مجلة حكمة

العنف الرمزي في القياس والتقويم – عبدالرحمن الشقير


أنشئ المركز الوطني للقياس والتقويم عام ١٤٢١هـ، بهدف أن يكون من ضمن متطلبات القبول بالجامعات إجراء اختبارات تكون نتيجتها معياراً يستخدم إلى جانب معيار الثانوية العامة، ويتضمن نوعين من الاختبارات هما: اختبار القدرات العامة، ويقيس القدرات التحليلية والاستدلالية، وهو موجه لجميع الطلبة الذين يرغبون في الدراسة الجامعية والدراسات العليا، والاختبار الثاني: التحصيلي الدراسي، ويقيس مستوى المعرفة المتحصل عليها من المدرسة، وهو مخصص لطلاب وطالبات الثانوية العامة بوصفه شرطاً لدخول الجامعة، وذلك بهدف تحسين جودة مخرجات التعليم العام، ولتهيئة الطالب للجامعة ولمساعدته على التخصص المناسب له.

وبمراجعة نشاطات المركز اتضح لي أنه من أفضل المراكز لبناء معايير عادلة تضمن تحقيق التوازن بين درجات الطالب في الثانوية العامة مع مستواه الحقيقي، ويعمل المركز بمهنية وواقعية تناسب إمكاناته ووضع التعليم العام، وقد بدأ المركز باختبارات قياس القدرات وقياس التحصيل لطلاب وطالبات الثانوية العامة، وتوسع فيما بعد ليشمل اختبارات للمعلمين والمهندسين واللغة الإنجليزية.

وقد لاحظت على اختبارات القدرات والتحصيلي عنفاً رمزياً متخفياً أضر بفئة كبيرة من الطلاب والطالبات دون قصد من قياس ودون وعي بهذا العنف الرمزي من الطلاب. وأقصد بالعنف الرمزي المعنى الذي قصده بيير بورديو، وهو عالم اجتماع فرنسي معروف، هو إضفاء طابع الحيادية والشفافية وسن الأنظمة الديموقراطية التي تكفل حق المساواة للجميع، ثم اقتناع جميع الأطراف بالواقع بوصفه شيئاً طبيعياً، وأن نتائجه طبيعية، وعدم الانتباه للعنف الرمزي المتخفي داخل عمليات الاختبار ونتائجه، وهم في هذه الحالة الطالب المتفوق والطالب المخفق ومركز قياس، والمسئولون عن الاختبارات.

وبدراسة واقع قياس وهي المؤسسة التعليمية المخولة لإجراء الاختبارات نجد أن نظامها يتمتع بشفافية، وتمنح الحق للجميع في اختيار مكان الاختبار وتاريخه، وتصحح الإجابات آلياً، مما يعطي الانطباع بالارتياح بعدم وجود محاباة أو تدخل بشري.

وقد سجلت ثلاث حالات عنف رمزي ممنهجة، وهي ما يلي:

الملاحظة الأولى: التفوق الطبقي

العنف الرمزي الأول والأهم في اختبارات قياس يكمن في أن الأسئلة موجهة للطبقة الوسطى، وهمشت الطبقة الدنيا، مما باعد المسافة بين فرص الفقراء في دخول التخصصات العلمية أو التفوق في التخصصات الأدبية. وهذا بسبب أن الأساتذة الذين وضعوا أسئلة الاختبارات متخصصين وصفهم موقع مركز قياس بأنه: “يستقطب المركز في كل عام من مختلف مناطق المملكة، عدداً من المؤهلين في مجالات الاختبارات من العاملين في مجال التعليم العام والجامعي”، وهؤلاء هم من أساتذة الجامعات غالباً، وأبناء الطبقة الوسطى العليا من الدكاترة والتربويين والأطباء والمهندسين … معتادون على الكلمات والمفاهيم والصور التي ترد في اختبارات قياس؛ نظراً لمعرفة والديهم أو أحدهما بها، واعتادت عليها عيونهم وآذانهم، أما أبناء الطبقة الفقيرة، فهم غالباً ينتمون لأبوين شبه أميين، ولم يعتادوا على سماع الكلمات التعليمية المتداولة بين أبناء الطبقة الوسطى ولم يعتادوا على رؤية الصور والأشكال التعليمية.

