مجلة حكمة
العقل المبتهج المتعة في الدماغ

العقل المُبتهج – مورتن كرينگلباخ و كِنت بيريدج


إن فهما معاصرا للآلية التي تولِّد المتعة في الدماغ قد يقود إلى تحسين طرق علاج الإدمان والاكتئاب، بل وحتى إلى نشوء علم جديد للسعادة.

 
باختصار
كشفت أبحاث جديدة عن وجود بؤر معينة في الدماغ يؤدي تنبيهها إلى تعزيز الأحاسيس بالمتعة. ولكن لا بد من تمييز هذه البؤر التلذذية من «دارة المكافأة (الجزاء)» التي كان يُعتقد سابقا أنها تشكل الأساس الذي تُبنى عليه مشاعر المتعة. في حين أنها تُعتبر اليوم حيزا لتشكل الرغبة أكثر منه لتشكل المتعة. تتلقى مراكز الدماغ العليا معلومات من دارات المتعة والمكافأة آنفة الذكر، فتترجمها إلى إحساس شعوري بالوهج الدافىء الذي يرتبط بالمتعة في أذهاننا. إن فك الارتباط بين نُظم الدماغ المولّدة للرغبة، وتلك المولّدة للولع، قد يكون مسؤولا عن نشوء السلوك الإدماني، وكذلك مدخلا إلى إيجاد طرق علاجية جديدة.

في خمسينات القرن العشرين وفي جامعة تولين، باشر الطبيب النفسي <R. هيث> عمله في برنامج مثير للجدل يقوم على زرع أقطاب كهربائية جراحيا في أدمغة مرضى أكّد التشخيص النهائي إصابتهم بالصرع أو الاكتئاب أو الفصام أو غيرها من الحالات العصبية المستعصية. وهذا البرنامج كان يهدف في مرحلته الأولى إلى تحديد المواقع البيولوجية لتلك الأمراض وتنبيهها اصطناعيا، أملا بالشفاء منها.

وبحسب ما أدلى به <هيث> كانت النتائج مدهشة للغاية، حيث أصبح المرضى المصابون بالجامود catatonic شبه الكامل، والميؤوس من حالتهم، قادرين ليس على الابتسام فقط، بل حتى على الضحك. غير أن التحسن المذكور كان قصير الأمد، فالأعراض سرعان ما عادت للظهور من جديد بعد إيقاف التنبيه.

ولإطالة أمد المفعول العلاجي قام <هيث> بتزويد مجموعة من المرضى بأزرار يمكنهم الضغط عليها كلما شعروا بحاجة ملحة إلى ذلك. وقد لاحظ <هيث> أن بعض أولئك المرضى يضغطون على الأزرار بتواتر كبير، وأن أحدهم – وهو مريض لوطي يبلغ من العمر 24 عاما ويتلقى العلاج لمعاناته من الاكتئاب والمثلية الجنسية – كان مهووسا بالضغط على زر التنبيه، حيث وصل عدد التنبيهات التي أطلقها إلى نحو 1500 تنبيه على مدار الساعات الثلاث المخصصة للجلسة العلاجية الواحدة. وكما أفاد <هيث> فإن التنبيه القهري، الذي كان هذا الشخص (المريض B-19) يلحقه بنفسه، كان يولّد لديه خليطا من مشاعر المتعة واليقظة والرضا، ومشاعر المتعة هذه هي ما دفعه أيضا إلى الاحتجاج بشدة على انتهاء الجلسة العلاجية.

لقد أسهمت تلك التجارب في الكشف عن مجموعة من البنى structuresالتي يمكن أن نطلق عليها في المستقبل مصطلح مركز المتعة pleasure centerفي الدماغ. كما تمخضت عنها، في مجال العلم ومجال الثقافة العامة على حد سواء، حركة ترمي إلى تحسين فهمنا للأرضية البيولوجية التي تقوم عليها مشاعر المتعة. وفي سياق مواصلة استقصاء المناطق الدماغية التي حدد معالمها <هيث> وغيره، تسنى لعلماء البيولوجيا العصبية في السنوات الثلاثين اللاحقة الكشف عن هوية المواد الكيميائية التي تستقبلها وترسلها تلك المناطق وتقوم بنشر الأنباء السارة من خلالها. وهكذا، فقد بدأ الناس يتخيلون عوالم جديدة رائعة قد تتحقق السعادة الفورية فيها عبر تنبيه هذه المراكز.

بيد أن اكتشاف مركز المتعة المفترض في الدماغ لم يُحدث أي انعطافات في طرق معالجة الأمراض النفسية، بل حتى لعله قد ضلل العلماء في تفكيرهم وجعلهم يتوهمون بأنهم قد أدركوا آلية تكويد(1) المتعة وتوليدها في الدماغ. فالدراسات التي تُجرى حاليا، سواء على القوارض أو على الإنسان، تشير إلى أن تنبيه هذه البنى بالمساري الكهربية أو المواد الكيميائية، لا يولّد في الحقيقة أي إحساس بالمتعة، بل من شأنه تعزيز الولع بتهييج الذات وحسب، ومن ثم تحريض دافع الاستثارة الذاتية ذي الطابع الهوسي.

