النص السابق بالقول: “ونوضح أن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق، وما شرطوه في صورته في كتاب القياس، وما وصفوه من الأوضاع في «إيساغوجي» و«قاطيغورياس» التي هي من أجزاء المنطق و مقدماته لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية”.

وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن العلوم الإلهية تند عن مسالك المنطق و تدق عن مدارك العقل و تخريجاته، بالرغم من أن “العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير انك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة و حقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال”.

وبالرغم من أن صاحبنا الغزالي سعى بخطى حثيثة إلى تقويض أفكار الفلاسفة وإسكات أصواتهم في ميدان الإلهيات، فإن كتابه «تهافت الفلاسفة» لا يختلف عن مؤلفات الفلاسفة المسلمين من زاوية مادته الفلسفية ومعدن أسلوبه الفلسفي الذي يعتمد الجدل والبرهان. فالعقل الفلسفي يشكل القاسم المشترك بين الشيخ الرئيس وحجة الإسلام والشارح الأعظم، بالرغم من أن الغزالي قد كفر الفلاسفة في المسائل الثلاثة المعروفة، وبدعهم في الأمور السبعة المشهورة. فالغزالي الفيلسوف “إذ يحاول تقييد سلطة العقل، يتخذ من العقل نفسه مطية للوصول إلى هذه الغاية “.

وإذا كان تاج الدين السبكي قد ذهب إلى أن حجة الإسلام “يناضل عن الدين الحنيفي بحلاوة مقاله، ويحمي حوزة الدين، ولا يلطخ بدم المعتدين حد نصاله” . فإننا نعتقد بأن هذه الصورة التي تبرئ الغزالي من آثار دماء الفلاسفة ليست أمينة وتجافي الحقيقة، لأنها تدافع عن أطروحة ليست برهانية ولا هي مسلمة مجمعا عليها. فمعارضة الحنابلة ونقد أهل السنة المتشددين هو بمثابة الصخرة التي تندرس عليها الصورة السابقة. لأن هذا النقد دليل دال على أن صاحب «تهافت الفلاسفة» “لطخ حد نصاله” لدى البعض الآخر، إذ أنه “لحد الآن غالبا ما يقال أو يفترض بأن هناك مرحلة أخيرة في حياة الغزالي، عندما غادر الأشعرية وأصبح ذي نزعة أفلاطونية جديدة” . فالشيخ ابن تيمية ـ الذي لا ينظر بعين القبول إلى الكلام والفلسفة والتصوف والتأويل- لا يرى في بعض المؤلفات الغزالية غير أقوال الصابئة والفلاسفة، بالرغم من اعترافه بقوة بضاعة الغزالي من كل أصناف المعارف و«تعدد أبعاده» إن صح التعبير. وهذا ما يتناقض مع موقف الصوفي ابن سبعين الذي ذهب في كتابه «بد العارف» إلى أن بضاعة الغزالي من العلوم القديمة أوهى من خيط العنكبوت ! بل إن صورة حجة الإسلام تزداد تشوها وتلوثا وقتامة في مرآة الطرطوشي الذي يأبى إلا أن يقدم لنا الغزالي بعيون محمرة بالغضب، وفي صورة لا يحسد عليها. فهو بلغته” رجل مظلم الجهالة، ومن أهل الضلالة، وكاد ينسلخ من الدين”.