وجوهر نظرية العنف الرمزي عند بورديو تتمثل في أن العملية التربوية النظامية تعد عنفاً رمزياً، ولكن فيما يخص هذه المقالة سأتوقف عند التفوق الطبقي، وهي تقوم على أن ثقافة الطبقة الاجتماعية هي التي تهيمن على العملية التعليمية، وليس المقرر والأستاذ، وملخصها هو أن تجري المؤسسة التعليمية نظاماً تربوياً وتعليمياً ديموقراطياً ينطبق على الجميع، وفي داخل القاعة الدراسية يوجد طلاب لديهم رأس مال ثقافي مرتفع ورثوه من أسرتهم، ويتمثل في الحوارات الأسرية، والدروس الخصوصية، والسفر، وزيارة المتاحف والأماكن الراقية، مما يجعل الطالب يملك مخزوناً ثقافياً يجعله واثقاً من نفسه، ومتحدثاً بطلاقة، فيتوهم المعلم بأن هذا الطالب موهوب بالفطرة، ويمنحه الشرعية بالثناء عليه بعبارات التشجيع، ثم يسود انطباع عام بأن الطالب الذي يملك رأس مال ثقافي ذكي وموهوب، وتصرفاته صحيحة، والطالب الذي لا يملك رأس مال ثقافي بسبب فقر أسرته ثقافياً، يقتنع بوضعه المتدني ثقافياً وتعليمياً. في حين أن هذا غير صحيح واقعياً.

وقد أجرى باحثون دراسات ميدانية، إذ أحضروا مجموعة صور ومجموعة كلمات من المقررات وطلبوا من الطلاب ذوي الطبقة المتوسطة أو البرجوازية، وهم الذين آباؤهم دكاترة ومحامين وأطباء ومدراء عموم ومن في حكمهم، أن يتعرفوا عليها، ووجد نسبة عالية من الطلاب سبق لهم أن رأوا الصور، وسمعوا بالكلمات، مما جعلها سهلة عليهم أثناء المناقشة في القاعة الدراسية، في حين وجد نسبة منخفضة من الطلاب الفقراء والذين آباؤهم لم يزودوهم بثقافة كبيرة ولا بدروس خصوصية، لم يتعرفوا على الصور، ولم يسمعوا بالكلمات، وهذا ما جعلها شاقة عليهم، ثم اقتناعهم بأنهم كسالى، وأن المتفوقين أذكياء.

وقد قمت بإجراء هذه التجربة، بشكل مصغر، على عينة عمدية مكونة من خمسة طلاب ينتمون لطبقة فقيرة وخمسة طلاب ينتمون لطبقة متوسطة عليا، وتعمدت أن يكونوا أبناء أساتذة جامعات، إذ عرضت على كل منهم عدد من الكلمات والأشكال من اختبار القدرات العامة، واخترت من الاختبار اللفظي معنى كلمة مترعة، ومن قسم التناظر اللفظي (وفكرته هي إيراد كلمتان تشتركان في سمة محددة، ويقابله أربع كلمات بحيث تكون واحدة منها هي الصحيحة) أخذت مثال: غابة: أشجار، وما يناظرها من كلمات متشابهة وهي: مدرسة/ فصول، وأعمدة/ شارع، وهدوء/ ليل، وزهور/ ورود؛ ومن الاختبار الكمي سألتهم: ما العدد الذي إذا قسمته على ٧، ثم قسمته على ٧، كان الناتج ١،كما أطلعتهم على نماذج من الأشكال وهو: أجزاء المربع، وأطلعتهم على اختيارات الإجابة من متعدد، ثم سألت كل طالب قابلته سؤالاً واحداً، وهو: هل سبق أن سمعت هذه الكلمات، ورأيت هذه الأشكال؟، ولاحظت أن غالبية الكلمات والأشكال مألوفة لدى أبناء الطبقة الوسطى العليا من الأكاديميين والأطباء…، ووجود ارتياح لديهم وعدم ارتباك أو الشعور بالحرج وهم يبدون جهلهم ببقية الكلمات والأشكال، في حين شعر أبناء الفقراء بالخجل وعدم الثقة بالنفس لعدم تعرفهم على أكثر الكلمات والأشكال، كما عرضتها على آباء الفقراء فأبدوا دهشتهم من الكلمات لعدم سماعهم بها من قبل، وهذا ما يوقعهم، بحسب تعبير بورديو، في تحقير ذاتي ممنهج، وذلك لأن فرض وجهة نظر الطبقة الوسطى العليا المهيمنة على الإنتاج المعرفي في التعليم وفي قياس، جعلها تبدو وكأنها طبيعية وأنها هي الفكر السائد في المجتمع، ولهذا نجد التعليم يعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال، ونجد إصلاحاته وتطويره ما تزال موجهة لمشكلات سطحية وعامة.

