مجلة حكمة
الدولة والكنيسة

العلمانية وليدة الفصل بين الدولة والكنيسة – اوليفييه روا

العلمانية و الفصل بين الدولة والكنيسة - اوليفييه روا
اوليفييه روا، عالم سياسة فرنسي                          الدولة والكنيسة

إن العلمانية في الغرب تشكلت أولا و قبل كل شيء على أساس مواجهة بين البابا والإمبراطور وبين الملك وروما بين الجمهورية والكنيسة أي بين مؤسستين، والمثال المعاكس الأمريكي ليس وحيدا: فضد منزلة الكنيسة الرسمية في ابريطانيا ثار الأباء المؤسسون للمراسيم الفاصلة بين الدولة والكنيسة وهو فصل لم يكن يعني إطلاقا الفصل  بين الدين والسياسة ( نظرا لأهمية الدين المدنية) وإنما كان ذلك الفصل على الطريقة الأمريكية كردة فعل على الإشكال الأوربي.

إن مسألة العلمانية في العالم الغربي ليست هي مسألة العلاقة بين الديني والدنيوي لأنه في العمق كل واحد من القضاءين يدعي القدسية، والعلمانية الفرنسية لم تستطع أن ترى النور في العالم الإسلامي نظرا لغياب محركين أساسين ولداها: دولة علمانية ومؤسسة دينية، فالاثنان في تنافس دائم ليس من أجل سلطة دنيوية ولكن بغية تراتبية دنيوية تبعا لفضاء مقدس وهو ما يفسر كون مصطفى كمال آتاتورك جلب إلى تركيا دولة يعقوبية بكامل معداتها الشرعية ( القومية والمدرسة و أسطورة الأمة الموحدة) وليس بحاجة إلا أن يقصي رجال الدين لأنهم لا يشكلون قطبا آخر للشرعية فهو يكتفي باستغلالهم ومن جهة أخرى، فإن الإحياء وإضفاء القداسة في الدولة الغربية كما رأينا لم يتم بمعزل عن تمسك الدولة بالقوام الديني كي تتأسس، فالقانون حينئذ قائم على الإرادة:  إرادة الله إرادة الأمير وإرادة الجسم السياسي، فالإرادة مهما كانت عامة أو خاصة فهي مقدسة والدولة في هذه الحالة حاملة لقيم: والقيم الجمهورية إيجابية. والنضال بين الدولة والكنيسة كان قويا (حتى إذا كانتا يتقاسمان نفس الإيمان) لأنهما يدعيان نفس الشرعية ونفس الفضاء وبناء المجتمع. وفي العمق ليست ثمة علمانية دون دولة قوية، و كما رأينا فإن  إعطاء مسحة قداسة على الدولة هو الذي مكن من ظهور فضاء علماني، فالبعد الديني شرط للعلمنة من خلال مرور إلى  العامل السياسي، وفي الإسلام ليست هناك كنيسة ولا تقديس للدولة، والنظام تعاقدي ليس بإرادة الشعب وإنما باعتباره محتملا فالسلطان أو الأمير يأخذ السلطة بقوة ويحتفظ بها في إطار تعاقد إلى حد ما علني بينه وبين العلماء ( طالما ظل يدافع عن الإسلام في الخارج ويدعي تطبيق الشرع في الداخل فهو شرعي) ـ فانتصاره أو انهزامه ليس إلا دليلا على التأييد أو اللامبالاة الإلهية. إن النظام ليس مثاليا أبدا ولا مقدسا وليس كذلك مصدرا للقوانين. إن الدولة في الإسلام كانت دوما ضعيفة ليس للاعتبارات التي قدمها موتسكيى ( استبداد رجل واحد) وإنما لأن المجتمع المدني استفاد من حماية عززها عاملان: العصبية والشريعة. فالسلطة القوية ليست بالضرورة مرادفة للدولة القوية.