هكذا تنقلب صورة الغزالي رأسا على عقب من صورة رجل مسلم لا تشوب إيمانه شائبة في مرآة تاج الدين السبكي، إلى صورة رجل «جاهل» ورجل «كافر» أو يكاد في مرآة الطرطوشي! و إن دل هذا على شيء في مؤلفات الغزالي، فإنما يدل على النزعات الفلسفية تارة والصوفية مرة، التي نفاها البعض ونفخ فيها البعض الآخر. فهل يجدي «مجداف» المقاربة النسقية للخروج من هذا اليم المتلاطم الذي يزداد مدا و جزرا بالانتقال من هذا الكتاب إلى ذاك؟ سؤال يدفعنا إلى إثارته تضارب الآراء السابقة و تصادم التأويلات السالفة. ويحضرني في هذا الصدد ما ورد في رسالة «حي بن يقظان»، من أن الغزالي “يربط في موضع و يحل في آخر، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها” . وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن المؤلفات الغزالية فيها مستويين أو طبقتين: المستوى الأول ظاهري يوجهه للعامة، و المستوى الثاني خفي لا يفهمه إلا الخاصة الذين لهم دربة في التأمل الكلامي و الفلسفي والمناقشات التجريدية الدقيقة. وإلا فكيف يمكن تفسير كتابته للكتب التي يسميها بـ«المضنون بها على غير أهلها»، جنبا إلى جنب مع كتب يمكن أن يقرأها الجميع. فلا مناص من استحضار ثنائية الخاصة والعامة لفهم الغزالي الذي يضن على العوام ويلجمهم عن علم الكلام. فعقل الجمهور أو «بادئ الرأي» ـ حسب مصطلح شهير عند الفارابي- لا يستطيع أن يقبل أبدا قضايا كلامية أو فلسفية مغرقة في التجريد. وبناء على ذلك، فاختلاف المتلقي يفعل فعله في عدم تناسق الآراء المعروضة في الكتب الغزالية التي كانت تسير في عدة مستويات و مراتب بحسب الهدف و النية. وكأني بهذا التناقض في مؤلفات الغزالي يمثل بدائل ممكنة لقضايا يعالجها ويضعها جنبا إلى جنب للقارئ حسب مرتبته الاجتماعية و الثقافية. ففسيفساء الآراء والتأويلات التي اتخذت من الغزالي مدارا لها، تدل على عظمة هذا الرجل وغنى أو ثراء فكره. وهذه سمة المفكرين الكبار عبر التاريخ. وقد عبر سعيد بنسعيد العلوي عن كل ما سبق بعبارة مختصرة، لكنها توجز و تكثف قائلا: “بين من يراه (حجة الإسلام)، ومن يذهب إلى أن (الإسلام حجة عليه). وبين من يرى فيه فيلسوفا أصيلا، ومن يذهب إلى أنه أحدث في الفلسفة جرحا غائرا وألحق بالفلاسفة في الإسلام أذى كثيرا. ولكنا نقول، إجمالا، بأن (المتن الغزالي) ظل في تاريخ الفكر الإسلامي حمال أوجه «يقرأ» فيه كل مفكر لاحق غير ما يجده فيه سابقه، و«يرى» فيه كل عصر غير ما يراه فيه سلفه”.

إن هذا النص يعبر عن انعدام الموقف الموحد من الغزالي، واضطراب مواقف الباحثين من أعماله. فآراء الغزالي غير متناسقة، وفكره يحبل بالتناقضات، أو هكذا يبدو. فمن هو الغزالي الحقيقي؟ ومن هو الغزالي المقنع أو المتنكر؟ هل الغزالي الحقيقي هو الغزالي المتكلم الذي ألف «الاقتصاد في الاعتقاد»؟ أم هو الغزالي المتمرس بدقيق الفلسفة ودقيق دقيقها في «تهافت الفلاسفة» و«مقاصد الفلاسفة» الذي اعتبره واط “بيانا حقيقيا وموضوعيا لمذاهب الأفلاطونيين الإسلاميين الجدد التابعين في الجانب الأعظم لابن سينا” ؟ أم هو الغزالي الصوفي، والأشبه بالسندباد الذي لا يقنع بالقريب والآني، فيسافر بعيدا إلى بحار المجاهدة والمكابدة وغيرها من المفاهيم التي تدور في فلك القواعد العملية، الذي كتب كتيب «المنقذ من الضلال» ونسج لحمة موسوعة «إحياء علوم الدين» التي كادت أن تكون قرىنا، وتجعل منه نبيا؟ !!! أم هو الغزالي الفقيه والأصولي مؤلف «المستصفى من علم الأصول» و«المنخول من تعليقات علم الأصول»؟ أم هو الغزالي المنطقي مؤلف «القسطاس المستقيم» و«معيار العلم» وهلم جرا، أم هو الغزالي المناصر القوي للعقل الذي جعل من يراعه معول هدم و نقض وتفنيد للأطروحة الباطنية الإسماعيلية في «فضائح الباطنية»، إلخ.

وإذا كان الغزالي واحدا، فلماذا ناهض فقهاء الأندلس كتابه المعنون بـ«إحياء علوم الدين» وقضوا بإحراقه كما أفتى بذلك قاضي قرطبة محمد بن علي بن ع العزيز بن حمدين التغليبي ، بينما دافع عنه البعض الآخر، حتى قيل “كاد الإحياء أن يكون قرآنا”. وكأني بكتاب الإحياء ليس كتابا واحدا، بل كتابين اثنين لا يتماثلان، بل يتغايران: كتاب «إحياء علوم الدين» المحروق أيام المرابطين، وكتاب «إحياء علوم الدين» المتجدد والمنبعث من حريق رماده ـ بالمعنى الحقيقي والمجازي معا ـ كطائر الفينق أيام الموحدين . فكيف قيض للقراءة المغرضة التي تشبه مقص «سرير بروكست»، أن تلاحق المؤلفات الغزالية إلى هذه الدرجة التي تكاد أن لا تصدق.