وباستخدام التقنيات الحديثة للبيولوجيا الجزيئية، إضافة إلى طرائق محسنة لتنبيه أعماق الدماغ، فإن مختبراتنا وبعض المختبرات الأخرى تعمل الآن على إعادة تحديد معالم منظومة دارات المتعة في الدماغ the brain’spleasure circuitry، حيث تبين لنا أن النظم المولّدة للمتعة في الدماغ أكثر تقييدا وأعقد بكثير، مما كنا نعتقد سابقا. ونأمل من خلال تحديد الأسس العصبية للمتعة، بأن يتسنى لنا تمهيد الطريق للتوصل إلى تطوير طرائق علاجية أكثر دقة وفعالية للاكتئاب والإدمان وغيرها من الاضطرابات، وربما لتقديم رؤى جديدة تساعدنا على الكشف عن أسس السعادة البشرية.

مسارٍ مضلّلة(**)

بصرف النظر عن تجليات التجربة المعيشة؛ سواء أ كانت رعشات ابتهاج أم إحساسا بسريان موجة دافئة من الرضا، فإن المتعة هي أكثر من مجرد فائض عابر لا يسعى إليه المرء إلا بعد تلبية حاجاته الأساسية. فالإحساس بالمتعة يحتل حقا مكانة مركزية في الحياة، إذ إنه يعزّز ويُديم اهتمام الحيوانات بالأشياء التي تحتاج إليها للبقاء على قيد الحياة؛ فالمشاعر الإيجابية التي يستثيرها الغذاء والجنس، والتواصل الاجتماعي في بعض الحالات، هي ضروب من المكافأة التي تمنحها الطبيعة لجميع الحيوانات، بما في ذلك البشر.

لقد تم تقديم أولى التصورات الواضحة عن الأساس البيولوجي لهذه المشاعر قبل نحو 60 عاما من قِبَلِ المكتشفَيْن المبدعيْن لما أُطلق عليه حينذاك مصطلح مساري المتعة pleasure electrodes، حيث كان <J. أولدز> و<P. ميلنر> [من جامعة ماكگيل McGill] يبحثان عن مناطق في الدماغ من شأنها التأثير في سلوك الحيوان. كما أن هناك دراسات سابقة أجريت في جامعة ييل Yale تَمَّ فيها غرس مسارٍ كهربية في أدمغة مجموعة من الفئران، وتوصلت هذه الدراسات إلى تحديد منطقة يمكن أن يؤدي تنبيهها إلى جعل الحيوان يتجنب أي فعل سبق وأن تزامن مع هذا التنبيه. وأثناء قيام <أولدز> و<ميلنر> بمحاولة تكرار التوصل إلى ما حققته تجربة جامعة ييل من نتائج، اكتشفا مصادفة منطقة تدفع هذه القوارض إلى القيام بخطوات عملية لتنبيهها بالطريقة نفسها التي تلجأ إليها هذه الحيوانات عادة في تكرار أي فعل أو سلوك تحصل من خلاله على مكافأة ملائمة.

فعندما كان الباحثان يستقصيان مناطق مختلفة من الدماغ بواسطة المساري الكهربية، فوجئا بوجود مستوى معين من الدماغ – لم يكن مدرجا على جدول البحث أساسا – تؤدي ملامسته على ما يبدو إلى استمتاع الحيوانات بتيار كهربائي معتدل. فالجرذان التي وُضعت في صندوق كبير كانت تعود مرارا وتكرارا إلى الزاوية التي قد تتلقى فيها صدمة كهربائية خفيفة من قبل الباحثين. وقد لاحظ <أولدز> و<ميلنر> أنه يمكن توجيه القوارض إلى أي مكان تقريبا باستخدام هذه الطريقة. حتى إنها كانت في بعض الحالات تفضل التنبيه على الغذاء. فعندما كان أحد الباحثين يضغط على زر التنبيه عند وصول الجرذان إلى منتصف الطريق في الدهليز الذي يَعِدُ في نهايته بوجبة هريس لذيذة الطعم، كانت هذه الكائنات تبقى ثابتة في مكانها، ولا تكلف نفسها عناء متابعة السير للوصول إلى وليمتها الموعودة.