لكننا إذا جمعنا بين الدولة والعلمانية فعلى الإسلام أن يمر بتجربة دولة عصرية قوية وليس بنظام استبدادي. و الديمقراطية لن تتأتى إلا حين تقوم دولة عصرية وفي هذا المعنى نتحدث دوما عن المثال التركي.

فالإسلام فاته قطار التاريخ  بالنسبة للكثيرين ويمكنه بتبني تربية قوية أن يقطع المراحل، وهو ما يبرر بعض أشكال الاستعمار ( المحميات مثلا) وتأييد أنظمة استبدادية علمانية ( الرئيس بن على في تونس) أو تدخلات عسكرية كانت نتيجتها وضع دولة ما تحت وصاية طويلة (العراق بعد التدخل الأمريكي 2003)[1]. إن النقاش قد انتقل من العلمنة إلى إشكالية الدولة، وليس في الأمر مثار للدهشة لأننا رأينا كيف أنه في التقاليد الأوربية وخاصة الفرنسية لا يمكن الفصل بين التفكير حول الديمقراطية العلمانية وبين إشكالية الدولة، هل لأن القوالب هي إنتاج تاريخ خاص ليس له قيم عالم أم لأنه يجب المرور بنفس الظروف التاريخية التي أنتجت العلمانية ( تعزيز العنف وسوء التفاهم) كي يتم تبنيها.

المخيال السياسي للإسلام:

هل هناك ثقافة سياسية مسلمة؟

بعيدون من أن نمثل استمرارا لأربعة عشر قرنا من التاريخ، نرى أن الرجوع  إلى الإسلام كان مطاطا ولا يشكل أي نموذج محدد سلفا ويتكيف مع الأنظمة السياسية المختلفة، ومع هذا فإن الرجوع التلقائي إلى ثقافة سياسية مسلمة يوحي بأنه قد يكون ثمة ثوابت وشكل تخيلي للسلطة يفرض بنية العلاقة التي يقيمها المسلم مع العامل السياسي والذي يجد اليوم صعوبة في الجمع بين نمط الدولة العصرية والديمقراطية، كيف نتخيل وقتئذ عودة العامل الديني إلا بشكل فوضوي؟ فالفوضوية تفترض ديمومة نمط من التفكير مكسو بالحداثة ولكنه يرجع كفائض يؤسس حقيقة هوية تبحث عن ذاتها، نحن نحاول دوما أن نعرف هذا الثابت الديني والمبدأ والعقلية والثقافة التي تفسر ردات الفعل المختلفة التي يقوم بها كل مجتمع على النظام الاجتماعي و الشكل السياسي والممارسة الاقتصادية والعلاقة بينه و الفضاء وتعريف الذات.

والمشكل يبقى دوما هو كيف يمكن للدين أن يمارس وظيفته في الاجتماعي والسياسي؟ كيف يمكنه تحديد سلوك منتسبيه؟ بالطبع يمكننا أن نفكر بلغة عقلية: فالمتدين   قد تملكته داخليا الضوابط التي بمقتضاها يرى أن ليس ثمة فرق بين الدولة والدين وهو إذن لم يصل إلى تكيف مع العلماني لكن لماذا تملكت صاحب الدين داخليا هذه الضوابط بعينها ولم  تتملكه آخرى؟ أي علاقة بين الوازع  والممارسة؟ هل تحريم الزنا في المسيحية أدى إلى انخفاض عدد الزناة في العالم المسيحي بالتأكيد لا، حتى ولو كان قد ساهم في إنشاء سوق من الإجرامية يتم تسيره في إطار تنوع كبير من الأجوبة والأدوات. فالضابط ليس إذن بريئا ولكنه لا يمارس  دوما وظيفته بصورة مباشرة.

إن الوازع الديني لا يقوم بدوه كوازع اجتماعي وسياسي إلا لأنه أعيدت صياغته وترجم في آليات تفترض كلها تدخل هيئات أخرى ( أنظمة أخرى من ضوابط): القانون، السكينة العامة وكذا أشكال من الدين تختلف بحسب الزمان والمكان. فالمبدأ الديني لا يوجد إلا من خلال إعادة القراءة  والتوظيف أي إعادة التدين.