إن هجوم الغزالي على الفلاسفة في سطور كتاب «تهافت الفلاسفة»، أو على الأصح «تهافت التعليمية» – كما كان ينبغي له أن يسمى- لم يمنعه من أن يكون فيلسوفا كبيرا في المساحة البيضاء الكائنة بين هذه السطور ذاتها. “فالتهافت هو تهافت للفلاسفة وليس للفلسفة” . ومع ذلك فموقف الغزالي من الفلسفة لم يسلم بدوره من التنازع، أو الأخذ والرد بين الباحثين. وقد ميز سعيد بنسعيد العلوي بين مستويين متضادين أو متناقضين في موقف الغزالي من الفلسفة: مستوى التعامل الإيديولوجي حيث كان الغزالي “صادقا في أشعريته بهذا المعنى الذي كانت الأولوية فيه للمعركة الكلامية ضد الباطنية، ولكنه لم يكن صادقا في هجمته على الفلسفة ـ ولكنه لم يكن يمتلك الاختيار في الواقع” . ومستوى «التعامل الفعلي أو الإيجابي» حيث يظل الغزالي “يلهج بالحمد والثناء على الفلاسفة والحكماء حتى في المؤلفات التي توحي بخلاف ذلك… ونحن نريد أن ننتبه هنا إلى نغمة الاحترام الضمنية التي يتحدث بها الغزالي عن الفلاسفة”.

وكأني بأبي حامد الغزالي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أشبه بتمثال «جانوس» المشهور من خلال موقفه المزدوج من الفلسفة. والنتيجة التي يتأدى إليها سعيد بنسعيد العلوي واضحة كما هو لائح من قوله بأن الغزالي “فيلسوف كبير بالمعنى الذي تنطبق فيه صفة الفيلسوف على المفكر الإسلامي في العصر الوسيط” . ولا يخفى على القارئ اللبيب والملاحظ الحصيف والفطن أن هذه الخلاصة الرزينة تقدر فيلسوفنا الغزالي حق قدره وتأبى المفاضلة الزائفة بين فلاسفتنا المسلمين، لأنها تستحضر «الإبستيمي الوسطوي»، وتحتاط من الحديث عن «الفلاسفة المحضاض»، و«العقلاء الأقحاح» الذين لم «ينجبهم» العصر الكلاسيكي، حتى وإن كان لسان بعض الباحثين المعاصرين «طليقا» في الحديث عن «لا عقلانية» الغزالي مقابل «عقلانية» الفلاسفة الآخرين، كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وكأن هؤلاء الأخيرين لم ينتظموا في سلك هذا العصر، وفي هذا ظلم وتضليل. فسواء تعلق الأمر بابن سينا أو الغزالي، فإن “كليهما يظلان خاضعين كليا للأطر الفكرية والمعجم اللفظي ومناهج التأليف التي كانت قد بلورت إلى حد كبير في القرن الرابع الهجري. إنهما لم يستطيعا الخروج عليها على الرغم من إبداعهما وعبقريتهما … وبالتالي فإنهما يهيمنان على الفكر الكلاسيكي بواسطة اتساع القدرة التركيبية أو الجمعية المتجلية في أعمالهما، أكثر مما يهيمنان بواسطة التغيير الجذري والحاسم لشروط ممارسة الفكر العربي- الإسلامي في تلك الحقبة من التاريخ، فهما لم يغيرا هذه الشروط” .

ولذلك، فلا يمكن أن نكون منصفين إذا لم «نضع الشيء موضعه»، وهو معنى العدل عند القدماء، ولا يمكن أن نكون أقرب إلى جادة الحق أو أدنى إلى الصواب، إذا لم نحد الحدود لحديثنا عن عقلانية الفلسفة في العصر الكلاسيكي أو «الإبستيمي الوسطوي»، “فنحن نميل إلى فهم اللغة التي تتحدث بها على الصعيد العقلاني فقط، أي على الصعيد الذي تزعم أنها تتموضع فيه. هذا في حين أنها تظل متضامنة إن لم يكن مع الفكر الديني، فعلى الأقل مع الحساسية الدينية” . وما نخال أن «وات «Watt يجانب الصواب، أو يبتعد عن جادة الحق عندما يرى أنه “يمكن القول بأن الأفكار اليونانية دخلت المجال الفكري للمسلمين خلال موجتين: الموجة الأولى مرتبطة بالتراجم الأولى، وتمتد تقريبا خلال القرن العباسي، وربما شيئا ما خلال القرن الثاني. الموجة الثانية مرتبطة بأعمال الغزالي تقريبا خلال 1100. لقد دخلت الأفكار اليونانية إلى التيار الرئيسي في الفكر الإسلامي خاصة خلال هاتين المرحلتين، ولكن بجانب هذا التيار الرئيسي، كان هناك تيار جانبي حيث كانت دراسة الفلسفة و العلم اليونانيين بشكل أقوى”.