وما أثار دهشة الباحثين أكثر من ذلك، هو أن الفئران، المزودة بوصلات المساري، كان بوسعها تنبيه أدمغتها بنفسها من خلال الضغط على رافعة مخصصة لهذا الغرض. وقد لاحظ <أولدز> و<ميلنر> أنها كانت تفعل ذلك بطريقة وسواسية في معظم الحالات، حيث وصل عدد التنبيهات لدى بعضها إلى أكثر من 1000 تنبيه في الساعة الواحدة(2). كما لاحظ الباحثان أيضا أن الحيوانات – عندما يُقطع عنها التيار الكهربائي – كانت تقوم بالضغط على الرافعة بضع مرات ثم تذهب إلى النوم.

لقد دفعت النتائج الآنفة الذكر <أولدز> و<ميلنر> إلى التصريح بما يلي: «لربما اكتشفنا داخل الدماغ مقر منظومة لها وظيفة محددة تتمثل بالتأثير في السلوك عبر آلية المكافأة». وتتكون المنظومة التي حدد معالمها الباحثان من مناطق عدة بما فيها النواة المتكئة nucleus accumbens، المتمددة على قاعدة الدماغ الأمامي forebrain وقاعدة القشرة الحزامية cingulate cortex، التي تشكل بدورها طوقا حول حزمة ليفية تصل نصف كرة الدماغ اليمنى باليسرى. وهكذا، صارت هذه النواة تحظى بتقدير كبير باعتبار أنها تشكل قاعدة تشغيل دارة المكافأة reward circuit في الدماغ.

وخلال فترة وجيزة تمكن علماء آخرون من التوصل إلى النتائج ذاتها بناء على اكتشافات مماثلة تمخضت عن تجارب أجروها على الثدييات العليا والبشر. وعلى وجه التحديد، ذهب <هيث> بتفسيره لنتائج أبحاثه إلى أبعد حد، حيث أفاد بأن تنبيه المناطق المذكورة لا يُدعّم السلوك فحسب، بل يولّد أيضا مشاعر الغبطة أو الشمق euphoria. لقد أصبحت هذه البنى في أذهان العديد من العلماء وأذهان عامة الناس، معروفة تحت مُسمّى مركز المتعة الأعلى في الدماغ(3).

وعلى الرغم من جميع ما سبق ذكره، فقد بدأنا – نحن الاثنان – منذ نحو عشر سنوات نتساءل، ما إذا كانت عملية التنبيه الذاتي الكهربائي أفضل سبيل لقياس المتعة بالفعل. كيف يمكننا التأكد من أن ما يدفع المُجرَّب عليهم subjects لتنبيه تلك المناطق، إنما هو ولعهم بالشعور الذي تثيره لديهم هذه الطريقة، وليس لسبب آخر؟ ولاستقصاء منظومة دارات المتعة بطريقة أكثر دقة، شعرنا بأننا بحاجة إلى ابتكار طريقة مختلفة لقياس العوامل الحقيقية المسببة للمتعة لدى المُجرَّب عليهم، بما في ذلك الحيوانات.

قياس المتعة(***)

إن قياس المتعة في التجارب التي تُجرى على البشر هو أمر يسير إلى حد بعيد، فهو لا يتطلب سوى طرح الأسئلة. وبالطبع، فإن القيم الناتجة لا تُحيط بالأحاسيس الداخلية تماما، أو لا تعكسها بصورة دقيقة. إضافة إلى ذلك، فإن حيوانات المختبر لا يمكن استجوابها – وهي الأكثر استخداما في الاستقصاءات البيولوجية.

هناك طريقة بديلة تعود أصولها إلى <Ch. داروين>. ففي كتابه الذي صدر سنة 1872 تحت عنوان التعابير الانفعالية عند الإنسان والحيوانات(4) يشير <داروين> إلى أن شعور الحيوانات يتغير تبعا للظروف البيئية – وبتعبير آخر، تتغيّر تعابير وجوهها. لقد أصبحنا نعرف في الوقت الراهن أن الآليات العصبية التي تقوم عليها هذه التعابير تعمل بطريقة متماثلة في معظم أدمغة الثدييات العليا، مما يعني أنه قد جرت المحافظة على بعض إيماءات الوجه كمشترك بين حيوانات بعيدة الصلة بعضها عن بعض، كالقوارض والبشر، بما في ذلك «الوجه المبتهج»؛ أي تعابير الابتهاج التي ترتسم على وجوهنا ردا على مذاق طعام لذيذ.

والغذاء هو أحد أفضل السبل الكونية للوصول إلى المتعة، وهو شرط أساسي من شروط البقاء على قيد الحياة. كما أنه يمثل إحدى أهم أدوات التجربة المتوفرة لعلماء النفس، وعلماء الجهاز العصبي، والمُستخدَمة من قِبَلِهم في دراسة سلوك الحيوان. ونحن بدورنا وجدنا في دراساتنا، أن الاستجابة للغذاء هي بمثابة نافذة نرصد من خلالها مختلف ضروب المتع غير المُعلنة.