لقد بينا في هذا الكتاب أنه بالنسبة إلينا كان الفاعل الأساسي لإقامة ما نسميه العلمانية هو النظام السياسي وليس المبدأ العقائدي فمن خلال العامل السياسي وجدت العلمانية طريقها إلى الوجود، وهو أمر ينطبق على الإسلام بينما كانت العلمانية تقوم على أساس تغيرات في أنماط المعتقد لدى المنتسبين إلى الدين.

فمن المهم إذن أن نرى كيف  أن مفاهيم دينية ستعبر عن نفسها  بعبارات اندماج في الكون ومشروع اجتماعي وعلاقة بالعلمانية والأرض.

 وما يهمنا ليس المبدأ العقائدي في حد ذاته وإنما في الصياغات التي قدم بها من حيث دمجه لصاحب المعتقد في الكون، وهذا الدمج ليس تجريديا، حتى ولو كان صاحب المعتقد يتوهم أنه يمتلك إيمانا ورؤية للخلاص صالحة لكل زمان ومكان فإنه من البديهي أن يعبر عنها في سياق معين، لا يمكننا فهم شيء مثلا من الخصومات الدينية خلال مرحلة ما من التاريخ (القرن الخامس والسادس عشر بالنسبة للمسيحية) إذا لم نعتبرها خصومات أبدية.

ويمكننا الحديث بالتأكيد عن مخيال سياسي إسلامي بمعنى نظريات تتردد عن السلطة لدى العلماء والمفكرين، لكن المدهش هو عدم الفاعلية، فهم لم يساهموا أبدا في تحديد نظام سياسي إلا إذا غادروا المجال القضائي إلى المجال الإيديولوجي( الخميني) وهي ظاهرة حديثة، فما يحدثه المبدأ العقدي ليس النظام  السياسي وإنما مخيالا سياسيا  يرتبط بشكل حتمي بالتفسير الذي نقوم به. و المخيال السياسي المهيمن اليوم سواء لدى الإسلاميين أو لدى الأصوليين الجدد هو نفس المخيال الذي كان  لدى النبي صلى الله عليه وسلم  ولكن هذا المخيال ليس نقلا للماضي(لماذا انتظر المسلمون كل هذه الفترة كي يروا بأن نمط الحاضرة المحمدية هو وحده الشرعي). إن تحيين الماضي هو كما كان دوما محاولة امتلاك شكل من العصرنة، فلنأخذ مثال الخلط الدائم بين الإسلاميين والأصولين الجدد[2] فبالنسبة للإسلاميين إعادة الأسلمة تمر عبر  الدولة وبالنسبة للأصوليين تمر عبر الورع الشخصي وهم مع هذا يتقاسمون نفس المخيال السياسي: وهو مبدأ أن المجتمع الإسلامي المثالي هو المجتمع الذي  كان أيام النبي. لكن هذه القوالب لا يتم توظيفها بشكل مباشر. فعدد من العلماء والمؤلفين الأكثر عصرنة خصصوا صفحات بأكملها لتحديد الشروط التي يجب تحققها كي نصبح خليفة لكن أي شخص لم يسع بشكل جدي إلى أن يغدو خليفة: فالموضوع تم أخذه من جديد من طرف حركات سياسية (كحزب التحرير، حزب شبه سري يوجد اليوم في لندن ويجد منتسبيه ضمن الشباب الإسلامي من الجيل الثاني) وفق منطق منبت الصلة بالقانون الإسلامي التقليدي ( خليفة حزب التحرير يتم اختياره من طرف الحزب نفسه وليس من طرف شخص ما: إن تصورا كهذا يجعل الحزب فاعلا سياسيا وريثا للماركسية)[3].