إن الغزالي فيلسوف كبير كبر ردوده على الفلاسفة، وبمقدار حجمها. فقد نكس أعلامهم، وبين تهافتهم في الكثير من القضايا الميتافيزيقية، وأنزلهم من أبراجهم العاجية، ولا سيما في مجال الإلهيات. فهو عاشق للفلسفة وكاره للفلاسفة، دافع عن المنطق حتى لا يستأثر به الفلاسفة، فأدخله إلى صلب علوم الدين قائلا: “لا ادعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية و الطبيعية والفقهية والكلامية. وكل علم حقيقي غير وصفي، فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين. و كيف لا وهو القسطاس المستقيم” . وهذا ما يجعل الاضطراب يطبع أحكام المعاصرين على الغزالي. “والحق أن أبا حامد متأرجح في موقفه من الفلسفة، فهو في عدائه للفلاسفة يأتي في طليعة الفئة الأولى. وهو في تمييزه بين علوم الفلاسفة وأخذه بالمنطق منها معدود بين أصحاب الفئة الثانية. ولو تعدينا المستوى الظاهر من خطابه، وحتى خطاب الرد على الفلاسفة، لو تعدينا فعلا ما يقوله ويخبر عنه الخطاب إلى ما لا يقوله ويعلنه، أي إلى نظامه وبنيته وكيفية إنتاجه، لوجدنا الغزالي فيلسوفا وإن مرغما ولعددناه إذن مع الفئة الثالثة” . والحق أن الجانب المنطقي لدى الغزالي مازال تراثا بكرا لم يلق ما يستحقه من العناية المطلوبة إلى حد الآن، كما ينبه إلى ذلك عبد الأمير الأعسم، وهو بصدد الحديث عن نص “الحدود” الذي يشكل الكتاب الرابع من كتاب «معيار العلم«. “هذا مع العلم أن الكتاب لم يلاق من عناية الباحثين الأوربيين الكثير، منذ أن قدم آسين بلاثيوس ترجمة لقطعة منه إلى الاسبانية، فقد نبه إلى العناية بمنطق الغزالي المنقول إلى اللاتينية في أوربا الوسيطة، التي اهتمت بمنطق “مقاصد الفلاسفة”. ومن هنا جاءت أحكام ريشر مبتسرة في تقويم منطق الغزالي على العموم، أكثر من “معيار العلم نفسه بوجه خاص. لكن ذلك كله لا يمنع من انفراج الدراسات الغزالية بالاستناد إلى جملة الاهتمام الأوربي بمنطق الغزالي اللاتيني، وغيره في دراسة أكاديمية رصينة نحن في أمس الحاجة إليها في جامعاتنا العربية، للكشف عن هذا التيار القوي المؤثر للغزالي في الفلسفة الوسيطة عموما ومنطقها بوجه خاص”.