 

[تشريح الابتهاج]

سبل إلى المتعة(****)

المتعة خبرة حياتية معقدة تستوعب جميع الأشياء، من الترقب والرغبة إلى الشعور الحسي والشعور بالنشوة. وهكذا، فليس من المستغرب أن تتضافر جهود مناطق عدة في الدماغ لتكوين ذلك الوهج الدافئ المرافق للمشاعر الطيبة.

رغبة وولع:

دارة عصبية (ملونة بالأزرق) تبدأ بمحاذاة جذع الدماغ، وتصل إلى الدماغ الأمامي – دارة كان يُعتقد من قبل أنها وسيط المتعة الوحيد. بيد أن نشاطها يتركز فعليا على الرغبة. إضافة إلى هذا السبيل (الدارة)، هناك عدد مما يُسمى «البؤر التلذذية» – يُبين الشكل هنا اثنتين منها (باللون الأحمر) – وهي بؤر تتآثر لتوليد الإحساس بالولع، حيث يقوم حزام من المناطق القشرية (ملون بالزهري) بعدئذ بترجمة المعلومات الواردة من دارات الرغبة والولع إلى متعة شعورية، ثم دوْزَنَة هذه المتعة الشعورية وفق معلومات واردة من مناطق دماغية أخرى.دارة عصبية (ملونة بالأزرق) تبدأ بمحاذاة جذع الدماغ، وتصل إلى الدماغ الأمامي – دارة كان يُعتقد من قبل أنها وسيط المتعة الوحيد. بيد أن نشاطها يتركز فعليا على الرغبة. إضافة إلى هذا السبيل (الدارة)، هناك عدد مما يُسمى «البؤر التلذذية» – يُبين الشكل هنا اثنتين منها (باللون الأحمر) – وهي بؤر تتآثر لتوليد الإحساس بالولع، حيث يقوم حزام من المناطق القشرية (ملون بالزهري) بعدئذ بترجمة المعلومات الواردة من دارات الرغبة والولع إلى متعة شعورية، ثم دوْزَنَة هذه المتعة الشعورية وفق معلومات واردة من مناطق دماغية أخرى.

كيمياء الولع:

تنطوي البؤر التلذذية في الدماغ على اثنين من الموصلات (النواقل) العصبية(5) المُسكرة يتآزران معا لتكثيف مشاعر المُتعة. فمنبه مثير للبهجة، كقطعة من الحلوى، يدفع أحد النورونات (العصبونات) في المنطقة المُشار إليها (في الأعلى) إلى إطلاق «الإنكيفالين» enkephalin، وهو مادة أفيونية المفعول تُصنّع في الدماغ. يتآثر الإنكيفالين مع بروتينات مُستقبِل يقع على سطح نورون مجاور (أسفل الشكل) قادر على تحريض إنتاج الأنانداميد؛ النسخة الدماغية للماريوانا. ولأن الأنانداميد ينتشر بعيدا عن مكان تشكله، فإنه قادر على التآثر مع المستقبلات الواقعة على سطح النورون الأول، ومن ثم على تكثيف الإحساس بالمتعة، وربما على تحريض إنتاج مزيد من الإنكيفالين. وهكذا، فإن هذه المواد الكيميائية تقوم مُجتمعة بتشكيل أنشوطة ولع معززة للمتعة.

إن الذي أمضى وقتا في مراقبة الرُّضّع، يعلم جيدا أنه حتى صغار البشر لهم أساليبهم في إرشاد القائمين على رعايتهم بخصوص استساغة وجبة من الطعام. فالطعم الحلو يدفع إلى لعق الشفتين بطريقة تنمّ عن الرضا، في حين أن الطعم المرّ يُفضي إلى هزّ الرأس وفتح الفم ومسحه بعنف. وما نراه من ردود أفعال لدى الأطفال، نجده أيضا عند الجرذان والفئران وغيرها من الثدييات العليا غير البشرية. فكلما كان المُجرَّب عليهم يستمتعون بمذاق الطعام أكثر، كلما لعقوا شفاههم بتواتر أكبر. وبالطبع، يمكننا مراقبة الكائنات أثناء التجربة ورصد استجاباتها للطعام بالفيديو، وتسجيل عدد المرات التي تمدّ فيها ألسنتها بسرعة، كما لو أنها تريد التقاط آخر جزيء molecule من نكهة الطعام. كما يمكننا قياس درجة الولع بمنبه ذوقي معين. وقد قمنا باستخدام تلك المعلومات لتحديد موقع المتعة الفعلي في الدماغ.