وفي الواقع إذا تمكنا من إعداد قائمة بما سيشكل قاعدة المخيال السياسي الإسلامي ( الخلافة عدم الفصل بين الدين والسياسة) سنرى أن هذه القوالب تستغل عبر توظيف  قضائي وإيديولوجي. فالمبدأ العقدي ليس له إطلاقا أثر مباشر على العامل السياسي فهو لا يستغل إلا إذا تمت إعادته وترجمته وتعريفه من جديد عبر إيديولوجية سياسية وفق إعداد قضائي وضمن أدوات للسلطة تعلق بوضعية سياسية محددة:  سنرى فيما بعد كيف أن الدولة الإسلامية هي أعداد إيديولوجي خاص بالقرن العشرين.

 لكن بعض المؤلفين كساميل هينتكتون ( والرأي السائد) يتصور علاقة ما  بين المبدأ العقدي النظام السياسي وهي  علاقة قد تأخذ بعدها المادي في الثقافة: الثقافة الإسلامية أو العربية الإسلامية. وخلاصة  القول أنه حتى إذا تصورنا أن المجتمع المسلم قد تمت صياغته تبعا لمسار من العلمنة فإن الإسلام لم يطبع ثقافتها السياسية ولا العقلية الفردية للفاعلين كما لم تتخل أوربا المعلمن نهائيا عن مسيحيتها. إن النظرة الشمولية للإسلام تستمر في إيديولوجية سياسية في الشرق الأوسط (حيث القومية  العربية ليست إلا علمنة للقومية الإسلامية). وصعوبة التفكير في مؤسسات سياسية مستقلة وتصور مواطن معزول عن روابطه القبلية أو عن محل انصهاره الفعلي مع المجموعة: كل هذا قد يكون مؤشرا على استمرار ثقافة عربية إسلامية رافضة لإقامة دولة عصرية.

لقد طرحنا منذ البداية سؤالا يتردد دوما: كيف يمكننا أن نقول بأن المبدأ العقدي هو الذي يحدد السلوك لدى أصحاب المبدأ؟ بالنسبة للأصوليين المتشددين الجواب فيما يبدو واضحا، فصاحب المعتقد نفسه هو الذي يقرر أن يضع تعاليم معقتده نصب عينيه وبالنسبة، للمسلم الاجتماعي الذي لا يحتاج إلى إبراز معتقده هناك لجوء إلى مفهوم الثقافة الذي يفترض أن يتم توظيفه من أجل تبيان كيف أن مجتمعا  ما قد يكون محكوما بالعامل الديني  دون أن يكون هذا الأخير باديا في أي مكان لا في القانون ولا في  المؤسسات.

 وفي النهاية فإن الثقافة يتم تصورها على أساس  أنها فاعل يمكن الدين من قولبة المجتمع وقولبة العقليات، إنه المفهوم الأساسي لإشكالية صدام الحضارات: والحضارات دينية في جوهرها حتى ولو كانت معلمنة، لا يمكننا الفلاة من الدين،  والثقافة هي الوسيط بين الدين والمجتمع: إنها هي ما يتبقى من الدين إذا تبخر الإيمان. العلمنة هي إذن استمرار للعامل الديني دون تقديس له وهو يتماشى وهذا الشكل المستعاد من المثالية الدينية ويتماشى مع التحاليل  التي نقدمها عادة عن علمانيتنا.

فنحن إذن أمام حالتين تحاصران الإسلام في شبه جزيرته: دين معلمن يجد تعبيره في الثقافة ودين أصولي يتم التعبير عنه في أشكال من الإلزامية السلطوية. فحتى ولو لم نكن لدينا معتقد فسنبقى مسلمون، فتخوش من الفئوية يتم تفهمه بسهولة، لأن المسلم الاجتماعي يغدو حينئذ بالضرورة قابلا لأي إحياء ديني للثقافة أو للمعتقد الذي يحمله في داخله: فالأصولية إذا يتم تصورها على أنها امتداد للثقافة الأم. والعلمانية حقا تفترض آنذاك تخل عن كل رجوع إلى هوية غير هوية المواطنة السياسية.