لقد حارب الغزالي الفلاسفة بأسلحتهم، وتمرس بإشكالياتهم في المعركة الفلسفية المشهورة باسم «تهافت الفلاسفة». “والغزالي (1111 م)، برغم حملته العنيفة على الفلسفة والفلاسفة، فيلسوف وفيلسوف واضح دقيق. وفي فلسفته آثار فارابية لا يمكن تجاهلها” . بل إنه صارع الفلاسفة، “حتى بدا فيلسوفا أحيانا أكثر من الفلاسفة” ، والأكثر من ذلك،”كانت الروح الإنتقادية عند الغزالي أقوى منها عند الفارابي”، فكيف يمكن أن يظل في منأى عن أفكارهم وتأثيرهم في كتابه تهافت الفلاسفة، بل وكذلك في كتابه مقاصد الفلاسفة الذي لم يفرط فيه بأصالته؟ا “[…] و هذا الذي نقرره يؤكد دائما أصالة الغزالي في قراءاته الفلسفية بلا أدنى ريب، كما نلاحظه دائما في عمله الاستثنائي الممتاز “مقاصد الفلاسفة” . فالغزالي لم ينج من الاقتباس المطول والنقل المباشر أحيانا عن الفلاسفة، كما فعل في كتاب “الحدود” ـ المتضمن في كتاب معيار العلم ـ الذي اقتفى فيه أثر ابن سينا إلى حد المطابقة التي ” تكشف باستمرار عند متتبعها عن النقل المباشر عن ابن سينا من جهة والكيفية التي طور بها الغزالي تلك النصوص أحيانا، من جهة أخرى. وهذا كله بفصح عن أن الغزالي عد ابن سينا ممثل الفلاسفة أجمعين، فحيث خالفهم فإنه يخالف ابن سينا، وحيث أقر أقوالهم فإنه يوافق ابن سينا. وهنا يجب أن ندرك المغزى في إقرار نظرية التعريف السينوية عند الغزالي فهو مغزى كبير له دلالته في سياق ما سبق لنا أن قررناه من أن المنطق لا يتضمن أصلا مخالفات عقائدية بين الفلاسفة وممثلهم هنا ابن سينا، وبين الغزالي. لأجل كل ذلك لم يتعرض الغزالي لنقد المنطق وتزييفه، بقدر ما وضع له أهمية جليلة في العملية الفكرية لأن الأفكار تفسد إن لم ترتكز على المنطق، ولأنه مهذب لطرق الاستدلال. وهذا كله يدل على أن الغزالي وافق الفلاسفة، وابن سينا بالذات، في موضوعات المنطق… وهذا ما يكشف عن القدرة الفائقة للغزالي ونفاذ بصيرته في مراجعة أقوال الفلاسفة ليس نقلا آليا بل تمحيصا وتدقيقا”.

وكما حارب الغزالي الفلاسفة بأسلحتهم، وتمرس بإشكالياتهم في المعركة الفلسفية المشهورة باسم «تهافت الفلاسفة»، كما قلنا آنفا، فقد حارب كذلك المعتزلة بأسلحة عقلية ونقلية في المعركة الكلامية المشهورة باسم «الاقتصاد في الاعتقاد»، فكيف يمكنه أن يسلم من تأثير عقلانيتهم كذلك؟ا “إذ من نازل عدوا عظيما في معركته فهو مربوط به مقيد بشروط القتال وتقلب أحواله، ويلزمه أن يلاحق عدوه في حركاته وسكناته وقيامه و قعوده، وربما تؤثر فيه روح العدو وحيله. كذلك في معركة الأفكار أيضا. وفي الجملة، فللعدو تأثير في تكوين الأفكار ليس بأقل من تأثير الحليف فيه، حتى إن بعض الحنابلة قد شكا أن أصحابه انقطعوا إلى الرد على الملحدين انقطاعا أداهم أنفسهم إلى الإلحاد” .

فقد ظل فكر هذا الرجل “مشوبا” و”ملطخا” بفلسفة الغير التي انتقدها، وبقيت هناك جيوب فلسفية في نسق الغزالي رغم معارضته للفلاسفة، تماما مثلما يمكن الحديث عن ملامح “سينوية” في فكر ابن رشد. ” ومع ذلك فإننا نعتقد أن معارضة ابن رشد لابن سينا تظل معارضة استراتيجية…أما أن تبقى جيوب سينوية في نسق ابن رشد، فذلك أمر طبيعي لأن كل من يتصدى بالنقد لغيره لا بد أن تظل آثار من فلسفة هذا الغير في فكره مهما حاول أن يبتعد عنه ” . ودون أن يغرب عن بالنا اختلاط الكلام بالفلسفة مع الغزالي وبعده، نستطيع أن نقول بأنه برز اتجاه المتكلمين ـ المتفلسفين، فاختلطت مصطلحات المتكلمين بمصطلحات الفلاسفة إلى درجة بدت “مشاكل علم الكلام قد لبست ثوب الفلسفة، وتشبعت بما امتصته من جذورها، فصارت في جوهرها موضوعات تقرب في طرحها لأن تكون موضوعات فلسفية بحتة”.