 
الرغبة ليست ولعا(*****)

من بين أولى اكتشافاتنا، كان اكتشاف أن المتعة لا تنشأ في الدماغ حيثما – أو كيفما – شاء لها تفكير سابق أن تنشأ. فالمناطق التي تم تحديدها لأول مرة من قبل <أولدز> و <ميلنر> وآخرين – وهي مناطق تقع في مقدمة الدماغ – تتفعّل بالناقل العصبي «الدوبامين» الذي تُطلقه نورونات(6) تنبثق من مناطق قريبة من جذع الدماغ the brain stem. فإذا افترضنا أن هذه الباحات الجبهية تَنْظُمُ المُتعة بالفعل، فإن إغراقها بالدوبامين، أو حرمانها الكامل منه، يجب أن يُفضي إلى تغير في كيفية استجابة الحيوان لمنبه مُثير للمُتعة. وهذا ما لم نجده.

 

ولإجراء هذه التجارب، قام زميلنا <X. زوانگ> [من جامعة شيكاغو] بهندسة وراثية لفئران تفتقر إلى بروتين مُتخصص باسترداد الدوبامين فور انطلاقه من نورون مستثار، وإعادته إلى داخل الخلية. وهذا ما يفسّر أن أكثر ما يُميز الحيوانات التي تلقّت طفرة الحذف knockout mutation هذه، هو زيادة تركيز الدوبامين في سائر أرجاء أدمغتها. ومع ذلك، فإن هذه الفئران لم تبدُ لنا أكثر استمتاعا بالطعام الحلو من رفاق القفص غير المُعدلة وراثيا. ومقارنة بالجرذان الطبيعية، فإن الفئران المُدمنة على الدوبامين تجري بالفعل بسرعة أكبر للحصول على مكافآتها من الحلوى، غير أنها لا تلعق شفاهها بتواتر أعلى مما هو عليه لدى الفئران الطبيعية؛ بل على العكس تماما، فهي تفعل ذلك بتواتر أقل مقارنة بفئران بمعدل وسطي من الدوبامين.

 

إننا نراقب الأمر ذاته عند جرذان تم رفع تركيز الدوبامين لديها بوسائل أخرى؛ مثلا، بحقن الأمفيتامين في النواة المتكئة nucleus accumbens وهو مادة ترفع تركيز الدوبامين في تلك المنطقة. ويجدر التذكير هنا مرة أخرى، بأن رفع تركيز الدوبامين عند هذه الجرذان، بطريقة كيميائية، يدفعها – بالفعل – إلى بذل مزيد من الجهد في الحصول على الأطعمة السكرية؛ ولكنه في الوقت نفسه، لا يبدو أنه يُعزّز استمتاعها بتلك الأطعمة.

 

وعلى العكس من ذلك، فإن الجرذان المحرومة من الدوبامين تفقد رغبتها في الأطعمة السكرية كليا؛ وتكون بالفعل معرضة للموت جوعا، ما لم تحصل على الرعاية اللازمة. ولكن هذه الجرذان المحرومة من الدوبامين، وعلى الرغم من زوال اهتمامها بالطعام، فإنها تبقى قادرة على اكتشاف أي صنف من الحلوى، ولعقه جيدا إذا ما وُضع على شاربيها.

وهكذا، فإن آليات تأثير الدوبامين تبدو أكثر دقة مما كان يُعتقد من قبل. وهذه المادة الكيميائية تبدو أكثر انخراطا في تكوين الحافز من تكوين الإحساس الفعلي بالمُتعة بحد ذاتها. وعند البشر أيضا، يبدو أن مستويات الدوبامين تتبع عن قرب تعبير الأفراد عن عَوزهم لوجبة لذيذة، أكثر من تعبيرهم عن مدى «محبتهم» لها.

لا تنشأ المتعة في الدماغ حيثما – أو كيفما – شاء لها تفكير سابق أن تنشأ.

وقد تنطبق المقــــولة ذاتها على الإدمان addiction، فالأدوية المرشّحة لسوء الاستخدام drugs of abuse تغمر الدماغ بالدوبامين؛ وبوجه خاص، المناطق المرتبطة بالرغبة wanting. وهذا الوابل من الدوبامين لا يُطلق العنان للتوق العارم وحسب، بل يجعل الخلايا في هذه المناطق أكثر حساسية عند تعرضها مجددا للدواء في المستقبل. إضافة إلى ذلك، فإن أبحاث زميلنا <T. روبنسون> [من جامعة متشيگان] تشير إلى أن ارتفاع درجة الحساسية هذه قد يستمر شهورا أو سنوات. ومن آثار الدوبامين المشؤومة – كما يرى <روبنسون> – هو ذلك الشعور الملحّ الذي يلازم المدمن ويدفعه إلى استهلاك الدواء (المخدر)، حتى ولو لم يعد يستمتع به.