ومشكل هذا التحليل الذي يطمح إلى تفسير الثقافة بالدين هو أن العامل الديني المؤسس لا يمكن فصله بحد ذاته: هذه الثقافة العربية الإسلامية تنبع في واقع الأمر من أنتربولجيا المجتمعات العربية أكثر مما تنبع من الإسلام بحد ذاته إنها تدخل واستمرارا كاذب ( في الإسلامية الأموية و العروبية الأممية) ويجهل الاقتباسات (  مثلا العروبية الأممية تنبع أكثر من الأممية العرقية على النمط الجرماني الذي تم تحليله بخصوص أوربا، نفس الشيء بالنسبة للدولة الإسلامية التي تنبع من إشكالية عصرية للدولة الأيديولوجية). وفي الواقع فإن ثقافة الإسلامية هي بناء خيالي مركب من عدة عناصر، من المبدأ العقدي، ومن قوالب تاريخية، ومن ملامح اجتماعية، ومن عقليات صهرت كلها تحت اسم الثقافة. عبارة الثقافة عبارة إطنابية: الثقافة الإسلامية أو المسلمة قد تكون العنصر الثابت والحاضر في كل المجتمعات المسلمة المحتلة و المتنوعة فنجد فيها بصورة عامة ما أدرجناه فيها عند المنطلق، ومن جهة أخرى حتى إذا كانت الثقافات ذات أصول الدينية ( لن نناقش الأمر هنا) فإن بعض القوالب    (كالدولة والديمقراطية يمكنها أن تستقل بذاتها وأن تنفرد: لكن الإشكال هو تجذرها في النموذج السياسي، في سياق  جديد وليس عدم مواتاة مفترضة مسبقا،  ثم هل يجب أن نعرف ما إذا كان اقتناء هذا النموذج يفترض المرور عبر اللحظة التاريخية التي ولدته، غير أن السياق فصل الأراضي (  الهجرة مثلا) يفصل النماذج السياسية المستعملة في الثقافة الأم وبصورة عامة فإن الخطأ الكبير للمذهب الثقافي فيما يتعلق بالإشكال الديني هو تصور الأصولية على أساس أنها إحياء للبعد الديني لثقافة تقليدية في حين أن الأصوليات العصرية هي على العكس جزء لا يتجزأ من مسار الهدم الثقافي، إنها عودة الدين التي تشكك في الرابطة بين الثقافة والدين بصورة ربما أكثر راديكالية من المسارات البطيئة للعلمنة، إنها حتما إشكالية العولمة تتجلى في مختلف الحالات: عولمة نمط العامل القضائي والسياسي أو عولمة أشكال التدين التي ترتبط نسبيا بالمضمون الديني للمعتقدات. لقد ذكرنا بالحوار بين البروتستانتية والرأسمالية ورأينا كيف أن خُلُق شغل جديد قد بدأ يشق طريقه في إطار الرأسمالية ولكن كيف أنه بدأ يتسرب إلى الخارج لا فقط بالنسبة للكاتولوكيين وإنما كذلك بالنسبة للمسلمين ( في إطار مسياد: نقابة تركية تضم المؤسسات الصغيرة وهي تتطلع إلى خُلُق جديد للشغل)[4] والإشكال حينئذ هو ما إذا  كان هذان الشكلان من أشكال العولمة هو على العكس من النظر القروي للعولمة الفرنسية، هل نمو هذه الأنماط الجديدة للدولة أو المجتمع (بصورة صريحة المجتمع المدني) ونمو الأصولية الفردية والخالية من الثقافة، وبكلمة واحدة فإن العولمة تعزز نمو الأصولية الدينية وتضعف في الوقت نفسه نمط الدولة الذي سمح بالعلمانية وهو بدون شك ما يحدث اليوم. وثمة سؤال فرعي يتمثل في معرفة ما إذا كان هذا الأمر مرغوبا فيه، ولكن للإجابة على هذا السؤال، لا بإلقاء أماني علمانية أو دينية، ينبغي أن نفحص ديناميكية هي قيد التحرر.