فلا مندوحة لنا من تجاوز «المقول» إلى «اللامقول»، و«السواد» إلى «البياض»، و«السطور» إلى «ما بينها»، والبحث في المساحات البيضاء في نصوص القدماء، والمعاشرة الطويلة لأمهات الكتب الأخلاقية والسياسية الأشعرية حتى يتسنى لنا خلخلة الكثير من الأحكام المتهافتة. فقد آن الأوان لنضع لغة النفخ و التهويل التي آثرها بعض الباحثين في حديثهم عن موقف الأوائل من الفلسفة موضع هلالين، كما ينبهنا إلى ذلك سعيد بنسعيد العلوي في العديد من مؤلفاته. ويحاول المستشرق الإنجليزي «وات «Watt أن يوجز لنا بعض المنجزات التي حققها حجة الإسلام، فيتحدث في نص موجز دون أن يخل بالمعنى قائلا : “يمكن تلخيص منجزات الغزالي في ثلاثة عناوين: أولا : كان على الخصوص مسؤولا عن تحديد موقف الإسلام السني من الفلاسفة، عن طريق إبراز أن بعضا من المجالات الفلسفية يجب رفضها كليا، بينما البعض الآخر منها كالمنطق، يمكن أن تكون وصيفات نافعات للكلام. ثانيا: ساهم في الفشل الفكري للإسماعيلية. ثالثا: قدم خدمة هامة لإعطاء الصوفية مكانتها داخل الإسلام السني”.

وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الفعل والانفعال، والتأثير والتأثر، بين العلوم الدينية والعلوم الفلسفية. ونحن نعتقد جازمين بأن حجة الإسلام يدين بدين لا يرد إلى الفلاسفة الذين كانت لهم أياد بيضاء على فكره، حتى وإن كان لسان صاحبنا الغزالي يقول غير ذلك. يقول محمد أركون: “لقد أدخل الموقف الفلسفي في الساحة الإسلامية نوعا من التوتر الفكري والتثقيفي، في مواجهة التيارات اللاهوتية و الإيمانية النقلية، ودخل في صراع معها. ولكن نتيجة الصراع كانت لصالح هذه التيارات التي انتصرت سوسيولوجيا في النهاية، (أي من حيث العدد والكم). إن تطور فكر الغزالي، وفخر الدين الرازي، وابن حزم، لأكبر دليل على اغتناء وخصوبة العلوم الدينية، إذا ما احتكت و تفاعلت بالعلوم العقلية” . ويكفي فيلسوفنا العظيم خلودا واستمرارية و حضورا وراهنية أن العقلانية المعاصرة تشهد له بشهادة «أهل الدار»، ولا تشهد لابن رشد الذي نسج معه لحمة«مناظراته» التي أغنت «تهافت الفلاسفة» بـ«تهافت التهافت». “لقد أضحت «عقلانية» اليوم مرنة للغاية، ولم يعد للبرهان والعلية والضرورة والذاتية والعقل الواحد، تلك القيمة التي كانت لها من قبل… فعصرنا الحالي هو أقرب ما يكون إلى الغزالي و ابن سينا، أو ابن عربي منه إلى ابن رشد”.

وقد يكون من التعسف غير المطاق في تاريخ الفلسفة أن نفصل العقلنة عن اللاعقلنة، أو نفاضل بين التيارين الفلسفيين، كما ينبه إلى ذلك محمد ألوزاد قائلا: “وحول دلالات الصراع أو المواجهة بين التيار الفيضي للفارابي ولابن سينا من جهة، وبين التيار العقلاني لابن باجة ولابن رشد من جهة أخرى، لا نملك ما يؤيد أية أطروحة، ولا نملك ما يؤيد، حتى في تاريخ الفلسفة، أن تيارا أفضل من تيار. فتجربة البحث الفلسفي في تاريخ الفلسفة، تكشف لنا أن العقلنة نفسها تختفي وراء اللاعقلنة، وأن شيوع تيار معين لا يلغي التيار الذي سبقه وبني على نقده. فلا يمكن مثلا أن نرجح أرسطو على أفلاطون في تاريخ الفلسفة. لا شك أن الأفلاطونية لعبت دورا هاما، فالكثيرون لا يعرفون أن ديكارت أفلاطوني، إنه إنتقام لأفلاطون على أرسطو الذي هيمن على العصر الوسيط، فجاء ديكارت ليعيد الاعتبار لأفلاطون، فكانت الحداثة الفلسفية. إذن، جاءت الحداثة عن طريق “الأفلاطونية”. فلو نظرنا إلى هذه المسألة من منظور العقلاني واللاعقلاني لما كان الأمر مستساغا. ففي تاريخ الفلسفة، من الصعب جدا أن نضع أنفسنا في موقع تفضيلي أو ترجيحي لاتجاه بعينه على حساب غيره من الاتجاهات. هناك معايير أخرى أكثر علمية من هذه”.