وبناء على هذا الفهم الجديد، نعتقد أن مساري «المتعة»، في الوقت الذي تحرض فيه على تراكم هذه المادة الكيميائية في أدمغة الجرذان والبشر، ربما لا تكون قادرة على توليد المتعة بالقدر نفسه المُفترض أصلا. وفي سياق مساعينا الرامية إلى دعم هذه النظرة، قمنا بتفعيل المساري التي ترفع تركيز الدوبامين في النواة المتكئة، فتبين لنا أن هذا الإجراء يعزز لدى جرذ التجربة حافز الأكل والشرب، ولكنه لا يجعل الطعام أكثر إثارة للمتعة، بل على العكس تماما. فالجرذان التي حُرّضت كهربائيا على التحرك وتناول طعام حلوٍ، كانت تمسح أفواهها وتهز رؤوسها؛ وهما علامتان من علامات النفور الفعلي؛ كما لو أن التيار الكهربائي جعلها تتذوق الحلو مرا أو تشمئز منه. والتحريض الكهربائي الذي يدفع الجرذان إلى استهلاك كميات كبيرة من الطعام، دون أن يضاعف متعتها به، هو بمثابة دليل على أن الرغبة والولع يتم نَظْمُهما بآليات مختلفة في الدماغ.

إننا نعتقد بوجود هذا التباين في الآليات عند البشر أيضا، لا سيما وأن التحريض الكهربائي عبر مساري المتعة الكلاسيكية، سبق وأن أدى إلى ازدياد الرغبة في تناول الشراب بشدة عند مريض واحد على الأقل. فضلا عن ذلك، فقد أفضى التنبيه الكهربائي عند آخرين، بمن فيهم المريض B-19، إلى تأجيج الحاجة الجنسية، وذلك في الوقت الذي كانت تعتبر فيه الرغبات الجنسية الملحّة دليلا على المتعة. بيد أننا لم نعثر إطلاقا، أثناء مراجعاتنا الواسعة للأدبيات العلمية، على ما يُشير إلى أن مريضا واحدا قد عبّر بوضوح عن استمتاعه بتلك المساري المغروسة في رأسه. وحتى المريض B-19 لم يرفع صوته قطُّ ويقول ذات مرة: «آه… ما ألذ هذا الشعور!…». وعوضا عن ذلك، كان تشغيل مساري المتعة لديه يجعله، كغيره، يطلب المزيد من التنبه – وعلى الأرجح، لا «ولعا به»، بل لأنه أُعدَّ ليرغبه.

البؤر التلذذيّة(******)

بما أن الرغبة والولع يتشاركان معا في صنع تجربة مَعيشَة تتضمن الشعور بالمكافأة. فمن المنطقي أن يتّضح أخيرا أن مراكز المتعة الفعلية في الدماغ – وهي المراكز المسؤولة عن توليد الأحاسيس الممتعة بصورة مباشرة – إنما هي مراكز تقع ضمن بعض البُنى التي سبق وأن تبيّن أنها تُشكل جزءا من «دارة المكافأة». هذه البؤر المدعوة البؤر التلذذية hedonic hotspots، تقع إحداها في المنطقة السفلية للنواة المتكئة، أي في المنطقة المعروفة باسم القشرة الإنسية medial shell. وتوجد بؤرة ثانية داخل الكرة الشاحبة البطنية ventral pallidum وهي بنية تقع عميقا بالقرب من قاعدة الدماغ الأمامي، وتستقبل معظم إشعاراتها من النواة المتكئة.

لتحديد هذه البؤر، قمنا بالبحث عن مناطق في الدماغ يُفضي تنبيهها إلى اشتداد الإحساس بالمتعة مثلا، من خلال جعل قطع الحلوى تبدو أطيب مذاقا. وقد تبين لنا أن تنبيه هذه البؤر كيميائيا بمادة الإنكيفالين enkephalin، وهي مادة شبيهة بالمورفين يُنتجها الدماغ، يزيد من ولع الجرذ بالحلويات. أما الأنانداميد anandamide المكافئ الدماغي للمادة الفعّالة في الماريوانا فشأنه في ذلك شأن «الإنكيفالين». وهناك هرمون آخر يُدعى أوريكسين orexin يطلقه الدماغ أثناء الجوع وهو مادة قادرة بدورها على تنبيه البؤر التلذذية، والمساهمة في تعزيز الاستمتاع بالطعام من خلال ذلك.

إن كل واحدة من هذه البؤر لا تشكل سوى جزء واحد من بنية أكبر يبلغ حجمها مليمترا مكعبا واحدا فقط في دماغ الجرذ، وربما لا يتجاوز سنتمترا مكعبا واحدا عند الإنسان. وإضافة إلى ذلك، فإن هذه البؤر يتصل بعضها ببعض، بطريقة تذكرنا بجزر الأرخبيل، ولكنها تترابط أيضا بمناطق الدماغ الأخرى التي تقوم بمعالجة إشعارات المتعة، مشكلة بذلك دارة متكاملة فعّالة للمتعة.