قوس الدولة الإسلامية وخلق فضاء علماني

إن تاريخ العالم الإسلامي يظهر أن السلطة كانت دائما علمانية وغير مقدسة غير أن إعادة الأسلمة في القرن العشرين شككت في  التوازن بين السياسية والدين نتيجة إعادة قراءة للإسلام (الإسلامية والأصولية الجديدة) التي تتراءى لنا كأنها عودة للأصول ولكنها في حقيقة الأمر هي أدلجة للدين، فالإسلامي والأصولي إذا أكدا على ضرورة الرجوع إلى زمن محمد(ص) فهم أول من سيقول بأنه لم توجد أي تشكلة سياسية في العالم الإسلامي تطابق الدولة الإسلامية الحقيقة فمشكل الدولة إذا هو مشكل عصري تشكل على أساس نموذجين:

أ ـ إعارة جهاز دولة علماني وسلطوي على النمط الأوربي إما تحت نموذج استبدادي متنور منذ القرن التاسع عشر (محمد عالي في مصر) ثم مع مصطفى كمال آتاتورك ورزا شاه في القرن العشرين أو تحت أنظمة من النمط الفاشي أو الاشتراكي (الحزب الواحد أو الزعيم الروحي أو دور مصالح الأمن والجيش الخ) من الناصرية إلى البعثية مرورا بجبهة التحرير الجزائرية وهذه الأنماط من العلمانية السلطوية لم تستطع إطلاقا أن تتبنى الديمقراطية باستثناء تركيا.

ب ـ الدورة الإسلامية: التي أنتجها تحول معين للإسلام في قالب إيديولوجيا سياسية تحت التأثير الواسع لفلسفة السياسية الأوربية حيث الدولة هنا هي التي تصوغ المجتمع.

وبخصوص الدول العلمانية السلطوية فإن المطالبة الشعبية بالدولة الإسلامية ظهرت بالتحديد كمطلب احتجاج للمجتمع وكبحث عن أصولية خاصة إذا فقدت هذه الدول شرعيتها المناهضة للإمبريالية والوطنية (مصر بعد عبد الناصر والجزائر بعد أبو مدين).

إن رفض العلمانية هو تعبير عن رفض نظام، والأمل في أن مستقبل النظام سيكون تحت رقابة قانون لن يكون هو قانون الرجال وبالتالي سيقضي على الارتشاء وعلى كل سلطة شخصية، الأمر لا يتعلق فقط باحتجاج مجتمع تقليدي وإنما على العكس بإرادة امتلاك للدولة من أجيال جدد تولدت من التحولات الناتجة على مستوى الدولة: طلاب ومجتمع حضري  والتكنوقراطيين.

وقد درست سابقا تناقض الدولة الإسلامية[5].

ونكتفي هنا بالقول أن تعريفه سواء لدى  الماوردي أو الخوميني أو الإخوان المسلمين ليس مستمدا من الشريعة ولا من التقاليد السياسية للعالم الإسلامي، ولكنه يمثل في الحقيقة قراءة إسلامية لمفاهيم سياسية عصرية (الدولة والثورة والإيديولوجيا والمجتمع) إذن بالتحديد تفكير حول الاستقلالية وأولوية السياسي آخذين مفهوما وسطيا هو مفهوم الأيديولوجيا: الدولة الإسلامية لم تعد هي الدولة التي تعترف بالشريعة كقانون لدولة ولكنها دولة تأخذ الدين كأيديولوجيا للدولة.

وفي دولة كهذه مثل إيران الإسلامية ليس العامل الديني هو الذي يحدد مكانة العامل السياسي وإنما العكس. الموطن الوحيد الذي أقيمت فيه دولة إسلامية هو إيران وليس ذلك صدفة فنحن نجد فيه القطبين الأساسيين الدولة والكنيسة .

ولقد بينا كيف أن الثورة الإسلامية ساهمت في جعل المجتمع دولة[6] ولكن خصوصا انطلاقا من هذه الحالة أمكن لإشكالية حقيقية للعلمانية أن تنمو بمعنى الفصل بين هيئة المنتجين للمعرفة والطوابق الدينية والمسيرين للدولة.