إن بين موقف الغزالي من الفلاسفة في «المنقذ من الضلال» وموقفه منهم في «ميزان العمل» بون شاسع لا ينكره إلا مباهت، واختلاف واسع لا يجحده إلا مكابر. فإذا كان الغزالي قد سلق الفلاسفة بألسنة حداد، واشتد كلامه في الطعن فيهم في «المنقذ من الضلال»، لدرجة أنه تعدى حد الإنصاف كله، فإن هذا العداء للفلاسفة تقل حرارته في كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد»، وتزداد هذه الحرارة انخفاضا في كتاب «ميزان العمل» الذي يتحدث فيه بكلام ودي عن الفلاسفة، نورد منه قوله مثلا: “الناس في أمر الآخرة أربع فرق. فرقة اعتقدت الحشر والنشر والجنة والنار كما نطقت به الشرائع، وأفصح عن وصفه القرآن … وهؤلاء هم المسلمون كافة، بل المتتبعون للأنبياء على الأكثر من اليهود والنصارى. وفرقة ثانية وهم بعض الإلهيين الإسلاميين من الفلاسفة اعترفوا بنوع من اللذة لا تخطر على قلب بشر كيفيتها، وسموها لذة عقلية. وأما الحسيات فأنكروا وجودها من خارج، ولكن أثبتوها عن طريق التخيل في حالة النوم، ولكن النوم يتكدر بالتنبه … وهذا لا يفضي إلى أمر يوجب فتورا في الطلب … وفرقة ثالثة ذهبوا إلى إنكار اللذة الحسية جملة بطريق الحقيقة والخيال، وزعموا أن التخيل لا يحصل إلا بآلات جسمانية، والموت يقطع العلاقة بين النفس والبدن الذي هو آلته في التخييل وسائر الإحساسات، ولا يعود قط إلى تدبير البدن بعد أن اطرحه، فلا يبقى له إلا آلام ولذات ليست حسية، ولكنها أعظم من الحسية … وهذا أيضا إذا صح فلا يوجب فتورا في الطلب، بل يوجب زيادة الجد، وإلى هذا ذهبت الصوفية والإلهيون من الفلاسفة من عند آخرهم … وفرقة رابعة وهم جماهير من الحمقى لا يعرفون بأسمائهم، ولا يعدون في زمرة النظار، ذهبوا إلى أن الموت عدم محض … وهؤلاء لا يحل تسميتهم فرقة، فإن الفرقة عبارة عن جمع، وليس هذا مذهب جمع، ولا منسوبا إلى ناظر معروف، بل هو معتقد أحمق بطال غلبت علبه شهوته” . أما في معرض شروعه في الإبانة عن سبيل السعادة، فإنه يتحدث عن الفلاسفة بمعية الصوفية قائلا : “والصوفية والفلاسفة الذين آمنوا بالله واليوم الآخر على الجملة، وإن اختلفوا في الكيفية، كلهم متفقون على أن السعادة في العلم والعبادة”.