ودارة المتعة هي دارة مرنة إلى حد بعيد. فبحسب خبرتنا، لا يؤدي تعطيل أي واحد من مكوناتها بصورة منفردة إلى إضعاف الاستجابة النموذجية لنوع قياسي من أنواع الحلوى، إلاّ في حالة استثنائية واحدة، وهي حالة تظهر بعد تخريب «الكرة الشاحبة البطنية» الذي يبدو أنه يفضي بالحيوان إلى الإحساس بالقرف من الطعم اللذيذ، ويسلبه بالتالي قدرته على الاستمتاع بالطعام.

ومن جانب آخر، فإن الوصول إلى حالة من الشمق الشديد هو أصعب من تحقيق مسرات الحياة اليومية. وقد يعود السبب في ذلك إلى ما يترتب على رفع منسوب المتعة إلى أعلى مستوياته, وهو إجراء نطبّقه في مختبرنا الخاص بالحيوانات، ويتمثّل بضخ دفقات من المتعة بواسطة التنبيه الكهربائي. وتكثيف المتعة إلى درجاتها القصوى يقتضي، على الأرجح، تفعيل كامل عناصر الشبكة الخاصة بها بصورة فورية، فاستبعاد أي مكون من مكونات الدارة يُفضي إلى تراجع درجات المتعة.

ولا يزال الغموض يكتنف السؤال المتعلق بما إذا كانت دارة المتعة والكرة الشاحبة البطنية على وجه الخصوص، تعملان بالطريقة نفسها عند الإنسان. ولا يراجع العيادات الطبية سوى عدد قليل من المرضى المصابين بأضرار محصورة في هذه البنى دون أذيّات في المناطق المجاورة، وهذا ما يزيد من صعوبة الحكم عما إذا كانت «الكرة الشاحبة البطنية»، أو غيرها من مكونات الدارة، تؤدي دورا أساسيا في توليد المتعة عند الإنسان. وهناك مريض نعلم أنه أُصيب بأذية في الكرة الشاحبة البطنية إثر تناوله جرعة كبيرة جدا من إحدى المواد المخدرة. وقد أفاد هذا المريض في وقت لاحق، بأن كيانه العاطفي مليء بمشاعر الاكتئاب، وغياب الأمل وتأنيب الضمير، وأنه يشعر بزوال قدرته على الاستمتاع. ومن الممكن لهذا التصريح، أن يدعم الفكرة القائلة بوجود دور محوري لهذه البنية التي لم تلقَ من قبل ما تستحقه من تقدير.

كفى(*******)

لا تقوم الدارة بمفردها بنظم مشاعر المتعة، فإلحاق الوهج الدافئ الملازم للمتعة بخبرة الشعور أو خبرة التجربة المعيشة، مرهون بالدور الذي تؤديه مناطق دماغية أخرى في هذه العملية. فهذه البنى العليا تساعد على تحديد منسوب المتعة المرافقة للتجربة المعيشة، وذلك انطلاقا من الشروط الآنية التي يخضع لها الكائن الحي، كالجوع والشبع مثلا، أو الشعور بتحقيق ما يكفي من أحد أصناف المتع. فمثلا، بعد تناول فطيرة بكاملها، يُصبح حتى مدمن الشكولاته المُسلّم به أقل انجذابا إلى قطعة من الحلوى.

وبخصوص الغذاء، فإن مثل هذا الشبع الانتقائي ربما تطوَّر في جزء منه، لحث الحيوانات على تنويع واسع لوجباتها الغذائية، وعدم حصرها في صنف غذائي واحد مفضّل. ويبدو أن عملية تكويد الشبع الانتقائي، تتم جزئيا في القشرة الجبهية الحجاجية orbitofrontal cortex بالدماغ، وهي باحة تقع في أسفل بطن القشرة قبل الجبهية prefrontal cortex التي تتدلى بدورها لتصل إلى مستوى ما فوق العينين عند الإنسان. وتتلقى هذه الباحة معلومات من النواة المتكئة والكرة الشاحبة البطنية على حد سواء. ويبدو أن هذه الباحة هي المكان الذي تتم فيه إجراءات التعديل المتعلقة بكيفية تمثيل المتعة على مستوى الوعي – أي كيفية غَمْر الإحساس بذلك الوهج اللذيذ الذي يقترن لدينا بشعور يُعلن عن إشباع الرغبة وتراجع حدة المشاعر، وعن صوت داخلي يقول: كفى.

وبفضل تقنيات التصوير العصبي العالية الدقة، اكتشفنا منطقة صغيرة ضمن القشرة الجبهية الحجاجية تُدعى الموقع الأمامي المتوسط midanteriorsite. وهي منطقة ترتبط ارتباطا وثيقا بعملية الاستمتاع الشخصي بإحساس لذيذ، كالإحساس بطعم الشوكولاته بالحليب، مثلا. فما أن نتناول الرشفة الأولى – مثلا – حتى يبدأ الموقع المذكور بالاتّقاد نشاطا. ولكن ما أن يستهلك الكائن الحي ما يكفيه من الحلوى، حتى يُوقف هذا الموقع نشاطه، وتفقد التجربة المعيشة متعتها.