الملاحظة الثانية: مخاتلة أسلوب التصحيح

يتبع مركز قياس أسلوب تصحيح مختلف عن الأسلوب التقليدي القائم على مئة درجة، وتقوم فكرة التصحيح، بحسب موقع قياس، على: “احتساب الانحراف المعياري والمتوسط لجميع الاختبارات لجميع الطلاب والطالبات، وذلك بتثبيت المتوسط على ٦٥ درجة، والانحراف المعياري يقارب ١٠ درجات”، ويفسر كتاب “الطالب التدريبي”: “الدرجات وفق مفاهيم المنحنى الاعتدالي الطبيعي، فالطالب الذي يحصل على ٦٥ درجة يكون أداؤه أفضل من أداء ٥٠٪ من أقرانه…”، وهذا يعني مقارنة مستوى الطالب بقدرات من اختبر معه في المكان نفسه وفي اليوم نفسه، ومن ثم فإن المركز يجمع جميع الإجابات من كل محافظة على حدة، ثم يستخرج المتوسط العام والانحراف المعياري المعتمد، وهذا الأسلوب عادل في ظاهره، لأنه يراعي البيئة الجغرافية (مدن وأرياف)، والجنس (ذكر أنثى)، والعام الدراسي.

وتكمن الملاحظة في أن مصير درجة الطالب تكون في استراتيجيته أكثر مما هي في قدراته الفعلية، فالطالب الذي يختبر مع مجموعة طلاب ضعيفي المستوى سوف تكون درجاته أعلى مما لو اختبر مع مجموعة طلاب متميزين، حتى لو كانت إجاباته واحدة، ولو اتبع طالب استراتيجيات معينة مثل عدم دخول الاختبار المنعقد في الفصل الدراسي الأول، لأنه سيكون مليء بالطلاب المتميزين، وابتعد عن الاختبار في المدن الكبرى كالرياض وجدة والدمام لوجود طلاب متميزين فيها، واختبر في شوال مثلاً، واختار محافظة بعيدة عن المدن لوجود طلاب غير متميزين، فإن حظوظه في تجاوز الثمانين ستكون عالية، لأن تصحيح إجاباته سيكون مقارنة بمن اختبر معه.

وجانب العنف الرمزي في هذه الحالة، هو أن مركز قياس منح المصداقية والشرعية الممنهجة لاختباراته وأوجد مناخاً عاماً بأنها دقيقة وتعكس مستوى الطالب الحقيقي، وخاصة في القدرات العامة، ولذلك تقبل طلاب المحافظات المختبرون في بلدانهم البعيدة عن المدن الكبرى بأن مستواهم العلمي أقل من مستوى طلاب المدن بضمانة نتائج اختبار قياس، وينظرون لأنفسهم بأنهم أقل ذكاء وموهبة، وأن طلاب المدن أذكياء وموهوبون بطبيعة الحال، في حين أن هذا غير دقيق، وللتأكد من صحة هذه الفرضية اقترحت على عدد من طلاب المدن أن يجرون اختباراتهم في المحافظات ثم يقارنوا درجاتهم بدرجات زملائهم الذين اختبروا في الرياض، كما اقترحت على الطلاب الذين حصلوا على نتائج تزيد عن ستين درجة بأن يعيدوا اختبارهم في محافظة، وأعادوها وجاءت نتائجهم أكثر من ثمانين؛ وذلك لأن نظام التصحيح سوف يرفع من درجات نتائجهم.

وهذا قد يفسر سبب ضعف مخرجات الجامعات الناشئة، ومن زاوية اجتماعية، ممكن أن نفهم جزء من أسباب الصورة الذهنية السلبية لأبناء المحافظات والقرى لدى أبناء المدن الكبرى.