لقد عملت بعض الدراسات الفلسفية المعاصرة على التخفيف من تكفير الغزالي للفلاسفة، مستندة على بعض المدونات التي صنفها حجة الاسلام، مثل رسالة قانون التأويل، وكتاب فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة، وغيرها من الكتب الأخرى التي تتلالأ على أديمها بعض ملامح جمال التسامح والقبول بالآخر المخالف والمختلف. “صورة غير قاتمة دينيا للفيلسوف الإلهي في كتابات الغزالي. فهي تعدل من حكم التكفير الذي صدر في حق الفيلسوف، وتقلص مواضع الخصومة الدينية ـ لا الفكرية ـ معه، وتخفف من حكم العداء الذي تعودنا أن نلحقه بالغزالي في موقفه من الفلاسفة في كتاب التهافت . هذا الموقف الذي يرشح بالتردد الشرعي أمام هؤلاء حين يستخدم في حقهم مقولة التكفير، فيخرجهم من الملة وجماعة الأمة، ومقولة التبديع فيبقيهم في الملة وجماعة الأمة. ومعلوم دينيا أنه لا يمكن الحكم على أحد بالكفر ثم تبديعه، أو تبديعه والحكم عليه بالكفر. فالجمع بينهما نقيضة تعبر في نظرنا عن الوضع الملتبس للفيلسوف في الوعي الديني للغزالي. وبالإمكان أن نقول، اعتبارا لهذه النقيضة وللقيود التي طالت التكفير بمسألة حشر الأجساد وعلم الله بالجزئيات وللحديث الذي أورده الغزالي ليجعل صنفا من الزنادقة إحدى فرق الأمة، أن الغزالي لا يكفر الفلاسفة في الحقيقة، وأن حكمه في حقهم مصدره اللسان لا الجنان، وأنه اضطر لذلك لجنس القول في التهافت، وهو الكلام. كما اضطر إليه ليقر منطوق الشريعة ويحول دون إسقاط أحكامها” .
وقصارى القول: إن الغزالي يحب الفلسفة بمقدار ما يحرق الأرم على الفلاسفة، وإذا كان الغزالي قد شكل برزخ التأويلات المتنازعة، فذلك يرجع إلى كونه كان ينهل من منابع مختلفة، ويغترف من صحون متعددة. وهذا ما يفسر كونه يند عن التصنيف. ولذلك فلا مندوحة لنا من دراسة المتن الغزالي المترامي الأطراف من ألفه إلى يائه، حتى تقبل قراءتنا وتستساغ أحكامنا ولا نشتط في تأويلاتنا، خاصة أن النصوص الغزاية كالنهر الهيرقليطي في تدفق مستمر، ننساق معها بالرغم منا. ومع ذلك فلابد لنا كباحثين أن تكون لدينا القدرة على السيطرة أو الكلمة الأخيرة. وبعبارة أخرى: أن تكون الأنا العلمية هي المتحكمة حتى لا نشتط في تأويلاتنا. وتحضرني هنا بعض الشروط التي اشترطها عبد الله العروي لكل قراءة مستساغة، والتي عبر عنها بقوله: ” كل قراءة مقبولة ولكن بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن نحاول فهم الكلمات فهما تاريخيا، لأنه من الصعب أن نصل إلى رأي قطعي و أن نجزم أننا فهمنا الغزالي مثلا كما فهم هو نفسه. ولكن على الأقل يجب أن نعطي الدليل على أننا حاولنا فهم جمله و كلماته على وجهها القاموسي. بعد هذا لنا حق التأويل، و أما التأويل المبني على الجهل أو إلغاء أوليات القراءة فهو مردود.

الشرط الثاني: أن نفصل بين القراءة و التأويل. إذا بدأنا بالتأويل و قرأنا المؤلف على ضوء ذلك التأويل فإننا نتكلم عن مؤلف آخر غير الذي ندرسه.

الشرط الثالث: أن نكون على استعداد للتخلي عن رأينا إذا تبين أننا أخطأنا القراءة…”.

فالغزالي مفكر أشعري مجدد، يمثل الحلقة الأقوى في سلسلة المفكرين المسلمين الكبار، ولذلك فليس غريبا أن يفتتح «وات «Wat كتابه «المثقف المسلم Muslim Intellectual » بالإشارة إلى المكانة الجليلة التي يتبوأها الغزالي قائلا “تعطى للغزالي مكانة أعظم مسلم بعد محمد، وفعلا، فهو واحد من العظماء” . إن الرحلة التي قام بها هذا المستشرق الانجليزي في كتابه السابق تشبه الرحلة البحرية التي قام بها فرناند ماجلان F. Magellan حول العالم في عهد الكشوفات الجغرافية، فقد انطلق ماجلان بمعية رفاقه البحارة من البرتغال نحو الغرب، وعادوا إلى نقطة انطلاقهم الجغرافية. وهو عين ما قام به «وات «Wattعندما انطلق من النص الآنف الذكر في الصفحة الأولى من كتابه «المثقف المسلم Muslim Intellectual » ليعود إلى نقطة انطلاقه في الصفحة الأخيرة من عين الكتاب ويكرر القول: “الغزالي نفسه كان يظن أنه مجدد الدين خلال القرن السادس الإسلامي، والكثير من المسلمين الأواخر وربما جلهم، اعتبروا أنه كان فعلا مجدد عصره، والبعض منهم ذهب إلى حد الحديث عنه كأعظم مسلم بعد محمد. عندما نراجع إنجازاته، يظهر جليا أنه كان نبيا أكثر منه مفكرا نسقيا، لكنه ليس نبيا فحسب، بل إن أحسن وصف له هو المفكر المتنبي” . وطبعا بين هذا القول الذي ذيل به «وات «Wat كتابه، وذاك الذي استهله به رغم تماثلهما، أطواد من الأمواج المتلاطمة، وتجشم لعناء تمحيص مؤلفات حجة الإسلام، وتطويل للأنفس، وتقليب للنظر.