وهنــاك دليــل آخــر على ما للمـوقع الأمـامي المتـوسط من أهمية بالنسبة إلى المتعة البشرية. وهو دليل يأتي من الدراسات المتعلقة بموضوع التنبيه العلاجي لأعماق الدماغ (7)therapeutic deep-brainstimulation. وتُستخدم هذه الطريقة لمعالجة عدد قليل من الحالات، بما في ذلك حالات الألم المزمن المعنّد، لتخفيف معاناة المرضى الذين لم يستجيبوا لطرق العلاج الأخرى. وقد لاحظنا لدى أحد مرضانا المبتوري الأطراف، والذي كان يشكو من ألم في شبح طرفه المبتور، أن تنبيه إحدى باحات جذع الدماغ، لا يخفف من ألمه وحسب، بل يولّد لديه أيضا مشاعر عميقة من المتعة. وقد أظهر التصوير العصبي المتزامن مع ذاك التنبيه، أيضا زخة من النشاط في «الموقع الأمامي المتوسط». والسؤال هنا: هل يُمكن استثمار مثل هذه التقنية؛ تقنية «تنبيه بؤر معينة من منظومة المتعة»، في معالجة الاكتئاب وغيره من حالات انعدام التلذذ anhedonia – أي انعدام مقدرة اختبار الاستمتاع الشخصي؟ ولا يزال هذا السؤال مثار استقصاء علمي نشط.

وبالمثل، فقد تنجح أبحاث إضافية في الكشف عن طبيعة الترابط بين الدارات الناظمة للمتعة، والدارات المتحكمة في المكافأة. ففي الحالات الطبيعية تكون البؤر التلذذية مترابطة بمنظومة المكافأة المُسيَّرة بالدوبامين بطريقة تجعلنا نشتهي الأشــياء التي تحرّض لدينا شعورا طيبا، ونتجنب ما عداها أو لا نكترث بها. أما في حالة الإدمان، فيكون الاتصال بين هذه النظم، بطريقة أو بأخرى، مقطوعا، الأمر الذي يفسّر استمرار المدمن بسعي حثيث إلى الحصول على أشياء لم تعد قادرة على إمتاعه. وقد يكون هذا التفكك عاملا مسهما في ظهور أنماط أخرى من السلوك القهري، مثل شراهة الطعام والمقامرة، على سبيل المثال. إن فهم لماذا وكيف يمكن لمثل هذا الانفصال أن يحدث قد يساعدنا على اكتشاف وسائل أفضل، قادرة على قلب المعادلة التي تقوم عليها التغيرات الدماغية المحرّضة على الإدمان، والقادرة بالتالي على إعادة العلاقة الطبيعية للرغبة والمتعة.

لقد أبدى <أرسطو> مرة ملاحظة تقول إن السعادة تقوم على عاملين أساسيين اثنين: الغبطة أو المتعة(8)، وإدراك المغزى(9). وعلى الرغم من بعض التقدم الذي أحرزه العلماء في استكشاف الأساس البيولوجي للمتعة، فما زلنا لا نعلم إلاّ النزر القليل عن كيفية قيام الدماغ بتوليد معنى أكثر شمولية لحياة مَعِيشَة عيشة رضيّة. ومع ذلك، فإننا نأمل بأن هذا اللغز أيضا يمكن أن تُفك رموزه بمرور الوقت، ونأمل أيضا بأن تحصل اكتشافات جديدة تُعين الناس على ربط المتعة بالغاية، ومن ثم تهذيب تجارب الحياة اليومية وتحويلها إلى قضايا مُرْضِيَة، وربما سامية.

نسخة PDF


(*)THE JOYFUL MIND
(**)MISLEADING ELECTRODES
(***)A MEASURE OF PLEASURE
(****)Paths to Pleasure
(*****)WANTING IS NOT LIKING
(******)HEDONIC HOTSPOTS
(*******)ENOUGH IS ENOUGH
(1) encoded
(2) انظر: «Pleasure Centers in the Brain,» by James Olds;
Scientific American, October 1956
(3) the brain,s chief pleasure center
(4) The Expression of the Emotions in Man and Animals
(5) neurotransmitters
(6) neurons أو عصبونات.
(7) انظر: «Sparking Recovery with Brain ʻPacemakersʼ,» by Morten L. Kringelbach
and Tipu Z. Aziz; Scientific American Mind, December 2008/January 2009
(😎 hedonia, or pleasure
(9) eudaimonia

*مجلة العلوم