الملاحظة الثالثة: تكرار نماذج الأسئلة

كشفت نتائج القدرات والتحصيلي المنشورة على موقع قياس أن أعلى الدرجات في اختبارات التحصيلي والقدرات العامة تكون لصالح مدارس تحفيظ القرآن وعادة يحصدون المراكز الأولى على مستوى المحافظات والمناطق، على الرغم من أنها تمثل ٦٪ من مجموع المدارس الثانوية، وقد درس د. فهد الحسين هذه الظاهرة وعدها من مصادر تعزيز مصداقية النتائج، واستنتج من ذلك أن مدارس تحفيظ القرآن متميزة المناهج، وأن للقرآن الكريم أثراً عظيماً في نمو وتطوير القدرات العقلية، ولذلك يوصي بالتوسع في افتتاحها (مجلة المعرفة 5/5/1433 هـ).

وأنا لا أتفق مع الدكتور الحسين في استنتاجاته، والذي أراه أن نماذج الاختبارات محدودة وغالباً ما تتكرر، ولذلك يسهل حفظها، والحفظ هو المهارة الأكثر شهرة برأيي التي تميز مدارس تحفيظ القرآن، كما أنه أحد أهم مشكلات التعليم العام والعالي، وهذا يؤيد أن المركز يمكن اختراقه بأساليب التعليم بالتلقين والحفظ والاستظهار، مما يجعل اختبارات قياس تعيد إنتاج التعليم نفسه.

وتكمن الخطورة في رأيي أن كثيراً من مخرجات قيم التعليم بالتلقين والحفظ سوف تنعكس على تنظيمات الحكومة، إذ نجد أن التعيينات والترقيات تكاد تنحصر على المنجزات الحسية للمتخرج وتجعلها المعايير الوحيدة، مثل المرحلة الدراسية والتخصص وسنة التخرج والمعدل وسنوات الخبرة، دون أي اعتبار لمنجزات روح التعليم غير الحسية مثل المواهب الشخصية والمهارات الفردية من خلال الذكاءات المتعددة.

ومن متابعتي لمواقع منتديات اختبارات القياس لاحظت تركيز توصياتهم على الحفظ، يقول أحد المشاركين عن اختبار القدرات المحوسب: “تجميعات محوسب في الفيس، احفظها ولو ما تفهم بتجيك نصا. أنا عن نفسي حفظت النماذج وجتني كلها كاملة ونسبتي فوق ٩٥ نسخ ولصق”.

وبهذه الملاحظات الثلاث والتي تمثل عنفً رمزياً ممنهجاً، لا يمكن اعتبار العنف الرمزي مشكلة التعليم العام لوحده وليست مشكلة الجامعات لوحدها أيضاً، بل هي مشكلة يشترك فيها مؤسسات التعليم جميعاً، لكنها في حالة قياس أكثر وضوحاً، لأن من أهداف قياس الأساسية: سد الفجوة بين التعليم العام والتعليم الجامعي، وهي هنا تنقل المشكلة وتشرعنها وتعيد إنتاجها على شكل اختبار قدرات عامة ومراجعة لحصيلة الطالب، بشكل يجعلها تبدو كأنها حيادية.

إذن؛ فنظام قياس فيه جهد، والجهد المبذول فيه نفّذ بإخلاص، وله ثمرة طيبة، ولكنه حمل معه بذور الإخفاقات التي تكرست في التعليم العام، وانغرست في أسلوب إدارة البيئة التعليمية، حتى صارت طبيعة لاواعية في ذاكرة التعليم، وصار يعاد إنتاجها بأشكال مختلفة في قياس وفي سوق العمل وفي مفاضلات وزارة الخدمة المدنية، وانغرست في لاوعي المجتمع وللأسف، وأقترح مراجعة واقع قياس ومناهج التعليم بوصفها ظاهرة اجتماعية وليست تربوية بالضرورة.

 

 


المراجع

العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، بيير بورديو، ترجمة نظير جاهل، بيروت: المركز الثقافي العربي، ١٩٩٤، ط١.

الهيمنة الذكورية، بيير بورديو، ترجمة سلمان قعفراني، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٩، ط١.

دليل الطالب التدريبي لاختبارات القدرات العامة، من إصدارات المركز الوطني للقياس والتقويم، ١٤٣١هـ، ط٦.

موقع المركز الوطني للقياس والتقويم على الإنترنت

www.qiyas.sa

بعض المنتديات المهتمة باختبارات قياس.