إن الأدلجة ليست إلا رجوعا للعامل السياسي وتأكيدا لهيمنة السياسة على القانون الشرعي التقليدي لكن تأثير نظام إسلامي كهذا هو أن يولد العكس: علمنة متسارعة مع ـ بخصوص إيران ـ تهاو للممارسة الدينية، وبخصوص افغانستان بعد انهزام الطالبان نزع المسحة السياسية عن الإسلام.

ففي إيران إلى جانب الإصلاحيين هناك الدينيون التقليديون الذين يطالبون لا بالعلمنة (فهم يحرصون على أن يظل المجتمع المدني دينيا) وإنما بالفصل بين الكنيسة والدولة كي يتم إنقاذ الأولى.

إن منزلة آية الله السيستاني في العراق وإن كانت لا تساوي خطيا منزلة رجل الدين الشيعي العراقي السامي خلال القرن العشرين يجب أن نقرأها على ضوء فشل الثورة الإسلامية الإيرانية: السيستاني لا يريد دولة إسلامية قد تفصل المبادئ التي تقوم على الشرعية الدينية وتفرض إذ ذاك أن تتدخل في تسيير الشؤون اليومية للعامل السياسي.

فالإشكال ليس إذا هو استمرار الثقافة الإسلامية ولكن بروز أشكال جديدة من أدلجة الدين ومن التدين في إطار الدولة القومية العصرية.

الثورات الإسلامية تقود إلى خلق علمانية بالفعل لأنها بتسييسها المفرط للعامل الديني تجعله يفقد دوره كملاذ يقود معتنق هذا الدين تقليديا ويجعله مؤمنا جديدا حالما بفضاء روحي خارج الفضاء السياسي فما تبقى للسلطة إذن لم يعد الدين وإنما جهاز سياسي متدين يستعمل النظام الأخلاقي كي يحافظ على وضعيته كسلطة، وفي هذه الحالة فإن عودة الشعور الديني تتم خارج العامل السياسي وخارج الدين الرسمي وحتى خارج الإسلام الشيعي الأورتودوكسي: عودة إلى الصوفية والحلولية واهتمام بالمسيحية دون الحديث بالطبع عن الإلحادية.

إن تسييس العامل الديني قد قاد إلى الفصل بينه والعامل السياسي والمطالبة بالديمقراطية قد تكون في نهاية المطاف علمانية.


[1]  ـ إن الاحتلال العسكري للعراق من طرف الولايات المتحدة الأمريكية قائما على أساس بداغوجية التضييق والإدارة الأمريكية في العراق اتخذت كنموذج لها إعادة بناء ألمانيا سنة 1945: تعليم شعب أنهكه الاستبدال فضائل ا لديمقراطية ولم تكن النتائج فيما يبدو مرضية.

[2] ـ هذا الخلط واضح في كتاب كرلين فروست حول رمضان الذي يرفض أن يعبره من إخوان المسلمين مثلما نفرض آ ران شيوعيا وجيباه تود أسكير لأنه ما نفهم من كلمة اخوان ا لمسلمين؟ وفاء لتيار فكري أو إنماء لتنظيم أو إرادة إقامة نمط دولة ما أو مدرسة للتفكير أو تشكلة فكرية أو قناعة أيديولوجية؟ فهناك أكثر من طريقة تشكل أو انتماء للمركسية أو ترودسكية أو العمل  الفرنسي أو الفاشي كذا أيضا إخوان المسلمين.

[3]  ـ حول حزب التحرير يمكن رجوع إلى موقع: www.hizb-utthrir.org.

[4]  ـ أنظر أطروحات شهادة دراسات المعمقة كولد كن بيركو آلية الإسلام نحو إستراتيجية ترقية إجتماعية من خلال قطاع الخاص حالة المسياد 1999.

[5] ـ أولفي روي :فشل الإسلامي السياسي:، مرجع سابق.

[6]  ـ فرحات خوسروخافار وأولفي روي “إيران كيف تخرج من ثورة إسلامية”، سي 1999.